«الإمـارة ســيف ومـنـسـف»:دولــة القـبيـلة العــربيـــة



هذا الكتاب هو في الأصل مجموعة مساهمات بحثية متكاملة، وإن لم تكن شاملة، لعدد من الأكاديميين (في أوروبا) من المهتمين بالتاريخ والسياسة والاجتماع في المشرق العربي الإسلامي. تقارب هذه المعالجات بنية ووظائف قبائل العراق وإيران وكردستان وليبيا والمغرب والمملكة العربية السعودية وأوضاعها الراهنة، وما طرأ عليها من مستجدات وتطورات في القرن الماضي، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين القبيلة والسلطة، وخلفيات وحركيات هذه العلاقة. كما تعالج مساهمات الباحثين أثر السياسات والتنظيمات المركزية والتقنيات الحديثة واقتصاد السوق علي أحوال القبائل، وما أحدثته من تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية. ومن خلال دراسة بعض الحالات، تستعرض المساهمات تعقيدات بنيان وعلاقات القرابة والنسب وأثرها علي تشكيل العصبيات القبلية وقيام إمارات القبائل واندحارها. تبنت المنطقة العربية، وجوارها شرق الأوسطي عموما، في حقبة ما بعد الاستقلال في أعقاب الحربين العالميتين، نموذج الدولة القومية (الحديثة) بشكلها وحدودها ومؤسساتها وبعض آلياتها. ومن خلال ذلك أرادت بعض النخب الحاكمة أن تندرج في عملية التحديث متجاوزة الأشكال التقليدية للاجتماع السياسي، وفي مقدمتها وأهمها القبيلة. لكن بعد مرور عقود طويلة علي تأسس الدولة الحديثة في الشرق الأوسط، أثبتت القبيلة أنها عصية علي الاقتلاع، وأنها ما زالت حجر الأساس في كثير من البلدان. ذلك أنها لم تختف من المسرح السياسي العربي والشرق أوسطي، رغم ما بدا من غياب أو تغييب لها. لقد كانت القبيلة دوما هناك في خلفية المسرح تلعب أدوارًا مركزية في السياسة والسلطة، ويشهد اليوم صعودا متميزا للقبيلة وتموضعا جديدا لها في قلب المجتمع أو قلب السلطة. يطرح هذا الوضع أسئلة كثيرة: كيف حدث هذا؟ لماذا يرتد المجتمع والسياسة العربيان إلي عصبيات إثنية وقبلية في عصر العولمة وانهيار الحدود والولاءات الضيقة؟ هذه الأسئلة وتفريعاتها الكثيرة هي بعض ما يتطرق إليه الكتاب، غير أن السؤال المركزي الذي يطرحه الكتاب، وينعكس علي معظم مساهمات الباحثين المشاركين هو كيف استمر حضور القبيلة بشكل طاغ في السياسة العربية؟ ولماذا؟ دور القبيلة بعد قرن من نشوء الدولة الحديثة تنطلق الفكرة الأساسية للكتاب من التجربة العراقية حيث أعيد إحياء القبائل في مطلع تسعينيات القرن العشرين، رغم أن العراق كان يعرف في القرن التاسع عشر بأنه مقبرة القبائل بينما كانت الجزيرة العربية تعتبر ملاذ أو جنة القبائل. فقد كانت هناك سلطة مركزية قوية في العراق، بينما كانت غائبة في الجزيرة العربية. فحيثما تقوي السلطة المركزية تضعف القبيلة، والعكس صحيح. ولكن بعد مرور حوالي قرن علي نشوء الدولة المركزية، أعيد إنشاء القبائل بسهولة كبيرة في العراق. وهكذا ينطلق السؤال من العراق ليمتد إلي منطقة الشرق الأوسط ككل في محاولة للدراسة المقارنة مع المغرب والجزيرة العربية وكردستان تركيا وإيران والعراق. كما يقدم الكتاب دراسة لحالة إيران في إطار مقارنة بعموم البلاد العربية إضافة إلي بعض البلاد المجاورة، وإن لم يحالف التوفيق بعض هذه المقارنات. سيبقي العامل السياسي محوريا وهاما في دول الشرق الأوسط الحديثة، وخاصة في العراق. فمن هذه الناحية يتواصل الكتاب مع الأعمال الأنثروبولوجية والسياسية عن القبائل، والتي كتبت عن منطقة العراق والأردن والجزيرة العربية. وهو إضافة مهمة لهذه الدراسات، وتبقي الرسالة الأصلية للكتاب هي استمرارية القبيلة، ولكن في نفس الوقت هناك أيضا تغير وتطور هائل بحيث إنها أصبحت وحدة اجتماعية تختلف تمام الاختلاف عما كانت عليه تاريخيا. فقد كانت القبيلة تاريخيا وحدة اجتماعية لها تركيب خاص، وكان تركيبها متعلقا بالاقتصاد، خاصة الاقتصاد الرعوي، وتربية الإبل. زال هذا التركيب الاقتصادي في العصر الحديث، فصارت للقبيلة وظائف اجتماعية أخري، تختلف تمام الاختلاف عما كانت عليه تاريخيا، وهي كوحدة اجتماعية أيضا اختلفت تماما. ولكن كيف تطورت وتغيرت وحدة القبيلة في ظل الدولة المركزية مقارنة بما كانت عليه؟ ينتقد الكتاب نظرية التطور التي تري أن القبيلة تبدأ مع الاقتصاد الرعوي، وتتفتت عندما تنتقل للاقتصاد الزراعي، وتتلاشي عندما تنتقل للاقتصاد المديني أو الصناعي أو التجاري. لكن الواقع التاريخي يقول أنها لم تنته لدي انتقالها من حالة اقتصادية إلي أخري، فتعلق التنظيم القبلي بالاقتصاد الرعوي ليس عضويا أو حتميا. فقد تغيرت أنماط الاقتصاد، وتغيرت أنماط التنظيم الاجتماعي والسياسي أيضا؛ ولكن القبيلة كقبيلة بقيت علي الأقل من ناحية الاسم والكيان والزعامات. فمن الملاحظ أن القبيلة في الاقتصاد الرعوي هي تقريبا دولة؛ لأن البذرة تحتوي علي شجرة في خلية، تصير غصنا في خلية، تصير جذورا في خلية، وتصير جذعا. فالقبيلة لها قوتها العسكرية، وقانونها غير المدون بالطبع، وثقافتها الشفهية، ونطاقها الجغرافي (الأرض)، ومصادر مياهها؛ ولها أيضا تحالفاتها ومعاهداتها العسكرية، كأنما هي دولة مصغرة، سوي أن الزعامة السياسية غير موجودة فعلا كمؤسسات سياسية. وقد تطورت بعض القبائل إلي إمارات، كما حصل في إمارة شمّر في الجزيرة العربية أو كما حصل في حالة الدولة السعودية الأولي. كذلك نشأت بعض الإمارات الكردية من اتحادات وزعامات قبلية قوية وحدت القبائل وأخضعت مناطق. هذا الشكل الكلاسيكي انتهي، ولم يعد موجودا بسبب الاقتصاد الحديث والهجرة إلي المدن وغير ذلك. لكن بقيت بعض الفرضيات حول هذا الموضوع. فهناك من يعتقد أن القبيلة ككل بقيت كثقافة، بمعني الارتباط بالقبيلة وجدانيا، ودفع الديات نيابة عنها، والدفاع عنها، والاستجابة لمطالب ومبادرات شيخ القبيلة. فهي علاقة تضامن معنوية أكثر منها علاقات مادية. وهناك من يري أن ما بقي من القبائل هو البيوتات والأفخاذ الصغيرة والعشائر. ولكن السؤال الكبير وربما الفضفاض والذي تتوزع إجابته في مختلف فصول الكتاب: هل صمود وحدة القبيلة رغم قيام الدولة المركزية، هو بسبب قوتها الذاتية الداخلية؟ أم هو بسبب فشل الشكل الجديد للدولة الحديثة في المنطقة العربية والشرق الأوسط في تحقيق هوية أو رابطة أو انتماء يحل محل القبيلة؟ بيد أن المسألة ليست فشل الدولة الحديثة حصريا، لأنه من فعاليات الدولة الحديثة إنشاء تماسك اجتماعي داعم للدولة، وهذا يقتضي أن تستخدم القبيلة في معظم الأحيان لأجل خلق هذا التماسك والدعم. فالقبيلة صار لها إستراتيجية تعني تواجدا مختلفا لوحدات القبيلة، وهي خطة استراتيجية مبنية علي أيديولوجية القرابة والنسب. ولكن في نفس الوقت، يتم استعمال القرابة والنسب في سبيل مصالح زعماء وأفخاذ القبيلة. فالقبيلة كوحدة تغيرت، ورغم أن النسب والقرابة هما أيدلوجية القبيلة، انحصرت الوحدات الفعالة في القبيلة في تلك التي لها مصالح تتماسك مع بعضها البعض. وبالطبع هناك في بعض الأحيان خلافات ونزاعات وصراعات بين مختلف الرئاسات في نفس القبيلة. النموذج التفسيري الخلدوني يكاد ابن خلدون أن يكون الحاضر الذي لا يغيب عن فصول الكتاب، خاصة المقولات والنظريات الخلدونية الشهيرة حول «النسب والعصبية والرياسة ودورات الملك». وتري بعض مساهمات الكتاب أن أهمية النظرية الخلدونية في فهم وتفسير مركزية العصبية (القبلية) في التاريخ العربي لا تتوقف علي تفسيراته التاريخية والاجتماعية للحقبة التي عاشها وما سبقها، بل تمتد تطبيقاتها الهامة إلي التاريخ الحديث والمعاصر. لاحظ ابن خلدون أن صراع العصبيات القبلية الصغري يتم حسمه لصالح عصبية غالبة، يؤول إليها الملك، وتعمل من خلاله علي إعادة صياغة الولاءات والعصبيات الصغري بحيث تؤسس ولاء وروحا جماعية بين عصبيات القبائل المتصارعة، مستندة إلي شرعية المقدس المتمثل بدعوة دينية وما لها من فعاليات في التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. لكن دينامية وحراك العصبيات الصغري يخفت ويشتد بالتوازي مع منعة وقوة العصبية الغالبة التي ستنخرط حتما في دورة الملك الذي ما أن يصل ذروته حتي يبدأ بالهبوط والانحدار الناتج عن فساد يولده الترف والدعة. في تلك الأثناء تكون عصبية أخري ترقب الانحدار لتتلقف راية الرياسة، وتصعد لتأخذ مكانها في دورة التدافع التي تتابع الدوران. يتفق ويختلف الباحثون المساهمون في الكتاب مع ابن خلدون في بعض الجوانب من نظريته، لكنهم لا يستطيعون إغفالها، خصوصا في الفصل الذي كتبه بيير بونت حول «القبائل والدول: ابن خلدون والأنثروبولوجية المعاصرة»، فهو يدرس دورات قيام الدول والتحالفات القبلية وأثرها علي القبيلة والدولة. ولكن ما هي دلالة فكر ابن خلدون فيما يخص دراسة القبيلة والسلطة؟ وهل يمكن لقراءات وتفسيرات الاجتماع البشري في القرن الثالث عشر والرابع عشر أن تفسر واقع الاجتماع البشري الحديث أو المعاصر؟ دلالة النموذج التفسيري الخلدوني هي في الاستمرارية التاريخية لظاهرة القبيلة كأحد ظواهر الاجتماع البشري. فالدولة الحديثة في المنطقة لم تنشأ إلا في بداية القرن العشرين مع الإصلاحات العثمانية، وإصلاحات محمد علي باشا، والثورة الدستورية في إيران (المشروطية). قبل ذلك كان هناك استمرارية تاريخية للتوازن بين القبائل وبين الدولة، وتعرف هذه الحالة في المغرب بالدولة «المخزن». وقد لاحظت دورة الاجتماع الخلدونية أن قبائل البدو تتضامن وتكوّن كل ثلاثة أجيال قوة عسكرية هامة تقتحم المدن لتؤسس دولة، تدوم بدورها لثلاثة أجيال، ثم تتحلل الأواصر بين الغزاة، لتضعف شوكتهم، ثم تتفكك تحت ضغط تحالف بدوي (قبلي) جديد أكثر التحاما. لكن العثمانيين كسروا الدورة الخلدونية عندما دخلوا عصر البارود والمدفعية، وغيروا علاقات القوي بين المدينة والقبيلة لصالح الدولة (الإمبراطورية). فالتحول الأهم في العهد العثماني هو انقطاع صيرورة الصراع بين البداوة والمدينة التي هي أساس النظرية الخلدونية، وانكسار الدورة الخلدونية؛ إذ كانت أي مدينة محصنة بأسوارها وقلاعها ومدافعها الموجهة من فتحات الأسوار قادرة غالبا علي صد هجمات البدو. يؤكد هذا الانكسار في الدولة الخلدونية إخفاق عدد من محاولات الانسلاخ عن الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، وكانت تلك المحاولات قائمة علي عصبيات وتحالفات قبلية، كإمارة الشيخ ضاهر العمر في إقليم عكا، وإمارة فخرالدين المعني الثاني في جبل لبنان، والدولة السعودية الأولي في نجد، وإمارة الشيخ صفوق بن فارس الشمري في عراق منتصف القرن التاسع عشر. وكانت آخرها إمارة الشيخ خزعل في الأهواز جنوب غرب إيران والتي انتهت بهزيمته أمام رضا شاه ونفيه من الأهواز. كذلك، يتناول بيير بونت جانبا جديدا وهاما. فالدارس لابن خلدون يجد تفسيرات لتماسك القبيلة وعدم تماسك المدينة، وكيف أن القبيلة تنتقل إلي المدينة وتسيطر عليها، ثم يبدأ الانحلال وغيره من مناحي الضعف. غير أن بيير بونت يدرس البنية الهرمية التراتبية داخل القبيلة وفيما بين القبائل التي تنشأ منها الزعامة؛ فهي ليست بنية مستقرة، بل هي بنية احتراب وصراع داخل القبيلة، لا يقل حدة عن الصراع بينه وبين القبائل الأخري، وعلي الأخص الصراع بين البيوتات القوية علي الزعامة، وكذلك داخل البيت المتزعم، لأنه لا يوجد نظام ثابت لتوارث الزعامة. فعندما يموت شيخ القبيلة يرثه أبناؤه أو إخوته أو أبناء إخوته، فالوراثة إما أن تكون أفقية أو عمودية. وهنا ينشأ الصراع بين خطوط الوراثة (بين الأبناء والأعمام) أو داخل كل خط (فيما بين الأبناء أو بين الإخوة)، وهي مسألة مهمة يعالجها بيير بونت. الإدارة البريطانية والقبيلة في الفصل الذي كتبه توبي دودج عن أثر الاستعمار البريطاني وعلاقته مع القبيلة، يعرض دودج لرؤية حنا بطاطو حول أن الاستعمار البريطاني أنقذ القبيلة من انحدار كان شبه حتمي، وأنه حاول استغلال شيوخ القبائل حتي يساعدوه في إدارة العراق كقوة إدارة محلية، وبهذه العملية هو أنقذها من انحلال كان متوقعا بسبب دخول الحداثة وفعاليات عملية التحديث. كانت رؤية حنا بطاطو حول علاقة الإدارة البريطانية بالقبائل قد لقيت قبولا أكاديميا واسعا لعقود طويلة، إلا أنه بعد صدور دراسات كثيرة حول التاريخ الاجتماعي للعراق، احتاجت هذه الرؤية إلي تعديل. كان حنا بطاطو يعتقد أن العثمانيين في عهد التنظيمات وفي سياق سعيهم نحو بناء إدارة مركزية، كانوا يدمرون الرؤساء والزعامات، ويفتتون القبائل. وعلي العكس من السياسات العثمانية السابقة علي التنظيمات، كانت الأخيرة تعتمد الحكم المباشر، ولا تؤمن بتفويض وسطاء من القبائل والزعماء المحليين للاعتماد عليهم في إدارة المناطق. ولهذا فقد كانت علاقتهم عدائية مع القبائل، بل تعرضت القبائل والقبلية بشكل عام لانتكاسات متوالية في العهد العثماني بسبب مركزية السياسة والتحديث القسري والفوقي الذي فرضه الباب العالي علي أكثر من مجال من مجالات الحياة. لكن البريطانيين لم يوقفوا تفتت القبائل، بل أوقفوا تدمير شيوخ القبائل. استخدمت الإدارة البريطانية في العراق الشيوخ لثلاثة أسباب. السبب الأول هو عدم ثقتها بالمدن ورغبتها في إيجاد توازن «بريطاني» بين القبيلة والمدينة. السبب الثاني أن السير بيرسي كوكس (المعتمد البريطاني في الخليج) أقام عام 1916 نظاما سماه «قانون فض المنازعات» الذي أسس شيوخ القبائل باعتبارهم شرطة وجهازا عدليا (قضائيا)، ولأول مرة أصبح لشيخ القبيلة قوة شرطة مسلحة خارج إطار القبيلة، وتخضع القبيلة نفسها. يعني تحول شيخ القبيلة إلي شرطي وإلي جهاز عدلي، فهذه كانت سيطرة قليلة التكلفة. السبب الثالث هو تحول شيوخ القبائل إلي إقطاعيين، واستمرت عملية تفتت القبائل، لم توقفها ترتيبات إعادة تأهيل الشيوخ التي لم تشمل القبائل. فالشيوخ تحولوا إلي إقطاعيين وكبار ملاك، بينما تحول أبناء القبائل إلي فلاحين أقنان عندهم. أدي ذلك إلي هروب الفلاحين من الأرض، وتفاقمت بالتالي عملية تفتت القبائل؛ فلم توقفها إجراءات الإدارة البريطانية، بل عززتها. كان الاختلاف بين السياستين البريطانية والعثمانية هو أن بريطانيا أنقذت شيوخ القبائل بتحويلهم إلي ملاك وإقطاعيين. جاءت مغالطة بطاطو حول هذه المسألة من قياسه علي الحالة الكردية، فقد كان الضباط البريطانيون يتصلون ببعض القري الكردية ويسألونهم إلي أي عشيرة ينتمون. فإذا أخبرهم الفلاحون أنهم لا ينتمون إلي عشائر، قال البريطانيون لا بد لكم من الانتماء إلي عشائر. لكن الحقيقة أن هناك نوعين من التنظيم الاجتماعي في المنطقة الكردية: مجتمعات زراعية (فلاحية) في القري، وقبائل. وثمة دراسات كثيرة حول هذه القضية. لكن هذا المسئول البريطاني لم يكن يعلم أنه في بعض المناطق لا توجد قبائل بالأساس، ولم يكن الموقف تعبيرا عن دعم بريطاني للقبلية. لم يقتصر الموقف البريطاني من القبائل في العراق علي التوظيف الإداري لشيوخ القبائل، بل كان جزءا من رؤية داروينية أوسع لفكرة الارتقاء التي تري أن انضباط القبيلة ودخولها في طاعة الامبراطورية يؤهلها للعب دور قيادي في الانتقال بالمجتمعات التقليدية والبسيطة من البدائية إلي «الحضارة» والحداثة. عبّر عن ذلك اللورد لوغارد، أحد رجالات الإدارة الاستعمارية، الذي رأي أن الشعوب «البدائية» - خصوصا الأفريقية منها- لا بد لها من الارتقاء وفقا لمسار معين ينقلها بالتدريج وعبر مراحل انتقالية من التخلف إلي الحضارة. وكان ينظر إلي القبيلة كمجتمع أبوي قسري علي أنها إحدي المراحل الانتقالية بين البدائية والحضارة. ولذا، فإن تأهيل الإدارة البريطانية لشيوخ القبائل والاعتراف بسلطتهم وتوظيفهم في ضبط أوضاع قبائلهم هو من وجهة نظره يقرب القبيلة خطوة واسعة من التحضر بعيدا عن البدائية. تفسر هذه الرؤية الداروينية سبب احتقار لوجارد للنخب الأفريقية المتغربة لأن أفرادها «يحرقون» مراحل التطور، ويتجاوزون منحني عملية التغيير بشكل يربكها أو يعرقلها. بينما كان بريطانيون آخرون - مثل جلوب باشا في شرق الأردن- ينظرون إلي القبيلة نظرة رومانسية؛ ويشعرون بالقلق إزاء تراجع الحياة القبلية، ومنظومتها الأبوية، وما تنطوي من نقاء وعفوية وقيم، تفتقدها الحياة الغربية الحديثة. بيد أن السلطات الاستعمارية البريطانية لم تكن -علي أي حال- تثق بالقوي السياسية الوطنية والقومية الحديثة، بل كانت تخشاها؛ فوظفت القبائل كعامل توازن ضد القوي السياسية الحديثة، ونشوء الدولة والقوي السياسية الحديثة. لم يقتصر هذا التوظيف لزعامات القبائل علي الإدارة الاستعمارية فقط، بل إن الدول والحكومات الوطنية فيما بعد استخدمت أيضا القبائل والعصبيات القبلية والإثنية ضد القوي السياسية الحديثة، واستمر ذلك إلي عهد البعث. لكن في عراق منتصف القرن العشرين، نري أن تطور ونضوج الحركات السياسية قلل من أهمية القبلية والإثنية. وفي العهد الجمهوري (عهد عبد الكريم قاسم) مثلا، أدي نظام الإصلاح الزراعي إلي إضعاف القبائل والقبلية بصورة عامة، ولكنها عادت بعد زوال نظام قاسم وصعود البعث إلي السلطة في 1968، رغم أن الأيديولوجية القومية (الحديثة) في مراحلها المبكرة والتي انبثق عنها البعث كانت مضادة للقبلية؛ فتماسك الوطن والشعب والأمة يجب أن يكون علي أساس المواطنة والانتماء العام، وليس علي أساس القبلية. الدولة العراقية الحديثة ومسألة السلطة والقبيلة يتناول جزء الكتاب - الذي هو بعنوان «التوليتارية والقبلية»- علاقة السلطة البعثية بالقبائل في العراق تحديدا كحالة دراسية، وكيف تمت «بعثنة» القبيلة أو تحزيب القبيلة بعثيا، وفي الوقت ذاته اتخذت السلطة طابعا قبليا. وهذا الموضوع هو محور الكتاب بدون شك لأنه يركز علي علاقة القبيلة والسلطة في العراق الحديث. ففي الفصل المعنون «شيوخ وأيديولوجيون»، ويتناول تفكيك وإعادة تركيب القبائل العراقية تحت توتاليتارية البعث «الأبوية»، يقدم فالح عبد الجبار تقسيما وظيفيا لأنماط القبلية. فهناك «القبلية الثقافية» Cultural Tribalism وتعبر عن شبكات قرابة قوية أو أيديولوجيا قرابة قوية، وعن قيم ومنظومات ثقافية دون أن يوجد وراءها تنظيم قبلي كلاسيكي كما هو في السابق. فهي قبيلة أصبح جزء منها مزارعين، وآخر لا زال في البادية، وآخر انتقل إلي الاستقرار في المدن ولا يرتبطون ببنية قبلية محددة، بل تربطهم بعض عهود وعلاقات تراحم وتكافل في أمور الزواج والوفاة والقضايا والوساطات. وهذه القبلية نراها في المدن وهي تتباين وتتفاوت بين حالة (قبيلة) وأخري. رغم أن التناقض بين الخطاب القومي وهو بطبيعته يتسع ويتجاوز القبائل والإثنيات والمناطق وبين الخطاب القبلي الذي هو ضيق وحصري بمجموعة بشرية معينة، استعانت المجموعة البعثية الحاكمة منذ 1968 -بسبب ضعفها ووضعها الأقلوي داخل حزب البعث- بأفراد قبيلتها لملء المناصب الحساسة في الجيش والأجهزة الأمنية؛ فسميت هذه الحالة «قبلنة» الدولة Tribalization of State أو قبلية «حكومية» Etatized Tribalismأي أن الدولة صارت محاطة بشبكات من القرابة لحمايتها. وعندما استخدمت الأحزاب الكردية القبائل الكردية القوية لأغراض عسكرية، سميت الحالة قبلية عسكرية Military Tribalism لأن الأحزاب الكردية اشترت الخدمات العسكرية للقبائل مما أحيا سلطة القبيلة وليس فقط سلطة زعماء القبائل، وهؤلاء الزعماء تحولوا بدورهم إلي رأسماليين كبار يملكون مشروعات صناعية وفنادق وعمارات بفضل هذه التحولات. أما القبلية «الاجتماعية» في الجنوب، فهي تعبير عن حالة المهاجرين من الريف للمدينة وما بينهم من تضامن وتكافل. فنتيجة لتدمير أو إضعاف منظومات المجتمع الأهلي التي هي شكل التعبير عن انتماء الفرد إلي مجموعة أو أمة أو طبقة، نشأ فراغ بين الدولة والفرد. وهذا الفراغ ملأته شبكات التضامن الأسرية ومنها القبلية فهي قبلية «اجتماعية». الدور السياسي للقبائل العربية غابت صورة القبيلة في بلدان عربية أخري كاليمن أو الأردن عن الكتاب، وهذا أحد أوجه النقد الذي يوجه للكتاب؛ فدراسة القبيلة في هذه البلاد تساعد علي الوصول إلي مقارنات واكتشاف خطوط التوازي والتباين مع ما حدث للقبيلة في العراق والجزيرة العربية والمغرب. فالقبلية في اليمن والأردن لها أوضاع رسمية أكثر في السياسة وفي ترتيب الدولة، خاصة في اليمن. وتطور المجتمع والاقتصاد والدولة في اليمن يختلف عنه في البلاد العربية الأخري مثل مصر. لذلك استمرت أهمية القبيلة، كما استمر التنظيم الاقتصادي والتاريخي لبعض القبائل. ولازال النظام العسكري للدولة يتداخل مع العصبيات القبلية. لذلك تتجاوز أهمية القبيلة والقبلية في اليمن تلك الأهمية في بلاد العرب الأخري. أما في الأردن، فالقبيلة لها دور سياسي مباشر ينعكس علي أي انتخابات عامة والتي عادة ما تكون مسبوقة بانتخابات داخل القبيلة، والتي ترشح بدورها من يمثلها في الانتخابات البرلمانية أو البلدية. وهذا بدوره يكرس شرعية القبيلة أو الوضع الرسمي للقبلية في الأردن، مع اختلاف الحالة هناك عنها في اليمن. أما في العراق، فقد ضعفت القبلية حوالي منتصف القرن العشرين، ثم قويت واستعادت عافيتها مرة أخري بعد توظيفها من قبل حكومة البعث. وفي آخر عهدها استخدمت حكومة البعث القبائل لتقوية السيطرة الاجتماعية للدولة، فقد ضعفت آليات الدولة في الأقاليم والمناطق مما فتح المجال لانبعاث دور القبائل فيها. في دراسته للقبلية والدولة في العراق، يسجل كايكو ساكاي ملاحظاته حول دور القبلية في الجيش والوزارات والبرلمان في الحالة العراقية. ما يلفت النظر هو ذلك التناقض الذي يبدو أحيانا في توجهات حزب البعث الحاكم نحو القبلية. فمن ناحية، قامت حكومة الحزب بشطب اسم الأسرة أو العشيرة أو الناحية من أسماء الأشخاص ربما لصرف النظر عن الصبغة القبلية لأفراد النظام ذاته أو لمصادرة الشعور بالانتماء والقرابة والتضامن والتعارف بين أبناء القبائل الأخري المنافسة. من ناحية أخري، أدت سياسات النظام إلي انبعاث دور القبيلة في العراق بعد ذبول وانكفاء طويل، كما أدت إلي اعتماد الجيش للتشكيلات القبلية. فما لا يقل عن ثلث القيادات العسكرية الرفيعة من مستوي قيادة الفرق فما فوق، ونخب رجال الأعمال الذين أثروا خلال عهد البعث، وقيادات بعض المؤسسات الأمنية الحساسة تنتمي في معظمها إلي قبيلة أو قبيلتين؛ والسبب الأساسي وراء ذلك هو إضفاء عامل التلاحم علي النخبة الحاكمة. تسببت السياسات القبلية للبعث، والانتقال من الخطاب القومي الموجه للأمة إلي الخطاب القبلي الضيق إلي مأزق أيديولوجي حاول بعض الأيديولوجيين في حزب البعث حله حلا براجماتيا لتسويق القبلية في المجتمع العراقي باعتبار أن القبيلة التي تقوم بنيتها علي القرابة ونقاء النسب هي وحدة بنائية تمتد كلبنة او مكوّن داخل العائلة العربية الكبري. وبذلك، لا يكون هناك تناقض بين أيديولوجية البعث القومية التي تقوم علي فكرة الدولة وبين أيديولوجية القبيلة التي تقوم علي النسب والقرابة؛ مع أن ساطع الحصري وميشيل عفلق أقاما مفهوم الأمة بشكل أساسي علي الرابط اللساني والتاريخ المشترك وليس علي رابطة العرق أو النسب. القبيلة في المغرب في الفصل الذي كتبه كنيث براون حول «الدولة والقبيلة في المغرب»، يتناول براون علاقة القبائل المغربية والصحراوية بالدولة المغربية أو «المخزن» كما هي التسمية التاريخية المعروفة. كذلك، يرصد الباحث التحولات الديمجرافية المتسارعة بين الريف والمدن. فمع مطلع القرن العشرين، بلغ سكان الريف والصحراء في المغرب ضعف سكان المدن تقريبا. لكن لدي الوصول إلي عقد التسعينيات الماضية، أصبحت نسبة سكان الريف والصحراء حوالي 40% من عدد سكان البلاد. أدي ذلك لا محالة إلي ضعف أوضاع القبائل في المغرب، ويسر للحكومة المركزية السيطرة علي البلاد في عهد الاستقلال. لم تشهد مناطق القبائل أي تحركات أو انتفاضات ضد الدولة منذ نهاية السبعينيات الماضية، مما يؤشر علي قدرة الدولة المركزية علي إحكام السيطرة وتصفية مراكز القوي القبلية التي يمكن أن تشكل تحديا لها منذ بداية الثمانينيات الماضية. وإضافة إلي ذلك، تمكنت الدولة من حيازة كافة الأدوات والوسائل التي تكفل لها تشكيل التوجهات والأوضاع القبلية، بما يضمن لها سيطرة شبه تامة علي هذه الأوضاع. ورغم أن القبيلة المغربية لا زالت تحتفظ ببعض خصائصها ووظائفها التاريخية كثقافتها التي تميزها عن غيرها من التشكيلات الاجتماعية، وتقاليدها التي تستقطب ولاء أفرادها، وسدنتها لمقامات بعض الأولياء، فإن قوتها السياسية قد اضمحلت إلي حد كبير. يشكك براون في الرؤية التقليدية السائدة حول القبيلة باعتبارها وحدة إثنية وتاريخية، بل قد تكون وحدة قبلية جهوية أو جغرافية، حيث تقدم روابط الجوار والسكني للقاطنين في تلك المناطق أساسا للانتماء والرابطة القبلية. وبناء علي ذلك، تصبح القبيلة مركبا اجتماعيا معقدا، تدخل فيه مكوناته البشرية بشكل طوعي، وتمارس القبيلة سلطتها وتقاليدها علي هذه المكونات كما تضفي عليها حمايتها. يتفق براون مع ملاحظة إدوارد كونت (مؤلف الفصل الأول) أن القبلية هناك ليست بالضرورة علاقة دم أو علاقة قرابة عن طريق الأب، إذ تخضع هذه المسألة لتداخلات وتشابكات من ناحية النسب، وكثيرا ما آلت زعامة بعض القبائل إلي عائلات من الأشراف الهاشميين لا تنتسب بقرابة الدم إلي القبائل ذاتها. بل إن شرعية العرش المغربي نفسها تستمد من النسب الهاشمي الفاطمي للأسرة العلوية المغربية المالكة. والحقيقة أن هذه الملاحظة قد تصدق أيضا في المشرق، فقد اختارت قبائل شمر في القرن السادس عشر الشيخ سالم بن الشريف محمد بن بركات (الجربا) زعيما لها، وظلت زعامة شمر في ذريته إلي اليوم، ويقال كذلك أن زعامة قبيلة مطير من آل الدويش هم أصلا من الأشراف الهاشميين. وهناك أمثلة أخري علي ذلك. والواقع أن أيديولوجية القرابة لا تتفق دائما أو بالضرورة مع الأوضاع القائمة علي الأرض، وكثيرا ما تكون للقبائل رؤية استراتيجية وخطط مترتبة عليها، مما ينعكس في تقاليد ومرويات شفهية حول أنساب وقرابات افتراضية (غير حقيقية)، لكنها ضرورية لترتيب الأوضاع الاستراتيجية والمعيشية للقبيلة. فهي إذن حالة رمزية تعبر عن أوضاع بنيوية وإشكالات استراتيجية. ورغم تشابه ثورة القبيلة والأيديولوجية القبلية في المشرق والمغرب، يختلف التشكيل الاجتماعي للقبيلة في المغرب عنه في المشرق، خصوصا من ناحية علاقة القبيلة بالطرق الصوفية. وهي مسألة موجودة في قبائل كردستان ولكن بترتيب مختلف. قانون الانتخاب العصبوي في الفصل الذي كتبته مضاوي الرشيد حول «الكونفدراليات والإمارات القبلية في الجزيرة العربية»، تحاول المؤلفة أن ترصد تطور علاقة السلطة والقبيلة في الجزيرة العربية، وتتابع نشوء إمارات آل الرشيد وآل سعود وعلاقة كل منهما بالقبائل الأخري. فقد سيطرت اتحادات القبائل العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر علي مناطق البدو الرحل الشاسعة بينما سيطرت إمارات صغيرة علي الواحات ومناطق استقرار القبائل في نجد والحجاز والإحساء وعسير. أدت التغيرات المستمرة في ولاءات وتحالفات القبائل وتبدل المصالح وأنماط الاقتصاد إلي تغيرات مقابلة (مناظرة) في سلطة ونفوذ الإمارات المستقلة. ومن ناحية أخري، كان ازدياد قوة ونفوذ تلك الإمارات تنعكس علي قدرتها علي المناورة والتلاعب بالتحالفات والاتحادات القائمة بين القبائل. استمرت هذه الحركية كأحد أهم العوامل المؤثرة في العلاقة بين القبيلة والسلطة في الجزيرة العربية حتي قيام المملكة العربية السعودية عام 1932. وكثيرا ما تستدعي الباحثة مقولات ابن خلدون، فتناقشه وتخالفه في مسألة الأيديولوجية والعصبية الدينية. فهي لا تري أن ثنائية العصبية القبلية والشرعية (الدعوة) الدينية شرطا حتميا لقيام الملك أو الرياسة في حالة إمارات الجزيرة العربية. فقد قامت إمارات تتمتع بأحد طرفي الثنائية دون الآخر، كإمارة آل الرشيد -التي تحققت بالعصبية القبلية دون الدعوة الدينية- في حائل (1835-1921)، أو إمارة آل سعود في الدرعية (1744- 1818)، والتي غلبت شرعيتها الدينية علي عصبيتها القبلية. ولكن ثنائية العصبية القبلية والدعوة الدينية تبقي ذات دلالة في فهم آليات وحركيات قيام الإمارات ذات الأساس القبلي واندحارها. فهل كان لدعوة ابن سعود الدينية دور في رفع قدرته علي الحشد وإيقاع الهزيمة بآل الرشيد الذين افتقدوا الأيديولوجية الدينية. وهل أدي افتقاد آل الرشيد لنظام توريث مستقر -وهو إخفاق في تنظيم واستدامة العصبية القبلية- إلي حدوث فراغ سياسي وقيادي في إمارة آل الرشيد بحائل، فاقمه الصراع داخل آل الرشيد علي زعامة الإمارة، مما أتاح لابن سعود فرصة الانقضاض عليها وإنهاء ملك آل الرشيد؟ تؤشر هذه الدراسة وغيرها إلي أنه من رحم القبيلة تنشأ الدولة، أي الدولة السلالية (الوراثية) بالتحديد، وليست الدولة الحديثة، بدليل نشوء إمارة شمّر في جبل شمر ونشوء إمارة آل سعود في الدرعية وجوارها قبل أن تتوسع لتصبح مملكة فيما بعد. وهي تشير إلي قانون الانتخاب العصبوي داخل القبيلة؛ فأقوي شخص في أقوي بيت لأقوي فخذ لأقوي عشيرة هو الذي يؤسس إمارة. وعندما تنشأ أكثر من إمارة، فإن أقوي إمارة هي التي تصنع دولة حديثة. وهي تلاحظ بحق أن الفرق بين تنظيم القبيلة التقليدي وتنظيم القبيلة التي تتحول إلي إمارة يتجلي في تشكيل وتنظيم القوة المسلحة. فالانخراط في القوة العسكرية للقبيلة هو حالة طوعية، لكنها لم تعد مسألة طوعية في القبيلة التي تحولت إلي إمارة. بل تصبح القوة العسكرية للإمارة منفصلة عن القبيلة، ويضاف إلها عبيد كالذين استحضروا من بلاد الحبشة وبلاد القوقاز إلي إمارة آل الرشيد، وبعض هؤلاء العبيد يرضعونهم مع أبناء الشيخ حتي يصبحوا أخوة لأولاده بالرضاعة، أخوة رمزية بالطبع، ويصبحون قوة مسلحة لإخضاع القبائل الأخري ولإخضاع قبيلتهم. لذلك، تقول الخبرة العربية (القبلية) أن »الإمارة سيف ومنسف»؛ فالسيف هو رمز القوة، والمنسف -الذي هو اللحم والثريد- رمز الكرم والمشاركة الاقتصادية. وهذا التحليل يشير أيضا إلي نموذجين تفسيريين: النمط الخلدوني البسيط والنمط الخلدوني المركب، لقبيلة تعتمد علي أيديولوجيا القرابة، وإمارة تعرض الأمن كسلعة بين القبائل، فتصبح بدورها وسيطا. الخبرة القبلية في إيران وكردستان يرسم الفصل الذي كتبه فاريان صباحي حول «برنامج الخيمة البيضاء في إيران»، بعض المتوازيات؛ إذ يتناول القبيلة في الحالة الإيرانية، ويناقش برنامج تأهيل وتعليم البدو (الخيمة البيضاء) ونقلهم من البداوة إلي التحضر. من المفارقات أن هؤلاء البدو الذين تعلموا وتحضروا ما بين انهيار حكومة مصدق عام 1953 وسقوط نظام الشاه عام 1979، التحق كثير منهم بثورة الخميني الإسلامية ضد النظام ذاته الذي قاد عملية تأهيل وتحضير البدو. كان هؤلاء من البدو المهاجرين للمدن. وهناك في المدينة تعلموا، واتسعت آفاقهم، وعلت توقعاتهم، ولكنهم لم يجدوا أعمالا، فأقاموا إخوانيات أو تعاونيات لم تهتم بها الدولة، واهتم بها رجال الدين الذين قدموا لها المساعدات الغذائية والاجتماعية، فالتحقوا بهم. وفي غياب الأحزاب والمؤسسات الدينية الحديثة، أصبح هؤلاء المهاجرون موالين للقوي الدينية. فكأنما هي صيرورة التحديث الذي يستتبع عمليات ونتائج تاريخية معاكسة تضاد أهداف وغايات القائمين عليه في المقام الأول. وهي ظاهرة تاريخية عامة تنطبق علي أكثر من بيئة وتجربة. فهناك عدد من الدول التي أطلقت مشروعات تعليم وتحديث واسعة أملا في تسريع معدلات التقدم وفي كسب دعم الشعب، ومن ثم الاستقرار السياسي. ولكن التعليم وما يستتبعه من تنوير وتوسع الآفاق الفكرية والثقافية للناس يطلق قدرا هائلا من التوقعات العالية، ويؤدي إلي مناخ خصب لأفكار التغيير والمعارضة وتجاوز الأنظمة القائمة. وربما ينطبق هذا المثال علي بعض دول الخليج الحالية، فالطفرة النفطية ووفرة الموارد ورأس المال أتاحت الفرصة لإطلاق عمليات تعليم وتحديث كثيفة، علمت أجيال جديدة علي نطاق واسع، وأزالت الحواجز بين هذه الأجيال وبين العالم الحديث، بكل ما ينطوي عليه ذلك من مؤثرات وتحديات شكلت وعي الأجيال الجديدة واستثارت فيها استجابات متعددة. وقد تفسر هذه التجارب بعض ما تشهده منطقة الخليج من توجهات راديكالية واندلاع لموجة العنف ضد الغرب، وخاصة الولايات المتحدة. كذلك، تطرح هذه الظاهرة تساؤلات كبيرة حول صوابية التشخيص الأميركي لأسباب تصاعد العنف والرفض ضد الولايات المتحدة لدي قطاع من الأجيال الشابة في منطقة الخليج، والتي بلغت ذروتها بهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. فقد ظنت الرؤية الأميركية الرسمية أن تلك الهجمات وما وراءها من تطرف وعنف هو نتاج لثقافة تعصب وانغلاق وعزلة عن فكر وقيم الحداثة وواقع الحضارة العالمية المعاصرة. لذلك، قامت الإدارة الأميركية بترويج بعض المبادرات للإصلاح الديمقراطي والاجتماعي والثقافي في الشرق الأوسط، ولا تخفي نيتها أو رغبتها في تغيير المناهج التعليمية وإحداث انقطاع مع الموروث الديني والثقافي من أجل مزيد من التحديث والعصرنة، كما لا تخفي استعدادها لتغيير الأنظمة التقليدية في المنطقة، إذا أمكنها ذلك. اللافت هنا أن الموروث الثقافي والديني الذي يلقي عليه بلائمة العنف والتطرف استمر سائدا عقودا أو قرونا، قبل برامج التعليم وعمليات التحديث الواسعة التي شهدتها المنطقة في العقدين الماضيين، بدون أن يسبب أي توجهات راديكالية أو يولد عنفا، خاصة إزاء الغرب. لذلك، قد لا تؤدي إزاحة الموروث القديم ورفع وتيرة ومعدلات التحديث وإسقاط منظومة القيم والأفكار المحافظة إلا إلي مزيد من الراديكالية والرفض والعنف العدمي! مسألة السلطة والقبيلة في كردستان يتناولها مارتن فان برونيسين في فصل حول «الأكراد والدول والقبائل»، ويركز علي صلابة القبيلة الكردية التي تعرضت لمحاولات تفتيت مختلفة في تركيا وإيران والعراق. ومع ذلك تعيد القبيلة الكردية إنتاج نفسها وإثبات فعاليتها. فتنظيم القبيلة الكردية يختلف في بعض جوانبه عن تنظيم القبيلة العربية التي لا يجمع فيها شيخ القبيلة بين وظيفة دينية وأخري دنيوية، كما هو الحال في كردستان. كما تحولت قبائل كردية بأكملها إلي زعماء (أغوات)، فهم يسيطرون علي إقليم من ثمانمائة قرية ويتقاسمون عائلاتها، فليس هناك مجتمع زراعي خارج نطاق القبائل في كردستان. وهذا ليس له نظير في القبائل العربية إلا في حالة شيوخ جنوب العراق الذين تحولوا إلي إقطاعيين وأصبح أفراد قبيلتهم فلاحين في الأرض. وبسبب وعورة المنطقة الجبلية في كردستان، لم تتمكن الطرق الحديثة ونظم الاتصال من اختراق المنطقة بسرعة، مما تسبب في عزل قبائل كردستان عن مؤثرات وأفكار وتيارات المجال المحيط بهم. لذلك، كانت هناك مناطق عديدة في كردستان لم يطبق فيها الإصلاح الزراعي الذي قوض سلطة شيوخ القبائل الإقطاعيين في جنوب ووسط العراق، لكنه بالكاد مس هذه الطبقة في كردستان. فقد كان الأغوات الإقطاعيون في كردستان أقوياء ومتنفذين جدا، لا يجرؤ أحد علي التقدم لأخذ أراضيهم، أو كانوا دهاة جدا إذ وظفوا مبدأ التفاوض. فتفاوضوا مع فلاحيهم ومع أحزاب يسارية في المنطقة، وعطلوا الإصلاح الزراعي من خلال عملية التفاوض وتقديم بعض التنازلات وتوزيع بعض المكاسب. خاتمة وبعد قرن من المخاض الذي شهده المشرق العربي الإسلامي، وما مر علي المنطقة من تيارات واوضاع ومتغيرات سياسية واجتماعية وأيديولوجية، أخفقت الدولة القومية الحديثة في خلق بديل عن القبيلة وما تمثله من قيم تقليدية في الانتماء والعصبية والتضامن، ونسيج اجتماعي كثيف، وفضاء للحراك والتفاعل الاجتماعي؛ وهي الوسائط التي لا يستطيع الفرد أن يعيش أو يتفاعل خارجها مجردا من معني الهوية وقاعدة الإسناد. فأساس البناء الاجتماعي الذي تستند إليه الدولة الحديثة هو مبدأ المواطنة الذي يفترض فيه أن يقيم هوية وانتماء وطنيا يعلو علي ما سواه من انتماءات جهوية أو إثنية أو ثقافية أو غيرها، لكن القهر والقمع والتسلط الذي جاءت به الدولة الشمولية المتسلطة (الحديثة) بدد أية أوهام حول إمكانية أن يسود مفهوم المواطنة بديلا عن غيره من الانتماءات، أو أن تصبح الدولة الحديثة هي المشترك الذي يجمع الإثنيات والهويات المختلفة. بل إن التسلط والقمع قد أدي إلي اضمحلال المجتمع الأهلي (التقليدي) من أوقاف ونقابات وطرق صوفية ومؤسسات ثقافية وأدبية ومشروعات خيرية وروابط اجتماعية، فلم يبق من ملاذ للأفراد والمجموعات أمام تغّول الدولة إلا العودة إلي أكناف القبيلة أو العشيرة أو العائلة، وما توفره هذه الكيانات من حماية وعصبية وانتماء. فممارسات الدولة الشمولية هي التي أدت بشكل غير مباشر إلي إعادة الحيوية للقبيلة. وإذا كان للكائنات العضوية دورة حياة تبدأ بالميلاد وتنتهي بالوفاة مرورا بالطفولة والشباب والهرم، فإن الكيانات والتشكلات والظواهر الإثنية والاجتماعية والثقافية هي حالة تاريخية لا تموت عضويا. وهي قد تضعف أو تذوي أو تتكيف مع بعض الظروف غير المواتية أو تصبح في حالة كمون بانتظار انفراج تاريخي يعيد لها حيويتها وسيرورتها، ويمنحها دورها وصيرورتها. تبقي القبيلة وكأنها الثابت الوحيد الذي يطوي المتغيرات السياسية والأيديولوجية والأنظمة والنخب والظواهر في المشرق العربي الإسلامي.
بعد مرور عقود طويلة علي تأسس الدولة الحديثة في الشرق الأوسط، أثبتت القبيلة أنها عصية علي الاقتلاع، وأنها ما زالت حجر الأساس في كثير من البلدان
كان بريطانيون آخرون مثل جلوب باشا ينظرون إلي القبيلة نظرة رومانسية؛ ويشعرون بالقلق إزاء تراجع الحياة القبلية، وما تنطوي من نقاء وعفوية، تفتقدها الحياة الغربية الحديثة
ما لا يقل عن ثلث القيادات العسكرية الرفيعة، ونخب رجال الأعمال الذين أثروا خلال عهد البعث بالعراق، وقيادات بعض المؤسسات الأمنية الحساسة، تنتمي في معظمها إلي قبيلة أو قبيلتين
تقول الخبرة العربية (القبلية) أن «الإمارة سيف ومنسف». فالسيف هو رمز القوة، والمنسف الذي هو اللحم والثريد رمز الكرم والمشاركة الاقتصادية
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة