ســني/ شـــيعي.. عثمـاني/ صفـوي.. عــربي/ فارســي (تبــاين المشروعات)



تجاوز رد الفعل الإسرائيلي علي عملية حزب الله في 12 يوليو الماضي والتي تمكن خلالها من أسر جنديين إسرائيليين كل الحدود التي تتخذها ردود الفعل المتوقعة والمعهودة في العلاقات الدولية علي مثل هذا الفعل. وظهر مبكرا أن الحرب ليست من أجل الأسيرين الإسرائيليين، بل ليست من أجل إسرائيل تماما. فقد دخلت الولايات المتحدة بقوة علي الخط، بل ربما بدت كأنما هي التي رسمت ذلك الخط كما رأي وحذر نواب ووزراء إسرائيليون، ورفضت تماما أي مساع إلي وقف إطلاق النار من أجل بدء التفاوض حول تبادل الأسري والقضايا الأخري العالقة. بررت واشنطن هذه الحرب التدميرية كدفاع عن النفس، واعتبرتها فرصة سانحة لتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الخاص بلبنان، والمؤدي إلي نزع سلاح حزب الله وتصفية المقاومة الإسلامية ونشر الجيش اللبناني علي كافة المناطق، خاصة في الجنوب. واستصدرت واشنطن من مؤتمر قمة الثمانية في بطرسبرغ بروسيا شبه قرار يفوض إسرائيل القيام بتنفيذ قرار 1559 عبر الحرب التدميرية علي لبنان. ثم حالت واشنطن عبر مجلس الأمن الدولي دون إصدار قرار بوقف إطلاق النار وبدء التفاوض وصولا إلي نشر قوات دولية كما اقترح الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان. ثم طلعت وزيرة الخارجية الأميركية بأفكار كبري حول اعتبار هذه الحرب فرصة تؤذن بقيام شرق أوسط جديد عبر ترتيبات أمنية واستراتيجية تنهي الصراع العربي الإسرائيلي وتعزل محور الممانعة ضد النفوذ الأميركي، وتعرض علي سوريا الانضمام إلي الإجماع (الدولي)، وتعتبر أنه لا مجال للعودة إلي الشرق الأوسط القديم. كان أهم المظاهر اللافتة والمترافقة مع اندلاع الحرب والمؤثرة في سيرورتها - وربما صيرورتها ومآلاتها- هو موقف النظام العربي الرسمي. فقد أدانت الحكومة السعودية عملية حزب الله بسرعة، وحملت الحزب مسؤولية الحرب الإسرائيلية، ووصفتها بالمغامرات غير المحسوبة، وميزت بينها وبين المقاومة المشروعة. لقي هذا الموقف الذي تبعه مواقف عربية مماثلة قبولا إيجابيا في إسرائيل. تلا الموقف السعودي مباشرة لقاء القمة المصري الأردني الذي أعاد التركيز علي خطورة المغامرات والتحذير من عواقبها الوخيمة. من الناحية الأخري، اعتبرت قيادة حزب الله هذا الموقف العربي الرسمي تغطية للحرب الإسرائيلية علي لبنان، بل اعتبرته مسؤولا بشكل مباشر عن تصعيد وإطالة أمد الحرب واتساع نطاقها إلي ما هو أبعد بكثير من الحدود المعتادة والمتوقعة لردود الفعل الإسرائيلية.
ورغم سعي السعودية لاحقا إلي ترتيب وقف لإطلاق النار في محاولة جادة لوضع حد للدمار الشامل وإنقاذ الدولة اللبنانية، فقد اتسمت ردود فعل الشارع والجماهير العربية علي الموقف الرسمي العربي بالمرارة والغضب والاتهامات اللاذعة والإدانة الشديدة، وتماهت بشكل أو بآخر مع موقف حزب الله وحركات الإسلام السياسي والاتجاهات القومية والوطنية. لكن وبرغم كل شيء، فإن موقف الرأي العام العربي وردود فعله ــ مبررة أو غير مبررة ــ لا تفسر المقدمات أو الأسباب التي أدت إلي أن يتخذ الوضع العربي الرسمي هذا الموقف الذي صدم وعي الشارع وافترق عن مساره وأولوياته التي تحددها بوصلة الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة أن المملكة العربية السعودية تبنت ولا تزال -علي مدي ستة عقود من عمر الكيان الإسرائيلي- موقفا لا يعترف بإسرائيل، ولا يقيم علاقات اتصال معها، بل يتبني المقاطعة العربية لها. التصدي للمشروع الإيراني بيد أن تفسير هذا الموقف العربي الرسمي الذي اتخذته الدول الثلاث وتبنته الكويت أيضا، وربما غيرها بدرجات متفاوتة، يجب أن يستبطن عاملا آخر يشكل تحديا كبيرا في نظر معظم اللاعبين الكبار من أنظمة المشرق العربي؛ ذلك هو التحدي الذي يمثله المشروع الإيراني في الشرق الأوسط أو بالأحري في الشرق العربي الإسلامي. وكان أبرز تجليات هذا المشروع الإيراني هي الإصرار علي بناء برنامج طاقة نووية، والوقوف في طليعة الخط المضاد للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة، والتحالف مع سوريا ضد التهديد الأمريكي والإسرائيلي، وتبني حزب الله في لبنان، ودعم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وعلاقات وثيقة مع التيار الصدري وحزب الدعوة والمجلس الأعلي للثورة الإسلامية وجناحه العسكري (منظمة بدر) في العراق. وربما كان دور إيران في العراق هو أضعف حلقات أو تجليات المشروع الإيراني، بسبب دور بعض الأطراف المرتبطة بإيران في الصراع الطائفي الدائر بالعراق، وتعاطي بعضها إيجابيا مع سلطة الاحتلال بدخولها عملية سياسية بدون أفق استقلال أو سياق واضح ينتهي عنده الاحتلال. وبدا أن العراق مهدد بالتقسيم ليس علي المستوي الإثني فحسب، بل علي المستوي الطائفي كذلك. واتخذت هذه المخاطر من شعار أو فكرة الفيدرالية غطاء لها. وإضافة إلي الوضع الفيدرالي الخاص لإقليم كردستان في الشمال، والذي يتيح إدارة ذاتية ببرلمان وحكومة وعلاقات خارجية وجيش وغير ذلك من مظاهر الدولة السيادية، طالب زعيم المجلس الأعلي للثورة الإسلامية في العراق السيد عبد العزيز الحكيم بفيدرالية مماثلة في الجنوب، وربما طالب غيره باقتسام بغداد طائفيا. وقد ترافق ذلك مع تطهير طائفي ضد العرب السنة في بعض المناطق، والذي تراوح بين الفعل المباشر الذي استهدف اختطاف واغتيال علماء وأئمة وأكاديميين وضباط وقياديين ناشطين وقرويين وعمال وطلاب ومشاة في الطرقات ــ قتلوا علي الهوية ــ ثم ألقي بجثثهم في وديان ومقالب قمامة وسيارات نقل؛ أو ردود الفعل علي عمليات العنف بواسطة السيارات المفخخة والانتحاريين التي ارتكبت ولاتزال ترتكب ضد الشيعة ــ بدوافع طائفية واضحة ــ من قبل مجموعات مسلحة متطرفة داخل العراق. وقد أثبت عدم تحرك القوي العراقية المرتبطة بإيران - في الأسبوعين الأولين للحرب في لبنان- أو عجزها عن التحرك محليا، بما يخفف الضغط عن حزب الله والمقاومة الإسلامية، إن هذه القوي العراقية قليلة الجدوي، بل هي عبء علي إيران، التي يتوقع المحللون أن تقيم علاقات تعاون وتنسيق مع قوي من المقاومة العراقية، لا تتبني خطا طائفيا. أدي صعود وتكريس الحالة السياسية الطائفية في العراق إلي أضرار بالغة بالمشروع الإيراني في العالم العربي، ومواقف مضادة لإيران والشيعة في منطقة الخليج بشكل عام، وتوتر واستنفار لدي الأنظمة الخليجية الحاكمة، وفي دول أخري غير خليجية، كمصر والأردن. وتراوح الخطاب السياسي الرسمي بين حديث أردني عن «هلال شيعي يمتد من إيران والعراق إلي سوريا ولبنان» رغم أن الجغرافيا السكانية والسياسية لا تؤشر علي وجود هذا الهلال، ولوم سعودي للأميركيين الذين سلموا العراق للنفوذ الإيراني، وحديث مصري عن ولاء شيعة العراق لإيران وليس لبلادهم، ومطالب إماراتية لإيران بالوفاء بالتزامات متعددة، كي يطمئن الجيران القلقون في الخليج من مخاطر وتداعيات البرنامج النووي الإيراني الاستراتيجية والأمنية والإشعاعية، خاصة مع قرب اكتمال وتشغيل مفاعل بوشهر الواقع شمال الخليج. وفي صراع إيران مع الغرب حول برنامجها النووي، بدا واضحا حرص الغرب - خاصة الولايات المتحدة- علي تحريض الجيران وإثارة مخاوفهم إزاء إيران، كما حدث سابقا مع العراق، واستخدم ذلك كذريعة لاستصدار قرارات ملزمة من مجلس الأمن الدولي -بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة- ضد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، أدت إلي حصار شامل وحرب 1991. بل إن حملة الأردن علي حماس، واتهامها بتهريب أسلحة «إيرانية» الصنع عن طريق «سوريا» وتخزينها في الأردن ورصد أهداف لاستخدام الأسلحة هناك، قد ورطت عمليا كلا من إيران وسوريا، ولكن من دون توجيه الاتهام صراحة أو مباشرة. حاولت إيران تخفيف حدة التوتر والعداء لها ولمشروعها، فأرسلت رئيس مجلس الأمن القومي محمد جواد لاريجاني إلي مصر والسعودية أكثر من مرة، وقيل آنذاك أن الهدف هو التنسيق في مسألة البرنامج النــــووي للضغط علي إسـرائيل من جهــــــة برنامجها النووي، وربما التنســـــــيق في العــــراق أيضا. كما أرســـلت وزير الخارجية منوشهر متكي، إلي الأردن في أعقاب قضية أســــــلحة حمــــاس. وقبــــل ذلك وبعده زيارات علي مســــتوي عــــال إلي الكويت وغيرها من دول الخليج، لطمأنتها وعدم تركها لاستفراد التحريض الأمريكي. لم يقتصر التوتر والنفور إزاء المشروع الإيراني في هذه الدول العربية علي إيران أو الأطراف المرتبطة بها أو المحسوبة عليها في العراق؛ بل طال أطرافا عربية صديقة لإيران، مثل سوريا التي لم تكن علاقتها بشريكتيها في المحور الرئيسي للسياسة العربية (مصر ــ السعودية ــ سوريا) في أحسن حال قبل اندلاع حرب لبنان مباشرة. وإن كان من المتوقع أن تستعيد سوريا دورها في هذا المحور الذي يسميه الرئيس الأسد «نواة العمل العربي المشترك»، نظرا لتحديات وتداعيات حرب لبنان. ورغم محاولة الأردن الدخول علي خط هذا المحور ــ في الفترة الأخيرة ــ إلا أنه تقليديا غير مرشح للانضمام إليه. كذلك، تفسر المشاركة العربية ــ المحدودة علي الأقل ــ في حصار حكومة حماس التي شكلت علي أثر فوزها بأغلبية أعضاء المجلس النيابي في انتخابات يناير/ كانون الثاني الماضي، بأنها رسالة تحذير أو ربما رسالة عقاب عربية لحماس نظرا لاتساع علاقات التعاون والدعم مع إيران. وهذا التوتر لم يقتصر علي موقف الأردن ومصر فقط، بل طال علاقة حماس بالسعودية، التي كانت ــ علي مدي عقود ــ مصدرا رئيسيا للدعم والإسناد. استدعاء المثال الصفوي في هذا السياق الإقليمي المضاد للمشروع الإيراني، دأب بعض الساسة ورجال الإعلام علي إكساب مواقفهم دلالة تاريخية باستدعاء تجربة الصراع العثماني الصفوي في القرنين السادس عشر والسابع عشر. والقصد من ذلك بالطبع هو إضفاء السمات السلبية للمشروع الصفوي في الهضبة الإيرانية ومحيطها الشاسع علي المشروع الإيراني المعاصر، لإفقاده المصداقية، ودفعه نحو العزلة والانكفاء علي الذات، وصولا لاحتوائه وإفشاله. من ناحية أخري، تنظر بعض الأصوات إلي المشروع الإيراني الآن باعتباره تجليا قوميا فارسيا مضادا للعرب والعروبة، وتلقي عليه أعباء الميراث التاريخي للشعوبية المعادية للعرب والخلافة العربية في القرون المبكرة التالية علي الفتوحات الإسلامية. وفي الأعوام الثلاثة التالية للغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، لم يقتصر استدعاء وإطلاق النموذج الصفوي من قبل التوجهات المضادة لإيران في الخليج والمشرق العربي، بل تعداها إلي شخصيات وقوي شيعية علمانية أو قومية عراقية معادية لأطراف عراقية مرتبطة بإيران، وتمكنت من الهيمنة علي معظم العملية السياسية الراهنة، وتشكل أكبر الكتل النيابية والوزارية والأمنية. غلب طابع الصراع الطائفي (السني- الشيعي) علي مسارات ومبررات وتداعيات الصراع العثماني الصفوي، مع أن جوهر وسياق الصراع لم يكونا كذلك تماما. نشأت الدعوة الصفوية في إيران أواخر القرن الخامس عشر، وكانت تحولا من خلفية سنية صوفية إلي التشيع الاثني عشري في المجال الفارسي الذي كان يغلب عليه فقهيا المذهب الشافعي وعقيديا العقيدة الأشعرية وثقافيا التصوف. لم يعرف عن التشيع الاثني عشري نزوع إلي العنف أو الثورات في القرون السابقة علي الصفويين. بل تعايش الاثنا عشرية بشكل كبير مع أهل السنة في العصر العباسي الثاني، وانصرف علماؤهم إلي التأسيس الأكاديمي العلمي الشامل لأصول المذهب وفروعه المعرفية، بحيث يكون له فقهه وكلامه وتفسيره وحديثه وغير ذلك. وشارك وجهاؤهم في إدارة الدولة العباسية فتولوا الوزارات وغيرها. ورغم قيام دولة بني بويه (قبائل فارسية غلب عليها التشيع) في ظل الخلافة العباسية ودامت لأكثر من قرن؛ وباستثناء بعض التوترات المذهبية، لم تتولد آنذاك مظاهر الصراع الذي وقع بين الصفويين والعثمانيين. توجهت جهود علماء الاثني عشرية في العراق العباسي إلي مواجهة الهوامش المتطرفة في حركة التشيع، خصوصا تلك التي لا تستند إلي تأسيس علمي أصولي أو تنطوي علي معتقدات حلولية أو باطنية أو ممارسات فوضوية. والحقيقة أن تبني الصفويين في إيران للتشيع الاثني عشري أدي إلي تصفية أو اختفاء تلك الجيوب المتطرفة علي هامش التشيع. وحتي ما قبل المشروع الصفوي، كان التشيع تقليدا عربيا بامتياز، ولم يكن للشعوب غير العربية دور هام في حركة التشيع؛ بل لا يزال عربيا إلي اليوم في لبنان والعراق والحجاز والإحساء ومناطق أخري في الخليج، مع بعض الاستثناءات. الصراع العثماني الصفوي كانت القرون الوسطي المتأخرة بامتياز هي قرون سيطرة القبائل والنخب التركمانية علي معظم العالم القديم. فقد انطلقت مملكة تيمورلنك من آسيا الوسطي إلي وسط أوروبا والأناضول والمشرق العربي. وامتدت الامبراطورية العثمانية في ثلاث قارات، وحكمت سلالتان من المماليك البرجية والبحرية (قبجاق وشركس) معظم المشرق العربي. وسيطر المغول علي شبه القارة الهندية، والصفويون ــ الناطقون بالتركية وقد تعود أصولهم إلي الكرد ــ علي العالم الإيراني القديم. وحكمت سلالة خوارزم شاه في آسيا الوسطي وبلاد فارس والسند، وغيرها. كانت الخبرة التركمانية التاريخية تنطوي علي تعدد الخانات (الأمراء) ووحدانية الخاقان - وهو الخان الأعظم والأقوي بينهم- وتتحقق خاقانيته لدي قبول باقي الخانات بها أو أن تفرض عليهم. في هذا الإطار، وقعت الحرب بين تيمورلنك والسلطان العثماني بايزيد يلدرم (البرق) في معركة أنقرة 1401 التي كانت ارتطاما هائلا بين جيشين تركيين مسلمين حنفيين، بسبب عدم تقديم السلطان بايزيد الولاء لتيمورلنك كخاقان. من جانب آخر، لعبت العوامل الجيوسياسية، وتوجه نخب التركمان نحو التمدد علي حساب نخب أخري، دورا هاما في الصراع بين الدول التركية، وكانت في معظمها سنية حنفية أشعرية. وكان العالم الإسلامي قد استنكر بشدة حملة تيمورلنك علي العثمانيين في عهد السلطان بايزيد، واعتبرت الحملة غير مبررة، فقد مزقت دولة فاتحين مرابطين في الثغور، وأدخلتها في مرحلة من الفوضي. لذلك، ينبغي أن يعزي التحول المذهبي للصفويين نحو التشيع الاثني عشري، وتبنيه كمذهب وعقيدة الدولة وفرضه بالقوة، إلي رغبة القبائل والنخب المعروفة بـ «القزلبش» ــ أي رؤوس الخراف، لأنهم ربما كانوا يرتدون جلودها ورؤوسها في الحرب ــ في توكيد استقلالهم عن العثمانيين، واتخاذ دعوة دينية سبيلا للتنافس أو التدافع معهم ووسيلة لبناء الملك (علي نحو وصفه ابن خلدون في «المقدمة» تفسيرا لقيام الممالك والدول)، وانتزاع بعض خصائص العثمانية. شكلت الدولة العثمانية قوة فتح توحيدية عملاقة، فرضت النفوذ والسلام العثماني (Pax Ottomana) علي أرجاء شاسعة من العالم لعدة قرون، وكانت ألقاب السلطان تؤكد أنه سلطان البرين وخاقان البحرين وظل الله في الأرض وحامي الحرمين الشريفين، إضافة إلي ألقاب عديدة أخري، وردت في رسالة السلطان سليمان القانوني إلي فرانسوا الأول ملك فرنسا. وبتعبير المؤرخ العثماني أحمد دهده منجمباشي، كان للسلطان آلاف القلاع والحصون، في كل منها آلاف الجنود.
رفض الصفويون خاقانية السلاطين العثمانيين. وشكلت الصفوية مخاطر حقيقية علي الدولة العثمانية، ومنافسا علي ولاء العشائر التركمانية في الأناضول. فقد بادر الصفويون إلي إرسال دعاتهم لنشر دعوتهم بين تلك العشائر، ومن ثم إقناعهم بالانتقال إلي إيران والالتحاق بالصفويين. ونجحوا بالفعل في استقدام نحو نصف مليون تركماني من الأناضول. أثار هذا الأمر قلقا واستنفارا عظيما لدي السلالة العثمانية، وتغيرات استراتيجية وسياسية داخلية وخارجية. فقد أدي التحدي الصفوي إلي صعود السلطان سليم الأول (ياوز) إلي سدة السلطنة متخطيا أخاه ولي العهد، لأن النخبة وجدت في سليم الأول استجابة حازمة وكافية للتصدي للتهديد الصفوي، ونتائجه. فقد حفز استشعار المماليك في مصر والشام للخطر العثماني عليهم قيام تعاون بينهم وبين الصفويين علي اختلافهم المذهبي في أوائل القرن السادس عشر، وهنا تبرز العوامل الجيوسياسية التي تعمل أفقيا (من الشرق إلي الغرب) لدي تزايد المخاطر أو الضغوط من الشمال إلي الجنوب. قد يكون ذلك هو الدافع الأبرز لقرار سليم الأول بفتح بلاد الشام في 1516 ثم مصر في 1517 واضعا نهاية لقرون من حكم المماليك، الذين عجزوا - في نظر العثمانيين- عن صد الخطر البرتغالي عن مياه وثغور المسلمين في البحر الأحمر وبحر العرب والخليج. علي مدي قرنين ونيف، خاض العثمانيون والصفويون معارك طاحنة أنهكت الطرفين معا. دارت أبرز المعارك حول السيطرة علي العراق. فبعد ضم العراق إلي العثمانيين لأول مرة في عصر السلطان سليمان القانوني في النصف الأول من القرن السادس عشر، استعاد الصفويون العراق حتي عصر السلطان مراد الرابع الذي حاصر بغداد، ودارت ــ وفقا للمصادر العثمانية ــ رحي معركة هائلة سقط فيها عشرات الآلاف من القتلي والجرحي، وأبدي الصفويون صمودا مذهلا حتي قتل منهم 50 قائدا برتبة بكلربك (فريق)، فقد كانت أوامر الشاه الصفوي أن لا تسليم. عندما استولي الصفويون علي العراق، ارتكبوا إساءات وتعصبا طائفيا ترك جروحا غائرة في تاريخ وروح العراق. فقد خربوا قبر ومزار الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان وغيره، بينما كان العثمانيون يبادرون إلي بناء وتكريم جميع العتبات المقدسة والمزارات، خاصة مزارات آل بيت النبي الأطهار (ص). وفي بعض المراحل، تحالف الصفويون مع قوي أوروبية ضد الدولة العثمانية. امتدت حروب الدولتين إلي تبريز في أذربيجان وتبليسي في كرجيستان (جورجيا)، وغيرها. وبرز بين القادة العثمانيين عثمان باشا بن أوزدمير باشا، وهو مصري والده مملوك من أصدقاء السلطان سليم الأول وأمه أميرة من العباسيين المصريين. خاض عثمان باشا معارك عديدة في اليمن والخليج والعراق وأذربيجان وشرق الأناضول. كان قائدا أسطوريا رغم مرضه المزمن، بل أهم قائد عالمي في القرن السادس عشر، وتوفي وهو الصدر الأعظم العثماني في 1580. بنهاية القرن السابع عشر تقريبا، استقرت الحدود العثمانية الصفوية تقريبا علي صورة الحدود التركية الإيرانية الراهنة. لكن الإنهاك والإعياء والوهن بلغ من الدولتين مبلغه. وقبيل نهاية القرن الثامن عشر، انقرضت السلالة الصفوية في 1784، وحلت محلها الدولة القاجارية. أما الدولة العثمانية فقد تدهورت مكانتها العالمية في القرن الثامن عشر من الدولة الأولي إلي الدولة الثالثة أو الرابعة، وتمكنت إمارة موسكو (الروسية) - التي كانت تدفع الجزية لأمراء القرم التتار من سلالة كيراي خان التابعين للسلطان العثماني- من إلحاق هزيمة منكرة بالدولة العثمانية في الحرب الروسية البولندية التي خاضتها الدولة العثمانية دفاعا عن أراضي بولندا التي كانت حليفا تقليديا للعثمانيين. انتهت الحرب بنتائج كارثية جسدتها معاهدة قينارجه في 1774. استنزفت الحروب العثمانية الصفوية طاقات وقدرات الدولتين، وأوصلتهما إلي العصر الحديث -عصر صعود الامبريالية الأوروبية- وهما أعجز عن الصمود في وجه المد الاستعماري. تتمثل إشكالية أو مأزق المشروع الصفوي في أنه قد وجه منذ البدء طاقته الصراعية نحو الداخل، نحو الأمة، فهو مشروع للانفجار الداخلي، بل كان باللغة الكلاسيكية مشروعا للفتنة والانقسام والاستنزاف، بكل التضمينات والنتائج السلبية المترتبة علي ذلك. ورغم أنه ليس من حسن الفطن أن ينظر طلاب التاريخ إلي أحداثه السابقة وفقا لفرضيات أو رؤي لاحقة، يعتقد كاتب هذه الصفحات بأن الصراع العثماني- الصفوي العدمي والمنهك للأمة لم يكن حتمية تاريخية مترتبة علي التحول المذهبي في إيران القرن السادس عشر باتجاه التشيع الإثناعشري. وكما سبق، تؤشر الشواهد التاريخية إلي دور العوامل الإثنية والثقافية والجيوسياسية في حدوث تلك الارتطامات بين النخب المسيطرة علي الدول ذات الانتماء التركي. وكانت الدولة العثمانية في الأناضول والبلقان قد دخلت في صراع أقصر مدي مع سلالتين تركيتين سيطرتا علي المجال الإيراني قبل الصفويين، هما أصحاب الخرفان البيض وأصحاب الخرفان السود، وقد كانوا كالعثمانيين سنيين وأحنافًا كذلك. خاضت هاتان الدولتان حروبا لا يستهان بها ضد العثمانيين، وبتحريض من أمراء الإمارات التركمانية في الأناضول الذين أزاحتهم العثمانية ضمن مشروعها التوحيدي. الفارق الرئيس بين التجربة العثمانية وغيرها من الممالك التركمانية هو رحابة آفاق العثمانية وتوجهها نحو العالمية مبكرا، بل وتمثلها لذاتها أحيانا كوريث واستمرار لامبراطورية الروم الشرقية (بيزنطة)، وقيام السلاطين علي مدي قرون بدور حامي وراعي الكنيسة البيزنطية، ورؤية السلطان لذاته امبراطورا (عاهلا) للشعوب العثمانية علي اختلاف أعراقها وأديانها، وخليفة للمسلمين من رعاياه وغيرهم، وخاقانا للشعوب والممالك التركية. وقد عبر الشاعر العثماني نامق كمال عن هذه الرؤية العالمية فقال شعرا: نحن أهل الهمم العالية نحن أهل الطموح والإرادة... من عشيرة صغيرة أقمنا دولة عالمية. أين المشروع العربي؟ هذا التباين بين خصائص وتوجهات كل من المشروع العثماني والمشروع الصفوي هو الذي أكسب الأول عدالته وأهليته وشرعيته التاريخية؛ بينما أفقد الأخير الصدقية والقبول، وقاد إلي ترذيل التجربة الصفوية باعتبارها صفحة غير مشرقة ــ بل عاملا سالبا ــ في مسار التجربة التاريخية للأمة. عزل الصفويون مجالا جغرافيا وثقافيا وإنسانيا هاما من الأمة ــ هو المجال الإيراني ــ عن باقي العالم الإسلامي، وكرست التجربة الصفوية أسباب النفور والغربة، وأساء بدون شك إلي معني وروح التشيع، كما رأي بحق المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي، الذي ميز بوضوح بين التشيع الصفوي والتشيع المحمدي. علي المستوي الموضوعي، كان الوريث الحقيقي للمشروع الصفوي ــ في التاريخ المعاصر ــ هو مشروع الشاه السابق محمد رضا بهلوي، فقد عمل علي تكريس الفجوة بين إيران وبين العرب والمسلمين؛ فتحالف مع إسرائيل والقوي الاستعمارية، وأصبح وكيلا محليا للإمبريالية الأميركية في الخليج والشرق الأوسط بناء علي مبدأ نيكسون الذي جاءت صياغته كرد فعل للعقدة الفيتنامية، وسعي إلي تسريع وتيرة تغريب ومسخ الشخصية الإيرانية، واتخذ مواقف معادية للإسلام والحقوق والتطلعات العربية، واحتل الجزر العربية الإماراتية الثلاث ــ بمباركة أو صمت غربي ــ مدشنا عقدة تاريخية صعبة بين العرب وإيران. ومن أجل تقييم ماهية ومسار المشروع الإيراني الراهن، ينبغي النظر في وجود عناصر التباين بين المشروعين العثماني والصفوي في السياق العربي الإيراني الراهن، فهي تشكل معيارا صائبا وهاديا في الحكم علي أي توجهات أو مشروعات. بيد أن الإشكال هو في افتقاد المشروع العربي الذي ينبغي أن يقارن به المشروع الإيراني. فلم يكتسب المشروع الصفوي التاريخي خصائصه السلبية إلا لدي مقارنته أو تضاده بالمشروع العثماني. وليس هناك الآن مكافئ موضوعي راهن للمشروع العثماني؛ وهذا ينفي بدوره وجود مكافئ موضوعي راهن للمشروع الصفوي كذلك. من ناحية أخري، يذكرنا العدوان الإسرائيلي الراهن في فلسطين ولبنان بأن هناك مشروعا صهيونيا استيطانيا إحلاليا ليس له حتي الآن من رد مكافئ سوي المقاومة في فلسطين ولبنان، كما يذكرنا الاحتلال الأمريكي في العراق والتواطؤ الأمريكي مع العدوان الإسرائيلي في لبنان بمشروع الهيمنة والإخضاع الأميركي، وكان يدعي سابقا الشرق الأوسط الكبير الذي يضم إسرائيل ويلغي الهوية العربية للإقليم والتناقض العربي الإسرائيلي، ويدعي حاليا الشرق الأوسط الجديد والجديد هنا هو تصفية المقاومة للاحتلال الإسرائيلي والممانعة للهيمنة الإمبريالية، ولذلك لا رد مكافئا له سوي مزيد من المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين. لا يمثل المشروع الإيراني الراهن مأزقا أو تحديا حقيقيا للنظام العربي الرسمي، بل المأزق هو في افتراقه عن الاتجاه الذي تؤشر إليه بوصلة الصراع العربي الإسرائيلي ومواجهة الهيمنة والمد الإمبريالي في المنطقة. يؤدي هذا المأزق إلي مفارقة مزدوجة تتمثل في افتقاد الخيارات العربية الرسمية أمام تحديات وتهديدات المشروع الصهيوني والمشروع الأمريكي سوي الهروب أو التساوق أو التهميش، كما تتمثل في التناقض مع مشروع المقاومة الذي هو خيار الأمة الحقيقي والوحيد. وهكذا يؤدي الافتراق عن البوصلة الحقيقية للأمة إلي افتقاد أو ضبابية الرؤية؛ فهي تنظر إلي المقاومة - التي هي خيار الأمة- من خلال منظار الانتماء الطائفي، وهي مقولة عقيمة لا تفسر. فالمقاومة في فلسطين ولبنان والعراق مثلا لا تنتمي إلي الشيعة فقط أو السنة فقط. وهذه المقاومة هي استجابة الشعوب للاحتلال، وليست من اختراع دولة أو محور أو تحالف. وفي القطر الواحد، وداخل الطائفة الواحدة، هناك من يقاوم الاحتلال وهناك من يتعاون معه، فالانتماء الطائفي لا يفسر هذه التناقضات أو التباينات في المواقف. فوعي الأمم بتاريخها وقضاياها وتصوراتها حول ذاتها وهويتها أبلغ أثرا في تشكيل توجهاتها وخياراتها الكبري، بصرف النظر عن التضحيات اللازمة لإنفاذ وإنجاز تلك الخيارات. وفي هذا السياق تصبح التكاليف المادية والمعاناة الإنسانية معقولة ومحتملة في سبيل كرامة الأمم وتحقيق المعني الأسمي لحياتها ومستقبلها.
المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق مثلا لا تنتمي إلي الشيعة فقط أو السنة فقط. وهذه المقاومة هي استجابة الشعوب للاحتلال، وليست من اختراع دولة أو محور أو تحالف.
استنزفت الحروب العثمانية الصفوية طاقات وقدرات الدولتين، وأوصلتهما إلي العصر الحديث -عصر صعود الامبريالية الأوروبية- وهما أعجز عن الصمود في وجه المد الاستعماري.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة