هَـــوَس العبقــرية!الحياة السـرية لمــاري كوري



فى العشرين من إبريل سنة 1995، وفى باريس فى شارع سوفلو Soufflot امتداد بساط أبيض بطول الشارع لينتهى أمام البانثيون Pantheon (مقبرة العظماء) الذى كان مكسوًا بالألوان الثلاثة ( ألوان العلم الفرنسي) من القبة وحتى الرصيف. وعلى أنغام المرسليزيه (النشيد القومى الفرنسي) كان الحرس الجمهورى يسير على هذا البساط الأبيض. وكانت الآلاف الموجودة على جانبى الشارع ساكنة على غير العادة، وكان البعض ينثر الزهور عند مرور الموكب الذى كان يتكون من: أعضاء هيئة التدريس بمعهد كورى فى المقدمة يتبعهم طلاب المرحلة الثانوية من باريس، وكان الطلاب يرفعون لوحة طولها أربعة أقدام عليها الأحرف الإغريقية ألفا وبيتا وجاما بالألوان الزرقاء والبيضاء والحمراء.
وعند اقتراب الموكب من البانثيون انتشر الطلاب وتطلعوا إلى المنطقة المقامة تحت القبة الكبرى والتى جلس إليها بعض الوجهاء وعلى رأسهم الرئيس فرنسوا ميتران. وعلى الرغم من أنه كان يعانى من مرض السرطان الذى اشتد عليه فى الأسابيع الأخيرة من فترة رئاسته التى امتدت أربعة عشر عامًا، إلا أنه قرر أن يكرس خطابه الأخير على رمز المرأة الفرنسية فى إشارة دراماتيكية حيث قرر أن يوارى رماد مدام كورى وزوجها بيير فى البانثيون، وبذلك جعل من ماري(ماريا سالومى سكلادوفسكا)
كورى أول امرأة تدفن فى البانثيون لما قدمته من إنجازات. وهكذا تم إخراج رماد آل كورى من مقابرهم بضاحية سيو Sceax ليدفنوا بجوار بعض الخالدين أمثال أونورى جبرائيل ريكونيه وچان چاك روسو وإميل زولا وفيكتور هوجو وفولتير ( فرانسوا مارى آرو) وجين بايتيس بيرين وبل لانجفين.
وكان لينج ڤاليسا - رئيس جمهورية بولندا الموطن الأصلى لمدام كورى - يجلس بجوار ميتران. وكانت أسرتا العالمين مارى وبيير موجودين كذلك وهم ابنتها إيف وأولاد ابنتها المتوفاة أيرين وزوجها فريدريك جوليو -كوري- هيلين لا نجفن - جوليو، وبيير جوليو وكلاهما من العلماء البارزين.
كان أول المتحدثين فى الحفل بيير - جيلس دى جين مدير المدرسة الصناعية للفيزياء والكيمياء بمنطقة باريس (EPCI). وهو المكان الذى اكتشفت فيه مارى وبيير ظاهرة النشاط الإشعاعى وعنصرى البولونيوم والراديوم، حيث قال، «إن آل كورى يمثلون الذاكرة الجماعية للأمة الفرنسية وروعة التضحية بالنفس». ثم تحدث لينح فاليسا عن الأصل البولندى لمدام كورى ووصفها بالبطلة الوطنية لكل من بولندا وفرنسا. عندئذ نهض الرئيس ميتران وقال:
«إن نقل رماد بيير ومارى كورى لأكثر الأماكن قدسية بالنسبة لنا ليس مجرد عمل للذكري، بل هو تأكيد على إيمان فرنسا بالعلم وبالبحث العلمى وعلى احترامنا للعلماء الذين نخلدهم هنا، وعلى تقديرنا لعزيمتهم ولحياتهم. واحتفالنا اليوم هو عمل متعمد من جانبنا للسيدة الأولى فى تاريخنا المشرف. وهى رمز آخر يحوز انتباه أمتنا ومثال على نضال سيدة قررت أن تفرض قدراتها فى مجتمع يحتفظ بقدراته واكتشافاته الذهبية والمسئولية العامة للرجال فقط»
كان من الممكن قراءة ما هو مكتوب على واجهة البانثيون فوق رأس الرئيس ميتران أثناء إلقاء خطابه، وكانت كالآتي: «إلى الرجال العظماء من بلد ممكن» وهى كلمات بادية السخرية.
وبعد هذه الكلمات دوت عاصفة هائلة من التصفيق من الجموع التى ملأت الشوارع. كانت رغبة بيير كورى المتواضع أن يدفن فى سيو لأنه كان يكره تمامًا الشهرة والاحتفالات، ومن المؤكد أنه كان سيكره ما حدث فى ذلك اليوم. وسواء رغب آل كورى فى ذلك أم لا، وبالأخص مدام كوري، فقد تم تخليدهما. وقد أصبحت مدام كورى اليوم مثلاً أعلى لكل الأعمار وإلهامًا للنساء اللاتى يرون فيها تحقيق أحلامهن وطموحاتهن.


وقد كنت هناك

وعندما كنت فى سن المراهقة، كنت أضع صورة لمدام كورى وهى جالسة تحت شجرة دردار تحتضن ابنتها إيف ذات العامين وأيرين ذات الأعوام التسعة، وذلك بجوار صور لأحد أعمال فان جوخ (ليلة ملأى بالنجوم) وبطاقة لعبة البولينج مساء يوم الجمعة. ولا أدرى لماذا كنت مشدودة إلى هذه الصورة، والأمر لم يكن بالقطع يتعلق بالعلم. وكانت مدام كورى ملهمتي، ومثل أى ملهمة أخرى فإنك لا تدرى بالضبط سبب كل هذا التقديس. ربما أكون قد أنست لهذه الصورة حيث وجدت مارى بحضنها الدافيء لابنتيها، وكانت أمى فى ذلك الوقت بعيدة ترقد فى أحد المستشفيات مصابة إصابة خطيرة فى حادث سيارة. من يدري؟
لم يكن بتلك الصورة أى من الوجوه المبتسمة عادة. كان يبدو على ثلاثتهن الحزن. لم أكن أعرف وقتها السبب، لكنى أعرف الآن. وكنت قد وضعت تحت هذه الصورة مقطعين لمدام كوري: » لا شيء يرهب فى الحياة، وهى فقط لنفهمها» و «من المهم أن نصنع حلمًا من الحياة وأن نصنع واقعًا من الحلم». ولم أكتشف أن بيركورى هو الذى كتب المقطع الأخير وليست مارى إلا أثناء بحثى لكتابة هذا الكتاب.
وفى كل الأحوال لا شك أن حياة مدام كورى كانت ملهمة فى الواقع، فقد كانت نادرة كوحيد القرن فى مجال العلم. جاءت من أسرة بولندية فقيرة وعملت لثمانى سنوات لتقتصد النقود لتدرس فى السوربون. وتغلبت على صعاب تفوق الخيال. وفى سنة 1893 كانت مارى كورى أول سيدة تحصل على درجة علمية ثانية فى الرياضيات. وكانت أول سيدة تحصل على منصب أستاذ فى السوربون وأول سيدة لا تحصل فقط على جائزة نوبل واحدة بل اثنتين، الأولى فى الفيزياء بمشاركة زوجها وهنرى بيكيريل لاكتشافهم ظاهرة النشاط الإشعاعي، أما الثانية فجاءت بعد ثمانى سنوات فى الكيمياء ( لفصلها لعنصرى البولنيوم والراديوم). وهى أول سيدة يتم انتخابها فى الأكاديمية الفرنسية للطب التى كان عمرها 224 سنة وقتها. وبالإضافة للنجاح المذهل فى عملها فقد تمكنت من تربية ابنتيها وحدها معظم الوقت حتى حصلتا على تعليم جيد وفى الوقت نفسه أصبحتا قويتين جسمانيًا ومستقلين.
هذه هى الحقائق التى تحولت إلى أسطورة رومانسية نسجت لتلائم ما يعتقده وما يتخيله كثير من الناس - الصحفيون والعلماء والأطباء ودعاة حقوق المرأة ورجال الأعمال ورجال الصناعة وحتى مدام كورى نفسها. ويتذكرها الناس مثل جان دارك فى العلم. وتحمل شوارع باريس اسمها واسم زوجها بيير، كما أن ورقة العمل فئة 500 فرنك (أصبحت الآن من اهتمامات هواة جمع النقود وكتذكار) كانت تحمل صورتها ومعملها الكوخ البائس) وبعض المناظر من حياتها.
وصورتها على طوابع البريد والعملة المعدنية. وكان يطلق على السيارات التى عدلت لتحمل معدات الأشعة السينية باسم «كورى الصغيرة» أو «Les ptites Curie» كما شارك فى صنع هذه الأسطورة الأفلام شبه الوثائقية والأفلام العادية. ولقد كنت مذهولة عندما شاهدت جرير جارسون فى دور مارى وولتر بيدجون فى دور زوجها بيير فى فيلم مدام كورى سنة 1943. ومازلت أتذكر وجها من مثلث دور مارى وهو يتصبب عرقًا عندما كانت تقوم بتحريك وعاء يغلى بالخام. ولن أنسى ما حييت منظر بيير ومارى فى ظلمات الليل وهما يدخلان إلى المعمل ليشاهدا بقعة الضوء الخافت تتوهج فى قاع أحد الأطباق. صاحت مارى حينئذ بينما كانت دموعها تنهال على خديها، «اوه بيير، هل هذا ممكن؟ هل هذا هو الشيء؟» نعم لقد كان هو هذا الشيء ــ الراديوم.
مرت بعد ذلك سنوات عديدة منذ كنت الفتاة الساذجة الملهمة ببطلة هوليوود، والتى تمثل النساء وتاريخ الوقت الذى عشن فيه الآن فوق كل ذلك الموضوع الأساسى فى كتاباتى. لماذا تستسلم بعض النساء لأقدارهن بينما تهرب أخريات أو يتلقفن حول العقبات؟ كيف أثر المجتمع والأسرة فى طموحاتهن؟ ولماذا تبحث بعض النساء عن الاستقلالية بينما تفضل الأخريات الامتثال لما هو مقدر لهن؟ وعلى أى الأوتار عزفت مدام كوري، وعلى الأخص بالنسبة للنساء؟ كانت كل هذه الأسئلة جزءا من أمور كثيرة حيرتنى.
وما يشغلنى الآن بولع يقع فى المسافة ما بين الخيال والواقع. وربما مازالت مدام كورى الأسطورة أشهر امرأة عالمة فى العالم. ويعتبر الراديوم اكتشاف مدام كورى المذهل، وقد حظى باهتمام مهول فى معالجة السرطان من خلال أشعته. لكن فى الواقع، هل هذا صحيح، وهل كان ذلك هو مساهمتها الكبرى فى العلم؟ لاشك أنه على مدار القرن الماضى تحولت سيرة حياة مدام كورى إلى قمة الكمال، لكن وراء هذه الصورة كانت هناك امرأة حقيقية. إنها الشخصية التى أرغب فى تتبعها.
بـــاربــارا

 


للاستزادة:
Barbara Goldsmith, Obsesasive Genius: The Inner World of Marie Curie, W. W. Norton, 2005

 

 

هوس العبقرية، الحياة السرية لمارى كوري
باربارا جولد سميث
دار العين للنشر
القاهرة 2009

البــدايات ..دَرَن.. وفقــر.. ونبوغ مبكــر

 

كتبت مدام كورى تقول؛ «لا ينبع الاكتشاف العظيم من دماغ العالم جاهزًا مثل منيرفا التى تتبع كاملة التجهيز من رأس المشتري، لكنها نتاج تراكم أعمال سابقة. «وكما قال لويس باستير جملته الشهيرة: » يفضل التوفيق الذهنى المعد لذلك». إلا أن الإنجازات العظمى تحتاج لأكثر من مجرد الاستعداد العلمي، فهى تحتاج لشخص مهيأ خصيصاً لهذه المهمة. كانت شخصية مارى كورى التى تشكلت تحت وطأة التفرقة والحرمان وضغوط الوالدين والطموح والتضحية الوطنية هى هذه الشخصية.
وعندما كانت مارى طفلة من عمرها، وقفت مشدوهة أمام خزانة زجاجية بداخلها » عدة أرفف تحمل أجهزة غريبة مثل الأنابيب الزجاجية والموازين الصغيرة وعينات من المعادن وكشاف كهربى من رقائق الذهب». قال البروفيسور فلاديسلاف سكلادوفسكى لابنته مارى أن هذه الخزانة تحتوى على «أجهزة الفيزياء الخاصة بي». لم تكن مارى سكلادوفسكا التى كانوا يدللونها باسم مانيا، والتى كان مقدرًا لها أن تصبح مدام كورى ذات الشهرة العالمية، لم يكن لديها أى فكرة عما تعنيه هذه الكلمات، لكنها «لن تنساها». وتدل هذه العبارة التى أوردتها » إيف كوري» عن ارتباط مبكر ليس بالعلم فقط بل فى الواقع تدل على ارتباطها بوالدها. وقد ظلت هذه الخزانة الزجاجية موصدة حيث ألغيت حصص العلوم للبروفيسور سكلادوفسكى بعد ثورة بولندا الدموية سنة 1893 عندما منعت السلطات الروسية الأساتذة البولنديين من أنه قد سُرق منه ما كان يمكن أن يكون مستقبلاً باهرًا فى العلوم بواسطة القهر الروسي. وبالغر م من مداومة فلاديسلاف على قراءة المجلات والتقارير العلمية، إلا أنه: «لم يكن لدى والدى معمل ولم يستطع القيام بإجراء التجارب. «وبكل تأكيد لم تكن مارى هى أول طفل ينساق لتحقيق أحلام أبيه التى لم يستطع إنجازها بنفسه».
عاش البروفيسور سكلادوفسكى حياة غريبة، فقد كان يعمل مساعد موجه ومدرسًا فى مدرسة ثانوية للأولاد جوار سو تديرها الحكومة الروسية. وكانت مثل هذه المدارس الروحية هى الوحيدة المؤهلة لمنح الدبلوم. وكان ينظر لمعظم المدرسين البولنديين فى هذه المدارس بواسطة مواطنيهم البولنديين على أنهم قد «لوثتهم» السلطة الروسية. إلا أن فلاديسلاف كان يشعر فى السر أنه يحافظ على الهوية والثقافة البولندية من خلال تدريسه.
كانت بولندا يومًا ما أرضًا يفخر بها أهلها، لكن وبعد هزيمة نابليون النهائية فى «ووترلو» سنة 1985 وفى مؤتمر فيينا، أصبح القيصر الروسى ألكسندر الثانى يلقب «بملك بولندا» وأصبح هذا البلد تحت الحكم المشترك لروسيا ويروسيا والنمسا. وحتى اسم بولندا قد حذف من الخرائط وأصبح يشار لها باسم «فيستولا» على اسم أحد الأنهار. وكان الروس غلاظًا بصفة خاصة، فمنعوا اللغة البولندية من المدارس وكذلك تدريس التاريخ والأدب البولندي. وكانت اللغة الروسية هى اللغة الرسمية. وكانت لافتات الشوارع والحوانيت مكتوبا عليها بالأبجدية الكريلية ( الأحرف الروسية).
قامت ثورتان ضد الاحتلال الروسى لكنها أُخمدتا فى حينهما، ومست الثورتان عن قرب عائلة سكلادوفسكي. ففى الثورة الأولى فى نوفمبر سنة 1830 حارب والد فلاديسلاف واسمه جوزيف فى سلاح المدفعية، والذى كان أستاذًا محترمًا للفيزياء والكيمياء. وقد قبض الروس عليه وأرغم على السير حافى القدمين مسافة 140 ميلا (224 كيلو مترا) على معسكر الاعتقال مما أفقده 40 رطلا (18 كيلو جرامًا) من وزنه. تقيحت قدماه وتورمت وظلت تعل عليه طول حياته. وقد تمكن من الهرب بأعجوبة.
أما الثورة الثانية التى وقعت فى يناير سنة 1863 فكانت كارثة أدهى من الأولي. كان المحاربون البولنديون يواجهون جيش القيصر وبعضهم مسلح بالهراوات والفئوس والسهام لمدة عام ونصف.
وفى النهاية مات آلاف من رجال المقاومة البولندية، وتم نفى الآخرين إلى سيبريا. وكان أحد أعمام مانيا قد جرح أثناء هذه الحرب بينما أمضى عم آخر أربع سنوات فى سيبريا. وقام ما يقرب من مائة ألف من رجال المقاومة البولندية بجمع ما يستطيعون حمله وهربوا إلى بلاد أخرى وبالأخص إلى فرنسا. وفى أغسطس سنة 1864 قبض على زعماء الانتفاضة وتم شنقهم وتركت أجسامهم معلقة فى المشانق من قلعة ألكسندر التى تبعد بضع بنايات من منزل سكلادوفسكي، وقد تركت الجثث طوال فصل الصيف لتنفق فى حرارة الجو.
حارب البروفيسور سكلادوفسكى المعركة من الداخل. وكان مثله مثل كثير من المثقفين يعتقد أن المواجهة لمباشرة عديمة الجدوي. وفى سنة 1860 وبينما كانت الانتفاضة ضد القيصر فى مهدها تزوج وهو فى الثامنة والعشرين من عمره من سيدة جميلة ويافعة اسمها برونيسلافا بوجوسكي. وكان كلاهما من الطبقة الدنيا من الأرستقراطية التى تدعى «شلاختا». وقد تمكنت الطبقة من الحفاظ على بعض المظاهر الأرستقراطية مثل الأوسمة الملكية والقرى التى تحمل أسماء عائلاتهم، ولكن بمرور السنوات فقد معظمهم أملاكه وثرواته. لكنهم احتفظوا بحبهم للتعليم، وأصبح منهم القساوسة والأطباء والمعلمون والموسيقيون. كان ما يقرب من 40% من طبقة الفلاحين أكثر ثراء منهم، لكن «الشلاختا» كانت غارقة فى ذكرى الأبهة الغازية والمنجزات الثقافية، وتشعر بالتفوق الكبير على هؤلاء الذين يقيسون حياتهم بمقدار ما يملكون.
التحق جوزيف سكلافسكى جد مانيا بجامعة وارسو لكنه اختار أن يقوم بالتدريس فى مناطق أقل تحضرًا وأراد والدها كذلك أن يلتحق بجامعة وارسو، لكنها كانت مغلقة مؤقتًا بعد ثورة سنة 1830. اضطر فلاديسلاف للجوء إلى الدروس الخاصة فى علم البيولوجيا ثم التحق بجامعة العلوم فى سانت بطرسبرج حيث حصل على درجة جامعية فى الرياضيات والفيزياء. عاد بعد ذلك إلى وارسو وعين فى وظيفة مساعد مدرس. كان راتبه ضئيلا لدرجة أنه لم يستطع الزواج، إلا أن يرونيسلافا بوجوسكى أنقذت الموقف.
وقد تحطمت على صخرة الواقع الفكرة التى كانت سائدة فى ذلك الوقت عن أن النساء لهن مؤهلات فيزيائيًا أو ذهنيًا للدخول إلى قوة العمل: كانت النساء الفلاحات يعملن فى المصانع وفى محلات الحلوى نظير جزء ضئيل من المرتب الذى يتقاضاه الرجال، وكن يحرثن الأرض فى الحقول ويجمعن المحاصيل. وفى أثناء ثورة سنة 1863 كان النساء هن اللاتى حللن محل الرجال فى العمل بكفاءة عالية. وبعد فشل الثورة عادت النساء على غير رغبتهن إلى الواجبات الزوجية ورعاية الأطفال والقيام بالأعمال المنزلية. وكانت المهن المسموح لهن بها محدودة، وهى التعليم والتمريض فى معظمها.
لم يكن والدا برونيسلافا من الأغنياء لكنهم تمكنوا من إلحاقها بمدرسة شارع فريتا، المدرسة الخاصة الوحيدة للبنات فى وارسو. وكانت السلطات الروسية تراقب مثل هذه المدارس، لكن قبضتهم على تلك المدرسة لم تكن بالشدة إذا قورنت بالمدارس المشابهة للأولاد، فقد كان المسئولون الروس يعتقدون أن النساء لن يشاركن أبدًا فى الحياة العامة أو السياسة، أو بالتأكيد فى أى موقع مؤثر فى عالم الرجال.


وفى الوقت الذى تزوجت فيه برونيسلافا من فلاديسلاف سنة 1860 شقت برونيسلافا طريقها من مدرسة على ناظرة للمدرسة بقليل من الذكاء والمقدرة العلمية. كان لها دخل ثابت ومسموح لها بالسكن فى مسكن فسيح بالطابق الأرضى فى المبنى الملاصق لأحد أجنحة المدرسة. وبزواجها من فلاديسلاف بدأت برونيسلافا تعيش الحياة التقليدية لامرأة من عصرها، لكنها تحملت عبئًا إضافيًا فوق ذلك متمثلا فى دعم الأسرة ماديًا. وفى السنوات الست التالية أنجبت برونيسلافا خمسة أطفال: زوفيا(اسم التدليل زوسيا) سنة 1862 وجوزيف سنة 1863 وبرونيسلافا (برونيا) سنة 1865 وهيلينا ( هيلا) سنة 1866، وفى نوفمبر 1867، نفس السنة التى نشر فيها كارل ماركس الجزء الاول من «رأس المال» وسجل فيها الفريد نوبل اختراع الديناميت، وضعت آخر أطفالها ماريا سالومى (مانيا). وقد قالت برونيسلافا لأحد الاصدقاء فيما بعد «يجب أن أعترف بأننى لا أمانع أن أعود الآنسة بوجوسكى الآن بعد أن رأيت صعوبة حياة النساء».
وفى عام 1867 تم تعيين زوج برونيسلافا مساعدًا لمدير مدرسة جيمنازيوم روسية فى شارع نوفوليبكي. جاءه المنصب ومعه شقة للسكن. ولم يكن هناك شك فى أن يكون للترقى الوظيفي. انتقلت العائلة بأكملها، البنات الأربع والابن فى الحال من وسط وارسو إلى ضواحيها الغريبة. وأخذت برونيسلافا تقوم برحلة يومية إلى مدرسة شارع تريتا. ولابتعادها عن الأطفال وضغط مسئولياتها الأخرى بدأت صحتها فى التدهور واستقالت وأصبحت ربة بيت طول الوقت وقامت بالتدريس لكل من روسيا وجوزيف فى المنزل. وقد تعلمت بنفسها حرفة صناعة الأحذية ووضعت طاولة مخصصة لذلك من أجل توفير بضعة روبلات (العملة الروسية) التى كانت متداولة فى بولندا فى ذلك الوقت). وكانت تصنع أحذية أطفالها بنفسها ولا تتكلف إلا ثمن الجلود فقط. وكان صوت خبطات القادوم هو المصاحب لدروس أولادها.
ولما أصبحت مانيا فى الرابعة من عمرها سنة 1871 بدأت والدتها تفقد من وزنها وكانت تسعل بصورة مستمرة، فى إشارة تقليدية إلى إصابتها بمرض السل. ولا تذكر مانيا أبدًا أن والدتها قد قبلتها أو داعبتها. ولاشك أن ذلك كان احتراسًا من والدتها التى بدأت تستخدم أطباقًا خاصة بها للطعام وأدوات طعام مستقلة. غير أن الطفلة الصغيرة كانت تتوق بشدة لبعض العواطف وإظهار المشاعر، وكانت تشعر بألم للتباعد بينها وبين والدتها. كانت الأعراف والتقاليد فقى ذلك الزمان تفرض وجود هوة أو فجوة بين الوالدين والأطفال. فكان والداها يحظيان بكل الاحترام وتتم مخاطبتهما بصورة رسمية. وكانت مانيا تفعل ما يطلب منها ولم يكن مسموحًا لها أن تسال ما هى علة والدتها.
ورغم ضيق الحال إلا أن فلاديسلاف استمع لنصيحة طبيبه وقرر إرسال زوجته بعيدًا للاستشفاء فى سلسلة من الرحلات. أذعنت برونيسلافا للأمر بكل طاعة. وكان الشائع وقتها أن السل يمكن علاجه بالحياة فترة طويلة فى طقس معتدل أو فى الجبال مع الراحة وتناول المياه الشافية. كان ذلك قبل اكتشاف وعزل الـ «تيوبير كل باسيلوس» بتسع سنوات حيث بدأ الناس عندها يدركون أن السل مرض معدٍ. وقد اصطحبت الأم ابنتها ذات العشر سنوات فقط زوسيا لعجزها عن دفع راتب ممرضة. وقد حاولت الطفلة بطريقة مضنية بذل العناية اللازمة تجاه والدتها كأى ممرضة كبيرة.
ومع طول فترة ابتعادها عن أسرتها أصاب اليأس برونيسلافا. وقد تبع الاستشفاء فى جبال الألب النمساوية بالقرب من إينسبورج رحلة أخرى إلى نيس. أخذت برونيسلافا تقلق من كثرة مصاريف علاجها. وعندما امتدت فترة الاستشفاء للعام التالى شعرت هى وزوسيا بحنين جارف للوطن. وفى نفس ليلة عيد الميلاد أعدت زوسيا المائدة تمامًا كما تعودت فى بيتهم، وقد قطعتا الرقاقة المقدسة التى أرسلت إليهما من وارسو بالدموع فى أعينهما. صلت برونيسلافا فى ذلك المساء قائلة «ليجعل الرب هذا آخر عيد ميلاد بعيد عن عائلتي».
تحمل الأستاذ سكلادوفسكى مسئولية رعاية أطفاله الآخرين فى غياب زوجته، وقد فرضت الظروف أن يظل الوضع كذلك حتى نهاية تنشئتهم. وأصبح هذا الرجل فى معطفه الأسود الرث القائد الأعلى لقواته الصغيرة. كانت الأيام والأمسيات مخططة بعناية بين فترات للاستذكار وفترات للتمارين الرياضية. وقد استعادت مانيا ذكريات تلك الفترة قائلة أن أبسط الحوارات اليومية كانت تنطوى على دروس فى الأخلاق أو فى المواد الدراسية، وأن مجرد التنزه سيرًا على الأقدام فى المناطق الريفية كان لغرض شرح ظاهرة علمية أو سر من أسرار الطبيعة، وكان غروب الشمس مدخلا لحديث حول التحركات الفلكية. ولما كانت الأم كاثوليكية غيورة فقد حفظ الأطفال كتاب العقيدة وكانت إحدى خالاتهم تصحبهم إلى الكنيسة كل أحد حيث كانوا يصلون من أجل عودة امهم. وقد تلقوا تعليمات بأن يضيفوا إلى صلواتهم المسائية «أن تسترجع الأم صحتها».
غرس فلاديسلاف فى أطفاله الاعتزاز بالقومية البولندية والكراهية العميقة لروسيا العنصرية. وكانت مانيا تتوقف بصحبة أحد أصدقائها وهم فى طريقهم إلى المدرسة أمام نصب تذكارى أقامه القيصر ألكسندر الثانى بالقرب من ميدان سكونيا، حيث كان النصب يحمل لوحة مكتوبا عليها «إلى البولنديين المتمسكين بعاهلهم». وعامدة متعمدة كانت تبصق على هذه الكلمات الكريهة. وعندما اغتيل القيصر بواسطة قنبلة فى سانت بطرسبرج رقصت مانيا وزميلاتها فى الفصل غبطة وابتهاجًا.
كانت ليلة السبت تمثل فاصلا محببًا للأطفال فى حياتهم المنضبطة الصارمة. فقد كان والدهم -الذى كان يجيد اللغات الروسية والفرنسية والألمانية والإنجليزية بطلاقة إلى جوار البولندية- يمضى الفترة 7 إلى 9 مساء فى القراءة بصوت مسموع لبعض الكتب مثل «دافيد كوبر فيلد» ويترجم ما يقرأه مباشرة إلى البولندية. وقد أثرت رواية قصة مدينتين بالتحديد فى مانيا حيث وجدت أن البطل قد وصل مستواه إلى صناعة الأحذية مثل والدتها.
كان كل الأطفال فى أسرة سكلادفسكى أذكياء متفوقين فى المدرسة إلا أن مانيا كانت أكثرهم ذكاء. وعندما كانت فى الرابعة من عمرها شاهدت كيف تجاهد أختها الكبرى برونيا لتقرأ فى كتابها، فما كان منها إلا أن إلتقطت الكتاب وقرأت بصوت مسموع الجملة الأولى دون أدنى تلعثم. ولما رأت الدهشة تعلو وجوه من حولها أخذت فى البكاء وقد أيقنت أنها قد اقترفت خطيئة لا تغتفر «لم أكن أقصد ذلك» قالتها مانيا بأنين وحزن «لكنها كانت سهلة جدًا». وبعد عدة سنوات قرأ أحد معارفهم قصيدة شعر على مسامعها فطلبت منه نسخة منها. قام هذا الشخص باختبارها فقال لها إنه سيقرأها لها مرة أخري، وحيث إنه من المفترض أنها تتمتع بذاكرة جيدة فإنها بلا شك ستحفظها عن ظهر قلب. قرأ الشخص القصيدة، وانتحت مانيا جانبًا فى إحدى الغرف وبعد نصف ساعة وقد كتبت القصيدة بالتمام والكمال.
كانت مانيا وأخواتها يذهبن إلى المدرسة فى شارع فريتا فى بادئ الأمر. وعندما بلغت مانيا السادسة والنصف انتقلت هى وهيلينا إلى مدرسة أقرب لمنزلهن. التحقت مانيا بالصف الثالث مع أن الكثيرات من زميلاتها فى الفصل كن أكبر منها بسنة أو سنتين. وكانت هذه المدرسة السابقة خاضعة للتفتيش والمراقبة الروسية بصورة أكبر من المدرسة السابقة، إلا أن مديرتها كانت من البولنديين الوطنيين المخلصين، واسمها مدام جافيجا سيكورسكا. وحتى تخضع المسئولين كانت المدرسة تحتفظ سرًا بجدول مزدوج. وكان التلاميذ يعرفون جيدًا أن كلمة «نبات» فى الجدول تعنى «تاريخ بولندا» وكلمات «دراسات ألمانيا» تعنى فى الواقع «الأدب البولندي». وقد طورت المدرسة نظامًا ذكيًا بحيث إذا اقترب أحد المسئولين الروس يدق جرسا معينا يتم جمع الكتب البولندية لتختفى من الفصل بينما تأخذ الكتب الروسية مكانها. وقد اختيرت مانيا ذات يوم كأذكى تلميذة فى الفصل للإجابة عن أسئلة المفتش الروسى بلغتها الروسية السليمة. وكان آخر الأسئلة «من هو قيصرنا المحبوب» تمهلت مانيا ثم أجابت بصوت يكاد يختنق «إنه القيصر ألكسندر الثاني». وعندما أغلق الباب خلف المفتش انفجرت باكية «لخيانتها». لكنها قد بدأت تتعلم أن إظهار مشاعرها الحقيقية قد يتسبب فى حدوث كارثة.


كان والدها، الذى تكاد تعبده، يعيش حياة مزدوجة هو الآخر، فكان يحاضر طلابه من العلماء البولنديين ليغرس فيهم الفخر والاعتزاز بتراثهم. كان المفتش العام للمدرسة فى شارع نوثوليبكى روسيا، وقد اكتشف النشاط «الهدام» للأستاذ سكلادوفسكي. فُصل الأستاذ سكلادوفسكى فى التو فأصبح بلا راتب وبلا مسكن، فى الوقت الذى قررت فيه برونيسلافا أنه دون النظر لحالتها الصحية فإن عليها العودة لبيتها. وعندما رأت مانيا والدتها وأختها الكبرى مرة أخرى اندفعت فى أحضان زوسيا لكن أمها مدت ذراعها وراحة يدها مفتوحة حتى لا تقترب مانيا منها. توقفت الطفلة ذات السنوات الست لوهلة حيث تعرفت بالكاد على طيف المرأة التى كانت تسعل سعالا متقطعًا. وفى هذا الأحد ركعت مانيا على ركبتيها وصلًّت داعية لربها أن يأخذ حياتها فقط لتشفى والدتها.
استأجرت الأسرة بيتًا، وافتتح فيه الأستاذ سكلادوفسكى مدرسة داخلية للبنين من الضواحي، ليتدبر تكاليف المعيشة. كان عدد التلاميذ فى البداية خمسة ثم أصبحوا عشرة ثم عشرين. ولم يكن فى هذه الأحياء سوى القليل من التعليم الخاص وكانت مانيا تنام على أريكة فى غرفة الطعام وتستيقظ كل صباح فى السادسة لتعد المائدة للإفطار.
أخذت برونيا وزوسيا عدوى التيفوس من أحد الطلاب المقيمين فى يناير سنة 1874. كان التيفوس ينتشر فى الأماكن المزدحمة لأن عدواه كانت تنتقل بواسطة القمل والبراغيث من الفئران، وكانت هذه البراغيث والقمل تجد مأواها فى الملابس القذرة والأسِرَّة والفراء. وقد قضت موجتان سابقتان من وباء التيفوس فى وارسو وحدها على الآلاف من الناس. كانت شقيقتا مانيا ترتعشان من الحمى بينما كان سعال أمها فى الغرفة المجاورة يسمع ليل نهار. وبعد مرور اثنى عشر يومًا استعادت برونيا صحتها. وبعد أسبوعين توفيت زوسيا ذات الاثنى عشر ربيعًا فقط والرفيقة العزيزة لأمها. أقعد المرض برونيسلافا عن وداع ابنتها حتى مثواها الأخير فى المقابر، لكنها وقفت فى نافذة البيت أثناء عبور موكب الجنازة بجوارها. ارتدت مانيا المعطف الأسود الطويل الذى كان يخص أختها المتوفاة وسارت خلف التابوت فى حالة ذهول. وفى مايو سنة 1878 استسلمت برونيسلافا للسل. وقد كتبت مانيا أن أمها وهى فى الثانية والأربعين من عمرها قد قضت نحبها بفعل الموت المفاجئ وفقد ابنتها والمرض القاتل «ذهبت مانيا إلى الكنيسة فى الأحد التالى كعادتها. وعندما ركعت فكرت مليًا وقررت أنها لن تؤمن أبدًا بعد ذلك بالنزوع إلى الخير.
ظهر الألم الذى تسبب فيه فقد هاتين الاثنتين فى ما أطلقت عليه مانيا «الاكتئاب المدوي» وبداية نسق من الاكتئاب ظل يلازمها طوال حياتها. وفيما بعد عندما أصبحت مدام كورى وسلطت عليها الأضواء والشهرة العالمية، أصبحت أقل صراحة وأطلقت على هذا الأمر «التعب» أو «الإرهاق» أو «متاعب أعصابي». وقد يقيم الأخصائيون اليوم حالتها على أنها اضطراب أساسى متكرر مسبب للاكتئاب، والذى يحدث عادة نتيجة الحزن أو الفقد. مضت شهور بعد ذلك قبل أن تتوقف عن اللجوء بهدوء إلى مكان منعزل للبكاء، الأمر الذى كانت تخفيه عن عائلتها وزميلاتها فى المدرسة. استمرت فى دراستها وأداء واجباتها المدرسية دون أى علامة للحزن وظلت على القمة فى فصلها. وبعد وفاة والدتها بفترة قصيرة بدا أن مانيا أخذت تستغرق فى القراءة بالساعات وأحيانًا بالأيام. كانت قليلا ما تتحدث. وكانت الطريقة الوحيدة لبقائها هى أن تستبعد تمامًا هذا العالم وتركز بوسواس مُلح على موضوع واحد، وبذلك تتمكن من إيقاف شعورها بالأسى والحزن. وبعد سنوات من ذلك تذكرت إيف أنها رجعت فى أحد الأيام فى الثالثة صباحًا فشاهدت الضوء ينبعث من غرفة والدتها وعندما دخلت إيف الغرفة وجدت أمها مستغرقة تحدق فى بعض الابحاث العلمية حتى أنها لم تنتبه لوجود ابنتها. كان الاكتئاب والعزلة مطبوعين عليها منذ الطفولة وحتى أصبحت مدام كوري.
وفى نهاية العام الدراسى سنة 1879 قامت مدام سيكوريسكا مديرة مدرسة مانيا بزيارة للأستاذ سكلادوفسكى لتخبره بأن مانيا، على الرغم من تفوقها على نفسها إلا أنها كانت حساسة بشكل غير عادى ويخشى على عقلها. واقترحت عليه أن يتريث عامًا آخر قبل أن تلتحق بالصف التالى من المدرسة. لكن والدها فعل عكس ذلك بالضبط وبما أن المدارس التى يديرها الروس فقط هى المؤهلة للدراسة الجامعية، فقد قام بنقل ابنته من مدرسة سيكورسكا ومن الجو الذى أحاط بتنشئتها، وسجلها فى مدرسة عليا روسية (جيمنازيم) رقم 3. كان مستوى التعليم فى هذه المدارس، والتى كانت فى الأصل ألمانية رفيعًا، غير أن الروس بذلوا كل جهدهم لمحو الثقافة البولندية، الأمر الذى تسبب فى القلق والاضطرابات. وطوال سنوات الدراسة شعرت مانيا بشدة كيف يعامل المدرسون الطلاب البولنديين كأعداء. وقد كتبت مانيا أنها كطفلة كانت عندما تشعر أحيانًا بالغضب أو العزلة أو تجبر على الكذب «ترغب فى الخربشة بأظافرها مثل القطة». لكنها الآن أصبحت تتمرد بطرق أكثر هدوءًا». وعندما قام أحد المعلمين بتوبيخها لاستعلائها قائلا:«إننى أشعر وكأنك تنظرين إلى من أعلي»، أجابت مانيا، والتى كانت أطول من المعلم مغلفة غضبها ببعض من الفكاهة «فى الحقيقة ليس فى الإمكان أن أفعل أى شيء آخر».


حقق الأطفال فى أسرة سكلادوفسكى واحدًا إثر الآخر توقعات والدهم فى التخرج من الأوائل مع كل درجات الشرف فيما عدا هيلينا التى جاء ترتيبها الثانية فى فصلها. شعرت بقنوط واكتئاب لأنها لم تحقق آمال والدها. أما مانيا سالومى سكلادوفسكا فقد تخرجت من المدرسة العليا الحكومية وكانت الأولى فى فصلها، وحصلت على الميدالية الذهبية كأفضل طالبة سنة 1883. وكانت فى الخامسة عشرة من عمرها.
وبعد سنوات من التوتر والاجتهاد لتكون الافضل، وبعد سنوات من الخداع وكبت مشاعر الغضب، وبعد القنوط واليأس سقطت مانيا مصابة بانهيار عصبى شامل. أخذوها إلى سريرها فى غرفتها المظلمة. لم تكن تتحدث وكانت تأكل القليل فقط وأخيرًا تنبه والدها لما حدث فقرر إرسالها إلى أقربائهم فى الريف لتستعيد صحتها واتزانها. وهكذا بدأت تلك السنة التى ستصبح أكثر السنوات سعادة وروعة فى حياتها.
كان كل من آل بوجوسكى وآل سكلادوفسكى ينتميان لعائلة ممتدة، وكان البعض من أقاربهم قد تمكن من الاحتفاظ بقصورهم وببعض ثرواتهم. أمضت مانيا الجزء الأول من الصيف فى الجنوب فى بيت أحد أخوالها من آل بوجوسكي. وقد كانت واهنة ومكتئبة فى البداية لكونها ستمضى الوقت فى الراحة فقط، إلا أنها سرعان ما بدأت تستعيد روحها الطيبة. هجرت مانيا كتب العلوم وأصبحت تقرأ الروايات وتصطاد الأسماك وتجمع الفراولة البرية برفقة أبناء خالها. بالأطواق وبكرة الريشة وبلعبة المسَّاكة، وقد أخذت تستمتع بالكثير من الأشياء المماثلة الخاصة بالطفولة». أعطاها أقاربها ألبومًا للرسم فرسمت فيه أمورًا عظيمة وأخرى مضحكة. وفى أحد الاسكتشات رسمت كلب العائلة وهو يأكل من طبقها. كتبت مانيا «كنت أضحك أحيانًا على نفسى وأنا أتأمل حالة الغباء الشامل التى أنا فيها براحة حقيقية». لقد عاشت الطفولة التى لم تعشها أبدًا من قبل.
قامت مانيا فى شهر نوفمبر بزيارة خال آخر كان يعيش فى منطقة جنوبية ابعد تقع على أعتاب تلال كارباتيان. وكان خالها وأحد أبنائه عازفى كمان موهوبين. وكان هذا المكان هو الآخر حافلا بالسعادة والموسيقى والكتب والفن. وعندما بدا أن كل المرح قد قارب على الانتهاء قامت إحدى تلميذات والدتها السابقات التى تزوجت زوجًا غنيًا، قامت بدعوة كل من مانيا وهيلينا إلى ضيعتها الريفية الواقعة إلى الشمال الشرقى من وارسو. كانت الحفلات فى هذه الضيعة أكثر ثراء وأكبر من تلك التى كانت تقام فى بيوت أخوالها، وقد تذكرت ذلك هيلينا قائلة «لقد مضى الوقت بسرعة مثل الحلم لكن ذكراه ظلت ماثلة للأبد».
وبعد سنوات أخبرت مارى ابنتها إيف عن هذه السنة السحرية حيث أغرقها أخوالها وخالاتها بهداياهم السخية، وحيث كانت الزلاجات الممتلئة بالشباب الضاحك تنتقل من قصر ريفى إلى قصر ريفى آخر ليلاً، لتقام الولائم والألعاب ورقص أحدث رقصات «المازوركا» عند الفجر. وقد أخبرت إيف كيف أنها استمرت ترقص فى إحدى الليالى للدرجة التى جعلتها تتخلص من حذائها فى القمامة لأنه ماعاد يصلح لشيء بعد ذلك. لم تستطع إيف تخيل ذلك إلا بصعوبة شديدة، فقد ولدت وأمها فى السابعة والثلاثين ومات عنها والدها وهى ابنة أربعة عشر شهرًا فقط، لصرامة أمها وصمتها وانعزاليتها، وما تبدو عليه من فقدان المشاعر، تلك الصورة التى أصبحت عليها مدام كورى -الفتاة السعيدة المتفتحة على العالم والتى رقصت طوال الليل.

 

 


لماذا تبحث بعض النساء
عن الاستقلالية بينما تفضل الأخريات الامتثال
لما هو مقدر لهن؟

 

 

إن مجرد التـنزه ســيرًا عــلى
الأقـدام فى المناطق الريفية كان لغرض
شرح ظاهــرة علمية أو ســر من أسرار الطبيعة
كـان كــل الأطفال فى أسـرة سكلادفسـكي
أذكياء متفوقين فى المدرسة إلا أن
مــانيا كانـت أكثرهم ذكـاء

 

 النهــايات معـــارك الشـــرف ... والعنصــــرية!

 فى ليلة دافئة من شهر إبريل سنة 1910 حلت مارى على آل بوريل حيث كانوا فى حفل عشاء غير رسمى مع آل بيرين. وبدلاً من الرداء الأسود الداكن الذى داومت على ارتدائه منذ موت بيير كانت ترتدى ثوباً أبيض على أحدث موضة على وردة قرنفلية اللون مثبتة على خصرها. بدت وكأنها شخص آخر، المظهر العابس الجامد حل محله الرقة والسكينة. لدرجة أنه فى صباح اليوم التالى سأل جين بيرين مارجريت بوريل «ماذا حدث لها؟».
وبالرغم من أنها أقرت بأنه لم يكن لديها «حياة اجتماعية» حيث كتبت عن ذلك ابنتها إيف فيما بعد بأنه على الأغلب لم يعرفها أحد عن قرب. كان لمارى مجموعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين تتكون غالباً من هؤلاء الذين يتفهمون عملها ؛ كان هناك مساعدها المتفانى فى خدمتها أندريه ديبرين وجين بيرين الخبير فى أشعة الكاثود وتحلل الراديوم وطبيعة الحرارة والضوء، وهنرييت زوجة جين التى كانت تشبه أختها برونيا، شخص هادئ وكانت تنادى مارى بضمير المفرد Tu الدال على الخصوصية، ثم عائلة بوريل، إميل الذى عين عميداً لمدرسة الإيكول نورمال سوبريير، ومارجريت إبنة بول آبل عميد العلوم بالسوربون. وكان من بين أصدقائها المقربين هيرثا آيرتون Hertha Ayrton العالمة المعروفة ومن المناضلات الأوائل فى حركة حقوق المرأة بانجلترا. وبالرغم من أن هيرثا كانت تعيش بلندن إلا أن ذلك لم يؤثر على صداقتهما. كان كلاهما يعتبرن من خارج مجتمعهما: مارى بولندية، وهيرثا يهودية. وقد ساعدت المؤلفة جورج إليون (اسمها مارى آن إيفانز Mary Ann Evans لكنها اختارت أن تكتب تحت اسم مذكر مستعار) ماديا فى تعليم هيرثا، وعندما كتبت رواية دانييل ديرونا استخدمت شخصيتها باسم ميرا اليهودية الموهوبة والمنبوذة. وسيصبح كل هؤلاء الأصدقاء متورطين فيما سيعرف لاحقاً» بالفضيحة الكبري».
كان بول لانجفين السبب فيما حدث. تلميذ سابق لبيير وصديق عزيز لعائلة كورى وتم اختياره ليحل محل بيير فى EPCI. كان بول يصغر مارى بخمس سنوات، طويل القامة ذو مظهر عسكرى وعيون نفاذة، حليق الشعر له شارب على الموضة. كان لانجفين فيزيائى وعالم رياضيات عبقرى. توصل لانجفين فى سنة 1906 إلى النتيجة E = mc2 (أى أن الطاقة تساوى الكتلة مضروبة فى مربع سرعة الضوء) إلا أن الطاقة تساوى الكتلة مضروبة فى مربع سرعة الضوء) إلا أن عالما آخر يدعى آينشتاين سبقه ونشر هذا الاكتشاف.
كتبت مارى لهنرييت بيرين إنها «تقدر تماماً الذكاء الفائق (للانجفين)». لقد ساعدها فى تحضير محاضراتها فى السوربون وقام بتنقيح ما يُعرضه. ووجدته صديقاً حنوناً، وسرعان ما بدأ يسألها فيما يمكن أن يفعله حيال ما أطلق عليه«غلطته الكارثية فى الزواج» إلى جين ديسفوسيس ابنة واحد من الطبقة العاملة الذى يعمل فى مجال السيراميك. أحس لانجفين بأنها تشده إلى الوراء وتعطله عن اكتشافاته العظيمة بسبب طبيعتها العنيقة وطلبها الدائم للنقود. كتب لانجفين أنه انجذب لماري» كما تنجذب إلى الضوء... بدأت أبحث للحصول على شيء من الرقة، من تلك التى حُرِم منها فى بيته». رحبت جين ديسفوسيس لانجفين بمارى بمنزلهم وتعرفت مارى على أطفالهم الأربعة. وفى ربيع سنة 1910 اشتكت جين لمارى من قسوة بول تجاهها وعنفته مارى لذلك. وفى المقابل كشف لها بول عن جرح عميق لم يلتئم بعد بسبب تحطيم جين زجاجة على رأسه.


يأتى كل ما نعرفه عن العلاقة بين كورى ولانجفين مما ذكره أصدقاؤهما وأيضاً، وبالأخص من الخطابات التى كتبتها مارى لبول والتى سرقها مخبر خاص وظفته زوجته لانجفين، من مكتب فى شقة صغيرة كان يستأجرها زوجها بالقرب من السوربون، وبحلول يوليو سنة 1910 أظهرت هذه الرسائل أن مارى وبول كانا عاشقين. ونرى فى هذه الرسائل أن بول صديق وتوأم روح وشريك هام فى مجال العلوم الذى ربما يحل محل بيير ربما تكون فرصة ثانية قد سنحت لمارى لتعيد الأيام الجميلة التى كانت تعرفها. وبهذه الرغبة المتقدة كتبت مارى لبول:
إنه سيكون شيئاً عظيماً إذا اكتسبنا الحرية ليرى كل منا الآخر كلما سمحت لنا ظروف عملنا لنعمل معا ولنتنزه أو نسافر سوياً عندما تسمح الظروف. هناك ترابط عميق جداًَ بيننا يحتاج فقط إلى ظروف حياتية موائمة لينمو.. المشاعر التى قادت كلا منا تجاه الآخر قوية جداً... ما الذى يمكن ألا يأتى به هذا الإحساس؟.. إنى أعتقد أننا نستطيع الوصول لكل شيء من خلاله؛ العمل الجيد سمتنا نحن الاثنين، وصداقة متينة جيدة، وشجاعة فى مواجهة الحياة وحتى أطفال الحب بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان جميلة.
وبالرغم من أن جين لانجفين قد تعايشت مع خيانة زوجها فى الماضى إلا أنها منذ اللحظة الأولى لهذه العلاقة مع مارى الشهيرة فقدت صوابها وهددت بقتل مارى. وفى التو حاول بيرين تهدئة جين إلا أنها وأختها انتظرتا فى شارع مظلم بالقرب من شقة مارى. وعندما اقتربت مارى منهما أمرتها جين أن تترك فرنسا فورا وإلا ستموت. ارتعبت مارى وبدلا من أن تذهب إلى منزلها هربت إلى منزل آل بيرين. كتب جين بيرين عن تلك اللحظة «هذه المرأة الشامخة تقلصت إلى شيء تائه مثل وحش تم الإيقاع به». أخبر بول لانجفين مارى أن زوجته قادرة تماماً على القتل ونصحها أن تترك فرنسا لكنها رفضت. وفى النهاية تقرر ألا يرى كل منهما الآخر مؤقتاً. ولكن عندما غادر لانجفين ومارى باريس لحضور المؤتمر العالمى للإشعاع والكهرباء أخبرت جين لانجفين أختها أن الرحلة ما هى إلا ستار لإخفاء علاقتهما، وجددت تهديداتها متوعدة بأنها ستكشف علاقتهما. عندما وصلت مارى إلى المؤتمر كان رذرفورد أول من لاحظ حالتها. كتب يقول «بدت مدام كورى منهكة جداً ومتعبة وأكبر من سنها كثيراً. إنها تعمل كثيراً مما يؤثر على صحتها. وعلى كل فهى كيان يثير الكثير من الشفقة» لكن ستيفان ماير Stefan Mayer الذى طور معياراً للراديوم خاصاً به كان أكثر تهكماً وأخبر رذرفورد أن هذه الصدمات العصبية الظاهرة والإرهاق الذى اضطرها أن تترك قاعة الاجتماع قد حدث فقط عندما أصبحت المناقشة على غير هواها.
بعد انتهاء المؤتمر عادت مارى وبول إلى باريس ثم لحقت هى بأطفالها فى مدينة لاركوى على الساحل الشمالى البريتانى. وهو المكان الصيفى المفضل للعلماء والأساتذة (مما يطلق عليه على سبيل المزاح «حصن العلماء»). وكانت عائلتا بوريل وبيرين تقيمان هناك. أصبحت مارجريت بوريل صديقة مارى المفضلة ومحل ثقتها. وفى إحدى الأمسيات جذبت مارى مارجريت من يدها وأفضت إليها بتخوفها، فبالرغم من أنها مستعدة أن تلقى بنفسها فى النار من أجل بول لانجفين إلا أنها تخشى من أنه قد يرضخ لضغوط جين ويهجر العلم لمهنة مربحة أكثر أو يصل إلى حالة من الإحباط.
«أنا وأنت أقوياء... أما هو فضعيف». وبالرغم من ذلك وتماماً كما فعلت مع كازيمير زورافسكى فدعت نفسها بأنها ستجد وسيلة ما ليكونا معا.
اعترفت مارى بحبها لبول وبالغت فى حقيقة أنها تخاطر بمكانتها من أجله وربما يصل الأمر بها إلى الانتحار إذا لم تسر الأمور كما يجب: فكر فى ذلك عزيزى بول، عندما تشعر بأنك أصبحت منزعجاً بسبب اعتقادك أنك أسأت إلى أطفالك، فإنهم لن يجابهوا أبداً ما سيجابهه بناتى المسكينات اللاتى قد يصبحن يتامى بين يوم وليلة إذا لم نصل إلى حل مناسب». وبشيء يفهم منه أنه لحظة من الغيرة حذرته من استئناف علاقته الزوجية مع زوجته لأنه إذا ما حدث وأنجبت طفلاً آخر فإن كليهما» سيحاسب حساباً عسيراً من كل هؤلاء الذين يعرفون بعلاقتنا وللأسف فإنهم كثيرون. فإذا حدث ذلك فإنه سيعنى القطيعة المؤكدة بيننا... إننى قادرة أن أخاطر بحياتى ومكانتى من أجلك لكنى لا أستطيع تحمل هذه المهانة... فإذا أدركت زوجتك هذا فإنها ستقدم على هذه الخطوة».
تبع ذلك عدة رسائل إلى بول مشيرة إليه - بمزيج من القسوة والولع الذى يبين عدم حساسيتها - عن كيفية التخلص من زوجته» لا تكن ليناً معها عندما تبكى أو تذرف الدموع. تذكر المثل الذى يقول يبكى التمساح لأنه لم يستطع اقتناص فريسته، إن دموع زوجتك من هذا النوع» ثم تناشد لانجفين» عندما أعرف أنك معها تصبح ليال موحشة فظيعة. ولا أستطيع النوم. أنام بصعوبة لمدة ساعتين أو ثلاث، وأستيقظ بإحساس بالحمى ولا أستطيع العمل. افعل ما فى استطاعتك لتنتهى من هذا الموضوع... إننا لن نستطيع العيش على هذه الحالة» مارى التى تحايلوا وتوددوا إليها لتتزوج بيير الهادئ صارت ملتهبة ثم أنهت رسالتها قائلة«عزيزى بول إنى أضحك إلى بكل ما أوتيت من رقة... سأحاول العودة إلى العمل بالرغم من صعوبة ذلك عندما يكون الجهاز العصبى متهيج بهذه الدرجة.
يبدو أن لانجفين متذبذب، ففى مرة سابقة انفصل عن زوجته المزعجة إلا أنه سرعان ما أخذ يتوسل إليها أن تعود إليه. لم يترك لانجفين زوجته ولم يتوقف عن رؤية مارى. ودار نقاش حاد بين أندريه وبيرين الهادئ بطبيعته وبين بول لانجفين عاتباً عليه بسبب صحة مارى التى أصبحت أكثر اعتلالاً. وبسبب تقلباتها العاطفية وشرودها فى العمل وقد أصبحت لا تمنح بناتها الكثير من العناية.
أصبح المؤلف أسوأ من ذى قبل حيث تلقت مارى مجموعة من الصدمات الواحدة تلو الأخرى. فبإلحاح من أصدقائها، وربما لتجعل لانجفين فخوراً بها أعلنت تقدمها لشغل كرسى الفيزياء فى أكاديمية العلوم، أكثر الأماكن نفوذاً المجال العلمى فى فرنسا، حيث يلقى الأعضاء أبحاثهم، ويعقدون اجتماعاتهم وينالون منحاً ضخمة للبحث العلمى. كان المرشحون الآخرون لهذا الكرسى ضعفاء ما عدا إدوارد برانلى Edward Branly المخترع الذى كان له اليد الطولى فى مساعدة ماركونى فى التوصل إلى البرقيات اللاسلكية. وقع تصرف مارى كورى كالصاعقة على أعضاء هذه المنظمة عالية المستوى والتى يتسيدها الرجال وأفرزت تعليقات سلبية ليس من الرجال فحسب بل من النساء أيضاً اللاتى وجدن أنها تهدد أنوثتهن. كتبت الكاتبة ذات النفوذ جوليا دوديه» العلم عادة ليس للنساء» كما كتبت الممثلة الشهيرة مدام ماريا ريجنبير فى صحيفة الفيجارو» يجب ألا يحاول المرء أن يجعل المرأة مساوية للرجل» وأطلقت الصحيفة ذات الميول اليمينية وابلاً من النقد اللاذع ذاكرة أصلها البولندى ومواقفها المعادية للحرب. لم يكن ذلك إلا نذيراً لما هو قادم.
اجتمع أعضاء الأكاديمية يوم الاثنين الموافق 24 يناير سنة 1911 ليدلوا بأصواتهم. وأعلن الرئيس أرماند جوتيه Armand Gautier أنه يرحب بالجميع ليدخلوا القاعة ما عدا النساء. وعند التصويت فى الجولة الثانية حصل إدوارد برانلى على ثلاثين صوتاً مقابل ثمانية وعشرين حصلت عليها مدام كورى. أرسل العديد من العلماء رسائل مواساة لها بسبب هذه الخسارة لكن المهم فى الأمر أن أشهر علماء فرنسا والحائزة على جائزة نوبل لم تستطع أن تلقى بأبحاثها فى الأكاديمية ولم تحاول أن تفعل ذلك أبداً بعد ذلك، ولكنها كانت ترسل بأبحاثها إلى المجلات العلمية مثل Comptes rendus.
وبحلول ربيع سنة 1911 عاد بول ومارى للقاء مرة أخرى سراً حيث لم يستطيعا البقاء منفصلين، وكان اللقاء يتم فى شقة لانجفين بباريس، لكن مارى كانت قلقة لاعتقادها أن جين ترسل من يتتبع زوجها، ومن المحتمل أنها قد أرسلت ابنها الأكبر للتجسس عليهما. وكانت الرسائل شديدة الخصوصية قد اختفت فى فترة عيد القيامة من درج المكتب. وبعد أسبوع من سرقة الرسائل زار صهر جين لانجفين مدام كورى وأخبرها أن هذه الرسائل موجودة الآن فى حيازة مدام لانجفين وأنها تعد العدة لإعلانها. وفى ثورة غضب بسبب الرسائل المسروقة ترك بول المنزل ولكنه عاد مرة أخرى بعد أسبوعين. وفى يوم 26 يوليو وبعد معركة مع زوجته غادر بول المنزل وبدأت جين فى إجراءات رفع قضية مدعية الهجر.
أرسلت مارى المنهكة والتى ترتعد من الخوف ابنتيها أيرين وإيف إلى بولندا لزيارة آل دلوسكى ولحقت بهما فى نهاية الصيف ثم توجهت إلى بروكسل لحضور مؤتمر سولفاى Solvay لسنة 1911. وكانت هذه المؤتمرات تجذب أعظم العقول العلمية وكان يمولها إرنست سولفاى Ernest Solvay وهو كيميائى من بروكسل محب للخير كان قد طور طريقة جديدة لصناعة كربونات الصوديوم.


ومرة أخرى كان بول لانجفين حاضراً وكذلك كل من جين بيرين وألبرت آينشتاين و هـ. أ. لورنتز وماكس بلانك وإرنست رذرفورد وآخرين.
وفى لحظة مثيرة وأثناء المؤتمر تلقت مدام كورى برقية من لجنة نوبل تعلن أنها الفائزة الوحيدة بثانى جوائز نوبل لكن فى الكيمياء هذه المرة. وفى الحفل الذى تلا ذلك أثنوا عليها «لإنتاج عينات نقية كافية من البولونيوم والراديوم ولتقدير أوزانهم الذرية، تلك الحقائق التى أكدها علماء آخرون، ولعملها الجليل لإنتاج الراديوم كعنصر نقى.» وفى نفس اللحظة تقريباً وصلت برقية ثانية تفيد أن جين لانجفين قد بعثت برسائل مارى لبول إلى الصحف. تركت مارى المؤتمر على عجل لكنها كتبت على وجه السرعة قبل المغادرة رسالة قصيرة إلى رذرفورد تشكره على اختياره لها لعمل معيار الراديوم وأنها مقدرة لكل الاهتمام الذى أولاه إياها أثناء المؤتمر. وشرحت له أنها كانت تود مصافحته قبل المغادرة لكن مرضها لم يمكنها من البقاء.
عادت مارى إلى باريس وإلى السموم التى نشرتها الصحف عنها. وقال بولتوود الحقود «إنها تماماً كما تصورت البلهاء المقيتة !» أحاط الناس بمنزل مارى كورى وقذفوا بالحجارة نوافذه، فهربت بأطفالها إلى عائلة بوريل. نشرت وسائل الإعلام الكيفية التى شرحت فيها لبول بالتفصيل المطول كيف يمكن أن يتخلص من زوجته، واتهمتها بخرابة البيوت، وأنها امرأة فاسقة، وشيطانة بولندية ويهودية.
وقد ساعدت الصحف اليومية اليمينية البذيئة فى تلطيخ سمعة مارى كورى والإشارة فى طبعاتها لجائزة نوبل التى لم تلق إلا بالقليل من الاهتمام فى مجال العلوم. وبالرغم من احتجاج مارى وبول بأن الرسائل قد سرقت لكن رسائل الإعلام كانت مصرة على تحطيم هذا الرمز. وقد قدم الإعلام ذلك إلى المجتمع الفرنسى المنقسم على نفسه. فبعد نصف قرن، وبعد الهزيمة المهينة لفرنسا فى الحرب بين فرنسا وبروسيا والإبادة الهمجية للجنة باريس الثورية أصبح هناك خلاف سياسى فى فرنسا. والموضوع الوحيد الذى اتفقت عليه الغالبية هو رغبة الانتقام من الاحتلال الأجنبى وتلطيخ الشرف الذى حل بفرنسا. أصبح التعصب ضد السامية والشوفينية والخوف من الأجانب وكرههم هو السلاح الفعال فى يد اليمين القوي، حتى أنهم أطلقوا على جابرييل ليبمان الذى رفض أن يدين مدام كورى «اليهودى الذى اخترع التصوير الملون» وعلى جين بيرين الذى دافع عنها «وريفوسارد المتعصب» (فى موجة من العنصرية والعداء للسامية فى سنة 1894 شرعت نفس وسائل الإعلام اليمينية فى تجريم القبطان اليهودى ألفريد دريفوس متهمة إياه خطأ بأنه جاسوس).


كانت أيرين بالمدرسة عندما أشارت زميلة لها إلى عنوان جريدة لوفر Lصoeuvre الذى تناول الفضيحة. قرأت أيرين القصة وانفجرت فى البكاء. وصل دوبرين الوفى للمدرسة وأخذها إلى منزل آل بوريل. وفى حجرة ضيافة آل بوريل كانت مارى المرتعبة تجلس فى انتظار أطفالها. وعندما وصلت إيف قالت لمارجريت بوريل «ما» حزينة وتبدو مريضة بعض الشيء» ويبدو أن «ما» فى حاجة للملاطفة». أما أيرين الرزينة فجلست بالقرب من أمها التى تعشقها والتى كانت تجلس منكمشة فى أحد الأركان، وفى لحظة نادرة من إظهار العاطفة أخذت مارى تداعب شعر أيرين. وصل أيرين وتطوعوا لأخذ أيرين معهم إلى منزلهم لكنها رفضت بإصرار «لا أستطيع أن أترك ما». وأخيراً عنفوها أن تذهب معهم. وبالرغم من أن كل الاهتمام كان مركزاً على مارى كما هو متوقع إلا أن ابنتيهما كانتا أيضاً تتألمان.
تحول بول آبل الذى شارك ديبرن فى تسليم جثمان بيير لمارى ضدها مثل الكثيرين من أصدقائها القدامى. ورتب مع مجموعة من الأساتذة من السوربون أن يطلبوا من مدام كورى مغادرة فرنسا. وعندما سمع آبل أن ابنته قد أخذت مارى لتعيش معها طلبها للحضور إلى شقته. وعندما وصلت مارجريت بوريل وجدت أباها فى ثورة عارمة. وقال لها «لماذا تتدخل فى أمور ليست من شأنها ؟» ثم أعلن أنه سيقابل مدام كورى بعد ظهر غد ويطلب منها مغادرة فرنسا، وقد رتب لها كرسى فى بولندا. «وجودها فى باريس أصبح مستحيلا... لا أستطيع إيقاف البحر الذى سيغرقها».
وكما ذكرت مارجريت بنفسها أنها وقفت وهى ترتعش أمام أبيها الذى لم تجرؤ طيلة حياتها أن تعارضه أبدا. ثم استقامت فى وقفتها وأجابت «إذا استسلمت لتلك الحركة القومية البلهاء. وإذا أصررت على أن تغادر مدام كورى فرنسا... فإننى أقسم أنك لن ترانى أبدا إلى آخر يوم فى حياتي» آبل الذى كان يهم بلبس حذائه قذف بأحدها عبر الحجرة. ووراء كل هذا الغضب كان آبل يخشى أن«تنزلق» ابنته فى هذه الفضيحة ولكنه استسلم ووافق على تأجيل قراره.
لاحظت مارجريت أن شيئاً من كل هذا ما كان ليحدث لو أن مدام كورى كانت رجلاً. ومن المؤكد أنه لم يسأل أحد بول لانجفين أن يترك فرنسا أو حتى أدانوه. الكل يعلم أنه قد عرضها للتبني، وعلى أى حال لم يرها أحد أبداً. وفى عام 1911 وفى كل يوم ما عدا أيام عطلة نهاية الأسبوع تسجل محاكم باريس تسعة وثلاثين حالة خيانة زوجية. ومن بين كل مائة حالة ولادة يتم رصد أربعة وعشرين منها لأطفال غير شرعيين. وجريمة مارى فوق كل ذلك لم تكن مجرد عشيقة بل هى امرأة متحررة عندما كان أمثالها من النساء يشكلن تهديداً لكلا الجنسين. وبسبب الارتفاع المتزايد الذى وصل إلى معدلات غير مسبوقة لحالات الإجهاض شكلت الصحف اتحاداً يمنع نشر إعلانات القابلات اللاتى يقدمن«الخدمات المستترة». والأدهى من ذلك الرسائل التى تظهر امرأة متحمسة: المرأة المحترمة تتقبل العملية الجنسية ولكنها لا تستمتع بها. وبالنسبة للرجال فإنهم يجدون متعتهم الجنسية خارج سرير الزوجية. واصلت الصحافة هجوماً يشبه انقضاض النسور على الجيف. وسارع كل من برونيا وكازيمير ولوسكى للوقوف بجانب مارس وكذلك جاك كورى للدفاع عنها. وبدا الأمر كله يأخذ شكل أوبرا هزلية، لدرجة أن كتب الصحفى اليمينى جوستاف تيرى أن لانجفين «شخص فظ وجبان» فتحداه لانجفين للمبارزة. كانت المبارزة أمراً غير قانونى فى ذلك الوقت ولكنها كثيراً ما تحدث. وبعد ترتيبات مستفيضة رفض تيرى أن يطلق مسدسه قائلاً إنه لا يريد أن يحرم فرنسا من واحد من العقول العظيمة. ولم يرفع لانجفين مسدسه بالمرة قائلاً «أنا لست سفاحاً». وانتهى الأمر عند هذا الحد.
وأخيراً وقعت مدام لانجفين على وثيقة الانفصال بعد أن نجحت فى إيلام مارى كورى أكثر مما كانت تتوقع وذلك دون الإشارة لمارى فى الوثيقة. وبعد ثلاث سنوات عادا وتفاهما واتخذا بول عشيقة غير معروفة. وبعد عدة سنوات وبعد أن أنجب طفلاً غير شرعى من معاشرة إحدى تلميذاته السابقات إيلين مونتيل Elane Montel طلب من مارى أن تجد لإيلين مكاناً فى معملها، وفعلاً تم ذلك. أصبحت إيلين بعد ذلك أستاذة فى الإيكول فورمال فى سرفنى.

 

أحبـــــــت مــــــــــــــاري
مســــاعـــدهــــا المتــــــزوج وكشـــــــفت
خطاباتهــا لـه كل شيء

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة