«باب التوفيق».. فى معرض تورينو


Porta della fortuna
«باب التوفيق»
مجموعة من الكتاب
دار «فالسيا» Falsea
إيطاليا

 بمناسبة معرض تورينو الدولى للكتاب الذى عقد أخيرا واستضاف مصر كضيف شرف. قام اتحاد كتاب مصر بإعداد هذا الكتاب الذى يضم ترجمات إلى الإيطالية لأعمال 16 من كبار الكتاب المصريين من أمثال جمال الغيطانى وبهاء طاهر وخيرى شلبى وسلوى بكر ومحمد المخزنجى وغيرهم.

 بمناسبة معرض تورينو الدولى للكتاب الذى عقد أخيرا واستضاف مصر كضيف شرف. قام اتحاد كتاب مصر بإعداد هذا الكتاب الذى يضم ترجمات إلى الإيطالية لأعمال 16 من كبار الكتاب المصريين من أمثال جمال الغيطانى وبهاء طاهر وخيرى شلبى وسلوى بكر ومحمد المخزنجى وغيرهم.
الاحتفاء بالكتاب كان واضحا فى تغطيات الصحف الايطالية. قالت «كورييرى ديلا سيرا»: «كنا نتمنى أن يكون هناك فى المعرض عشرات الكتب مثل «باب التوفيق» فمناسبة استضافة مصر كضيف شرف لا تحدث كل سنة وينبغى أن تكون فرصة لتبادل المعرفة بين المصريين والإيطاليين من خلال اصدارات جديدة تنشر بهذه المناسبة» أما جريدة «إلتمبو» فقال مراسلها لويجى كرافيلى «لقد وقفت تماثيل الفراعنة على مدخل معرض تورينو هذا العام تحرس الكنوز الفكرية المعروضة فى الجناح المصرى والتى كان من دراتها كتاب «باب التوفيق» الذى قدم لنا الأدب القصصى المعاصر فى مصر فى ترجمة إيطالية رشيقة نشكر عليها اتحاد كتاب مصر. باولو فالسيا صاحب دار النشر التى تحمل اسمه».
ولا شك أن المشاركة المصرية فى المحافل الثقافية الدولية التى كان أخرها معرض تورينو يمكن أن تعود على مصر بفائدة جمة حيث تمثل فرصة لتقديم الوجه الفكرى والثقافى لمصر المعاصرة، ذلك البلد الذى طالما جذب إليه اهتمام العالم على مر العصور، فما من شك أن لاسم مصر عبر التاريخ حضورًا لافتًا، بوصفها كيانا مرموقا فى المنطقة، بل وبين مختلف دول العالم، برغم معاناتها فى فترات تاريخية طويلة من طبقات المستعمرين المتراكبة والمتعاقبة، ورغم الفقر والقهر والقحط والتهميش والكوارث الطبيعية والسياسية. وقد كانت تلك المكانة منبثقة فى الأساس من العطاء الثقافى الخصب، خاصة إبان ازدهار الحضارة المصرية القديمة، وقد تمثل هذا العطاء فى إبداعات فنية وأدبية حملتها إلينا عبر العصور وآلاف السنين الرسوم والنقوش والتماثيل، وكذلك النصوص الأدبية فى القصة والشعر، ولم يعد خافيا أو مجهولا أن أول قصة فى التاريخ الأدبى العالمى قصة مصرية وضعها الكاتب المصرى القديم تحت عنوان « الأخوان» وتنضم إليها قصص كثيرة حفظتها أوراق البردي، أما أشعار المصريين القدماء فتحتاج إلى مجلدات، والاطلاع على نماذج قليلة منها كفيل بأن يدرك المصرى المعاصر والأجنبى أن الطاقة الإبداعية المصرية كانت عالية وملهمة، وتكشف تمتعه بالموهبة الأصيلة والخيال والحس المرهف وعشقه الدائم للجمال وكما برع المصرى فى الآداب برع فى فن العمارة، ولعل المعابد والمقابر لا تزال بكل زهو شاهدة على ذلك.                       
وقد تجدد هذا الحضور فى حقب كثيرة وتواصل فى العصر الحديث خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث استعادت مصر بعضا من مكانتها الثقافية فى المنطقة على يد كوكبة كبيرة من الأعلام لا يتسع المجال فى هذه السطور لاستعراض قوائم الأسماء العامرة.
 على أن تشكيل الوجود الثقافى طوال القرنين الأخيرين على الأقل (19 و 20) لم يعد منطلقا من المعطيات ذاتها التى تمثلت طوال عشرات القرون فى العمارة والشعر والمسرح والرقص والفن التشكيلي، فقد أطلت فى الآفاق تجليات أخرى للحضور الثقافي، أعلنت عنها باقتدار أنواع أدبية وفنية تقدمت إلى الصدارة مثل الرواية والقصة القصيرة والموسيقى والسينما وغيرها، وليس من تحصيل الحاصل أن نقول إن العقود الأخيرة تشهد فى العالم التفاتا ملموسا نحو الرواية والسينما وتتزايد مع السنوات كمية الجوائز الكبيرة التى تخصصها جهات عديدة رسمية وأهلية لتشجيع المبدعين فى هذين المجالين على مزيد من الابتكار و تأكيد قيم العدل والجمال والحرية وحقوق الانسان.
وفى ضوء هذه المستجدات وتعاظم عوامل التنافسية فى مختلف التوجهات العالمية فإن باستطاعة بعض الشعوب أن تحقق مجدا ثقافيا قد لا يتيسر تحقيقه فى غير هذا النشاط الإنساني، كما نلحظ ذلك إذا ذكرت قارة أمريكا اللاتينية مثلا، فسوف يتبادر إلى الأذهان فى الأغلب دورها الثقافى المتألق قبل أن يحتسب لها أى ملمح آخر، ومثل ذلك يسير أن يقال عن الهند حيث تتألق سمعتها فى مجالات الأدب والسينما وتكنولوجيا المعلومات، ويقتحم الكتاب اليابانيون العالم بإبداعاتهم المتميزة ويحرزون كل يوم مزيدا من الاهتمام والتواصل، وغدا الأدب ينافس الصناعة فى ذلك البلد الناشط.
وأحسب أن البعض ربما لا يعرف إلا القليل عن إفريقيا، التى أصبحت اليوم صاحبة مجد فى الأدب والموسيقى والسينما يعتد به فى الأوساط العالمية، رغم تغلغل الفقر وتردى الأحوال الاجتماعية والسياسية والصحية، وتتحتم الإشارة إلى أن شيئا من ذلك لم يتحقق إلا بترجمة المنتج المحلى إلى اللغات العالمية، إذ تحرص هذه الشعوب كلما بزغت نبتة واعدة ومبشرة على رعايتها وسرعة تقديمها إلى العالم.
أما مصر فلا شك إنها حققت بعض الإنجازات المهمة على صعيد الأدب والسينما وغيرهما، وحظيت بالصدارة فى المنطقة طوال قرن على الأقل وحققت بعض المجد الذى لا ينكره إلا جاحد، على أن هذا المجد الإقليمى لم يشكله علو كعبها فى الصناعة، ولا ضخامة عوائدها الزراعية أو النفطية، ولا قدراتها التصديرية أو إمكاناتها العسكرية ولا ابتكاراتها العلمية، وليس لها فى الدورات الرياضية الدولية إلا الحضور الشرفي، لكن المجد الحقيقى تشكل من العطاء الثقافى الذى هو فى الأغلب حصاد النبوغ الفردى فى مجال الفنون والآداب، حيث تفجرت المواهب بالإبداع وفاضت العقول بالفكر ودبجت القرائح أروع النصوص، شعرا ونثرا، فاستمتعت الجماهير ولا تزال بجمال الفن الذى يغذى الروح ويرتقى بالوجدان.
ولا يمنع هذا من الاعتراف بأن مكانة مصر المعاصرة فى الثقافة العالمية لا تزال محدودة، وسوف تظل كذلك إذا لم تتحرك المؤسسات المعنية المختلفة لترجمة الإبداع المصرى إلى كافة دول العالم وخاصة الدول القارئة صاحبة الرأى والتقييم والتى تقود الحراك الثقافى فى شتى الأقطار.
فى هذا الإطار وعبر هذه الرؤية تأتى مبادرة اتحاد كتاب مصر الذى سعى بشكل مستقل لاستثمار مناسبة انعقاد معرض تورينو بإيطاليا فى مايو الماضي، حيث كانت مصر ضيف الشرف، وقبل الموعد بعام كامل وضعت خطة التحرك من أجل تقديم الأعمال الأدبية المصرية للقارئ الإيطالى ومن ثم إلى غيره من قراء الأرض، على أمل تطوير التجربة فى العديد من الأصعدة فى مقبل الأيام..                       
ولأن الاتحاد بدأ من فراغ، إذ لم يسبق له أن أقدم على هذه التجربة تأسيسا على أن القدرات المالية له لا تعينه على ترجمة كتاب واحد إلى أى لغة، فقد تمت إزاحة الترجمة من قائمة أنشطة الاتحاد على مدى يقرب من أربعين عاما،وكأنها لا تعنيه من قريب أو من بعيد، لكن مجلسه الحالى برئاسة الكاتب الكبير محمد سلماوى عزم على أن يخوض كل التجارب التى يمكن أن تخدم مصر وأدبها وكتابها، فلم يجد ثمة غضاضة فى الاعتماد على التبرعات من الأفراد أو المؤسسات الأهلية، وبالفعل اتفق الاستاذ سلماوى مع إحدى السيدات الفضليات وهى المهندسة شهيرة فهمي، التى أبدت استعدادها لدفع تكاليف ترجمة ونشر مجموعة قصصية لكوكبة من كبار كتاب مصر، وجرى الحوار مع الملحقية الثقافية المصرية بروما لاقتراح دار نشر إيطالية موثوق بها، فرشحت مؤسسة فاليسا للنشر واشترط الاتحاد ضرورة تكليف مترجمين إيطاليين حتى يحسنوا الترجمة بما يتناسب مع ذائقة القارئ الإيطالى. وأوكل الاتحاد إلى الروائى فؤاد قنديل والدكتور ربيع سلامة أستاذ اللغة الإيطالية و الملحق الثقافى السابق بسفارتنا بروما متابعة الترجمة ومساعدة المترجمين لتفسير ما قد يتعذر فهمه من المفردات العربية أو الدلالات الحياتية فى البيئة المصرية، كما تم الاتفاق على أن يتم الانتهاء من الترجمة والنشر فى موعد أقصاه نهاية إبريل 2009حتى يمكن المشاركة بالكتاب فى معرض تورينو.
وفى المعرض الدولى الذى كانت فيه مصرالسيدة الأولى وضيفة الشرف، أمكن للقراء الإيطاليين أن تصافح عيونهم المجموعة القصصية التى تحمل عنوان «باب التوفيق» وتضم قصصا لستة عشر كاتبا، هم إدوار الخراط ويوسف الشارونى وبهاء طاهر.. محمد سلماوى وخيرى شلبى ومحمد البساطى وجمال الغيطانى وفؤاد قنديل.. سعيد الكفراوى وابراهيم عبد المجيد وابراهيم أصلان وسلوى بكر..عبد الوهاب الأسوانى ومحمد المخزنجى وهناء عطية وجمال مقار، وقد قامت المترجمة الايطالية ماريا لويز ألبانو بترجمة المقدمة المصرية التى تناولت بشكل مكثف مسيرة القصة القصيرة فى مصر، وتجلياتها المرموقة فى العقود الأخيرة، وتعدد قضاياها واتجاهاتها وأبرز أعلامها، كما قامت بكتابة تعليقات على كل قصة توقفت خلالها فى عجالة عند موضوعها وتقنيتها وجمالياتها.
تضم مجموعة « باب التوفيق» عددا من القصص المصرية التى تمثل الاتجاهات الفنية المختلفة، وفى الوقت ذاته فإنها تشكل وهى مجتمعة صورة بانورامية لملامح الحياة المصرية فى شتى تجلياتها وخصوصيتها الاجتماعية والنفسية.   
ففى قصة «سرادق الألم» لخيرى شلبى وهى من مجموعته «أسباب للكى بالنار» وقد ترجمتها إلى الإيطالية إلينا دى كريستافرو. تدور الأحداث فى المقابر التى يسكنها الكثير من البشر، وقد أقيم سرادق للعزاء فى عزيز رحل، وتتكدس فى أجواء المكان كل ألوان الألم والحزن والصراخ، وفوجئ المعزون وهم مغمورون فى عالم الموت بأصوات الزغاريد والغناء والموسيقى المدوية والرقص تمر بهم فى احتفالية تكاد تعلو على صوت المقرئ فرحا بزواج شاب من سكان المنطقة، فيسقط فى أيديهم، ويتحمس البعض عازما على إيقاف الفرح أو إرغام أصحابه على المرور فى صمت، لكن آخرين يرفضون  ومطالبين الجميع بأن يدعوا الخلق للخالق، بينما كان عن بعد قريب فريق ثالث يسهر فى غرزة ويدخنون أشكالا من المزاج العالى ويتندرون ويعجبون.. وتبدو الفرصة متاحة للكاتب كى يفيض فى وصف المشاعر الإنسانية المتناقضة، وفى الوقوف عند التفاصيل التى يتكون منها النص بما فيه من مفردات شعبية حميمة ودالة، تفضى إلى ذلك الفرح الذى يولد فى حضن الحزن، والحياة التى لا تعبأ بالموت.


وفى قصة «الجوال العائم» لمحمد البساطى التى ترجمها أنطونيو بريور، نلتقى بملمح من ملامح القرية المصرية، حيث ذلك المشهد الغامض المتمثل فى جوال يحمله النهر وبداخله قتيل أو قتيلة، ولكل جوال رفيق يتبعه سرا من قرية إلى أخرى حتى يرفعه من يرفعه فى مكان بعيد، يتولى عمدته إبلاغ المركز، لتضيع تقريبا بصمات الآثمين.أغلب الجثث لبنات حملن سفاحا فيسرع أهل البنت بالتخلص منها ووضعها فى جوال يلقونه بليل فى النهر، وسرعان ما يغوص فى الماء وبعد يومين على الأكثر يطفو منتفخا ويواصل رحلته، وكلما مر الجوال بقرية، حاول من يتولى حراسته دفعه حتى لا يحط على ضفاف قريبة إلى أن ينأى ويتجاوز الزمام، وعلى النهر بعد عدة قرى بوابات تتوقف عندها الجثث وكل ما يسبح ولا يمكن عبوره من هذه البوابات. ويستطيع الفلاحون تمييز جثمان المرأة فى يسر وهو يعبر قريتهم محشورا فى الجوال المبتل والمسافر فوق الماء. تناول هذا المشهد من قبل توفيق الحكيم ويوسف إدريس، ولكن نص البساطى له طعم آخر.
أما قصة بهاء طاهر «فى حديقة غير عادية» وهى من مجموعته «أنا الملك جئت» فقد ترجمها ربيع سلامة، وفيها يذهب البطل كعادته فى الترويح عن نفسه إلى حديقة فى جنيف حيث يقيم، ويجلس على أريكة حجرية وسرعان ما تجاوره سيدة عجوز تصحب كلبها ويدور حوار أغلبه عن الحياة ثم عن مصر التى تشعر العجوز بالندم لأن العمر أوشك على الانقضاء ولم تزرها..ويتنقل الحوار بين الشرق والغرب وعن الكلاب أيضا لتعترف السيدة بأنها مغرمة جدا بها، وفى المقابل يعلن البطل عن كراهيته لها.. صمتت السيدة وشحب وجهها وفوجئ المصرى بسقوطها،فأسرع يطلب الإسعاف، وجاء رجاله على عجل حيث أخذوا السيدة وأوكلوا إليه أمر الكلب، وهكذا اضطر البطل أن يرعى الكائن الجميل الذى أصبح فجأة بلا أهل وقد حاول أن يتخلص منه لكن الكلب تمسح فيه وتمنى عليه دون كلمة أن يكون فى معيته، وهذه القصة ككل أعمال بهاء تسيل عذوبة ورقة وتحاول استبطان وجع الإنسان وهمومه دون خطابية وفى عبارات ناعمة تحمل أصداء ما تتناوله ببساطة آسرة.    
فى قصة «جرح مفتوح» لإدوار الخراط وهى من مجموعته  «ساعات الكبرياء» وقد ترجمتها كل من سيلفيا مارشيونى و إلينا دى كريستافرو وهى عن ولد وحيد لأم وحيدة، تبدأ القصة بسقوط الأم فى الطريق وتعرضها لحادث مؤسف تتفاقم آثاره بسبب سنها المتقدمة ويحزن الابن، وتنسال ذاكرته لتكشف أبعاد الجرح الكبير المفتوح بعرض السنين، يستدعى الابن ما مر بأمه وقد عانت وتحملت وصبرت وما زالت تحضنه برغم الظروف القاسية وتوليه كل حنانها واهتمامها.. تضيف لغة الكاتب الكبير الكثير إلى هذه الحالة من الأسى والشجن.               
فى قصة «باب التوفيق» لمحمد سلماوى من مجموعته التى تحمل الاسم ذاته، نعيش حالة من المصرية الحميمة فى حى الجمالية، ومع قطعة من تاريخنا الأثرى ضفرها الكاتب مع مشاعر الشخصيات فى نسيج حالم وشاعرى وإنسانى. باب التوفيق باب أثرى من معالم شارع المعز لدين الله حيث القاهرة الفاطمية ذات الزخم العربى والإسلامي، يعثر على الباب الضخم المنقوش بالزخارف تاجر من أبناء الحى يجور الزمن عليه فيهدى الباب للبطل الذى كان مدينا له بمبلغ بسيط من المال. يقاوم محسن هذه الهدية بالغة القيمة، لكن عم عبده يصر، فيحضر محسن من يحملون الباب إلى بيته وهو منبهر به إذ إنه رغم قدمه لا يزال يفيض بهاء وسحرا.. يدهش محسن لأن الايام تحمل له بعض الأخبار الطيبة فيحصل على مال وتعود إليه صديقته التى يحبها وتبتسم له الأيام لعدة أشهر، ثم تتغير الأحوال كما هو منتظر من الحياة فليس الباب هو مصدر الخير، وإنما العمل والإخلاص هما السبيل، ثم يفاجأ محسن برجال هيئة الآثار وقد حضروا لاستلام الباب بعد أن بلغهم وجوده عنده. وقد وفق الكاتب فى تشكيل بنية قصته فى ثلاث حركات تتناسب مع تطور الحدث والحراك النفسى الذى طرأ على حياة الشخصيات.    
وفى قصة «غرفة للسيدات» لهناء عطية من مجموعتها «شرفات قريبة» وقد ترجمتها أيضا إلينا دى كريستافرو، تحكى الكاتبة موقفا بسيطا للغاية لكنه مؤثر للغاية. سيدة تساعد سيدة فى ارتداء ملابسها، ولها ثدى واحد فقد أجرت عملية وتم التخلص من الآخر، وتحاول صديقتها حشو الموضع الفارغ بكرة من القطن وتداريه بغطاء من البلاستيك حتى تبدو كأن الثديين حاضران.. صفحتان فقط كافيتان لاختزال عذابات الوجود الإنساني، ورغم ذلك فصاحبة الثدى الواحد غير منزعجة فقد تطبعت مع ظروفها وتقول إن زوجها راض تماما بما بقى.


وفى قصة إبراهيم عبد المجيد «ليلة أنجيلا» من مجموعة له بهذا الاسم وقد ترجمتها دوناتيلا فينشينتى نعيش مع البطل ليلته مع أنجيلا صديقته الفرنسية حيث تجولا خلالها فى مناطق عديدة فى باريس، يدعوها لحجرته فى الفندق فتفر وتدعوه لمطعم فيضيع المطعم، ويجوسان فى الأزقة ويجلسان على المقاهى ويتحدثان طويلا ثم يدعوها إلى غرفته فتتعلل وتقاوم.. كان يهيمن عليه هاجس مضاجعتها لكنها لا تمكنه، ثم يذهبان إلى حديقة الحيوان بصحبة صديقتها لمشاهدة الحيوانات والعبث معها إلى أن يفاجئوا بأن الوقت قد مضى بسرعة غريبة و بأن الحديقة أغلقت أبوابها. يبذلون جهودا مضنية للخروج فتذهب هباء كل المساعى وتبدأ السماء فى صب أمطارها بغزارة ولا يجدون من سبيل إلا اللجوء إلى شجرة ضخمة. يتعانق الجميع بحثا عن الدفء والحماية وطلبا للراحة والأمن، تبلغهم أصوات الحيوانات التى تعلو، لكن ذلك يزيدهم إصرارا على الالتحام والتماسك حتى أصبحوا كائنا غريبا وأسطوريا من الأجساد والمشاعر والحميمية.. لهذه القصة أيضا إشارات بعيدة ومتوارية لمعنى الحياة والأمل الذى يساور الأحياء فيها، لكنه أبدا يراوغ، وتتجدد الأحلام وتبذل الجهود وتعمل الإرادة عملها، لكن الذى يبقى هو الحب والتماسك والحرص على الإنسان.                                   

قصص كثيرة جميلة أبدعها بقية الكتاب فى أنساق جمالية متباينة، وكشفت عن قدرات عفية وحاضرة بنصاعة وقادرة على التقاط مواقف ولحظات إنسانية متوهجة من حياتنا المحتشدة بكميات هائلة مما يتعين تناوله فى أعمال لا يتوقف فيضانها طالما هناك مواهب بهذا القدر من الخصوبة. 
فــــؤاد قنـــديل

 

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions