إسرائيـل .. الجـيش يصمم دولة!



(هزة أرضية) تعرضت لها المؤسستان السياسية والأمنية في «إسرائيل» مؤخراً، إثر الصرخة العفوية التي أطلقها أحد جنرالات الجيش والتي دعا فيها الي وضع حد لانفراد المؤسسة الأمنية باحتكار التأثير علي مجريات الأمور في الدولة العبرية. وقد دلت تصريحات الجنرال اسحاق هارئيل، رئيس شعبة التخطيط في الجيش علي ما بات يدركه كل من يتتبع مسار الأحداث والتطورات في الدولة العبرية من أن «الجيش هو الذي يصمم الدولة». تصريحات هارئيل الصاعقة وغير المسبوقة كرست مثالاً آخر علي هشاشة «الديموقراطية»، الإسرائيلية، فلا يختلف اثنان علي أن أحد أهم معالم الديموقراطية في أي نظام سياسي، هو ان ينقاد الجيش والمؤسسة الأمنية في ذلك النظام إلي الحكومات المفروزة انتخابياً، بحيث يكون الجيش هو منفذ السياسات التي ترسمها الحكومات. لكن عندما يتحول الجيش إلي مبلور السياسات ومنفذها في آن معاً، فإنه لا يمكن توصيف هذا النظام بـ «الديموقراطي». ونحن هنا بصدد اختبار «ديموقراطية» النظام السياسي في إسرائيل، وفق الاعتبار آنف الذكر. حسب كثير من الشواهد فإنه يمكن القول إن المؤسسة الأمنية في الدولة العبرية لا تقرر فقط السياسات وتنفذها، بل إنها ترفض في كثير من الأحيان تطبيق التعليمات المباشرة، الصادرة عن الحكومة، بشكل فج، ناهيك عن احتكار التأثير علي دوائر صنع القرار السياسي في الدولة، فضلا عن رفضها أن يكون لأي إطار مدني تأثير علي المستوي السياسي الحاكم. إلي جانب ذلك فإن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تلعب دوراً واضحاً وجلياً في الشئون الداخلية للأحزاب السياسية، بما يتناسب مع تطلعات قادتها المستقبلية. ونحن هنا بصدد التدليل علي ما تقدم. في أواخر العام 1998، طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، بنيامين نتنياهو، من هيئة أركان الجيش، تحضير خطة لانسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، بعد أن تعاظمت الدعوات الجماهيرية للانسحاب من المنطقة، إثر الخسائر الفادحة التي كان يتكبدها الجيش. ويكشف الصحافي الإسرائيلي بن كاسبيت النقاب عن أن رئيس الأركان في ذلك الوقت شاؤول موفاز ( وزير الدفاع الحالي )، رفض بإصرار تنفيذ تعليمات نتنياهو، وأصر علي عدم تقديم أي مساعدة له في ذلك السياق، وقد حذر نتنياهو خلفه باراك من أن عليه أن يدفع الجيش للانسحاب من جنوب لبنان بالقوة. باراك وعلي الرغم من معارضة قادة الجيش، نجح في سحب قواته، لأنه سبق له أن ضمن حملته الانتخابية وعداً للجمهور بالانسحاب من هناك. لكن قادة الجيش لم يقفوا مكتوفي الأيدي إثر ما اعتبروه « تجاوزاً لوجودهم»، فردوا لباراك الصاع صاعين، فعندما حاول باراك التفرغ لدفع المفاوضات علي المسار السوري، قام الجنرالات بتسريب وثيقة لقادة المعارضة الليكودية في حينه، أطلق عليها وثيقة «تشاوبر»، تدعي أن باراك يعد لتقديم تنازلات «قاتلة لإسرائيل» في هضبة الجولان. ويتهم يوسي بيلين الذي شغل منصب وزير القضاء في حكومة باراك، صراحة قادة الجيش بتسريب الوثيقة من اجل احراج باراك سياسيا. لكن انتقام الجيش من باراك - الذي تجرأ علي تجاوزهم - لم يعرف حدوداً، فعشية توجهه لحضور مؤتمر «كامب ديفيد»، الذي جمعه مع عرفات والرئيس كلينتون في أواخر العام 1999، للبحث عن حل لقضايا الحل الدائم مع السلطة، رفض الجيش التعاون مجدداً مع باراك، لدرجة أن هيئة أركان الجيش رفضت تزويد براك بخرائط ليحملها معه إلي «كامب ديفيد»، الأمر الذي دفع نائب وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه، افرايم سنيه إلي أن يوجه رسالة تنطوي علي مرارة كبيرة، حيث قال له بالحرف الواحد «العسكريون من رئيس هيئة الأركان وحتي أصغر ضابط لا ينفذون أوامرك وأن كل واحد منهم يفعل ما يحلو له». وعلي الرغم من كل هذا، فقد جبن باراك عن مواجهة قادة الجيش، إذ أن الانتخابات كانت قد اقتربت وخشي أن يؤدي أي خلاف علني من قادة الجيش إلي خسارته الانتخابات. وفي عهد حكومة شارون الأولي، ظل قادة الجيش يرفضون تنفيذ تعليمات الحكومة، فقد تباهي رئيس الأركان موفاز، بأنه أمر باعتقال أمين سر حركة «فتح» في الضفة الغربية مروان البرغوثي، علي الرغم من معارضة الحكومة لذلك. وحسب إقرار وزراء في حكومة شارون، فقد لعب الجيش دوراً بارزاً في إجهاض الهدنة مع الفصائل الفلسطينية التي تبلورت بوساطة مصرية في أواخر حزيران من العام 2003. ويقر وزير البني التحتية الإسرائيلي يوسي بيريتسكي، أن وزراء في الحكومة كانوا يعلمون أن الجيش هو المسئول عن انهيار الهدنة التي منحت إسرائيل 45 يومًا من الهدوء، وهو الذي أحبط حكومة أبو مازن، لكنهم خشوا الاعتراض علي سياسة الجيش. اللافت للنظر أن إدراكاً متزايداً لدي الساسة والنخب المثقفة في إسرائيل أن الكثير من الاعتبارات التي يقدمها الجيش، تنطلق من ثقافة الكذب المستشرية في الأوساط القيادية للجيش والمخابرات، فهاهو عكيفا الدار، كبير معلقي صحيفة الصفوة «هارتس» يقول «قادة المخابرات عندنا يعرفون أن ليس كل الفلسطينيين الذين تمت تصفيتهم بلا محاكمة يستحقون لقب «قنبلة متكتكة». لقد اعتاد هؤلاء القادة علي «تدوير الزوايا» والعيش مع الأكاذيب بسلام». الانفراد بالتأثير إن كانت هناك مؤسسات مدنية في الغرب، تملك قدراً من التأثير علي دوائر صنع القرار الإستراتيجي، مثل مجلس الأمن القومي، ومجلس مستشاري وزارة الدفاع في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن مثل هذه المؤسسات لا يمكنها أن تلعب أي دور في التأثير علي دائرة صنع القرار الإستراتيجي في الدولة العبرية. فهنا تنفرد المؤسسة الأمنية بالمسئولية عن تقديم التقييمات للحكومة التي علي أساسها تتخذ القرارات ذات الطبيعة الإستراتيجية. لذلك فإن المؤسسة الأمنية ليس من حقها فقط رفض تنفيذ سياسات الحكومة بعد إقرارها، بل إن هذه المؤسسة في معظم الأحيان تحتكر التأثير علي الحكومة قبل أن تعلن الأخيرة سياساتها العامة. إعداد التقييمات الإستراتيجية للحكومة الإسرائيلية تقوم به الأجهزة الاستخبارية الثلاثة، وهي: جهاز المخابرات الداخلية «الشاباك»، وشعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، وجهاز «الموساد»، لكن «جهاز أمان»، هو أكثر الأجهزة تأثيراً علي دوائر صنع القرار.وعلي الرغم من انه لا يوجد قانون ملزم لها بذلك، إلا أنه جرت العادة أن تقوم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالتشاور مع جهاز «أمان»، قبل اتخاذ أي قرار ذي طابع استراتيجي، وفي كثير من الأحيان لا تتجرأ الحكومات علي تجاهل توصيات «أمان». والقسم المسئول عن بلورة هذه التقييمات هو مركز الأبحاث الخاص بـ «أمان». وعندما نعرف أن آخر ثلاثة مديرين لقسم الأبحاث في «أمان»، هم من أكثر الجنرالات تطرفاً، وهم الجنرال يعكوف عامي درور، الذي انضم بعد تسريحه من الجيش إلي حزب «المفدال»، الديني الوطني المتطرف، والذي يعتبر الذراع السياسي للمستوطنين، والجنرال عاموس جلعاد، الذي يخرج عن طوره من أجل أن يدلل علي توجهاته اليمينية المتطرفة، والجنرال يوسي باروكروتسفر، وهو جنرال متطرف، عندما نعرف ذلك فإنه لا يمكن توخي أي قدر من المصداقية في التقييمات التي يشرف هؤلاء علي حياكتها. اللافت للنظر أن كثيراً من الساسة والمعلقين حذروا من خطورة إيداع مهمة إعداد التقييمات الإستراتيجية للدولة في أيدي جنرالات معروفين بمواقفهم المتطرفة، حيث ستتأثر تلك التقييمات بالمواقف الأيدلوجية المسبقة لهؤلاء الجنرالات. وقد أطلق وزير التعليم الأسبق يوسي ساريد صرخة مدوية، محذراً من مغبة اعتماد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة علي تقييمات جهاز «أمان»، تحديدا. وأكد ساريد أن قادة هذا الجهاز المتطرفين يعملون دوماً علي «فبركة» التقييمات الإستراتيجية لكي تتلاءم مع مواقفهم الأيدلوجية بدون أي اعتبار للموضوعية. وحتي قيادي بارز في حزب الليكود اليميني من أمثال وزير المالية الأسبق دان مريدور، يحذر من خطورة تعاطي الحكومات الإسرائيلية مع تقييمات «أمان»، كما لو كانت «بقرات مقدسة»، علي حد قوله، مؤكداً أنه بحكم عضويته سابقاً في اللجنة الوزارية المشرفة علي عمل الأجهزة الاستخبارية فقد توصل إلي استنتاج مفاده أن هناك قدراً من التلفيق والتضليل في تقييمات «أمان»، سواء علي مستوي المعلومات، أو علي مستوي تحليلها. ويشير مريدور إلي أن جهاز «أمان»، حرص ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصي علي تحميل عرفات المسئولية عن تفجيرها وتشجيع العمليات ضد الإسرائيليين، لكن المعلومات التي كان يقدمها «أمان» للحكومة، والتي علي أساسها يتم الصاق ذلك الاتهام بعرفات، كانت معلومات متناقضة مع بعضها البعض، وتدفع كل من يطلع عليها إلي التشكيك في صدقيتها، لدرجة أنه من العبث أن تحمل علي محمل الجد. ومع ذلك فإن هناك في إسرائيل شعورًا بالذهول إزاء الدور الذي تلعبه الأجهزة الأمنية في إملاء تقييماتها علي الحكومة، علي الرغم من أن هذه التقييمات في كثير من الأحيان ذات منطلقات أيدلوجية وليست مهنية، كما يؤكد عوزي بنزيمان، احد كبار المعلقين في الدولة العبرية. ويقول بنزيمان «الأيديولوجيا هي العامل الحاسم في تحديد توصيات و مواقف الأجهزة الأمنية وليس الاحتراف المهني». ويعتبر بنزيمان ان الجنرالات « مجرد سياسيين في زي عسكري».اللافت للنظر انه حتي قادة الاستخبارات المتقاعدين يقرون ان التوصيات التي يحاول العسكر تسويقها كوجهات نظر مهنية ، هي في الاغلب «تخمينات»، كما يؤكد الجنرال شلومو غازيت، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية. أما ابراهام تيروش، سكرتير الحكومة الإسرائيلية في عهد مناحيم بيجن، فيؤكد أن بيجن لو أنصت لقادة الجيش، لما تم التوقيع علي اتفاقية «كامب ديفيد»، التي لا ينكر أحد مدي مساهمتها في تحسين الوضع الاستراتيجي لإسرائيل. التدخل في شئون الأحزاب التطلعات الشخصية المستقبلية للجنرالات تجعلهم في كثير من الأحيان طرفاً مباشراً وغير مباشر في المناكفات السياسية بين الأحزاب وبعضها البعض وفي داخل الحزب الواحد. فبعد أن أعلن شارون مؤخرا عن خطته لإخلاء مستوطنات، قام رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية اهارون زئيفي بتحريض نواب اليمين في الكنيست علي شارون، بالقول أن تنفيذ هذه الخطة «يمثل تشجيعا للإرهاب». وبالفعل أصبحت تفوهات زئيفي تلك مادة دسمة يستخدمها نواب اليمين في تبرير مهاجمتهم لخطة شارون. ليس هذا فحسب، بل ثبت أن الجيش يتجسس علي قادة المعارضة من أجل توفير مبررات لشارون لمهاجمتهم. وقد تجلي ذلك عندما زودت المخابرات، قبل ثلاثة أشهر، شارون بمعلومات تؤكد ان رئيس المعارضة شمعون بيريس التقي سرا مع رئيس الوزراء الفلسطيني احمد قريع، وقد استخدم شارون هذه المعلومة من اجل مهاجمة حزب العمل. الكاتبة ياعيل باز ملميد، تفسر هذا السلوك بتطلع قادة الجيش لكسب رضي جمهور اليمين، عبر طرح مواقف متطرفة تلقي استحسانا لديه، وهذا يساعدهم في الفوز بموطئ قدم في هذه الأحزاب بعد تسريحهم من الجيش. اعتبارات طائفية سياسة الترقيات والتعيينات في المناصب العليا في الجيش الإسرائيلي تتم في كثير من الأحيان وفق اعتبارات الولاء الأيدلوجي والحزبي والانتماء الإثني، بل وعلي قاعدة المصلحة الشخصية. ولعل المثال الأبرز الذي يشير إليه الذين هم علي علاقة وثيقة بالحراك داخل المؤسسة الأمنية، هو إصرار كل من رئيس الوزراء ارئيل شارون ووزير دفاعه شاؤول موفاز علي ترقية قائد سلاح الجو الجنرال دان حلوتس، الي منصب نائب رئيس هيئة أركان الجيش، تمهيداً لتعيينه في منصب رئيس هيئة الأركان لاحقاً. ومثله مثل كثير من المعلقين العسكريين في الدولة العبرية، يؤكد رامي ايدليس أحد ابرز المعلقين العسكريين في الدولة العبرية، أن كلاً من شارون وموفاز يدرك أن معظم أعضاء هيئة أركان الجيش هم أكثر ملاءمة من حلوتس، لشغل منصب رئيس هيئة أركان الجيش لاحقاً، لكن هذا التعيين جاء بمثابة مكافأة لحلوتس، علي إعلانه لخطه الأيدلوجي المتشدد تجاه الفلسطينيين، ولعلمهما بأن حلوتس، هو أكثر جنرالات الجيش حماساً للطرح الأيدلوجي لليمين. ومن المهم أن نذكر أن حلوتس هو الذي أقنع المستويين السياسي والأمني بضرورة استخدام قنبلة بوزن طن في تصفية الشيخ صلاح شحادة، القائد العام السابق لـ «كتائب عز الدين القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، وهي العملية التي أدت إلي مقتل خمسة عشر فلسطينيا، من بينهم تسعة أطفال، وبعدها أخذ يتباهي أمام وسائل الإعلام أنه نام تلك الليلة هادئ البال، في إشارة إلي عدم اكتراثه بموت المدنيين الفلسطينيين. وليس سراً أن وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق إسحاق مردخاي، أصر في العام 1999 علي تعيين الجنرال شاؤول موفاز في منصب رئيس هيئة أركان الجيش بسبب جذروه الطائفية، حيث أن مردخاي «الشرقي»، كان يصر علي أن يتولي المنصب جنرال من أصول شرقية، مع العلم أن المعلقين العسكريين كانوا يجمعون علي أن موفاز كان أقل اعضاء هيئة أركان الجيش «إبداعاً» من الناحية العسكرية. في المقابل، فإن قادة الجيش الإسرائيلي وإزاء هذا القدر الهائل من التأثير سمحوا باستشراء معايير هي اقرب إلي معايير العالم السفلي منه إلي جيش منظم يخضع لرقابة أجهزة الدولة التشريعية. قد يبدو هذا غريبا في ظل الانطباع السائد والمضلل حول هذا الجيش وثقافته. صحيفة «معاريف» في عددها الصادر بتاريخ (13- 9-2002) نشرت أن قادة الجيش إبان حكم باراك غضبوا عندما اكتشفوا أن عميدا في الجيش يدعي شاؤول ارئيلي، وافق علي اقتراح باراك بتولي المسئولية عن ملف الأمن في المفاوضات مع السلطة. وكما تؤكد الصحيفة فإن رئيس الاركان في ذلك الوقت شاؤول موفاز حاول إغراءه ووعده بترقيته إلي رتبة جنرال إذا كان اعتذر، ورفض الإذعان لرغبة باراك، فما كان من ارئيلي إلا أن استقال، وكتب رسالة شخصية لموفاز، قال فيها «أنا لا أحترمكم، فأنتم في نظري بمثابة خلل شديد وكارثة وطنية. أنا أرغب في التسرح». استنزاف الموارد إلي جانب التأثير الواسع الذي يتمتع بها ضباط الجيش، فإنهم يتمتعون بامتيازات مادية تعتبر «خيالية»، وفق معايير الدولة العبرية. فراتب الجنرال يفوق الراتب الشهري الذي يتقاضاه رئيس الوزراء، ناهيك عن التسهيلات التي تقدمها الدولة لهم ولعائلاتهم، وهذا ليس مقصورا علي الجنرالات، فالعقيد في الجيش يحصل علي راتب شهري يبلغ أكثر من سبعة آلاف دولار، إلي جانب تزويده بسيارة تجدد كل عام. لكن اكثر المزايا هي مخصصات التقاعد بالنسبة للضباط، إسرائيل تمنح مخصصات تقاعد خيالية للضباط، مع أن الكثير من الضباط يتقاعدون وهم في أوائل الأربعينيات من عمرهم، ويتجهون إلي قطاع الأعمال، ومع ذلك تواصل الدولة دفع مبالغ طائلة لهم. وعلي الرغم من أن الدولة قامت مؤخراً بخفض الأجور لكل العاملين في قطاعات الدولة المختلفة، إلا إنها لم تجرؤ علي أن تتعرض لأجور الضباط في الجيش. وقد اتهم المفكر الإسرائيلي بي ميخائيل، قادة الجيش بأنهم «يقاتلون»من أجل أن يتواصل الصراع مع العرب، لأنهم يعرفون ان انتهاء هذا الصراع سيقضي علي الامتيازات التي يحصلون عليها، لأنه عندها سيندم الإسرائيليون أشد الندم علي «تدليل»، الجنرالات، كما يقول ميخائيل. ولا ينتهي تأثير العسكر بمجرد خلعهم الزي العسكري، فقد دلت التجربة علي انه منذ تأسيس الدولة، تبوأ مقاعد في الحكومة والبرلمان 40 جنرالاً. في حين تبوأ أكثر من مائة ضابط كبير تتراوح رتبهم بين مقدم وعميد مقاعد في الحكومة والبرلمان. هذا ناهيك علي أن معظم الشركات الحكومية، والمؤسسات المرتبطة بها وبالوكالة اليهودية يقودها جنرالات متقاعدون. وأخيرًا وصل كبار الضباط المتقاعدين إلي سلك التعليم، حيث أخذت وزارة التعليم تستخدم ضباطًا تتراوح رتبهم بين مقدم وعميد كمديري مدارس ومدرسين. وحتي وسائل الإعلام الإسرائيلية استعانت بخدمات كبار الضباط، فالصحف والإذاعات، وقنوات التلفزة استوعبت كبار الضباط للعمل كمراسلين ومعلقين عسكريين لديها، وتعليقات هؤلاء تعتمد علي نظرتهم المؤسساتية السابقة، التي تبقي سائدة لديهم. وقد ساعد ذلك علي تغليب روايات الجيش للأحداث وعلي كل الصعد. ومن يرصد ما يشهد به الساسة والصحافيون وحتي بعض قادة الجيش والمخابرات المتقاعدين والحاليين، يفاجأ بحجم الدعوات إلي التخلص من تأثير الجيش علي تصميم سياسات الدولة. فالصحافي بن كاسبيت يقول «السلطة التنفيذية الحقيقية في إسرائيل لا تمثلها الحكومة المنتخبة، وإنما الجيش. وحتي افرايم هليفي، الرئيس السابق لجهاز الموساد فيحذر من دور الاستخبارات «الزائد» في تحديد السياسات. أما عوفر شيلح، كبير معلقي «يديعوت احرنوت»، فيذهب بعيدا في دعوته لمواجهة تأثير الجيش، فيقول «ليس هناك أسوأ من اختيار الجيش لإدارة الأزمات العنيفة هذا الأمر يشبه تعيين المصاب بهوس السرقة لإدارة شبكة متاجر أو تعيين مختلس لإدارة الصندوق المالي للسجن. لأن الأزمات العنيفة تعتبر جوهر قوة الجيش، والجيش، كغيره من التنظيمات القوية، يطمح إلي تضخيم قوته وموارده إلي أقصي حد». لماذا التسليم بالطغيان؟ علي الرغم من الدعوات آنفة الذكر فإن هناك شكوكاً كبيرة حول إمكانية المس بمكانة الجيش، ودرجة استئثاره بالتأثير علي عملية صنع القرار. البروفسور ميخائيل بار يوسيف في كتابه «المشهد الذي كان»، يقول أن الجيش استمد هذا التأثير من الواقع الأمني الذي تعيشه الدولة منذ تأسيسها، حيث أقنع قادة الدولة الجمهور الإسرائيلي، أن مخاطر وجودية تحيق بالدولة ومستقبلها، وأنه لا مناص من مواصلة الارتباط بالمؤسسة الأمنية التي علي كاهلها عبء مواجهة هذه المخاطر. من هنا كان هناك ما يشبه التقديس للجيش وللدور الذي يقوم به. وقد انعكس هذا الواقع علي ثقة الجمهور بالجنرالات ليس فقط أثناء تأديتهم الخدمة العسكرية، بل حتي بعد أن يتحرروا من الجيش، حيث أن الأحزاب الإسرائيلية لكي تقنع الجمهور الإسرائيلي، بأن يثق فيها، تلجأ إلي «تطعيم» قوائمها الانتخابية بجنرالات متقاعدين، وهي تدرك حجم الثقة التي يوليها الجمهور لهؤلاء الجنرالات. من هنا فإن بار يوسيف يري أنه في حال تواصلت التوترات الأمنية في المنطقة، فإنه لن يكون هناك مجال للحديث عن تغيير في نظرة الجمهور الإسرائيلي للجنرالات الذي يري انه من الأهمية بمكان مواصلتهم لدورهم الذي لا يمكن أن يقوم به غيرهم. لكن الجنرال المتقاعد زئيف شيف، المعلق العسكري لصحيفة «هارتس»، يري أن التأثير الواسع للأجهزة الأمنية، وبالذات دوائر الاستخبارات علي دائرة صنع القرار، يعود إلي ضعف القيادة السياسية. فحالة الترهل التي تعم الجسم السياسي الحزبي الإسرائيلي التي وجدت تعبيرها في تفجر قضايا الفساد والفضائح التي هزت الدولة، قضي علي صدقية المستوي السياسي، وقلص من قدرته علي المناورة في مواجهة العسكر. مما تقدم يتضح بجلاء أن الديموقراطية الإسرائيلية هي ديموقراطية عرجاء، وأن ادعاء إسرائيل بأنها واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط، هو ادعاء يفتقد إلي الكثير من المصداقية. في نفس الوقت فإن ما تقدم يلزم دوائر صنع القرار في الدول العربية سواء التي توصلت إلي تسويات مع الدولة العبرية، أو تلك التي في حالة حرب معها، أن تدرك ماهية الآليات المتداخلة في صنع القرار في الدولة العبرية والعوامل المؤثرة فيه، وان يكون لذلك تأُثير علي صورة تعاطي العالم العربي مع هذه الدولة.
المؤسسة الأمنية في الدولة العبرية لا تقرر فقط السياسات وتنفذها، بل إنها ترفض في كثير من الأحيان تطبيق التعليمات المباشرة، الصادرة عن الحكومة، بشكل فج، ناهيك عن احتكار التأثير علي دوائر صنع القـرار السياسي في الدولة
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة