الأتراك فـي قصصــهم القصــيرة



لن نكون مبالغين إذا قلنا أن القصة- بصفة عامة - هى أكثر الفنون الأدبية التصاقًا بالإنسان، وأفصح تعبيرًا عن حياته؛ فى ماضيه وحاضره ومستقبله. ورغم ما تقدمه لنا وسائل الاتصال الحديثة من إبداعات فنية تجسد حياة الإنسان وتقدمها عبر الأثير بكل الألوان والأبعاد، فلا ننسى أن القصة هى جوهر هذه الأعمال الإبداعية على اختلاف ألوانها وأشكالها. والنصوص القصصية مازالت تتربع على عرش الفنون السردية الحديثة؛ فهى التى تصاحب المتلقى أينما كان وحيثما حل، وهى تصل مباشرة إلى خياله فيشاركها التجربة الشعورية للمبدع، وأخيرًا هى التى تستطيع أن تقدم للمتلقى عالمًا افتراضيًا غير محدود.
والقصة القصيرة - بصفة خاصة - هى أقدر الفنون الأدبية على مراقبة الحياة وتفسيرها من خلال الزاوية الخاصة التى ينتقيها كاتبها، وفى إطار الأبعاد الزمانية والمكانية التى يرسمها. فإذا كنا نسعى لتقديم صورة متكاملة لأى مجتمع من المجتمعات البشرية علينا أن نقلب فى قصصه القصيرة لنستخرج منها عناصر هذه الصورة؛ فالقصة القصيرة تتميز بعدة خصائص لعل منها:
ــ أنها تنتقى موقفًا من الحياة أو جانبًا من جوانبها.
ــ أنها تمثل الواقعية الجديدة فى الكشف عن الحقائق دون السعى للكشف عن أسبابها.
ــ أنها تمثل لحظة تنويرية ودفقة شعورية من جانب كاتبها.
ــ أنها تلائم سرعة الإيقاع التى تميز العصر الحديث مع الاهتمام بعنصرى الزمان والمكان.
لذلك كله لجأنا إلى القصة القصيرة لنرصد حركة المجتمع التركى الحديث والمعاصر، ولنشعر بنبض الحياة فى عروقه، ولنلتقط له صورة من مختلف الزوايا (بانورامية). ولكى نستطيع أن نقدم نماذج بشرية متنوعة للإنسان التركى المعاصر فى أفراحه وأتراحه، ومن واقع همومه وقضاياه، ومن خلال ماضيه وحاضره ومستقبله.
وتحقيقًا لهذا الهدف وقع اختيارنا على باقة من القصص القصيرة التى تنتمى إلى الفترة الزمنية من النصف الثانى من القرن العشرين إلى أوائل القرن الحالي. أما كتابها فغالبيتهم ــ باستثناء عدد محدود من المخضرمين ــ من مواليد الأربعينيات فأحدث. أى أنهم من الجيل المعاصر.
لم تكن مسألة اختيار هذه النصوص الإبداعية أمرًا سهلاً ميسورًا؛ بل هى مهمة جد عسيرة؛ فقد حرصنا على أن نقدم رؤى إبداعية مختلفة، بحيث يمثل مبدعوها مختلف الاتجاهات والتيارات الفكرية والفنية السائدة فى الأدب التركى المعاصر. ووضعنا فى عين الاعتبار أن تصور هذه القصص مختلف بيئات المجتمع التركى وطبقاته وفئاته، وأن تقدم لنا نماذج بشرية مختلفة تمثل غالبية الشعب التركي. ورغم ذلك لا نزعم أن هذه المختارات تمثل كل القصص التركية المعاصرة، أو أنها تمثل كتابها أو أنها تمثل أفضل ما كتبوا، بالطبع لا نستطيع زعم ذلك. بيد أننا نزعم أننا حاولنا تقديم تنويعات من القصة التركية القصيرة التى تقدم لنا صورة متكاملة للمجتمع التركى المعاصر.


إن القصة ــ بمعناها العام ــ تعبير أدبى وثيق الصلة بحياة الإنسان؛ فهو يسمعها وليدا فى المهد، وهو ينصت إليها حين تقدم إليه دروسا وعبرا دينية، وهو يطالعها حين يتابع تاريخه فى شكل أحداث ووقائع. ومن ثم فالقصة ملازمة للإنسان طوال حياته. وإذا صدق ذلك على الأفراد فهو يصدق على الشعوب والأمم.
أما القصة القصيرة فنعنى بها ذلك النوع الأدبى الحديث الوافد من الغرب والذى انبثق عن فن الرواية وأطلق عليه - مجازا ــ «القصة القصيرة ». فقد ظهر هذا النوع فى أوروبا فى أواخر القرن التاسع عشر، واكتمل نضجه على يد جى دى موباسان (1850-1893م) الذى وصفها بأنها «تصور حدثا معينا لا يهتم الكاتب بما قبله أو بعده»... «وهى الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة التى لا تهتم بشيء أكثر من اهتمامها باستكشاف الحقائق من الأمور الصغيرة المألوفة... وكاتبها يهتم بتصوير موقف معين فى حياة فرد أو أكثر لا بتصوير الحياة بأكملها... ولذلك فإن النهاية فى القصة القصيرة تكتسب أهمية خاصة إذ هى النقطة التى تتجمع فيها وتنتهى إليها خيوط الحدث كلها لذلك سميت (لحظة التنوير)»(1)
والقصة مرآة صادقة لحياة الشعوب؛ فوقائعها مأخوذة مما عاشته من الأحداث والخطوب، وشخصياتها مستوحاة من البشر الذين يعيشون هذه الحياة، ومسرح أحداثها هو الأرض التى يدب عليها أفراد المجتمع، وزمانها هو اللحظة التاريخية المنتقاة التى يبعثها القصاص من جديد. وإذا كان العرب قالوا قديما «الشعر ديوان العرب»، فلن نكون مبالغين لو قلنا أن « القصة ديوان الحياة المعاصرة».
والقصة التركية ــ سواء كانت رواية أم قصة قصيرة ــ لاتعدو كونها ديوانا لحياة المجتمع التركي، ونحن إذ نقدم هذه المختارات، نحاول أن نقدم صورة (بانورامية) للحياة الاجتماعية المعاصرة لتركيا. فالقصة التركية القصيرة ــ التى لا تختلف كثيرا فى نشأتها وتطورها عن مثيلتها فى الأدب العربى كانت مواكبة لحياة هذا المجتمع عبر تاريخه الحديث والمعاصر.
بيد أننا آثرنا أن يكون اختيارنا محدودا فى نطاق زمنى محدد وهو المجتمع الحديث والمعاصر، ومن ثم انحصر ما نقدمه من نماذج فى الإنتاج القصصى للفترة من منتصف القرن العشرين إلى أواخره(2).
ولا مندوحة من تقديم لمحة سريعة عن نشأة القصة التركية القصيرة وتطورها توطئة للمرحلة التاريخية والأدبية التى أفرزت القصص المختارة، وتمهيدا للوقوف على مستوى النضج الفنى الذى وصلت إليه القصة التركية المعاصرة من ناحية، ومدى تعبيرها عن المجتمع التركى المعاصر من ناحية أخري.

فجر القصة التركية القصيرة:

دخل الأدب التركى كغيره من الآداب الشرقية- تحت تأثير الآداب الغربية مع مطلع القرن التاسع عشر الميلادي(3)، ونتيجة لهذا التأثير تسربت الأنواع الأدبية الجديدة إلى الأدب التركي، وكان فن القصة القصيرة فى مقدمة هذه الأنواع الأدبية الوافدة(4). وقد تزامن فجر هذا الفن الجديد مع بداية مرحلة تاريخية جديدة فى حياة المجتمع التركي؛ تلك المرحلة التى تعرف فيها على الحضارة الأوروبية، متأثرا بحالة من الانبهار بتفوقها التكنولوجي، وبمبادئ ثورتها الفرنسية. وقد عرفت هذه المرحلة بـ(عهد التنظيمات)(5). وفى هذه المرحلة تبنى الروائيون الأوائل مبدأ «الفن فى خدمة المجتمع» وكانت القصة القصيرة فى مقدمة الأنواع التى سخرها الروائيون الأوائل لخدمة أهداف أخلاقية وتنويرية تنصب، فى الغالب، على التعريف بالحضارة الغربية، أو التوفيق بينها والحضارة الإسلامية، أو التحذير من التقليد الأعمى للحضارة الغربية(6).
برز فى هذه المرحلة الكاتب التركى المعروف أحمد مدحت أفندى (1844- 1912م) وتسنم مقام ريادة القصة بلا منازع، لوفرة إنتاجه، وسهولة لغته، وتقمصه روح التراث الشعبي(7). وإذا كان إنتاج أحمد مدحت قد تميز بالطابع الشعبى فهناك روائيون آخرون غلب على أعمالهم طابع الصنعة والتكلف فى اللغة والأسلوب، فراجت أعمالهم بين زمرة المثقفين، ولكنهم لم يكتبوا كثيرا فى مجال القصة القصيرة، بل كان جل إنتاجهم فى مجال الرواية مثل نامق كمال(1840-1888م) وسامى باشا زاده سزائي(1860- 1936م)، ومع ظهور الجيل الثانى من كتاب هذه المرحلة ظهرت بشائر المدرسة الواقعية على يد محمود رجائى زاده أكرم (1847- 1914م) فى روايته «غرام العربة» (1889م). ثم جاء نابى زاده ناظم (1862-1893م) ليقدم نماذج جديدة اتسمت بمزيج من الواقعية والطبيعية وقد بدا ذلك واضحا فى قصصه القصيرة، خاصة قصة «قرابيبك» (1890م).
تميز الإنتاج القصصى لهذه المرحلة، بخصائص المدرسة الرومانسية الفرنسية بكل ما تحمل الكلمة من معني؛ من حيث المبالغة فى التصوير، والجنوح إلى الخيال، وتسطيح الشخصيات وعدم تطورها مع تطور الأحداث؛ فهى أحادية الجانب: إما جانب الخير أو جانب الشر. فضلا عن ذلك فقد تميز إنتاج هذه المرحلة بكل خصائص البدائية: من حيث عدم اكتمال عناصر النضج الفني. بيد أنه يحسب لهذا الجيل من القصاصين أنهم استطاعوا تسخير هذا الفن الجديد الوافد فى خدمة أهدافهم التثقيفية، والتنويرية، ومعالجة القضايا الاجتماعية فى ضوء معطيات المنعطف الحضارى الذى كان يعيشه المجتمع التركي، ولا سيما فى عاصمة الدولة العثمانية آنذاك؛ استانبول.
مع قرب أفول القرن التاسع عشر الميلادى دخل الأدب التركى عموما، وفن القص خصوصا، منعطفا جديدا حين بدأ الأدباء - تحت ضغط السلطات الرقابية آنذاك - يبتعدون عن تناول القضايا الاجتماعية، مؤثرين التعبير عن مشاعرهم الذاتية. وقد التف هؤلاء الأدباء حول مجلة أدبية تعرف باسم «ثروت فنون» (بدأ صدورها فى 1891م) وإليها نسب جيلهم، فعرف باسم «جيل ثروت فنون» أو جيل «الأدب الجديد» كما كانوا يسمون أنفسهم. ومن الجدير بالذكر أنهم ــ بصفة عامة - تخلوا عن مبدأ «الفن للمجتمع» وأصبح شعارهم «الفن للفن»، ونشطت حركة ترجمة الأعمال الروائية الفرنسية والإنجليزية؛ فوردوا موارد المدرسة الطبيعية والواقعية فى الأدب الفرنسى فقرأوا وترجموا عن بلزاك (1799-1850م) وستاندال (1783-1842م) وجوستاف فلوبير (1821-1880م) وأميل زولا (1840-1902م ) والفونس دوديه (1840- 1897م) وغيرهم. وأطلقوا العنان لمشاعرهم وعواطفهم. وكان انتاجهم الروائى فى البداية يحمل بصمات الرومانسية التى ورثوها عن كتاب التنظيمات، ثم تطور ذلك الانتاج ليبلغ النضج الفنى فى أواخر هذه المرحلة. وقد برز من بين هؤلاء القصاصين خالد ضيا أوشاقليغل (1867- 1945م) وقد كان جل انتاجه فى مجال القصة القصيرة التى بلغت مائتى قصة، تميز فيها بالحرص على تقديم بناء فنى متكامل، على طراز القصص الغربية، كما جسد شخصيات طبيعية استمدها من واقع الحياة ولاسيما بيئة الأحياء الفقيرة فى استانبول. كذلك جاء الروائى محمد رؤوف (1875- 1931م) ليقدم أولى نماذج التحليل النفسى فى الرواية التركية(8). وعلى الرغم من أن الروائى حسين رحمى كوربينار (1864-1944م) كان معاصرا لهؤلاء القصاصين، لم ينتم إلى جماعتهم. بيد أنه تميز بغزارة انتاجه، وغلبة الطابع الاجتماعى على هذا الانتاج مما يعد تلميذا مخلصا لأحمد مدحت افندي، ولكنه كان متأثرا بمدرسة الطبيعية الفرنسية بمزيج من الواقعية النقدية(9). وهكذا تجاوزت القصة التركية مرحلة النشأة، فتطور بناؤها الفني، ونسيجها القصصي، وبدت شخصياتها أكثر طبيعية وأحداثها أكثر واقعية. لكن يعيب النقاد على غالبية أعمال هذه المرحلة صعوبة اللغة وتكلف الأسلوب(01).


القصة فى خدمة المبادئ القومية:

مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أفلست غالبية التيارات الإصلاحية التى كانت تهدف إلى بعث الحياة فى جسد الرجل المريض؛ أى الدولة العثمانية، ولاسيما تلك التيارات التى كانت تعتمد على مبادئ عثمانية أو إسلامية، وساد على ساحة الفكر والسياسة تياران: أحدهما يدعو إلى القومية التركية، والآخر يدعو إلى العصرنة. وقد تجلت سيادة هذين التيارين فى الإطاحة بعرش السلطان عبد الحميد الثاني(1876- 1909م ) عام 1908م وتولى حزب الاتحاد والترقى السلطة.
التفت جماعة من الأدباء حول مجلة تدعى «كنج قلملر» أى الأقلام الشابة (1911م) وتبنت هذه الجماعة الفكر القومى بكل تجلياته اللغوية والأدبية(11)؛ ومن هذه التجليات أن تكون أعمالهم الروائية فى خدمة مبدأ القومية التركية الذى اشتد أواره وكثر أتباعه فى أعقاب الحروب التى خاضتها الدول العثمانية فى أخريات أيامها(21). فعاد الأدباء إلى مبدأ «الفن من أجل المجتمع» وارتاد الروائيون الأتراك تيار القومية وبرز من بينهم الكاتب ممدوح شوكت اسندال (1883-1952م) وعمر سيف الدين(1884-1920م)، وخالدة أديب (1884- 1964م) ورفيق خالد قراى (1888- 1965م) ويعقوب قدرى قرا عثمان اوغلو (1889- 1974م) ورشاد نورى كونتكين (1889- 1956م). هؤلاء توفروا على تناول موضوعات قومية فى أعمالهم القصصية، ويأتى فى مقدمة هذه الموضوعات: بث الروح الوطنية، وتزكية روح الحماس لقتال الأعداء وتحرير الوطن التركي، وتمجيد تاريخ الأتراك قبل الإسلام، والفخر بالعنصر التركي، والبحث عن أسباب النهوض بالمجتمع التركي، وإحياء التراث التركى القديم، والدعوة للقومية التركية، وأخيرا تصوير حياة الريف، وعرض قضاياه، مع اعتبار الأناضول مهدا للوطنية التركية. لكن هذه الموضوعات كانت فى الغالب تقدم ممزوجة بإحدى قصص الحب ــ لاسيما فى الروايات - وربما كان ذلك رغبة فى إرضاء المتلقى الذى ألف قراءة قصص العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة. كما تميزت الأعمال القصصية فى تلك المرحلة بالبناء الفنى المحكم، وسهولة اللغة والأسلوب.
ولكن رغم هذا التحول القومى فى المضمون، ظل البناء الفنى مرتبطا بالمدارس الغربية من حيث المفهوم والبناء الفني، فظل القصاصون يضربون على خطى رواد القصة القصيرة فى الآداب الغربية آنذاك ويأتى فى مقدمة هؤلاء:
من الأدب الفرنسي: الفونس دوديه (1840- 1897م)، وجى دى موباسان. ومن الأدب الأمريكى مارك توين (1835-1910م)، وجون شتاينبك (18902-1968م). ومن الأدب الروسى انطون تشيكوف (1860-1904م ) وغيرهم. ولكن من بين هؤلاء كان موباسان وتشيكوف هما الأعمق تأثيرا. حتى لقد دأب نقاد الأدب التركى على تقسيم القصاصين إلى فريقين:
أحدهما ترسم خطى موباسان حيث أعطى الأولوية لبناء الحدث بناء تقليديا، واهتم بدور الشخصيات فى تحريك الحدث.وقد مثل هذا الفريق: عمر سيف الدين، ويعقوب قدرى قرا عثمان اوغلو، ورفيق خالد قراي، وخالدة أديب، ورشاد نورى كونتكين.
أما الثانى فقد اقتفى أثر تشيكوف الذى لم يكن يهتم بمنطقية بناء الحدث،ولم يكن يولى للشخصيات هذه الأهمية، بل كان يعتبر أن القصة تبدأ بعد نهاية الحدث ويأتى فى مقدمة هذا الفريق: ممدوح شوكت اسندال(31).


القصة ومبادئ الثورة الكمالية:

بعد نجاح الأتراك فى حربهم التحريرية عام 1922م، وقيام الثورة الكمالية ومن ثم إلغاء السلطنة العثمانية وإعلان الجمهورية 1923م، أعلنت الثورة مبادئها الستة التى كان فى مقدمتها : القومية والعلمانية. ومن ثم لم يجد حملة الشعلة القومية من الأدباء تناقضا بين أعمالهم السابقة للثورة وهذه المبادئ، ولذلك لم يكن غريبا أن نرى الروائيين، السابق ذكرهم، قد واصلوا ــ فى أوائل العهد الجمهورى - مسيرتهم القومية فى تناول نفس الموضوعات التى لم يجدوا فيها تناقضا مع ما جاء فى مبادئ الثورة الكمالية. بل أضيف إليها الهجوم العنيف على الدين الإسلامى ورموزه، وإرجاع غالبية الأمراض والمشكلات الاجتماعية إلى التمسك بالدين. وليس أدل على ذلك من الشكوى التى يشكوها الناقد التركى أحمد قباقلى من تصاعد حدة هذا الهجوم بقوله «لقد اتفق فى ذلك دعاة التغريب مع دعاة اليسارية ولم يكن لهم من هدف سوى التظاهر بالثورية والتنويرية«(41) فضلا عن ذلك فقد بدأت مبادئ الشيوعية تتسرب إلى فئة المثقفين فالتفوا حول مجلة تمثلهم اسمها (كادرو) وكان من بين هؤلاء المثقفين الكاتب، سالف الذكر، يعقوب قدري، والشاعر ناظم حكمت (1902- 1963م) والروائى صباح الدين على (1907-1948م) ولكن زج بالأول فى السجن، وهرب الثانى إلى خارج البلاد، وقتل الثالث أثناء محاولته الهروب على الحدود البولغارية.
لم يكن الحزب الجمهوري، الحاكم فى أوائل العهد الجمهوري، ليسمح بتعدد الاتجاهات الفكرية فى ظل حكم الحزب الواحد، كما أنه لم يكن ليسمح بتناول التاريخ الإ سلامى أو العثمانى فى الأعمال القصصية إلا نقدا وتجريحا. ولكن هذا لاينفى وجود المعارضة الدينية التى تزعمها الشيخ سعيد النورسى (1876-1960م)، أما المعارضون الأدباء فقد كانوا يلجأون أحيانا إلى اختيار حياة المنفى مثل: الشاعر الإسلامى محمد عاكف أرصوي(1873- 1936م) وشيخ الإسلام مصطفى صبرى (1876-1960م) وخالدة أديب آدى وار(1844-1964م) وسامحة آيويردي(1906- 1993م). وقد حاول يعقوب قدرى التململ إزاء فرض الرقابة وسيطرة الحزب الواحد وكان السجن من نصيبه، وكان بعض الكتاب يلجأون إلى الموضوعات الروحية، ومعالجة الأزمات النفسية مثل بيامى صفا (1800- 1961م) أو معالجة الموضوعات الحسية، الغريزية الخاصة بالطبيعة البشرية مثل صلاح الدين أنيس.
ومن ثم انكب الروائيون على تناول الموضوعات التى تسمح بها الرقابة وتدعمها السلطة السياسية آنذاك مثل: تصوير حياة القرية، وما تعانيه من المشكلات الاجتماعية ورواسب العهود البائدة، ويأتى فى مقدمة هؤلاء رفيق خالد قراي، الذى قدم أروع تصوير للقرية التركية، وأصدق نموذج للفلاح التركى من خلال مجموعته «حكايات بلادي» (1919م)، وواصل رشاد نورى أعماله القصصية التى جسدت الروح الشاعرية لقرى الأناضول، كما تابع يعقوب قدرى فى رواياته وقصصه القصيرة نقده لموقف المثقفين حيال الريف وتعاليهم على أهله، فضلا عن قصص البطولة التى أثرت عن حرب الاستقلال(51).


التعددية الحزبية وصراع الأيديولوجيات:

يعتبر مؤرخو الأدب التركى الحرب العاليمة الثانية وما أعقبها من نتائج بداية مرحلة جديدة فى تطور الأنواع الأدبية بصفة عامة، والفن الروائى بصفة خاصة. وهو محقون فى ذلك. لأن الأحداث التى أعقبت هذه الحرب تمخضت عن تغييرات عميقة الأثر فى الحياة السياسية والاجتماعية؛ فما هى هذه التتغييرات؟ وما هى انعكاساتها على القصة القصيرة؟.
توفى مصطفى كمال آتاتورك عام 1938م عن دولة يسودها حكم الحزب الواحد، ولا صوت فيها يعلو على صوت الثورة الكمالية ومبادئها، ولم تتحقق لها التنمية الاقتصادية المنشودة ولا العدالة الاجتماعية الموعودة، وعلى الرغم من عدم دخول تركيا الحرب العالمية الثانية، فقد اكتوت بنارها؛ حيث كشفت هذه الحرب حقيقة تدهور الأوضاع فى الدولة مما أدى إلى زيادة حدة المعارضة المكتومة. ولم يستطع خليفته عصمت اينونو(1848-1973م) أن يؤجل تطبيق الديمقراطية، ولاسيما أن الظروف العالمية؛ مثل توقيع اتفاقية حقوق الإنسان عام 1944م، وانضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلنطى عام 1947م، كانت تدفع تركيا إلى اتخاذ هذه الخطوة. فتقرر تشكيل عدة أحزاب لخوض الانتخابات البرلمانية عام 1948م. التفت المعارضة حول الحزب الديمقراطى الجديد حين أعلن عن تشكيله عام 0591م ونجح فى اكتساح حزب الشعب الجمهورى فى الانتخابات وتولى السلطة.
من الطبيعى أن يضم هذا الحزب الجديد جميع أطياف المعارضة من المحافظين، وأصحاب النزعة الدينية من التجار وكبار مزارعى الأناضول الذين أضيروا فى العهد الجمهورى من جراء احتكار الدولة لكثير من المنتجات الزراعية المهمة، واحتكار صناعة التبغ والخمور(61). ويحسب لهذه المرحلة انطلاق المعارضة الإسلامية من عقالها. ومنذ هذا التاريخ بدأ الأتراك المتمسكون بدينهم يلتفون حول الأحزاب السياسية حتى أصبح لهم أحزاب تمثلهم بل وتصل إلى سدة الحكم أكثر من مرة(71).
بدأت الجمهورية التركية تدخل مرحلة سياسية وفكرية جديدة مع اعتلاء الحزب الديمقراطى سدة الحكم، فلم يكن لدى قادته من الخبرة السياسية والاقتصادية الكافية لحل القضايا التى خلفها الحكم الفردى طوال سبع وعشرين سنة، مما أدى إلى ظهور قضايا جديدة أوجزها الناقد أحمد قاباقلى فيما يلي:
«الفهم الخاطئ للديمقراطية، والتفرقة بين المدنيين والعسكريين، وانتشار البطالة فى الريف نتيجة لرواج الميكنة الزراعية، وسيطرة أصحاب رؤوس الأموال على الحياة الحزبية، وزيادة الهجرة من الريف إلى المدن، انتشار المساكن العشوائية على أطراف المدن(81).
زاد من تفاقم هذه الأزمات الصراع بين الساسة الجدد ذوى النزعة المحافظة ويمثلهم الحزب الديمقراطي، والحرس القديم المدافع عن (الرئاسة الأبدية) والثورة الكمالية بمبادئها العلمانية والتغريبية، ويمثلهم العسكريون واستمر هذا الصراع من 1950 إلى 1960 وتمخض عن الانقلاب العسكرى فى 27/5/1960م، ثم إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس وعدد من الوزراء. ودخلت الحياة الساسية فى نركيا مرحلة جديدة اتسمت بالعنف وتكونت الخلايا والمنظمات الإرهابية التى كانت ترى لنفسها الحق فى استخدام القوة لفرض مبادئها.
كان من الطبيعى أن تترك هذه الأحداث السياسية أثرها فى الحياة الفكرية فتسربت إلى البلاد الأيديولوجيات اليسارية بكل طوائفها، ونتج عن ذلك تعدد التيارات والاتجاهات السياسية، فإلى جانب التيارات القديمة المتمثلة في: القومية التركية، والإسلامية، والعصرنة أخذت الشيوعية تنتشر بين فئات الطلاب والمثقفين، فزادت أحداث العنف وعمت الفوضي، واختل الأمن فى كل أنحاء البلاد، ناهيك عن ظهور الحركات الانفصالية فى جنوب شرقى تركيا، حيث وجد اليساريون فى تلك المناطق تربة صالحة لبث الفرقة بين العنصر الكردى فى الولايات الشرقية، وعلى هذا النحو عاشت تركيا حالة من عدم الاستقرار فى الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية حتى أواخر السبعينيات؛ حيث تدخل الجيش مرة أخرى عام 1980م وأعلن الأحكام العرفية وخكم البلاد حتى عام 1984م. وعلى الرغم من أن التدخل العسكرى من حين لآخر لم يكن يقدم حلا جذريا للصراعات الحزبية والأيديولوجية إلا أن تدخله كان بمثابة المسكن الذى يزيل الأعراض وليس الأمراض. وقد تمخضت هذه الأحداث عن انقسام المفكرين والأدباء إلى معسكرين رئيسيين:
1 ــ الواقعية الاشتراكية :
انعكست حالة الانقسام هذه على الحياة الأدبية بصفة عامة، وكتاب الرواية بصفة خاصة فأصبح كل منهم ينتمى إلى تيار أو اتجاه فكري، وأصبح لكل منهم معسكره ومنبره الخاص، يدافع عنه مبررا اعتقاده أو مبادئه، وجعل الكتاب من أنفسهم أبواق دعاية لكل حزب أو جماعة، وضاقت المسافة بين الشعارات السياسية والفن، وضحى القصاصون بالجوانب الفنية فى سبيل التعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية، وسادت التيارات الوافدة وخاصة الواقعية الاشتراكية وساعد على ذلك حركة ترجمة واسعة النطاق عن الروسية والألمانية عدا الإنجليزية والفرنسية؛ ومن ثم سخر هؤلاء القصاصون قصصهم للترويج للفكر الشيوعى أو الاشتراكي، وسادت أعمالهم فكرة الصراع بين الطبقات، ووضعوا الشخصيات فى قوالب نمطية، فوضعوا شخصية المظلوم فى قالب واحد تقريبا: فهو إما عامل أوفلاح أجير أو إحدى الشخصيات التى تعيش على هامش الحياة الاجتماعية، فى مقابل شخصية الظالم وهو إما مالك الأراضى (الآغا ) أو العمدة فى القرية، وصاحب رأس المال أو التاجر الانتهازى فى المدينة. وكان ممثلو هذا التيار إما رواد الواقعية الاشتراكية منذ الأربعينيات والخمسينيات مثل: كمال طاهر (1910-1973) وأورخان كمال (1914-1970) وياشار كمال (1922-؟ ) وصميم قوجه كوز(1916-؟) وعزيز نسين (1915- 1993م) أو الكتاب الجدد الذين برزوا فى السبعينيات ولكنهم تتلمذوا على مؤلفات الكبار الذى ذكرناهم آنفا ونذكر من هؤلاء الجدد : وايلخان طاروس (1907-1967م) عدالت آغا اوغلو (1929-؟) وطومريس اويار (1941-؟)، وسليم ايلرى (1949-؟) وغيرهم.
2 ــ القومية التركية والإسلامية:
وفى مقابل هذا المعسكر الاشتراكى برز رهط من الأدباء ممن كانوا يرون أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولذلك شرعوا ينافحون عن القيم المعنوية للإنسان وقد تمثلت هذه القيم عند بعضهم فى الفخر بأمجاد الأتراك وتراثهم، واتخذوا من تاريخ الأتراك مسرحا لأبطالهم مثل الكاتبة سوينتش تشوقوم (1943-؟)، وكمال طاهر(1910-1973م)، ومصطفى قوطلو (1947-؟)، وطارق بوغرا (1918-؟ ). والبعض الآخر اتخذ من التاريخ السلجوقى والعثمانى مدخلا لإحياء الأمجاد التركية فى العصر الإسلامى ويمثل هؤلاء : سزائى قراقوتش (1933-؟ ) وراسم أوزنديرن (1940-؟). أما مصطفى سبتشى اوغلو (1932-؟ ) وآفت ايلغاز (1937-؟ ) ومن لف لفهم فقد كانوا يرون فى القيم الإسلامية حلا للمشكلات الاجتماعية ومخرجا للأزمة التى كان يعيشها المجتمع التركي.
لكن هذا التصنيف لا يعنى الحصر، فالكاتب قد يعبر فى إحدى قصصه عن المبادئ الاشتراكية وفى الأخرى عن القومية. نقول ذلك لأن غالبية القصاصين الجدد الذين برزوا متأثرين بالواقعية الاشتراكية قد تحولوا عنها بعد ذلك ولاسيما بعد انهيار المعسكر الشيوعى فى التسعينيات من القرن العشرين. كما أننا نجد بعض الكتاب وقد اتخذوا لأنفسهم مسارا خاصا فمنهم من خص إنتاجه القصصى بحياة البحر، دون أن يتخذ من القضايا الاجتماعية مادة لقصصه، بل كان يتغنى بالمبادئ الإنسانية العامة ونذكر من هؤلاء خاليقارناس بالقيجيسى (1886- 1973م) وسعيد فائق آباسى يانيق (1906-1954م) الذى ترك بصمات واضحة جعلته رائدا لمدرسة الإنسانية فى القصة التركية القصيرة.
أما من ناحية البناء الفنى فقد ساد فى هذه الفترة فن الإسقاط التاريخى على الأحداث المعاصرة؛ حيث بات كل كاتب يختار المرحلة التاريخية التى يمكن من خلالها الترويج لأفكاره سواء إذا كانت قومية أو شيوعية أو محافظة أو تغريبية. وعن هذا النوع من البناء يقول الناقد أحمد قاباقلي: «اختار غالبية الروائيين من التاريخ التركى عهد الاتحاد والترقي، أو حرب الاستقلال، كما قدموا رؤية جديدة لحرب الاستقلال، ومن بين هؤلاء آتيلا ايلخان، وكمال طاهر وطارق بوغرا, وصميم قوجه كوز، وايلخان طاروس، وسـفنتش تشـــوقوم، وبكير ييلـديز (1933-؟ ). ولجأ بعض الروائيين إلى مرحلة التاريخ السلجوقى والعثمانى وتاريخ القرم ، ومن هؤلاء مصطفى نجاتى سبتتشى أوغلو وكمال طاهر ، وطارق بوغرا وسفنتش تشوقوم، وأورخان باموق (1952)(91).


العولمة وآثارها فى نهاية القرن:

مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، وبالتحديد فى السنوات العشرين الأخيرة منه، مر المجتمع التركى بتحولات جوهرية فى الحياة السياسية والاجتماعية، بدأت بنجاح حزب (ألوطن الأم ) فى أول انتخابات بعد انقضاء فترة الحكم العسكرى عام 1984 برئاسة تورجوت اوزال (1927-1993م). فكان انتصارا لليبرالية والرأسمالية الغربية، حتى الحكومات التركية المتعاقبة انتهجت سياسة السوق الحرة، وبدأت الدولة ترخى قبضتها على المؤسسات الاقتصادية، وزاد الانفتاح على الخارج، فسعت الدولة إلى جذب الاستثمارات الخارجية، ونشط الاقتصاديون ورواد الصناعة فى مجال التصدير، واقتحم المقاولون الأتراك آفاقا جديدة فى الشرق الأوسط وروسيا وأستراليا، والتف أصحاب رؤوس الأموال حول حزب (الوطن الأم ) الذى نجح فى تحرير الاقتصاد التركى من سيطرة الدولة، مما أدى إلى ظهور المضاربات فى سوق المال والبورصات، والصفقات المالية المريبة، وانتشار الفساد الإدارى والاجتماعي، وظهرت طبقات جديدة أثرت ثراء سريعا، فاتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وزادت النزعة الاستهلاكية والإقبال على مظاهر الترف والرفاهية، وانخفض سعر العملة المحلية مع زيادة التضخم وارتفاع الأسعار، واصبح التعامل بالدولار واليورو فى السوق المحلية أكثر منه بالعملة المحلية.
تبع ذلك انفتاح اجتماعى على الحياة الغربية بكل أطيافها فانتشرت أماكن اللهو والنوادى الليلية، وأقيمت محطات التليفزيون الخاصة الإباحية، فضلا عن انتشار القنوات الأجنبية، وزادت هجرة العمال الأتراك إلى الدول الغربية، مع تفضيل الكثرة منهم الحياة فى الغرب، أما العائدون فباتوا يعانون من الاغتراب داخل الوطن. والخلاصة أن هذا الانفتاح وإن بدأ اقتصاديا فقد انتهى اجتماعيا بحيث انعكس على حياة المواطن التركي: فهو إما أن يتخلى عن هويته التركية الإسلامية أو يتشدد فى المحافظة عليهما. وقد وقع غالبية المحافظين تحت تأثير التيارات الإسلامية المتشددة، فظهرت الجماعات الإسلامية التى عرفت بأسماء عديدة مثل؛ «حزب الله التركي» و«أتباع فتح الله» وجماعة «النورسية» وغيرهم.
أما على صعيد الأحداث العالمية الكبرى فقد شهدت التسعينيات انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991م؛ ونهاية الحرب الباردة . وكان لذلك آثاره الكبرى على مجريات الحياة التركية بكل مناحيها، ويأتى فى مقدمة هذه الآثار:
* غياب العدو التقليدى من ناحية وفقدان تركيا أهميتها الاستراتيحية بين أعضاء حلف شمال الأطلنطى من ناحية أخري.
* تداعى الاتجاه اليسارى ومن ثم الأحزاب التى كانت تتبنى المبادئ الماركسية.
* فتح آفاق جديدة للقومية التركية ودعوة تركيا للتكامل الاقتصادى والسياسى والثقافى مع عالم الجمهوريات التركية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، حتى أنه أعلن فى مؤتمر انطاليا 1993م القرن الواحد والعشرين (قرن العالم التركي).
* الميراث العثمانى وأثره فى حرب البوسنة والهرسك وتداعياتها على سياسة تركيا تجاه البلقان.
* حرب الشيشان مع روسيا الاتحادية، والنزاع بين الأرمن والآذريين على إقليم ناكورنو قراباغ فى القوقاز.
* الحرب على العراق عام 1991، ثم انهيار العراق وإعلان الاستقلال الذاتى لإقليم الكردستان شمال العراق وأثره على تطور الحركة الانفصالية بين أكراد تركيا(02).
وفى ظل هذه الأحداث السريعة والمتلاحقة، وتحت وطأة المتغيرات العنيفة فقد الأدباء والمفكرون وجهتهم، ولم يعد فى مكنتهم الالتفاف حول مفهوم فكرى أو فنى واحد، أو الاعتقاد فى مبدأ إصلاحى واحد، بل ضربوا فى كل اتجاه، وعبروا عن مختلف الرؤي. ورغم استمرار بعض الكتاب فى الضرب على وتر الموضوعات القديمة؛ مثل تصوير حالات الفقر والظلم الاجتماعي، والكشف عن الفساد الإدارى والمالي، فقد لجأ رهط من الكتاب إلى التعبير عن بعض المتغيرات الطارئة على المجتمع التركي؛ مثل تناول قضايا المغتربين وضرورة المحافظة على الهوية التركية والإسلامية، أو التوفيق بين مبادئ الدين الإسلامى والعصرنة. كما تناول فريق منهم القضايا الإنسانية العامة، من خلال التعبير عن هموم الإنسان المعاصر وقلقه الوجودى أحيانا، ونزعته إلى الصوفية أحيانا أخري.

 


ولئن واصل رهط من كتاب القصة التركية القصيرة ما وجدوا عليه أسلافهم من الموضوعات التقليدية التى كانت سائدة فى الأربعينيات وأوائل الخمسينيات(12) فقد تميزت معالجتهم بشيء من الجدة سواء من حيث التصوير أو الأداء، كما تميز تصويرهم بعناصر وشخصيات لم تكن موجودة من قبل. فضلا عن ذلك فقد جاءوا ببعض الموضوعات الجديدة التى فرضتها المتغيرات الاجتماعية والسياسية التى ذكرناها آنفا. ينطبق ذلك على البناء الفني؛ إذ لم يكن المخضرمون وحدهم هم الذين يضربون على النهج التقليدى فى بناء القصة، بل شايعهم فى ذلك بعض المعاصرين. وفى نفس الوقت ظهرت أنواع جديدة من التكنيك لم تكن مطروقة من قبل.


الموضوعات:

> تناول فريق من القصاصين القضايا الإنسانية العامة؛ مثل قضية الحياة والموت، وعبثية الحياة، وتداول الأدوار بين الأجيال، ومكابدة الإنسان خلال هذه الحياة. وكلها من القضايا المصاحبة للإنسان أينما كان، وفى أى زمان كان(22). وعالجت بعض القصص جانبا من المشاعر الإنسانية البسيطة المعتادة؛ مثل مشاعر الغيرة والتنافس بين الفتيات المراهقات(32)، كما عالجت بعض القصص الأخرى العلاقة بين الإنسان والحيوان الأليف المسخر لخدمته مثل الحمار(42).
> تناولت بعض القصص حياة الموظفين داخل المدن الكبري، وطموحاتهم الاجتماعية، ثم إحباطهم من جراء قلة المرتبات وزيادة أعباء الخدمات المدنية(52) مما يدفع بعضهم إلى الانتحار والبعض الآخر إلى النفاق الاجتماعي.
> واصل بعض رواد الواقعية الاشتراكية والنقد الاجتماعى توجيه سهامهم إلى الجهاز الإدارى والأمنى للدولة، وجمود لوائحه وقوانينه(62) كما واصل البعض الآخر الكشف عن جشع أصحاب رأس المال واستغلالهم للطبقة العاملة فى المدن الصناعية الناشئة فى الأناضول، ولكن هذه الطبقة قد تجد فى العلاقات العاطفية تعويضا عن مادية الحياة(72).
> انتقلت القصة القصيرة بأحداثها إلى شرقى الأناضول حيث يعيش الأكراد فى بيئة جغرافية قاسية، وفى ظروف اقتصادية واجتماعية أشد قسوة، ورغم هذه القسوة لم يكن المواطن التركى هناك ليتخلى عن عاداته وتقاليده والتزاماته العائلية(82) وتشتد قسوة الطبيعة على القرى الجبلية حيث تمطرها بصواعق لا تبقى ولا تذر، وتكون سببا فى كوارث يرجعونها إلى قوى غيبية أحيانا، وبعد أن عرفت وسائل النقل الحديثة طريقها إلى جبالهم كانت سببا فى المزيد من الكوارث والمزيد من الخرافات(92).
> يواصل بعض الكتاب تصويرهم للبيئة الساحلية وحياة البحر التى أصبحت تقليدا راسخا فى القصة التركية بفضل الرواد الأوائل(03) ولكنهم تناولوا الجانب السلبى منها، حيث تدعو حياة الصيد إلى الرتابة والملل والبطالة مما يدفع سكان هذه السواحل إلى لعب القمار وارتكاب الجرائم، كما تميزت هذه القصص بالجدة فى المعالجة(13).
> لم يتخل الكتاب المحافظون عن دورهم فى الدعوة إلى إحياء التراث سواء كان ماديا فى شكل عمارة المساجد، وجمالها الفني، أومحاولة التوفيق بين رغبات الجيل الجديد والتزام الجيل القديم بممارسة العبادات فى هذه المساجد؛ وذلك من خلال المزج بين جماليات التراث الإسلامى والعبادات(23)، أو فى الدعوة إلى التمسك بالحرف والصناعات التقليدية، حتى لو كانت طرق النحاس(33)، أو فى الدعوة إلى إحياء القيم الإسلامية والتركية القديمة حتى لو كان من خلال الإقامة فى أحد البيوت القديمة التى تحمل عبق التاريخ وتبعث قيم الأجداد(43).
> تناولت بعض القصص دور المرأة المحورى فى المجتمع التركي، فهى مرتكز الأسرة وعمودها الفقري؛ تتميز بقوة الشخصية، وتعتمد على نفسها دائما. ومع ذلك فهى تحترم زوجها ولا تعصى له أمرا حتى لو كان متقاعدا، وهى المهمومة بالأبناء صغارا، وبأبنائهم كبارا، حتى لو تكبدت فى سبيل ذلك مشقة السفر(53) وهى التى تكافح فى سبيل المحافظة على المستوى المادى والطبقى للأسرة عندما تدفعها الحاجة والعوز، وتحاول الصمود أما طغيان الحياة المادية الحديثة، كما أن المرأة التركية تلعب دورا مهما فى الحفاظ على التراث والعادات والتقاليد الجميلة(63).
> لم ينس الكتاب قضايا الأتراك المغتربين فى أوروبا، ومعاناتهم فى المهجر أو المنفى الاختيارى (أحيانا)(73)، كما دارت بعض القصص حول مشاعر الغربة والحنين إلى الوطن، ولكن هذه القصص لم تغفل الشعور بالإحباط عند العودة حين لا يجد المواطن وطنه الذى غادره من سنوات، أو يجده قد أصابه التغيير فأصبح لا يعرفه(83).
تلك هى أهم الموضوعات التى عالجتها القصص المختارة وهى كما نري، تمثل العديد من جوانب الحياة الاجتماعية، وتعكس الكثير من زواياها، كما أننا نلاحظ أنها تغطى مساحة واسعة من الأماكن والبيئات المختلفة. ولكن ما هى المناهج والسبل التى سلكها القصاصون للتعبير عن رؤاهم حيال هذه الموضوعات؟ هذا ما سنتعرف عليه من خلال استعراض طرق المعالجة الفنية فى إيجاز شديد.


المعالجة الفنية:

لعل ما أصاب المعالجة الفنية من التطور والتغيير، يبدو أكثر وضوحا مما أصاب الموضوع، ولذلك اختلفت طرق هذه المعالجة وتباينت أساليب السرد ولكن يمكن إجمالها فيما يلي:
> تميزت بعض القصص بالطول حتى وصلت عدة صفحات ولايرجع ذلك إلى كثرة الأحداث أو الشخصيات بقدر ما هو بسبب الإغراق فى التفاصيل(93).
> جاءت بعض القصص فى بناء تقليدي؛ فهى تتكون من حدث يبدأ بالمقدمة ثم الحبكة ثم النهاية، قد يختلف هذا الترتيب من قصة لأخرى لكنها تتفق جميعا فى تشكيل الحدث، وغالبا ما تكون النهاية مفتوحة، أو صادمة أو غير متوقعة(04).
> يعمد الكتاب إلى أسلوب تداعى الذكريات، والانتقال من الزمن الحاضر إلى الماضى فى سرد الحدث(14).
> يلجا بعض الكتاب إلى الرمزية، مع الإغراق فى التفاصيل(24)، كما يلجأ البعض الآخر إلى التصوير الخيالى (الفناتازيا)(34)، أو المزج بين الواقعية والفانتازيا(44).
> يلجأ بعض الكتاب إلى استغلال الرحلة فى مراقبة المشاهد التى تكون الحدث وتدفع بالأحداث إلى النهاية، مع التنقل بين وعى السارد والواقع المشاهد(54).
وهكذا نرى أن القصة التركية القصيرة واكبت مسيرة المجتمع التركى خلال النصف الأخير من القرن العشرين، فتنوعت موضوعاتها، كما تباينت أدوات القصاصين فى التعبير عن هذه الموضوعات.


(1) مجدى وهبة، معجم مصطلحات الأدب ، بيروت، 1974، ص 518
(2) فى الحقيقة سبقت هذه المختارات مجموعة انتقاها الدكتور أكمل الدين إحسان فى كتابه: من الأدب التركي، مختارات من القصة القصيرة، القاهرة، 1970
(3) يؤرخ لذلك بترجمة رواية (تلماك ) فينلون عام 1862
(4) من المعروف أن تراث آدابنا الشرقية يزخر بما يشبه القصة القصيرة، لكن ربما كانت خصائصه الفنية تختلف عن هذه الأنواع الوافدة من الأدب الأوروبى من التراث العربى فى هذا المجال : القصص القرآنى ، المقامات وقصص ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وغيرها...وقد انتقل هذا التراث كله أو بعضه إلى الأدب التركي، أضف إلى ذلك التراث الفارسى مثل المثنويات والتراث التركى الأصيل مثل :الملاحم الشعبية، والحكايات الأسطورية وقصص البطولة وغيرها...
(5) نسبة إلى مرسوم التنظيمات الذى اعلن عام 1839 لتنظيم الحياة الإدارية والسياسية آنذاك.
(6) لم يكن دور القصة التركى يختلف كثيرا عن القصة العربية فى نفس الحقبة الزمنية تقريبا، حيث نذكر من النماذج العربية من هذا النوع حديث عيسى بن هشام للمويلحي، وليالى سطيح لحافظ إبراهيم، ، وعلم الدين لعلى مبارك... إلخ.
(7) قدم أحمد مدحت افندى (1844- 1912) أول النماذج القصصية مجموعة من القصص القصيرة الطويلة تحت عنوان (قصة دن حصة) أى عبرة من القصة عام 1870
(8) كنعان آقيوز، ترجمة محمد هريدي، عزة الصاوي، معالم الأدب التركى الحديث ، القاهرة، بدون، 127 وما بعدها.
(9) المرجع السابق، ص 171 وما بعدها.
(10) من أهم هذه المآخذ المبالغة فى استخدام التراكيب العربية والفارسية، وعدم طبيعية اللغة والأسلوب .
(11) لمزيد من التفاصيل : للمؤلف، الرواية فى الأدب التركى الحديث والمعاصر، مجلة القصة ، القاهرة، سبتمبر، 1978
(12) مثل حرب البلقان عام 1913م، وقيام الثورة العربية إبان الحرب العالمية الأولى عام 1916م، وحرب الاستقلال عام 1919م
(13) Kabakl?, Ahmed Türk Edebiyat.....ve Kudret, Cevdet, Türk edebiat?nda Hikaye ve Roman
(14) Kabakl ، المرجع السابق ص 36
(15) كانت غالبية هذه القصص تقوم على الصراع بين الحب والواجب الوطني، أو بين قوى التقدم والرجعية الممثلة فى الشخصيات التى تستغل مشاعر الدين لصالحها من أمثلة ذلك قصص.....
(16) لمزيد من التفاصيل أنظر:
(17) تجلى ذلك فى حزب السلامة القومية بزعامة نجم الدين اربكان الذى خاض الانتخابات عام 1974 ونجح فى الحصول على عدد كبير من المقاعد وشكل حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري، ثم توالت الأحزاب ذات الاتجاه الإسلامي، مثل (الرفاه) و( الفضيلة )... إلخ
(18) Kabakl?, Ahmed, Age, s.
(19) نفسه ، 53-58
(20) باختصار عن المرجع الاسبق ص 58-62
(21) ؛ مثل الصراع بين العمال وأصحاب رأس المال، أو الصراع بين دعاة التغريب والمحافظين،أو تمجيد التاريخ والتراث التركي، أو التغنى برومانسية الريف،
(22) نرى ذلك فى : حيث ينتهى الجمال، وشارع القمري
(23) الحساسية
(24) الشارع المسدود
(25) كما نرى فى قصة «شهر يونيو» والمتهم
(26) مثل «البيت الواقع على الحدود
(27) مثال ذلك فى قصة «فتاة المطر»
(28) أنظر قصة الطائر الأخير
(29) أنظر «ممت نجس القرية»
(30) مثل خاليقارناس باليقجيسى () وسعيد فائق آباسى يانيق ()
(31) قص ولصق، عن المعالجة الجديدة ؛ أنظر ص
(32) المحجبات
(33) كما فى قصة «الأضحية»
(34) منزل للإيجار
(35) أنوار المنازل
(36) مثل المحجبات، والعروس، وشارع القمري، وحيث ينتهى الجمال
(37) كله تمام على بوابة الحدود، والعودة
(38) العودة
(39) مثل قصة المحجبات، وشارع القمري، وشهر يونيو
(40) مثل فتاة المطر والمتهم، والعروس، وشهر يونيو، وممت نحس القرية، والمحجبات، ومنزل للإيجار...
(41) العروس، العودة
(42) شارع القمري
(43) قص ولصق
(44) كما فى كله تمام على بوابة الحدود
(45) أنوار المنازل

 


للاستزادة:
من الأدب التركى المعاصر ــ مختارات من القصة القصيرة
نقلها عن التركية: د. محمد عبد اللطيف هريدي
دار العين للنشر ــ الإسكندرية 2009

 

 

دخل الأدب
التركى كغيره من الآداب
الشرقية ـ تحت تأثير الآداب
الغربية مع مطلع القـــــرن
التاسع عشر الميلادي

 

انكب الروائيون
على تناول الموضوعات
التى تسمح بها الرقابة وتدعمها
الســــــــــلطــة السياسية آنذاك مثل:
تصوير حياة القـــرية، وما تعانيه
من المشكلات الاجتماعية

 

فى مقابل
هذا المعسكر الاشتراكي برز رهط
من الأدباء ممن كانوا يرون أنه ليس بالخبز وحده
يحيا الإنسان، ولذلك شرعوا ينافحون
عن القيم المعنوية للإنسان

 

واصـــل بعـــض
رواد الواقعية الاشتراكية
توجيه سهامهم إلى الجهاز الإداري
والأمنى للدولة، كما واصل البعض الآخر
الكشف عن جشع أصحاب رأس المال
واستغلالهم للطبقة العاملة

 

تناولت بعض القصص دور المرأة
المحورى في المجتمع التركي، فهي مرتكز
الأسرة وعمودها الفقري؛ تتميز بقوة الشخصية، ومع ذلك
فهى تحترم زوجها ولا تعصى له أمرا

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة