فــــــان ليــــــو.. أبيـض وأسود وجوه ذلك الزمان



كما السينما.. وربما قبلها، تظل الصورة الفوتوغرافية شاهدًا علي العصر. شخوصه، ومشاهيره، وأزيائه، ومقاييس جمال حسناواته. بل وبعض من ملامح ثقافته التي تسمح أو لا تسمح.. لسبعين عامًا كاملة من القرن الفائت ظلت عدسة هذا المصور ترسم بالضوء والظل وجوهًا من هذا الزمان. شيئًا من تلك الظلال، جمعته الجامعة الأمريكية بالقاهرة في كتاب.. ومعرض وقصة الواقف خلف الكاميرا صورها فيلم تسجيلي عن الرجل. (المحــــــرر) فيليب ـ أرماند ـ غارو ـ فان ليو. وصورة بالأسود والأبيض معلقة علي جدار ماضٍ قريبٍ في أستوديو معتم في أحد شوارع القاهرة الصاخبة. آخرهم كان هو (نفسه) ليفون إسكندر بويارجيان، الأرمني الأصل، المصور الذي نزحت أسرته الأرمنية من تركيا إلي القاهرة، هربًا من أبشع مذابح القرن العشرين. كعادتها، سقت القاهرة بذور الموهبة ونمتها. وكعادة الوافدين الممسوسين بالفن، أبدع فان ليو في ربوعها. فهنا، في إحدي عمارات شارع 26 يوليو، كان ستديو حبس فان ليو نفسه فيه بين سنة 1941 وسنة 1997 حين اعتزل. هنا أرخ، من خلال صور البورتريه المستطيلة الشكل الشديدة الخصوصية في محتواها، لنماذج من شرائح اجتماعية مختلفة ومن جنسيات متنوعة عكست أهم التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها مصر خلال هذه الفترة الغنية بالتأملات. فان ليو رصد تنوع البشر، وداعب أحلام النساء المتعطشات للظهور بمظهر فاتنات هوليوود كفيفيان لي أو سكارليت أوهارا، وذلك من خلال تلاعبه بالإضاءة وبالظلال لإضفاء رونق هوليوود علي بورتريهاتهن. فقد قصدته الكثيرات ممن حلمن بمجد الفن لأخذ بورتريهات لديه بأزياء وأوضاع مختلفة تصلح لتقديمها لمخرج ومنتج يملك مفتاح الشهرة، وتضمن إبراز صلاحيتهن لأداء الأدوار المختلفة. صور الكثيرات، منهن شريهان وداليدا وبرلنتي عبد الحميد.. ورجاء محمد سراج (وصفها البعض بملكة جمال) وميرفت أمين، التي قال أن وجهها هو أحلي وجه صوره لأنه يحتمل التصوير من جميع الزوايا دون أن (تؤثر) الزاوية علي مستوي جمال الوجه. وفان ليو عشق السينما، وفتش طويلاً في غرفة التحميض المعتمة خاصته، عن التأثير الضوئي لمشهد تحول جيكل إلي هايد في فيلم «جيكل ومستر هايد» التي تجسد تحقيق مبدأ حرية الفرد بعد فصل جانبيه المظلمين. وعندما وجدها، كانت صورة صديقه الأرمني نوبار. صور فان ليو أفراد الجيش الإنجليزي والفنانين الأجانب الذين أتوا للترفيه عنهم عندما حولت الحرب العالمية الثانية القاهرة إلي مركز استقطاب فني. ثم رحلت الملكية ورحلت معها الجاليات الأجنبية، فاقتصر زبائن فان ليو علي المصريين، بسطائهم ورموزهم في السياسة والفن والمجتمع، و... الحركة النسوية، فصورة إحدي رائدات الحركة، درية شفيق التي أخذتها عدسة فان ليو، أصبحت أشبه بالصورة الرسمية لها. لكن الأفراد لم يحتكروا البطولة في صور فان ليو. فالحضارة الفرعونية أسرته. وكذلك فعل تراكم الحضارات المتجسد في تراث المدينة المعماري، فكانت صورة أهرامات الجيزة التي أخذت من استراحة ميناهاوس، من الغرفة ذاتها التي التقي فيها قادة العالم خلال الحرب العالمية الثانية: روزفلت، تشرتشل وستالين. وكانت صور أخري لقلعة صلاح الدين ومدرسة السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وغير ذلك... فان ليو خلف عالمًا من النور والعتمة، وأضاء من حوله مســاحة من الوهج كانت كافية لتحقق له شهرة لدي المواطنين العاديين من حوله ولو تخللهم بعض الرموز. وككل مبدع في العالم العربي، حاز في حياته مكانته التي يستحقها في الضمير الجماعي للأفراد الذين أحاطوا به وأولئك الذين عرفوا بأمره من خلالهم فقصدوه. وذلك كله في غياب دولة ومؤسسات. فمن أدرك فان ليو قبل رحيله؟ أدركته المؤسسة العربية للصورة سنة 1999 حين زاره المخرج اللبناني أكرم زعتري في إطار مشروع كانت تقوم المؤسسة من خلاله بدراسة أعمال أهم المصورين في العالم العربي فأسفرت المقابلة عن إنتاج فيلم أخرجه أكرم بعنوان Her + Him + Van Leo، كما أسفرت الأبحاث عن ترشيحه لجائزة الأمير كلاوس في التصوير التي حصل عليها سنة 2000. ثم أدركته مكتبة الكتب النادرة في الجامعة الأمريكية في مصر حين تنازل لها عن مجمل أعماله ليضمن حفظها وإعادة ترميمها بعد مماته. فكان المعرض الذي أقامته له سنة 2001 ثم كان الثاني سنة 2002، قبل وفاته بعدة أشهر. وأدركته هي، إحدي الصديقات التي زارته في الأستديو بعد أن رأت أعماله في المعرض فأعجبتها. قرعت الجرس ذات يوم وانتظرت بضع دقائق. فُتِحَ الباب. ووقف هو بوجه عابس: ـ عايزة إيه؟ حافظت علي رباطة جأشها وقالت له: بورتريه. ـ حيكلفك. بعدين أنا بصور أبيض وأسود والمصريين مابيحبوش ده. فقالت له وهي تبتسم: بس أنا مش مصرية. كان ذلك في أوائل التسعينيات. بعد أن شهد هذا الكهل مراحل كثيرة انتهت بهبوب عاصفة الانفتاح والتحديث التي جلبت معها بدعة الألوان لمجال التصوير الفوتوغرافي فحاول التماشي معها رغمًا عنه، مع احتفاظه بفئة صغيرة من الزبائن الذين مازالوا يقدرون صورة الأبيض والأسود. هذه المقابلة التي بدأت مشحونة بقدر كبير من الجفاء من قِِبَلِه انتهت «بدردشة» «حميمة» وبتبادل أرقام الهاتف. فان ليو فعل الشيء نفسه مع أكرم حين ذهب هذا الأخير لمحاورته. لعله مزاج الفنان بشكل عام. أم لعله التجسيد الجزئي لثقافة الأقليات الانعزالية التي ترتدي قناعًا من الجفاء يخفي قدرًا كبيرًا من التأقلم يفرض نفسه رغم جهود إخفائه. قال في الحوار المصور الذي شكل المادة الأساسية في الفيلم الوثائقي «Her + Him + Van Lio»: سنة 52 ولعوا البلد، خلصنا من ده، بعد 6 شهور عملوا ثورة ومشوا الملك. خلصنا من دول، طلعت لنا حكاية فلسطين. كل شوية. عملوا 3 ـــ 4 حروب مع إسرائيل ما كسبوش حاجة. طيب. غير كده، الإرهاب آخر 10 سنين بالبلد. البلد مش ماشي طبيعي. أنا مامشيتش عشان الأستديو بتاعي هنا. بس أنا بحب مصر. بحب تاريخها ومتعود أعيش فيها. كان عندي 3 سنين لما هربنا من تركيا ووصلنا الإسكندرية. فان ليو تكلم بثلاث لغات خلال الحوار، يتقن اثنتين منها تمامًا ويتلعثم في الثالثة التي هي العربية. عاش فان ليو بثلاث لغات، زبائنه كانوا في كل بلدان العالم، جاليات أجنبية في مصر أو أجانب قصدوه في الخارج. لكنه مات مصريا. مات إنسانًا. ولم يفرق الموت، الذي عاش معه خلال مشواره الإبداعي الطويل ظلالاً علي صوره وهاجسًا في داخله وأسود كاحل في غرفة التحميض بين لغاته الثلاث وانتماءاته التائهة، فالموت وطن لا لغة فيه ولا حوار.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة