أزمـــة الــــدور الأمـريـكــي



الأمريكية كنت أحرص علي زيارة إدارة التخطيط السياسي Policy Planning ، وهي الإدارة التي كلف وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال الدبلوماسي والمؤرخ الأمريكي جورج كينان بتأسيسها عقب انتهاء الحرب الثانية لكي تتولي التخطيط للسياسة الخارجية الأمريكية لفترة ما بعد الحرب ومشروعاتها، وكان المشروع الأول الذي خططت له هذه الإدارة هو مشروع مارشال للنهوض بالاقتصاد الأوروبي. ومنذ هذا الوقت وهذه الإدارة تساهم بشكل مؤثر في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية، علي الأقل كما تتصورها وزارة الخارجية الأمريكية، وفي النصف الأول من الثمانينيات، التي توافقت مع فترة عملي، كان يرأس هذه الإدارة بيتر روردمان، والذي كان الساعد الأيمن لهنري كيسنجر، وهو الذي حرر مذكراته، وهو يشغل حاليا وكيل وزارة الدفاع لشئون الأمن الدولي، كما كان بها دايفيد آرون ميللر، والذي كان مختصا بقضية النزاع العربي الإسرائيلي، وسوف يمثل في فترة العشرين عاما التالية مع كل من دنيس روس ، ومارتن انديك، الثالوث الذي سيكون الفريق الأمريكي في محادثات السلام الإسرائيلية الفلسطينية. كذلك كان ضمن فريق الإدارة شاب كان واضحا ملامحه الآسيوية هو فرانسيس فوكوياما، والذي كانوا يحددونه لي عندما أود مناقشة الأوضاع في إيران، وأفغانستان، وكان واضحا لي تركيزه علي الأساس التاريخي والفكري للقضايا وأبعادها الاستراتيجية التي تتعدي نطاقها المحلي، فكان يري الثورة الإيرانية كمقدمة لتوتر بين الإسلام والغرب، وكان يري - في هذا الوقت المبكر - الوضع السوفيتي وأفغانستان وتأثيراته المحتملة علي النظام السوفيتي. تابعت فوكوياما بعد ذلك وفهمت أنه انتقل للوسط الأكاديمي ليعمل في مؤسسة راند وهي من كبري مؤسسات الفكر والبحث الأمريكية، ويبدو أن هذه الفترة هي التي فكر وأنتج فيها مقالته الشهيرة « نهاية التاريخ » التي نشرها عام 1989 في دورية The National Interest ، وهي منبر التيار المحافظ المتشدد، والتي أراد بها أن يقدم مسحا للمسرح الدولي يعالج من خلاله «المسائل الكبيرة». في هذه المقالة، التي كان أساسها محاضرة قدمها في جامعة شيكاغو، اعتبر فوكوياما أن القرن العشرين قد بدأ والعالم المتقدم يخوض صراعا عنيفا بين الليبرالية والديمقراطية، وبين بقايا الحكم المطلق ثم مع النازية والبولشفية، ثم انتصف بما تنبأ به البعض من عملية تلاقي أو تقارب Convergence بين الرأسمالية والاشتراكية، غير أن القرن ينهي دورته بالنصر الواثق لليبرالية الاقتصادية والسياسية، ورأي فوكوياما أن هذا النصر يبدو أولا وقبل كل شيء في « الاستبعاد الكامل لأي نظم بديلة لليبرالية الغربية تكون صالحة للحياة...»، وانتهي فوكوياما أن ما نشهده ليس مجرد إنهاء الحرب الباردة، وانقضاء فترة وإنما نهاية التاريخ نفسه ووصوله إلي نقطة نهائية في التطور الأيديولوجي للبشرية ولعالمية الديمقراطية الغربية كشكل نهائي من أشكال الحكم. وكانت هذه المقالة بما أثارته في الدوائر الأكاديمية والفكرية هي التي قدمت فوكوياما كمؤرخ ومفكر استراتيجي وخاصة بعد أن طورها في كتاب أصدره عام 1992 عنوانه « نهاية التاريخ والإنسان الأخير »، وبعدها واصل فوكوياما أعماله الفكرية والبحثية فأصدر عام 1995كتابه:Trust : the social virtues and the caqution of prosperity كما أصدر عام 1999 كتابه The Great Disruption : Human Nature and the reconstruction of social orolers ، وفي عام 2002 أصدر كتابه:Our Post Human Future : Consequences of the biotechnology Revolution ثم أصدر في عام 2004 كتابه: State Building : Governance and the world order in the 21st century . أما كتابه الأخير فهو الذي نعرض له اليوم والذي أعلن فيه انفصاله عن مجموعة المحافظين الجدد الذين ارتبط بهم منذ التسعينيات ووقع علي العديد من وثائقهم ومشروعاتهم، أما اليوم فهو يقول «إنه كان لديه العديد من الانتماءات مع أجنحة مختلفة من حركة المحافظين الجدد، وكنت تلميذا لآلان بولوم تلميذ شتراوس الذي كتب The Closing of American Mind ، وعملت في مؤسسة راند وعملت في مناسبتين مع وولفويتز، وقد فسر العديد من الناس كتاب « نهاية التاريخ والإنسان الأخير» باعتباره منشورا من منشورات المحافظين الجدد..» وانتهي إلي أن « حركة المحافظين الجدد كرمز سياسي وكيان فكري قد تطورت إلي شيء لا أستطيع بعد الآن تأييده». يقرر فوكوياما في البداية أن كتابه هو محاولة لتوضيح ميراث المحافظين الجدد، وأن يشرح لماذا أخطأت إدارة جورج بوش، وأن يخطط طريقا بديلا للولايات المتحدة في علاقتها بالعالم. ففيما يتعلق بتقييمه لميراث المحافظين الجدد وأصولهم الفكرية، فيعتبر أن جذور المحافظين الجدد تكمن في مجموعة متميزة من المثقفين اليهود ممن ظهروا في الثلاثينيات والأربعينيات.. ارمنج كريستول، ودانيال بل، وارمنج هاو، وسيمور مارتن ليبست وفيليب سلزنك، وناثان جارلز ثم متأخرا دانيل باتريك مونيهان. وقد كانت الفترة التي ظهروا فيها، كما هي الحال اليوم، فترة أزمة حادة في السياسة العالمية وكانت الجامعة التي ينتمون إليها مسيسة تماما وملتزمة بسياسات الجناح اليساري، ومع هذا كان أهم ما ورثوه هو المعاداة إعادة للشيوعية وكراهية مساوية لليبرالية المتعاطفين مع الشيوعية الذين لا يرون الشر الذي تمثله، ولهذا فإن فهم بذور الليبرالية المعادية للشيوعية هذه حاسمة لفهم أصول المحافظين الجدد ومعارضتهم للهندسة الاجتماعية وهو الخط الأكثر دواما الذي يجري عبر هذه الحركة، وقد انعكس فكر هذه المجموعة في هذه الفترة في مجلات مثل: the partisan Review, Commentary ثم The Public Interest وهكذا كانت معركة التكوين الأولي التي شكلت حركة المحافظين الجدد هي الحرب ضد الستالينيين في الثلاثينيات والأربعينيات، والمعركة الثانية كانت مع اليسار الجديد والثقافة المضادة التي أطلقتها في الستينيات وكان لهذه المعركة الثانية أبعادها السياسية الخارجية والداخلية، فمعارضة الحرب في فيتنام قد أنجبت جيلا من اليساريين الأمريكيين المتعاطفين مع النظم الشيوعية الماركسية في هافانا وهانوي، وبكين، كما أدت أيضا إلي أجندة داخلية طموحة التي فكرت في أن Emulate تقلد دول الرفاهية الأوروبية وأن تخاطب العديد من الأسباب الرئيسية لعدم المساواة الاجتماعية. وقد أسس كل من كريستول و بل The Public Interest لكي نلقي نظرة نقدية، وإن كانت دائما متعاطفة، مع الجزء الداخلي من هذه الأجندة، وقد أصبحت هذه الدورية بيتا لجيل من الأكاديميين وعلماء الاجتماع والمثقفين ومراكز الأبحاث. وكان ما يربط هذه المجموعة هو الحدود التي تفرضها علي الهندسة الاجتماعية Social Engineering وكانت تعتبر أن الجهود الطموحة لتحقيق العدالة الاجتماعية تنتهي بالمجتمعات كأسوأ مما كانت من قبل، ذلك أنها تتطلب تدخلا شاملا من الدولة يفكك العلاقات العضوية الاجتماعية، كما أنه ينتج نتائج غير متوقعة. وفي تقييمه النهائي للمحافظين الجدد فإنه يلقي نظرة علي ميراثهم ليس فقط خلال السنوات الخمس الماضية، ولكن في الخمسين عاما المنقضية، فبداءة فإنه يقرر أن هناك قدرا كبيرا من التنوع في وجهات نظر الذين ينتمون إلي هذه الحركة خلال ربع القرن الأخير وبشكل لا يقترب من خط حزبي واحد، ومع هذا فإنه من الممكن أن تستخرج أربعة مبادئ رئيسية تصف فكر المحافظين الجدد والتي تشرح بشكل منطقي المواقف السياسية التي اتخذوها وتميزهم عن مدارس فكرية أخري حول السياسة الخارجية، وهذه المبادئ هي: * الاعتقاد بأن الطابع الداخلي للنظم هو شيء مهم وأن السياسة الخارجية يجب أن تعكس أعمق قيم المجتمعات للبلدان الديمقراطية. * الاعتقاد بأن القوة الأمريكية كان يمكن أن تستخدم لأهداف أخلاقية وأن الولايات المتحدة تحتاج أن تظل مرتبطة بالشئون الدولية، فباعتبارها قوة العالم المسيطرة فإن الولايات المتحدة عليها مسئوليات في مجال الأمن. * عدم الثقة في مشروعات الهندسة الاجتماعية، وعدم الثقة في هذه الخطط هو الذي يربط نقدهم للستالينية في الأربعينيات بشكهم حول « مشروع المجتمع العظيم » في الستينيات. * وأخيرا الشك في شرعية وكفاءة القانون الدولي والمؤسسات للوصول إلي الأمن أو العدالة. فالمحافظون الجدد في هذا يتفقون مع الواقعيين أن القانون الدولي هو من الضعف بحيث لا يستطيع أن يفرض القواعد والتحكم في العدوان. وهم ينتقدون بشكل كبير الأمم المتحدة علي أنها لا تستطيع أن تكون محكما أو أن تفرض العدالة الدولية. غير أن عدم الثقة في الأمم المتحدة لا يمتد بين كل المحافظين الجدد إلي كل أشكال التعاون الدولي فمعظمهم يفضلون مثلا تحالف الناتو ويعتقدون في بعض المبادئ الديمقراطية المشتركة. وينتقل فوكوياما إلي الهدف الثاني من كتابه وهو توضيح ماذا حدث من أخطاء في السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة بوش، ويناقش في هذا السياق مفهومين وجها سياسات الإدارة وهما مفهوم « الهيمنة الرحيمة» Benevolen Hegemony والاستثنائية الأمريكية American Exceptionalism وهما المفهومان اللذان ظهرا في أدبيات المحافظين الجدد.في التسعينيات وخاصة في كتابات ويليام كريستول ، وروبرت كاجان. ويبدأ فوكوياما بطبيعة الحال من أحداث 11 سبتمبر والبيئة الأمنية والتهديدات التي أحدثتها Threat Perceptions حيث اجتمع تهديدان هما: الراديكالية الإسلامية، وأسلحة الدمار الشامل، وقد كانت التهديدات موجودة لمدة طويلة كقضايا السياسة الخارجية الأمريكية حيث كان الأول علي الأقل منذ ظهور الثورة الإيرانية عام 1978، والآخر منذ فجر العصر النووي، وكان كل منهما يشكل مشكلة خطرة للسياسة الخارجية الأمريكية، ولكن اجتماعهما في حزمة واحدة، أثار للمرة الأولي الإمكانية الوشيكة لتهديد نووي أو بيولوجي لا يمكن ردعه للولايات المتحدة، وإمكانية منظمة غير حكومية Nonstate أن تظل خطرا كارثيا هو شيء جديد في العلاقات الدولية ويعرض تهديدًا أمنيا غير مسبوق. هذه التهديدات التي اجتمعت بعد أحداث 11 سبتمبر قد أدت إلي أن تشن الإدارة الأمريكية حربين في أفغانستان والعراق. ولا يتوقف فوكوياما عند حرب أفغانستان، ولكنه يتوقف عند الحرب علي العراق ويعتبر أن إدارة بوش ومؤيديها من المحافظين فشلوا قبل أن يقوموا بالحرب في توقع رد الفعل العدائي العالمي لها وخاصة في أوروبا، وقد فعلت الإدارة خطأ تكتيكيا في الفشل بالتنبؤ بموقف الرئيس الفرنسي شيراك ووزير خارجيته دي فيليبان بسحبها تأييد قرار مجلس الأمن الثاني عن الحرب، غير أن معارضة الحرب لم تقتصر علي النخبة وحساباتها السياسية، فقبل شهر من الحرب قامت مظاهرات حاشدة في مدن غربية مثل لندن، وروما، ومدريد، التي وافقت حكوماتها علي أن تشارك إدارة بوش في الحرب في ظل مفهوم «تحالف الراغبين»، وحقيقة لم تتوحد أوروبا من قبل بشكل تلقائي حول قضية واحدة من هذه وهو ما جعل وزيرا فرنسيا سابقا يصف المظاهرات بأنها « مولد الأمة الأوروبية » وثمة أسباب للتفكير أنه - علي غير خلافات أطلنطية سابقة - فإن الشقاق الذي حدث نتيجة الحرب علي العراق كان تحولا بنائيا، وعلي هذا فلن يكون من السهل رأبه في المستقبل. ورغم أن أسباب لماذا أثارت حرب العراق هذا الارتفاع المفاجئ في العداء للولايات المتحدة هي أسباب معقدة إلا أن هناك سببا قصير الأجل لهذه المقاومة ينبني في نظرية الأمن القومي الاستراتيجي عن الحرب الوقائية Preemptive War وهو: اعترافها الضمني بالاستثنائية الأمريكية. ومن الواضح أن نظرية الحرب الوقائية لا يمكن تعميمها في النظام الدولي، فالعديد من الدول تواجه تهديدات إرهابية وقد تتجه إلي أن تتعامل معها من خلال تدخلات استباقية Preemptive ضد تلك النظم التي تحتضن الإرهابيين، وتقع ضمن هذه الفئة دول مثل روسيا والصين والهند، فإذا فعلت هذا فان الولايات المتحدة ستكون أول من يعترض عليها، وحقيقة أن الولايات المتحدة منحت نفسها الحق الذي تنكره علي غيرها من الدول إنما يتأسس علي حكم ضمني أن الولايات المتحدة مختلفة عن البلدان الأخري وأنها يمكن أن يوثق فيها باستخدام قوتها المسلحة بعدل وحكمة وبطرق لا تستطيعها دول أخري. والواقع ما كان فقط ضمنيا في تصريحات إدارة بوش الرسمية كان قد تقرر بوضوح بواسطة عدد من الكتاب المحافظين الجدد في السنوات التي قادت إلي حرب العراق. وكان أحد التأكيدات الأولي حول حاجة أمريكا لممارسة قوة مهيمنة لتحقيق نظام عالمي والأمن قد جاءت من تشارلز وثهامر الذي جادل مع نهاية الحرب الباردة أن الولايات المتحدة تواجه «لحظة» القطب الواحد Unipolar Movement حيث لا تستطيع أي قوة أخري قائمة أن تتحدي الهيمنة الأمريكية، كذلك حاول تشارلز وثهامر أن الولايات المتحدة لا تنشد إمبراطورية كما فعلت غيرها من القوي العظمي، ولكنها سوف تتصرف «لممارسة للنظام الدولي». ويفند فوكوياما مفهوم الهيمنة الرحيمة فيعتبر أن فكرة قيادة الولايات المتحدة للحرب الباردة يمكن تحويلها إلي وضع من الهيمنة الرحيمة تجاه بقية العالم يحتوي داخلها عددًا من الثغرات الهيكلية والتناقضات التي تجعلها غير ممكنة التحقيق كأساس طويل الأجل للسياسة الخارجية الأمريكية فأولا، ترتكز الهيمنة الرحيمة علي الاعتقاد في الاستثنائية الأمريكية والتي يجدها معظم الأمريكيين ببساطة غير جديرة بالثقة، ففكرة أن الولايات المتحدة تتصرف بشكل منزه عن الغرض علي المسرح الدولي يعتقد فيها بشكل واسع لأنها في معظمها غير صحيحة وهي حقا غير صحيحة إذا ما حقق القادة الأمريكيون مسؤولياتهم تجاه الشعب الأمريكي، فالولايات المتحدة قادرة علي أن تعمل بكرم حين تتوافق مثلها مع مصالحها ، ولكن الولايات المتحدة هي أيضا قوة عظمي لها مصالح لا تتصل بالصالح العام العالمي، فالرؤساء الأمريكيون عليهم أن يحموا المصالح الطبيعية لعدد من الدوائر الخاصة، وعليهم أن يقلقوا حول أمن إمدادات الطاقة، وأن يستجيبوا لمطالب عدد من الدوائر العرقية المختلفة داخل الولايات المتحدة، ويحتاجوا إلي التعاون مع عدد من البلدان بغض النظر عن معاملة هذه البلدان لمواطنيها، وهناك العديد من المصالح العالمية ابتداء من قوات حفظ السلام الأفريقية إلي تهدئة الانبعاثات الحرارية والتي تجد الولايات المتحدة أنها علي درجة كبيرة من العبء بحيث لا تستطيع تقديمها. والمعضلة الثانية حول الهيمنة الرحيمة أنها تفترض مسبقا درجة عالية من الكفاءة من جانب القوة المهيمنة. والعديد من نقاد الولايات المتحدة في حربها علي العراق لا يشككون في الحرب علي أساس معياري مجرد وإنما يتساءلون عما إذا كانت الإدارة تتفهم ما يتضمنه التحول السياسي الذي تقوم به في الشرق الأوسط، في هذا الشأن فإن هؤلاء كانوا في رأي فوكوياما علي درجة كبيرة من البصيرة. أما المشكلة الأخيرة مع الهيمنة الرحيمة فتكمن في السياسات الأمريكية الداخلية. فثمة حدود حادة لاهتمام الشعب الأمريكي بالشئون الخارجية والاستعداد لتمويل مشروعات خارجية التي ليس لها فوائد واضحة للمصالح الأمريكية. وقد غيرت 11 سبتمبر هذه الحسابات بعدة طرق وقدمت تأييدا شعبيا لحربين في الشرق الأوسط وزيادة واسعة في الإنفاق العسكري، غير أن استمرارية هذا التأييد ليست أكيدة، ورغم أن معظم الأمريكيين يريدون أن يفعلوا ما هو ضروري لنجاح مشروع إعادة بناء العراق، فإن ما بعد الحرب لم يزد من الشهية الشعبية لمزيد من التدخلات المكلفة. أما الهدف الثالث الذي كتب من اجله فوكوياما هذا الكتاب فهو يخصصه لتقديم « نوع جديد من السياسة الخارجية الأمريكية » وبديل للولايات المتحدة في علاقاتها بالعالم. ويبدأ فوكوياما من جديد بالحرب علي العراق وبأن العراق الآن قد حلت محل أفغانستان كجاذب وأرض تدريب، وقاعدة عمليات للمجاهدين الإرهابيين مع الكثير من الأهداف الأمريكية لكي يطلقوا النار عليها. ورغم أنه كان من أهداف إدارة بوش المعلنة هو إسقاط نظام صدام حسين لكي تكون نموذجا في المنطقة، إلا أنه من الواضح أن الإدارة في ولايتها الثانية قد نحت جانبا في سياستها الخارجية مفهوم تغيير النظم من خلال حرب وقائية. وفي حالة العضوين الآخرين في محور الشر: إيران وكوريا الشمالية، فإن الإدارة قد أطلقت إشارات أنها لا تنوي استخدام القوة المسلحة لتحقيق تغيير في النظم. وهذا في جانب منه انحناء أمام واقع بسيط: فالقوات الأمريكية الآن تمددت من خلال الحرب علي العراق، ولم ت1عد هناك خيارات بسيطة للتدخل لوقف البرنامج النووي الإيراني أو الكوري الشمالي. ولكن فيما وراء القيود العملياتية، فانه يبدو أن الإدارة قد أدركت أنها دفعت ثمنا سياسيا باهظا للحرب علي العراق وأن الحرب الوقائية لا يمكن أن تكون مركز الاستراتيجية الأمريكية. وهكذا فان قدرة الإدارة علي إصلاح المشكلات التي خلقتها لنفسها في السنوات الأربع الأولي ستكون محدودة، فإصلاح المصداقية الأمريكية لن يكون أمرا من أمور العلاقات العامة، إنها ستتطلب فريقا وسياسات جديدة. ويتوقع فوكوياما أن ما تعرضت له الولايات المتحدة وما تعرضت له أجندة المحافظين الجدد قد تدفعهم إلي نوع من الانعزالية في السياسة الخارجية الأمر الذي سيكون أمرا سيئا إذا ما حدث وعادت الولايات المتحدة إلي دورة الانسحاب مثل ما حدث بعد فيتنام، فالولايات المتحدة تظل قوة ضخمة وغنية وذات نفوذ بشكل لا يجعلها تتخلي عن الطموحات الكبيرة في السياسات العالمية، ولكن ما هو مطلوب ليس العودة إلي الواقعية الضيقة وإنما ما يسميه فوكوياما « الويلسونية الواقعية: Realistic Wilsonianism والتي تدرك الأهمية للنظام العالمي لما يحدث داخل الدول، وان تلائم بشكل أفضل الأدوات المتاحة مع تحقيق الغايات الديمقراطية. وهذا يعني في المقام الأول نزعًا جذريا للاعتماد والطابع العسكري للسياسة الخارجية الأمريكيةDemilitarization ، وإعادة التأكيد علي أشكال أخري من أدوات السياسة. فالحرب الوقائية وتغيير النظم من خلال التدخل العسكري لا يمكن أبدا استبعادها بشكل كامل من علي المائدة، ولكنها يجب أن تفهم وتؤخذ كإجراءات بالغة التطرف. إن استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة يجب أن تعاد صياغتها رسميا لكي تقدم معيارا واضحا حول متي نعتقد أن الحرب الوقائية مشروعة، وهذه المعايير يجب أن تكون مقيدة ومحددة. إن اللغة الطنانة حول الحرب العالمية الرابعة، والحرب العالمية علي الإرهاب يجب أن تتوقف، ورغم أن الولايات المتحدة تحارب حربا ضد حركة جهادية عالمية تحتاج أن تكسبها، ولكن تصور النضال الأوسع كحرب عالمية مثل الحروب العالمية أو الحرب الباردة إنما تبالغ بشكل واسع في نطاق المشكلة وتوحي بأننا نضطلع بجزء كبير من العالمين العربي والإسلامي. أما ما يجب أن تفعله الولايات المتحدة في رأي فوكوياما فهو الترويج للتنمية السياسية والاقتصادية وأن تهتم بما يحدث داخل الدول في العالم، ويجب أن تفعل هذا بالتركيز في المقام الأول علي الحكم السليم، والمشاركة السياسية، والديمقراطية والمؤسسات القوية الأدوات الأولي التي تفعل بها هذا يجب أن تكون في نطاق القوة الناعمة: أي القدرة علي أن تكون النموذج، وأن تعلم وتدرب وأن تؤيد النصيحة دائما بالمال. فالسر بالنسبة للنمو سواء سياسيا أو اقتصاديا هو أن القوي الخارجية ليسوا أبدا الذين يدفعون العملية إلي الأمام، انهم دائما الناس داخل المجتمعات، في بعض الأحيان نخب صغيرة، وفي أحيان أخري المجتمع المدني الواسع، الذي يجب أن يخلق الطلب علي الإصلاح والمؤسسات وهذا يتطلب صبرا عظيما في الوقت الذي تبني فيه المؤسسات، وتنشأ المنظمات، وتتشكل التحالفات وتصبح الظروف ناجحة للتغيير الديمقراطي. في هذا الشأن، ومع بداية ولايتها الثانية، فقد حولت إدارة بوش بشكل جوهري لغتها الطنانة حول الديمقراطية في الشرق الأوسط، ومستخدمة لغة رقيقة تجاه دول مثل مصر والسعودية لحثها علي اتباع الإصلاح. وقد قررت كونداليزا رايس كوزيرة للخارجية بوضوح تام أن الإدارة مستعدة لتحمل مخاطر مجيء متطرفين إلي السلطة في انتخابات مفتوحة. وهو تغيير يرحب به، ولكن من المهم أن يكون واضحا في أذهاننا لماذا نفعله، فالديمقراطية في الشرق الأوسط هي شيء مرغوب فيه في حد ذاته، وليس لأنه سوف يحل كل مشكلات الولايات المتحدة مع الإرهاب، وحتي لو تحولت مصر والسعودية إلي ديمقراطيات مستقرة بين يوم وليلة، فسوف تظل الولايات المتحدة منغمسة بعمق في مشكلة الإرهاب لسنوات قادمة. ورغم أن الإصلاح السياسي في العالم العربي هو أمر مرغوب فإن الولايات المتحدة تواجه مشكلة قصيرة الأجل: فهي لا تملك تقريبا أي مصداقية أو سلطة أخلاقية في المنطقة، فالصورة المسيطرة للولايات المتحدة ليست هي تمثال الحرية ولكن هو سجن أبو غريب، والإصلاحيون الليبراليون الموالون للغرب يشعرون بأن عليهم أن يبعدوا أنفسهم عن الولايات المتحدة وهم مستهدفون لتلقيهم منحا من مؤسسات أمريكية للديمقراطية، ويأمل فوكوياما أن لا يظل هذا وضعا دائما، ولكنه يعني أن دفعا قويا للتغيير السياسي قادم من واشنطون في هذه المرحلة الحاسمة سوف يأتي بنتائج عكسية، وهذه توضح أهمية أن تكون هناك مؤسسات دولية بديلة يمكن أن تفصل نفسها قليلا عن واشنطن. ويقرر فوكوياما أن القوة الأمريكية تظل حاسمة بالنسبة للنظام الدولي ، ولكن القوة الأمريكية ستكون اكثر قوة إذا ما كانت مستترة Latent، فرغم حقيقة أن الولايات المتحدة تنفق تقريبا علي قواتها العسكرية مثل ما تنفق بقية دول العالم معا، فقد أثبتت حرب العراق أن ثمة حدودا واضحة علي فعاليتها العسكرية، فهي ليست مهيأة بهذا لكي تحارب تمردات طويلة، فتوترات حرب العراق قد أجبرت بالفعل البنتاجون في ولاية إدارة بوش الثانية في استعراضه للقوة العسكرية الأمريكية Quadrenial Review ، علي أن يتساءل عن قدرة الولايات المتحدة علي أن تحارب في حربين إقليميتين في وقت واحد. وفي النموذج التاريخي الذي يجب أن تفكر فيه الولايات المتحدة في ممارستها للقوة في عالم القطب الواحد اليوم، فإن فوكوياما لا يحبذ نموذج هنري كيسنجر الواقعي المفضل الذي يقدمه مترينيخ، وإنما يفضل نموذج المستشار الألماني بسمارك الذي بعد أن خاض حربين لتوحيد ألمانيا وبعد تحقيقها عام 1871، أدرك أن هدف ألمانيا الرئيسي هو أن يؤكد لجيرانها الخائفين والناقمين أن ألمانيا قد أصبحت قوة تحافظ علي الوضع الراهن Status Quo Power ، وكان هدفه الواضح هو أن يمنع تكوين تحالفات معادية التي سوف تنشد علانية معارضة القوة الألمانية. في هذا السياق التاريخي، يعتبر فوكوياما أن الولايات المتحدة لن تذهب إلي إثارة فرنسا وألمانيا إلي تكوين تحالف عسكري معاد، ولكنها قد أثارت قدرا كبيرا من الوحدة بين أطراف أوروبية عنيدة عادة حول فكرة أن الممارسة الأمريكية غير المسئولة للقوة هي إحدي المشكلات الرئيسية في سياسات المعاصرة. وقد نتج عن هذا بالفعل « توازن ناعم » Soft Balancing حيث حاولت بلدان مثل ألمانيا وفرنسا أن تعارض مبادرات أمريكية أو ترفض التعاون حولها حينما يطلب منها ذلك. وبالمثل فان بلدانًا آسيوية قد انشغلت في بناء منظمات إقليمية عسكرية لأنها قد تصورت واشنطون علي أنها غير مهتمة بحاجاتها. كذلك استخدم هوجو شافيز في فنزويلا عوائد البترول لكي يفصل بلدان في الانديز والكاريبي عن المحيط الأمريكي، في الوقت الذي تتعاون فيه روسيا والصين لكي تدفع ببطء الولايات المتحدة خارج آسيا الوسطي. ويستخلص فوكوياما أن اكثر الطرق أهمية التي يمكن أن تمارس فيها القوة الأمريكية في هذا المفترق ليس من خلال استخدام القوة، وإنما من خلال قدرة الولايات المتحدة علي صياغة مؤسسات دولية. وهكذا نستطيع أن نضع كتاب فوكوياما هذا ضمن مجموعة من الكتابات أصدرها في الأعوام القليلة الأخيرة عدد من المفكرين الاستراتيجيين والمحللين الأمريكيين، والذين يضعون جميعا الولايات المتحدة وسياستها الخارجية في مفترق طرق ويقدمون لها بدائل وخيارات علي سياساتها الحالية. نذكر من هؤلاء كتاب زبيجنيو بريجنسكي The Choice والذي اعتبر فيه أن جوهر الدور الأمريكي هو القيادة لا الهيمنة وكرسه لضمان أن تمارس أمريكا مبادرتها بشكل آمن وتفادي ما يمكن أن يولد مقاومة ومعارضة عالمية بل وكراهية، وكذلك كتاب جوزيف ناي Joseph Nye، «The Paradox of American Power »، والذي نبه فيه السياسة الأمريكية بأن للقوة العسكرية أخطارها ويطور مفهوم القوة وعناصرها ويقدم مفهوم القوة اللينة Soft Power الذي يعتمد علي التأثير علي النتائج التي تريد تحقيقها لا من خلال التركيز بشكل ضيق علي الأبعاد العسكرية للقوة الأمريكية، وإنما من خلال الاعتماد علي الثقافة والأيديولوجية وجاذبية القيم والإقناع والنموذج والاستماع لآراء الآخرين اكثر مما يعتمد علي القسر والضغوط. ثم أخيرا كتاب ريتشارد هاس The Opportunity ، والذي يقدم فيه نظرية جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية تتمثل في التكامل: Integration مع القوي العالم وان يصبح هدف السياسة الخارجية الأمريكية هو تشجيع تعددية أقطاب Multipolarity تتصف بالتعاون والتنسيق أكثر من التنافس والصراع.
القوات الأمريكية الآن تمددت من خلال الحرب علي العراق، ولم تعد هناك خيارات بسيطة للتدخل لوقف البرنامج النووي الإيراني أو الكوري الشمالي.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة