في المــواطـنـة والانتمـاء والـدولة



منهـج النظـر في تشـكيل الجمـاعة السياسية [ 1 ] أقصد بالجماعة السياسية، هذه المجموعة من البشر التي تتحدد وفقًا لتصنيف معين يقوم علي وصف فعال يصدق عليهم ويميزهم عن غيرهم من المجموعات، وذلك متي كانت الأوضاع التاريخية قد رشحت الجماعة المصنفة ــ وفقًا لهذا الوصف ــ بأن تقوم بوظيفة محددة لحماية صالحها المشترك بعيد المدي. فثمة وصف يلحق بالجماعة وغيرها، وثمة وظيفة تؤديها الجماعة الموصوفة بهذا الوصف. والوصف يتعين أن يكون لصيقًا وفعالاً. والإلصاق يعني ألا يكون الوصف طارئًا أو عابرًا أو يسهل كسبه ويسهل تركه. لأن الوصف الذي تقوم به جماعة يتعين أن يكون أكثر ثباتًا من الناحية النسبية. والجماعة تشكُّلٌ تاريخي، تنشأ وتقوم وتبقي عبر مراحل تاريخية ممتدة، فهي لا تتبلور بموجب الطارئ سريع الكسب أو الفقد، مثل المهارات وأوضاع التنقل، وهي تلتزم من الأوصاف ما لا يتغير مثل علاقات النسب مثلاً، أو ما يكون قابلاً للتغيير ولكن بصعوبة وبطء وعبر ما يحسب بالزمن التاريخي وليس بأزمان الحياة اليومية، أي بما لا تصلح الحياة الفردية لأن تستوعبه كاملاً بآثاره، بله أن تستوعب عددًا منه، وذلك مثل اللغة باعتبارها وصفًا جماعيا أو الدين باعتباره كذلك. كما يجب أن يكون الوصف فعالاً، أقصد بذلك أثره في تغذية التفاعل الذي يربط بين المتصفين به ليمكن لديهم الشعور بالانتماء، لأن الجماعة عندما تنشأ إنما تكون ذات تميز عن أفرادها. وإذا كان آحاد الأفراد هم من تتشكل منهم، فإنها تكون هي من يقيم الوصف المهيمن عليهم، ولا منافاة بين إسهام الآحاد في المشاركة وبين انتمائهم وخضوعهم من بعد لما تشاركوا فيه؛ فإن من ينتمي لدين معين باختياره إنما يخضع من بعد لهذا الدين، ومن ينضم إلي نقابة أو لحزب مثلاً يمتثل من بعد لقرارات ما انضم إليه بإرادته، ناهيك عمن يكون انتماؤه إلي الجماعة لم يتم بموجب توجه إرادي طوعي لواحد من بدائل اختيارية متساوية، وإنما يكون جري بموجب وصف لصيق لا يملك تعديله أو الخروج منه بالطواعية السهلة السريعة. لذلك فإن أوصافًا بشرية مثل طول القامة أو وزن الجسم أو مستوي التعليم لم تصلح أبدًا أن تكون وصفًا فعالاً بالمعني المقصود هنا. والأمثلة ذات التكرار في التاريخ للأوصاف الفعالة ذات الأثر في تكون الجماعات، إنما تتعلق بالعقيدة من الأديان إلي الماركسية، وباللغة مثل القوميات، وبالنسب مثل القبائل والعشائر، وبالإقليم الجغرافي. والعنصر الفعال ــ هنا ــ هو ما يمكن للصيرورة التاريخية أن تشكل من تفاعلاته مناطًا لقيام الجماعة السياسية، وما تشكل تفاعلاته قوة تماسك لأفراد هذه الجماعة ووحداتها الفرعية المتعددة. والفاعلية هنا يتحول بها العنصر المكون للجماعة إلي معيار معرِّف للجماعة يجمع أفرادها ووحداتها ويميزهم عمن عداهم؛ لأن الفاعلية أو التفاعل بموجب كونها صيرورة تاريخية، تنشئ إدراكًا ذهنيا بالتوحد وبالمشترك العام داخل الجماعة المعنية، كما تنشئ شعورًا وجدانيا بالانتماء لهذه الجماعة وقابلية للاندراج بين وحداتها. وقد سبقت الإشارة، إلي أن الأوصاف التي بنيت منها التصنيفات الأساسية المتكررة في التاريخ البشري للجماعات السياسية، كانت في الغالب الأعم هي ما يلي: ــ التصنيف القبلي القائم علي وحدة الانتماء الأسري وعلاقة النسب. ــ التصنيف الديني القائم علي وحدة الانتماء العقيدي والرؤية الثقافية للكون وللمجتمع. ــ التصنيف القومي القائم علي وحدة الانتماء اللغوي. ويمكن القول بأن أياً من هذه العناصر المذكورة هو مثل المادة الخام، لا تؤتي أثرها إلا بتفاعل يقوم بين وحدات من تضمهم، وهو تفاعل لا يتأتي إلا بتوافر ظرفي المكان والزمان، أي الجغرافيا والتاريخ، فإن أمة قبلية أو دينية أو قومية، لا تقوم إلا بتفاعل أفرادها في بيئة جغرافية معينة، وإلا بصيرورة تاريخية بما ينشئ ذاكرة مشتركة واشتراكًا في أحداث واحدة وتكوين ثقافي واحد. وأقصد بالثقافة التكوين العقلي والوجداني معًا، أي التكوين النفسي المشترك الذي يتيح للأنا الفردية أن تندمج في «أنا» جماعية يقوم بها الضمير «نحن». إن الشعور بالانتماء إنما يكون لتكوين كلي خارج عن الذات، ولكنها تكون قابلة للانجذاب إليه والاندراج فيه بموجب إدراكها لتحققها فيه. وإذا كانت أوصاف الانتماء قائمة في الصورة السابقة، وأمثالها في التاريخ البشري موجودة دائمًا، فإن التاريخ وأحداثه هو ما يصنع الوظائف التي تقوم بها هذه الأوصاف. ودائمًا هناك أوصاف جماعية تقيم مشاعر بالانتماء المشترك بين من تضمهم هذه الأوصاف، أسرية قبلية كانت أو عقيدية أو قومية لغوية، ولكن أحداث التاريخ وحركة البشر والمجموعات هي ما يحدد مدي الأثر والفاعلية التي تقوم بها أي من هذه الأوصاف في جماعاتها، كما تحدد ترتيب الأولويات بين بعضها البعض، بما يقوم به الوصف الجماعي الحاكم لغيره من الأوصاف الجماعية في كل مرحلة تاريخية. وأنا لست علي ثقة من أن هذه الانتماءات تترتب مع بعضها البعض وفقًا لحتمية تاريخية عالمية، باعتبار ظهور التكوينات القبلية أولاً، ثم التكوينات العقيدية، ثم التكوينات القومية. إن هذا الترتيب التاريخي حدث في أوروبا، واعتبرته أوروبا ــ ومؤرخوها خاصة ــ أساسا للترتيب الجماعي العالمي، لما وَقَر في ذهن الأوروبيين عامة من أن تجربتهم هي معيار تشكل تجارب العالم كله، وأن تاريخهم هو ما يقاس به تاريخ شعوب العالم جمعاء. ولكن الأوروبيين أنفسهم، والغربيين بعامة، هم من نقض هذا التصور من بعد، فإن الوحدة التي أساسها الماركسية هي وحدة عقيدية وقامت في داخل الفكر الأوروبي وحركته السياسية، وكانت تنقض التكوين القومي، كما أن الحركة الصهيونية نشأت هي الأخري في الرحم الأوروبي وهي تقيم وحدة انتماء أساسها الدين اليهودي. ثم العولمة الآن ترد من أقصي الفكر الغربي؛ من الولايات المتحدة الأمريكية. إن وحدات الانتماء هي «مكنات» تتواجد وتتزاحم وتتبادل الترتيب والتأثير وفقًا لعوامل تاريخية أخري، تمكن من ظهور بعضها وخفوت الأخري، ومن سيادة بعضها وحاكميته علي غيرها. فحيث سادت القبيلة كانت هي الانتماء الحاكم، وكان اختلاف المعتقد يشكل انتماء محكومًا وتابعًا. ونحن نعرف كيف أن قريشًا وبني هاشم كانوا يحمون رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، رغم اختلافهم مع دعوته ورغم حربهم له. وحيث سادت الوحدة الدينية، سواء الوحدة الإسلامية حتي الدولة العثمانية، أو الوحدة المسيحية الأوروبية في القرون الوسطي، كانت التكوينات اللغوية أو القبلية تشكل وحدات انتماء محكومة بالوحدة الدينية الشاملة هذه. وعلي العكس عندما سادت التكوينات القومية صارت الوحدة المؤسسة علي العقيدة مما يشكل وحدات انتماء فرعية محكومة بالجماعة القومية.. هكذا. وفي الأدب السياسي الإسلامي كان تآزر الجماعة مع بعضها البعض يسمي العصبية أو الحمية، وهي هذا الشعور الداعي إلي نصرة الجماعة. وكان تحسينه أو تقبيحه يتوقف علي ما إذا كان يقوم بنصرة الجماعة ضد أعدائها فيكون حسنًا مدعوًا إليه، أو يقوم بنصرة جماعة فرعية ضد الانتماء العام فيكون قبيحًا منهيا عنه. ومن هنا فإنه عندما تتراتب وحدات الانتماء بين عام وخاص وبين حاكم وتابع، بفعل ما يقوم في مرحلة تاريخية ما من ترتيب يصون الجماعة الأشمل، فإنه يقوم لدي الجماعة العامة الحاكمة واجب أن تحمي الجماعات الفرعية المندرجة تحتها، أن تحميها من تهديدات الخارج وأن تحفظ لها نصيبها في الوجود الذاتي إزاء الجماعات الفرعية الأخري. وهي إن لم تفعل، إن لم تقم بواجب ما نسميه الآن بحفظ أمن الجماعة الأشمل وتحقيق التوازن بين الجماعات الفرعية، فإنها تنكسر وتنفك علي المدي الزمني المناسب لذلك. وأذكر هنا عبارة رفيق العظم عندما قال: «للاجتماعات نظامات وروابط هي العصبيات، تكاد تكون طبيعية بين البشر، أهمها الروابط العامة التي تجمع قومًا أو أقوامًا علي كلمة واحدة، وهي رابطة العشيرة أو الجنس أو الوطن أو الدين..»، «كل مجتمع مهدد في كيانه من المجتمع الآخر، ما لم يكن ذا رابطة تجعله متكافئًا معه في القوة، تراعي فيها النسبة في القوة بين الرابطتين، فكلما اتخذ المجتمع رابطة أوسع تحتم علي الآخر أن يتخذ ما يقابلها..»، «ولا يصح أن نقابل أية رابطة أو عصبية برابطة أو بعصبية أقل منها: عشيرية كانت أو وطنية أو دينية». وكان يقول ذلك ليزكي الجامعة الإسلامية العامة في ظروف الهجمة الأوروبية العامة علي الديار الإسلامية. وهذا الذي زكاه ــ وقتها ــ لم يحدث؛ ولذلك انكسرت الجماعات الإسلامية المفككة أمام الطغيان الأوروبي في بداية القرن العشرين. [ 2 ] إن ظاهرة الاستعمار التي عانت منها بلادنا كانت أعمق أثرًا مما يبدو في الكثير من الدراسات التي عالجت أوضاعنا السياسية والاجتماعية ومشاكلنا الحياتية. أقول ذلك لأننا عادة ما نعالج هذه الظاهرة في نشأتها وفي مقاومتنا لها كما لو كانت مسألة خارجية متميزة عن سياق التطور والتغيير الذي يمس كيان الجماعة السياسية، ونظم إدارتها، ومجمل الأفكار التي تسود وتتداول، والوظائف الفعلية لكل من ذلك في الحياة الواقعية. وإن ما يمس ذلك في الموضوع الذي نتعرض له في هذه الورقة، إنما يتعلق بالجماعة الوطنية أو الجماعة السياسية بعامة، وبنظم إدارتها. ونحن عندما ننظر في التاريخ المعاصر لبلادنا الإسلامية والعربية، نلحظ أنه حتي نهاية القرن التاسع عشر كانت الجامعة السياسية الحاكمة في إدراك المواطنين، هي الجامعة الإسلامية التي قامت علي أساس حفظ الجماعة السياسية برباط الدين الإسلامي، وكانت الدولة المشخصة لها في إدراك المواطنين هي الدولة العثمانية، وعلي الشاطئ الحضاري ــ المقابل في أوروبا، وفي أوروبا الغربية بخاصة، كانت الجامعات السياسية الحاكمة قد تبلورت علي أساس الجماعات القومية التي تقوم برباط اللغة، وقامت علي أساسها الدول المشخصة لها. وإن ما حدث لدينا في المشرق، لم يجر علي المنوال الأوروبي الغربي، من حيث قيام التناثر الإقطاعي هناك، ثم تبلور الجامعات القومية في حركات توحيد ونشوء للدول القومية، وذلك من خلال التفكك وإعادة التصنيف والتجميع الذاتي. إنما جري لدينا علي أساس إضعاف الدولة العثمانية القائمة علي أساس الدين، أو بعبارة أدق استغلال ضعفها الذاتي والتلقائي لإبقائها علي تلك الحالة من الوهن ومن فقدان القدرة علي النهوض، ومن السعي لإفشال حركات الإصلاح التي بدت أحيانًا مبشرة بالنهوض، وذلك لاقتسام أشلاء هذه الدولة شلوًا شلوًا، حسبما تسنح الظروف لأي من القوي السياسية الأوروبية الطامعة في استعمار هذه البلاد. وإن الظروف لتسنح لذلك وفق موازين القوي بين الدول الأوروبية المتنافسة، ووفق ظهور الفرص التاريخية لاستعمار قطر ما أو لاحتلال صُقع ما. وهذا ما عبر عنه المؤرخون والكتاب الأوروبيون باسم «المسألة الشرقية» في القرن التاسع عشر، وما عبرت عنه السياسة البريطانية وقتها باسم «الرجل العثماني المريض»، الذي يحرصون علي استبقائه مريضًا لكي يستثمروا الفرص في الاقتطاع من جسده إربًا إربًا. في 1830 احتلت فرنسا الجزائر، وفي 1839 احتل الإنجليز عدن للسيطرة علي باب المندب جنوب البحر الأحمر لتأمين طريقهم إلي الهند، وفي 1882 احتل الإنجليز مصر للسيطرة عليها وللسيطرة علي شمال البحر الأحمر، وفي 1881سيطرت فرنسا علي تونس، وفي 1912 سيطر الفرنسيون علي المغرب وسيطر الإيطاليون علي ليبيا. وبقي للدولة العثمانية أرض الأناضول والبر الشامي حتي العراق. وفي 1899 سيطر الإنجليز علي السودان حتي منابع النيل، واقتطع الصومال بين الإنجليز والفرنسيين والإيطاليين فضلاً عن الأحباش، واقتطعت أفريقيا جنوب الصحراء بين الإنجليز والبرتغاليين والبلجيك والفرنسيين والألمان. أقصد من ذلك أن أوضح أن عمليات الاقتطاع الاستعماري لم تتوخ التكوينات الجامعة التي تقوم بها وحدات سياسية ووحدات انتماء شعبي، ولا كان هدفها أن تصون أمرًا من ذلك، إنما كان الاقتطاع يتم حسب القدرة الذاتية للدولة الاستعمارية علي اختلاس إقليم ما، وحسب موازين القوي بين الدول الاستعمارية بعضها وبعض، لأن الأمر كان أمر اقتسام وتوزيع، وهو أمر انعقدت له المؤتمرات الأوروبية عندما استدعت الحاجة ذلك لتوزيع الأقطار والأقاليم، كما حدث في مؤتمر برلين 1884 ـ 1885 الذي قسمت فيه أقاليم أفريقيا بين الدول الاستعمارية الأوروبية، وكما حدث أيضًا في اتفاق سايكس بيكو 1916 الذي جري وعقد سريا أثناء الحرب العالمية الأولي بين بريطانيا وفرنسا لاقتسام بلاد الشام والعراق بعد الهزيمة المتوقعة للدولة العثمانية. من ذلك يظهر أن التكوينات السياسية التي ظهرت، من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين لم تكن تتطابق مع تكوينات الجماعات السياسية حسب أي من معايير التصنيف التي تجمع هذه الجماعات وتميزها عن غيرها، سواء كانت نسبية قبلية أو لغوية أو دينية عقيدية. إنما عكست أكثر ما عكست موازين القوي بين الدول الاستعمارية، سواء بالنسبة لكل منها إزاء الأخري، أو بالنسبة لسابق وجود لها في الإقليم المعني، أو بالنسبة للأهمية الاستراتيجية والجغرافية لإقليم أو قطر معين بالنسبة لدول استعمارية معينة إزاء الدول الاستعمارية الأخري. وهذا التقسيم الذي روعيت فيه العلاقات الدولية للمستعمرين، وبما لم تراع فيه الوحدات القبلية أو اللغوية أو الدينية، هو الذي تشكلت به «الحدود الدولية» لكل إقليم أو قطر أو صُقع في كل من البلاد الإفريقية أو بلاد ما أطلق عليه «الشرق الأدني»، «والشرق الأوسط»، «والشرق الأقصي». باعتبارها مناطق دولية توصف لا بوصف ذاتي يتعلق بأي منها، ولكنها توصف بمدي قربها أو بعدها عن المكان الأوروبي، وذلك بما يفيد تجريدها من أية أوصاف ذاتية تتعلق بالجماعات التي تحيا في أي من هذه المناطق. وقد جاءت هذه الحدود السياسية بين الأقاليم والأقطار، بموجب موازين القوي بين الدول المستعمرة، لذلك لم تراع الجوامع السياسية الاجتماعية بين البشر، ولم تراع الوحدات القبلية مثلاً في البلاد الأفريقية، ولا راعت التكوينات اللغوية والدينية، فصارت وحدات الانتماء الجماعية، في كل من هذه التقسيمات، تدور بين التعدد داخل حدود كل تقسيم وبين عدم الاكتمال؛ لأن جزءًا أو أجزاء في داخل كل تقسيم يجد كماله وتمامه مع ذويه خارج حدود هذا التقسيم. وهذا يظهر أوضح ما يظهر في بلدان أفريقيا من حيث التداخل والتعدد والتنافر، ومن حيث تقسيم المتجانس والمتناسب، وتجميع المتنافر والمتعاكس. وبالنسبة للبلاد العربية، لا يظهر ما الذي يضم أجزاء سوريا الحالية بعضها إلي بعض مما لا يضم لبنان مثلاً والأردن أيضًا، وما الذي يجمع بين العراقيين بعضهم مع بعض، ولا يضم أجزاء من الخليج العربي شرقًا وغربًا إليها، وما الذي يفصل المملكة السعودية عن أجزاء من شرق الجزيرة العربية من حيث التجانس القبلي والعشيري فضلاً عن توحد اللغة والدين والتاريخ. ولا يعرف سبب جماعي لاعتبار عدن إقليمًا سياسيا منفصلاً عن اليمن. وبالنسبة لباكستان والهند فلا يعرف سبب جماعي أيضًا يفصل كشمير عن باكستان ويضم إليها باكستان الشرقية التي نعرفها بمنطقة البنغال التي انفصلت من بعد وكونت دولة بنجلاديش. وبالنسبة لمصر، فقد يظهر علي السطح أن جماعتها السياسية البشرية مؤتلفة وتشكل جماعة مكتملة، وقد يمكن أن يساعد علي هذا التصور ما يحيط بها من الصحاري غربًا وجنوبًا ومن البحار شرقًا وشمالاً، وما فعله التجمع قرب نهر النيل من النوبة إلي الإسكندرية ودمياط، ما فعله ذلك من تداخل بشري كثيف ومن تزاحم وتفاعل موحد في الشعور والخبرات التاريخية والتكون النفسي المتجانس، وكل ذلك صحيح جدًا، ولكنه رغم صوابه ينطوي علي نقص خطير يتعلق بتمام الانتظام البشري. ذلك أن الحدود الجغرافية لمصر تنحسر عن أن تستوعب أوضاع أمنها القومي، ومصدر الحياة لمصر وشعبها هو مصدر شبه وحيد، وهو نهر النيل، وهو نهر واحد، وهو يأتي بالمياه من مصادر تبتعد عن مصر بمسافات تتراوح بين ألفي كيلو متر وثلاثة آلاف كيلو متر من حدود مصر الجنوبية. فمصر باعتبارها كائنًا حيا (بشرًا وحيوانًا ونباتًا) توجد أمعاؤه خارج جسمه. أرأيت إلي النخلة، تريد أن تفصل تاجها وجزءها العلوي عن جذعها وجذرها. ومن جهة أخري، فمصر، أغلب ما جاءها من الغزو العسكري أو التهديد بالغزو إنما جاءها من حدودها الشمالية الشرقية. ولسنا في مجال سرد تفاصيل التاريخ في هذا المجال، ولكن واقع الخبرة التاريخية يظهر أن مصر ومنطقة الشام والحجاز هي منطقة أمن واحدة، ولا أظن أن النظرية العسكرية الحالية في بدايات القرن الحادي والعشرين، قد عدلت من هذا النظر ومما خلصت إليه خبرة التاريخ. وكتابات العسكريين في هذا الشأن ــ وحتي اليوم ــ سافرة الدلالة، واضحة المعني علي أن الأمن العسكري لمصر يدور في منطقة تبدأ من باب المندب جنوب البحر الأحمر شرقًا وغربًا إلي شمال سوريا شمالاً بشرق. وبهذا يبين أن هذا الكائن الحي الذي اسمه «مصر»، توجد أمعاؤه خارج جسمه في الجنوب، ويصوب الرصاص إلي رأسه من خارج حدوده المتاخمة شمالاً بشرق. ومن هنا، فإن الجماعة المصرية ــ وإن كانت متجانسة تمامًا من الناحية البشرية والثقافية والتاريخية ــ إلا أن القسم الغالب من أمنها يقف خارج حدودها، فهي غير مكتملة، وأن هذه الحدود التي حُدَّت بها مصر، ليست إلا نتاج عمل استعماري غربي أقرته ووقعته معاهدة لندن في 1840، ورسم هذا الحد في لندن، ولم تجتمع الدول الأوروبية الكبري علي أمر كما اجتمعت علي هذا الأمر وقتها. [ 3 ] عندما ظهرت حركات التحرير الوطنية في بلادنا، كان من الطبيعي أن تظهر في كل قطر وفي حدوده، وذلك لاختلاف الظروف السياسية والاجتماعية التي جدّت، ولاختلاف أساليب حكم كل إقليم والتنوع الكبير للوسائل المستخدمة في الاحتلال، وأنماط الحكومات، وطرائق التعامل. وكان لكل دولة استعمارية أساليب تعامل تختلف عن أساليب تعامل الدولة الاستعمارية الأخري، كما كان للطريقة التي وقع بها الاحتلال أثر في تحديد أساليب الحكم والتعامل التالية للاحتلال، كما أن طريقة مقاومة الشعب المحتل أثرت في تحديد وجوه التعامل الاستعماري معه، فضلاً عن أن الهدف من الاحتلال، ثروة معدنية أو حيوانية أو طريقًا عالميا، كان له أثره في التحديد. وكذلك، تأثر الأمر كله بالمرحلة التاريخية التي جرت فيها واقعة الاحتلال والحكم مع تغير أوضاع القارة الأوروبية وبلدانها علي مدي القرون من السادس عشر إلي القرن العشرين، واختلافات تطوير أدوات الحرب ووسائل الاتصال وتغير الثقافة الاستعمارية، ذاتها بحكم النمو والانتشار وتغير موازين القوي بين القوي الاستعمارية من جهة، وبين كل منها والبلد المحتل من جهة أخري. يضاف إلي ذلك أن حركات التحرر ومقاومة السيطرة الأجنبية، لم يكن كل منها فقط علي تنوع وتباين مع الحركات التحررية الأخري. بل قام أحيانًا بين بعضها البعض أنواع ودرجات من الصراع، ونتج هذا الصراع أو التباين بسبب طبيعة الصراع وأنواعه أحيانًا، أو بسبب سياسة التحالفات أحيانًا أخري. وبالنسبة لصيغة الصراع، وهل يكون سلميا حيث تتيح الظروف له ذلك؟ أو عنيفًا حيث تضطره الظروف إلي العنف؟، فإن ذلك يولد درجات من عدم التفهم بين حركات التحرر المتجاورة أو تلك التي يضمها سياق واحد، بمثل ما ظهر التباين بين حركة التحرر العنيف في الصين مثلاً وبين حركة المقاومة السلمية في الهند، فإن ذلك يجعل قوي التحرر الوطني متعارضة من حيث الطبيعة السياسية والانتقاء الشعبي من طبقات وفئات معينة، ومن حيث الثقافة السياسية ذاتها. أما الاختلافات الناتجة عن سياسات التحالفات بين حركات التحرير والحركات الثورية، فيسهل ملاحظة أن أية حركة تحرير أو مقاومة إنما تتطلع دائمًا إلي مدد يأتيها من حلفاء لها في الخارج تقوي به ضعفها، وتستعين به ــ فيما تستعين ــ علي مواجهة جبروت الاحتلال والاستعمار. وإن التنافس الشديد الذي عرفته الدول الاستعمارية بعضها ضد بعض، ألجأ حركات التحرير أن يستند كل منها إلي الدولة الاستعمارية المنافسة، وكل يلجأ إلي خصم عدوه، يستمد منه الدعم، فتتصارع الحركات الوطنية في حركة معاكسة لتصارع الدول الاستعمارية. وجدنا الحزب الوطني المصري في بداية القرن العشرين يستعين بفرنسا ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر، ووجدنا الحركات الديمقراطية العربية في الشام يستعين بعضها بالإنجليز في مصر ضد حركة التتريك التي ظهرت وحكمت الدولة العثمانية بواسطة حزب الاتحاد والترقي، وذلك قبل الحرب العالمية الأولي، ووجدنا حركة التحرير في عدن تستعين بإمام اليمن ضد الاحتلال الإنجليزي، في حين أن ثوار اليمن ضد إمامهم، كانوا يركنون إلي الإنجليز في عدن. ثم وجدنا في النصف الثاني من القرن العشرين، أن حركة التحرير العربية تستعين بالحليف الروسي ضد الطغيان الغربي الأمريكي الصهيوني، بينما كل من إيران وتركيا يخشون الأطماع الروسية التاريخية في بلادهم المتاخمة لروسيا، ويركنون إلي الدعم الأمريكي الغربي لهم، وهذا التطلع يشجع حكومات إيران وتركيا وقتها علي التحالف مع الغرب وإنشاء القواعد العسكرية في بلادهم للصالح الأمريكي الغربي العام. بذلك اصطبغت حركات التحرر بالطابع القطري الإقليمي الذي يلتزم بالحدود السياسية المضروبة عليها بفعل الاحتلال الاستعماري والتقسيم الذي أجراه. لأن أساليب العمل عندما تتحدد بطريقة معينة وتتقيد بالإمكانات المتاحة لها، وتنحصر في غايات تتوافق مع هذه المكنات، فهي أيضًا تنعكس علي التشكل الثقافي والرؤية الذاتية، وتتحدد بها مناظير للأحداث، فتكون الحدود القطرية المرسومة علي الأرض وفي الخرائط، هي ذاتها تقوم بها حدود فكرية ومنظور للرؤية يتحدد بها، وفقًا للأهداف المحدودة وللأساليب المتاحة، ويختار الرجال العاملون في هذا الإطار ضمن التكوين الاجتماعي والطبقي والثقافي، ثم تتراكم خبراتهم العملية في هذا الإطار أيضًا، فتشكل الحركة بوصفها حركة إقليمية قطرية، أياً كانت الدعاوي النظرية التي يتشدق بها البعض. أضرب لذلك مثلاً من الحركة الوطنية المصرية المقاومة للاحتلال الإنجليزي في النصف الأول من القرن العشرين، كانت حركة تهدف لإجلاء الإنجليز عن مصر واسترداد وحدة مصر مع السودان. وكان يفصل مصر عن السودان حد رسم عند خط العرض رقم 22 شمال خط الاستواء. ورغم أن الوطنيين المصريين وضعوا مطلب وحدة مصر مع السودان وضعًا مثيلاً لمطلب جلاء الإنجليز عن مصر، فإن المكنات السياسية لحركة التحرير المصرية قَصُرت عن أن تتخطي خط العرض المرسوم، وكانت تتشكل تشكلاً مصريا بحتًا ليس للسودانيين فيه نصيب، وكانت تتشكل بمراعاة ممكنات المواجهة مع المستعمر في نطاق الظروف المصرية، دون حساب لما تستلزمه أهداف الوحدة مع السودان من أنواع مواجهات مختلفة. وتحدد الفعل المصري المكافح في إطار الرؤية المحدودة بظروف مصر فقط؛ لذلك لم يكتب لهذا المطلب المصري الجاد أي نصيب من التحقق، ولا وسعت الخبرة المصرية ظروف السودان وشعبه. وأضرب لذلك مثلاً آخر، يتعلق بتجربة حزب البعث العربي في بلاد المشرق العربي. وهو حزب واحد، وتكون تكوينًا قوميا بقيادة قومية واحدة، ظهرت في سوريا وأرض الشام، ثم صار ذا فروع في بلاد عربية عديدة، ومطلبه الأساسي بعث العروبة وتحقيق الوحدة العربية، وكان أقوي انتشار له في سوريا والعراق، وتولي فريق البعث في كل من البلدين الحكم في بلده مستقلاً عن الآخر في عملية سياسية أنتجتها ظروف كل بلد مستقلاً عن الآخر، وفي أوقات منفصلة. وما لبث الفريقان أن تدابرا وصارت بينهما من الجفوة السياسية الحزبية والحكومية، ما يكون من خصام الغرباء المتنافسين المتضادين، واستخدمت آلة الدولة في كل من البلدين ضد مؤيدي الفريق الآخر من مواطنيها. وفضلاً عن ذلك، فإن حكومات هذه الأقطار كانت نشأت في الإطار الإقليمي الذي تحدد علي وفق التقسيمات التي رسمتها موازين القوي الاستعمارية حسبما سلفت الإشارة، وحيثما كانت هذه الأقطار منسلخة من جماعات أخري ومن دول قديمة سابقة، لم يكن لديها جهاز حكومة قديم مستقل مدرب علي ممارسة الحكم وإدارة شئون الجماعة المحكومة. ومثل هذه الأقطار ساهم الاحتلال الأجنبي في تشكيل أجهزتها الحاكمة وفي تشكيل إدارتها، وبعضها تشكل من أقليات دينية أو مذهبية أو قبلية ليسهل إلحاقها بسياسة الاحتلال، وبعضها تشكل من فئات لم تكن من النخب التي شاركت سابقًا في الإدارة؛ حتي يسهل ارتباطهم بسياسة الاحتلال من حيث الموالاة، ومن حيث الخبرات المكتسبة التي لا تزاحمها خبرات تقليدية قديمة، إلي غير ذلك من الاعتبارات التي تجعل فئة الحكم والإدارة الجديدة أكثر موالاة لسلطة الاحتلال القائم، منها إلي الجماعة أو الجماعات السياسية التي يضمها القطر المحتل أو الإقليم. ويستثني من ذلك أقطار مثل مصر التي لم تتعدد فيها الجماعات السياسية المتزاحمة علي الاختلافات الدينية أو المذهبية أو القبلية أو اللغوية، وإن كانت هذه الأقطار لم تكن تعكس جماعة مكتملة، حسبما سبقت الإشارة عن مصر. والحاصل أنه عندما انتصرت حركات التحرير في النطاق الإقليمي القطري، كل حسب ظروف نصره وأزمان نصره، سيطرت علي حكومات بلادنا في النطاق الإقليمي القطري أيضًا، ولم تتجاوزه بطبيعة الحال، وأن حركات التحرير الوطني التي سيطرت علي دولها وأجهزة الحكم في أقطارها، وإن عدلت وحورت من أجهزة الحكم السابقة بما يتناسب مع السياسة الوطنية الجديدة، وهي وإن غيرت في تشكيلات كبار العاملين في هذه الأجهزة وأحلت محلهم من أنصارها وذوي نظرتها وسياستها المستقلة المتحررة، إلا أن نطاق الحكم ظل قطريا وإقليميا، واصطبغت حكومات التحرر الوطني بالصبغة القطرية الإقليمية، ولم تستطع أن تتجاوزها لا من حيث السياسات ولا من حيث الخبرة وتراكمها، وعكست في ذلك أوضاع التقسيمات القديمة التي آلت إليها من عهد الاستعمار. والأخطر من ذلك، أن حكومات التحرر الوطني استمر معها قيام الفجوة بين جماعة سياسية وجماعات سياسية شعبية متعددة وغير مكتملة، فهي متعددة داخل الكيان القطري الإقليمي الواحد الذي تحدد بالسياسات الاستعمارية وموازين التنافس بين الدول الكبري، ولم تتكامل علي حدود الجماعة السياسية وفقًا لأي من التصنيفات الفاعلة في هذا الشأن، أي لم تتكامل تكامل الفرنسيين في فرنسا ولا تكامل الإنجليز في بلادهم، إنما قامت وفقًا للحدود الإقليمية والقطرية التي سبق أن وضعتها الفترة الاستعمارية التي قامت ضدها حركات التحرر الوطني وانتصرت عليها في القطر المحرر سابق الاحتلال. وهذه مفارقة مهمة، فإن الفعل الاستعماري الذي قامت به الوحدات القطرية الإقليمية، والذي لم يحتل الأرض ويستعمر الشعوب فقط، ولكنه انتهك الجماعات السياسية في توحدها وتكاملها، وقسم الأقطار والأقاليم لا علي وفق هذه الجماعات، هذا الفعل الاستعماري بوجهيه كافحته حركات التحرير فيما يتعلق بالاحتلال والاستعمار، ولكن لم تلغ مشيئته في التقسيمات الحاصلة منه، وما أدت إليه من تمزيق وتبعثر للجماعات السياسية المعنية. وأكثر من ذلك فإن حكومات التحرر الوطني أبقت هذه التقسيمات واعتمدتها وأرجأت النظر فيها، إما دعمًا لها من بعض هذه الحركات وحكوماتها، وإما تفاديا لصراعات تنشأ ولا يعرف لها مآل بالنسبة لحكومات التحرر الوطني حديثة التشكيل. ولعل أهم مثال علي ذلك ما حصل بالنسبة للدول الأفريقية حديثة الاستقلال في الستينيات من القرن العشرين وما بعدها. فقد قامت منظمة الوحدة الأفريقية في 1963، ووقع ميثاقها في 25 مايو 1963 في أديس أبابا من اثنتين وثلاثين دولة مستقلة، زادت بعد ذلك بما انضم إليها تباعًا من الدول التي استقلت. وكان قد أثير موضوع الحدود لهذه الدول مما سبق للاستعمار المنحسر عن القارة أن فرضه. واختلف الأعضاء فيما إذا كان ينظر في إعادة رسمها وفق الجماعات السياسية الشعبية أم لا، ولكن الاتجاه الغالب رجح بوضوح الإبقاء علي الحدود كما هي. وهذا الاتجاه ذاته لم يشأ أن يطرح ــ صراحة ــ مبدأ المحافظة علي الحدود بوصفه حكمًا في الميثاق، لا لعدم الاقتناع به ولكن خشية ألا تحظي الموافقة علي المبدأ بالإجماع المطلوب، أو أن ينكشف الخلاف ويتطور في هذا الشأن، والمهم أن المحافظة علي الحدود الاستعمارية السابقة صار مبدأ لدي حكومات الاستقلال الوطني. وإن استمسكت دول التحرر الوطني بميراث الحدود الإقليمية الذي آل إليها من الاستعمار. ونحن في عالمنا العربي نعرف أيضًا ما حدث من تمسك بحدود اتفاقية سايكس بيكو في بلاد المشرق العربي، فقد ظلت بعد الاستقلال في الأربعينيات من القرن العشرين علي ما كانت عليه أيام الاحتلال الفرنسي الإنجليزي لهذه البلاد، إلا ما حدث في فلسطين مما كان له شأن آخر، وقد ظهرت بعد ذلك مشروعات توحيد باسم «الهلال الخصيب» تضم بر الشام كله والعراق، ومثل «سوريا الكبري» تضم بر الشام كله، ولم يفض شيء من ذلك إلي شيء في الواقع. ومصر، بترت عن جاراتها في الشمال الشرقي، أي في بر الشام، منذ اتفاقية لندن في 1840 مع بقائها الشكلي في الإطار العثماني، ثم بُترت عن حدودها الجنوبية مع السودان بعد الاحتلال الإنجليزي لها في 1882 وإنهائهم الوجود المصري في السودان، ثم إعادة فتح السودان لصالح الإنجليز وإبرام اتفاقية 1899 حول هذا الأمر، وظهرت دعوة وحدة وادي النيل بين مصر والسودان، وهي دعوة صنو، لدعوة الجلاء البريطاني عن مصر، ولكن تحقق الجلاء عن مصر في 1956 في ذات الوقت وفي ذات السنة التي تحقق فيها الانفصال بين مصر والسودان، بجلاء الإنجليز عن السودان بموجب اتفاقية 1953 ونشوء حكومة السودان المستقلة في ذات السنة. [ 4 ] إن الاستعمار ليس عدوانًا فقط، وليس ظاهرة سياسية عسكرية تأتي ثم تذهب منفردة، ولكنه مثل أي مؤثر سياسي اجتماعي تاريخي ذي فاعلية، يولد آثارًا ويغير من أوضاع، وإن وجوده من شأنه أن يغير من هيكل الأوضاع التي كانت قائمة قبل وفوده، فينهي عناصر قوة كانت موجودة، وينهي أيضًا عناصر ضعف كانت قائمة قبله، وكانت هي ما تسبب في تحقيق الاحتلال، ولكن تنشأ في ظله عناصر قوة جديدة من أنواع مستحدثة لم تكن قائمة، كما تنشأ في ظله عناصر ضعف ووهن واضطراب جديدة من أنواع مستحدثة أيضًا لم تكن قائمة بهذه الصورة أو الكيفية من قبل، أرأيت إلي الشخص يمرض لعلل فيه، ثم يورثه المرض عللاً جديدة لم تكن فيه، فإذا أبل من مرضه الأول لزمه علاج جديد لعلته الطارئة. وأظهر مثال علي ذلك، ما سبقت الإشارة إليه، من أن الاستعمار بإمكاناته الذاتية وبموازين علاقاته مع الدول الاستعمارية الأخري، قد أنتج تقسيمات وحدودًا للأرض المحتلة لم تكن قائمة بهذه الصورة من قبل، وهذه الحدود والتقسيمات نشأت في ظلها مؤسسات تحددت في نشاطها بهذا النطاق، سواء كانت حكومات عهود الاحتلال المؤيدة له، أو حركات التحرر والمقاومة لهذا الاحتلال، نشأ ذلك محصورًا كلٌّ منه في النطاق المضروب، فصار ذا خصائص إقليمية قطرية محدودة بهذا النطاق. أرأيت إلي المادة تنضغط في وعاء أو تنشأ منضغطة فيه، فإذا انفك الوعاء منها وسقط، بقيت هي في تشكلها الداخلي تتخذ حجم الوعاء المنفك وقده، وتمارس وظائفها في هذا النطاق؛ لأنها بطاقاتها وإمكاناتها صارت محكومة بهذا القد، كما أن علاقاتها الداخلية وقدراتها الذاتية بين أجزائها صارت مترابطة علي هذا الوضع، وبحيث إن امتدت أطرافها وتباعدت أوصالها، فإنها تتفكك وتتفسخ. ومن هنا تقوم هذه الذاتية ــ من حيث تدري أو لا تدري ــ بالمحافظة علي هذا الوضع الراهن. هكذا كان الشأن بالنسبة لحركات التحرر الوطني التي أجلت المحتل الأجنبي وأنهت فترة الاستعمار الغربي التقليدية السابقة، وهكذا كان الشأن بالنسبة لحكومات التحرر الوطني التي ورثت عهود الاستعمار السابقة، وحلت محلها في حكومة مجتمعاتها، صارت محدودة القد والوظيفة والقدرة والنظرة في الإطار الإقليمي الذي مارست حركتها السياسية فيه من قبل الإطاحة بالاستعمار، وصارت محدودة في كل ذلك من آلة الحكم التي ورثتها وشغلتها من بعد جلاء المستعمر وحلولها محله. ونحن نعرف أن التشكل العضوي لأي تنظيم سياسي حركي، من حيث صفات الأعضاء المنتظمين فيه، ومن حيث علاقات تبادل المعلومات والخبرات، وأساليب اتخاذ القرارات، والالتزام بها وتنفيذها، هذا التشكل العضوي واللائحي في التنظيم السياسي الحركي يصير هو ذاته التشكل الذي تنبني به الدولة التي سيطر عليها ويشغلها من بعد، وتتشكل به خرائط توزيع القرارات واتخاذها وتنفيذها، وهو ذاته الذي تتحدد به أوصاف الأعضاء ونوعياتهم. ومثال ذلك مثلاً، فإن الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط قامت في مصر بموجب التشكل المختلط من ذوي الديانتين من المصريين، سواء في التشكيلات الحزبية التي ظهرت في مصر تطالب بالاستقلال واستكماله وإجلاء الإنجليز، أو في التشكل الذي بُنِي به جهاز الدولة ومن بعده؛ لذلك لم تقم مشكلة حقيقية في مصر تتصل بهذا الشأن. أما ما كان بالنسبة للسودان، فقد كان أمرًا مختلفًا، إذ لم يبنَ أي من حركات السياسة التحريرية في مصر بتكوين مشترك من مصريين وسودانيين، ولا كان ذلك مما تشكلت به أجهزة إدارة الدولة في مصر ولا في السودان؛ لذلك لم يكتب للوحدة أن تتم بين مصر والسودان. وصار الجهاز الحكومي في كل من مصر والسودان جهازًا معوقًا لتحقيق ما صبا إليه الجانبان من وحدة بينهما، أيقنا معًا أن صالحهما المشترك يقتضيها، في مدي النصف الأول من القرن العشرين. ومثال آخر، فإن حزب المؤتمر في الهند نشأ ونما علي أساس تكوين عضوي هندوسي في الأساس، وما لبث أن ظهر بجواره حزب آخر هو العصبة الإسلامية، ورغم أن كلاً منهما كان معارضًا للوجود الاستعماري الإنجليزي في الهند، وكلاهما ينشد استقلال الهند من الحكم البريطاني، فإن هذا التركيب العضوي للتنظيم الحركي في صورته الانفصالية لكل من الهندوس والمسلمين، هو ما حَكَمَ تشكل الجماعة السياسية من بعد، وحمل في طياته القدر التاريخي المرسوم لانفصال مسلمي الهند عن هندوسها، ونشوء جماعتين سياسيتين مستقلتين في ربوع الهند الكبير. وصار تكوين حركتين وتنظيمين هو جنين التكوين لجماعتين سياسيتين، ثم صار تكون حكومتين لكل من الهند وباكستان عائقًا صلدًا دون تحقيق الوحدة بينهما من بعد. وإذا كان الاحتلال البريطاني هو من أغري كلا من الفريقين بالنشوء المستقل عن الآخر، فقد صار هذا النشوء نفسه عائقًا صلدًا حتي بعد خروج الإنجليز من الهند. وآل الأمر إلي ما نعرف جميعًا من جفوة وعداء، ومن وقوع باكستان في براثن الهيمنة الغربية، ومن تمكن الغرب (الإنجليزي ثم الأمريكي) من الإفادة من عداء كل من الجماعتين الهنديتين للأخري. فالهند الضعيفة أفضت إلي الاحتلال الإنجليزي، والاحتلال الإنجليزي أفضي إلي التقسيم، وزال الاحتلال وبقي التقسيم. وقام التهديد المتبادل يعمق الخلافات بين أهالي الدولتين. وفضلاً عن ذلك جميعه، فإنه إذا كانت الدولة القُطرية هي من معوقات الوحدة بين من يشتركون في جماعة سياسية أشمل، وبين من يحتاجون إلي الاندراج في هذه الجماعة الأشمل ليستقووا بها علي ما يواجهون من مخاطر مشتركة، فإن ما حد ــ أيضًا ــ من القدرة علي توحيد الأقطار المتشاركة في جماعة أشمل، يتعلق بموازين القوي بين حركات التحرر وبين القوي الاستعمارية بخاصة والقوي الدولية الكبري بعامة. نحن نلحظ أنه علي مدي القرن العشرين تحقق الاستقلال السياسي للغالب الأعم من بلاد العالم وأقطاره التي كان تم اقتسامها بين الدول الغربية الكبري في مفتتح هذا القرن نفسه. ومع ذلك ورغم تحقق الاستقلال السياسي للغالب الأغلب منها، فلا نكاد نلحظ واقعة توحد جرت ونجحت بين بعض هذه الأقطار وبعضها الآخر. ومصر والسودان، لم تستطيعا أن تتوحدا رغم دعاوي وحدة وادي النيل، ورغم الاحتياج الشعبي الحقيقي للوحدة لدي تيارات جد مؤثرة في البلدين، وتحقق الانفصال السياسي في منتصف الخمسينيات، ومصر وسوريا حققتا وحدة سياسية في 1958 وأنشأتا دولة واحدة، وسط زخم سياسي دعوي هائل تزكيه دعوي العروبة والتشوق للأمة الواحدة، ويدعمه الحس الحقيقي بالخطر المحدق من وجود دولة إسرائيل وتهديدها كلا الإقليمين المصري والسوري فيما تهدد من أقطار العرب والمسلمين وشعوبهم، ويقويه سيطرة الوطنيين الوحدويين علي الحكم في كلا الإقليمين، في شعور تعبوي عام يشمل العرب جميعًا ويحتضن أملهم. ومع ذلك لم تستمر الوحدة أكثــر مــن ثلاث ســنوات ونصف (مــن فبــراير 1958 حتي سبتمبر 1961)، وكانت سياسات الدول الكبري مما أسهم في حدوث الانفصام. فضلاً عن التكوين المؤسسي الحكومي الذي سبقت الإشارة إليه. ومحاولات توحيد مصر وليبيا والسودان في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات لم تسفر عن شيء متحقق، سواء في عهد الرئيس جمال عبد الناصر أو في عهد خلفه الرئيس أنور السادات، وكانت الإرادة الوطنية تنكسر من دون ما تطمح إليه من توحيد، أو كانت المشيئة الاستعمارية تتغلغل في الإرادة «الوطنية» لأي من الأقطار بما يفشل مسعي التوحيد. وبالنسبة لغير العرب حدث ذات الأمر، فإن باكستان انشقت دولتين بانفصال بنجلاديش عنها في السبعينيات، ويوغوسلافيا تناثرت دويلاتها شعاعًا في شبه جزيرة البلقان، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، سقطت منه الجمهوريات الإسلامية لوسط آسيا والواقعة في جنوبه، سقطت مكونة خمس جمهوريات. وهي إن كانت لم تجمعها من قبل جامعة سياسية ووحدة انتماء أشمل مع روسيا القيصرية أو روسيا الشيوعية، إلا أنها كان حريا بها عند انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات أن تتجمع بجامع الإسلام أو جامع قومياتها التركية أو غيرها، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، وما كان لروسيا ولا لأمريكا ولا للغرب بعامة ــ علي تعارض مصالحه ــ أن يسمح بشيء من ذلك، يقوم في بطن آسيا في جنوب روسيا وغرب الصين وشمال الهند وباكستان وشرق إيران وتركيا، كما سقط من روسيا أيضًا جمهوريات البلطيق في شمال أوروبا عند روسيا الغربية، وتناثرت في بضع جمهوريات منها أوكرانيا وروسيا البيضاء وغيرها من ساحل البلطيق غربًا إلي ساحل البحر الأسود جنوبًا. لا أخال أن وحدة جرت إلا ما كان من وحدة اليمن الشمالي مع جنوب اليمن المكون أساسًا من عدن وحضرموت عند شاطئ بحر العرب والبحر الأحمر. وكانت هذه حالة فريدة جرت في «غفلة من الزمان الاستعماري» إن صح هذا «التعبير الشاعري»، ولعل من عناصر ما يحيط بهذا الحدث السياسي، أن زمان الحدث كان يواكب بدء سقوط الثنائية الدولية وبدء انهيار الاتحاد السوفيتي دون أن يظهر بوضوح ما تستقر عليه الأحوال، وأن المنطقة ذاتها لم تكن ذات أولوية سياسية تجعلها في بؤرة الفعل الدولي للدول الكبري، وأن الحكم اليساري السابق لعدن كان انهياره بغير بديل داخلي معقول. والمهم المقصود من ذلك كله، بيان أن حركات التحرر الوطني إن كانت استطاعت أن تزيح الاحتلال الأجنبي الاستعماري عن أراضيها في داخل أقطارها، وإن كانت استطاعت أن تسترد قدرًا مهمًا من إرادتها الوطنية تتوخي بها صالح شعوبها في هذه الفترة لما بعد الاستقلال، فإنها لم تستطع أن تحقق إرادتها الوطنية ولا أن تستجيب لموجبات توحيد الجماعات السياسية بما يضمن لها الموقع الأمثل والأفعل في الإطار الدولي. وإن كان ذلك بسبب عاملين أساسيين، أولهما: أن الإرادة الذاتية لمؤسسات الاستقلال الوطني القطري صارت معوقًا للتوحيد، والثاني: أن موازين القوي الدولية لم تكن تمكن من تحقيق هذه الأقطار التي تنشئ كيانات دولية ذات بأس وقوة ومنعة. [ 5 ] المواطنة ــ في ظني ــ هي واحد من وجوه الانتماء للجماعة السياسية، لأن المواطنة هي صفة للفرد الذي ينتمي لجماعة سياسية معينة، قامت علي أساسها الدولة. والمبدأ النظري أن الدولة تُعتبر المؤسسات ذات السلطان التي تدير الشئون العامة للجماعة السياسية، وهي ــ بموجب حاكميتها للجماعة وإدارتها لشئونها العامة ــ تكون ذات سطوة وولاية عليها، بقدر يضيق ويتسع، ويشتد ويضعف، حسب التنوع الهائل الحاصل في هذا الشأن، ولكنه بموجب هذه الحاكمية يظهر إزاءه في المقابل وصف المواطنة، بحسبانه وصفًا سياسيا يتحدد به الطرف الآخر للعلاقة مع الدولة. والمواطنة بذلك هي الصفة التي تتعلق بالفرد بما توافر فيه من وصف سياسي قامت الدولة علي أساسه. والفارق ــ في ظني ــ بين «المواطنة» وبين «الجنسية»، هو فارق بين الوصف السياسي وبين المصطلح القانوني. الوصف السياسي هو وصف واقعي يستخرج من أوضاع الحياة المعيشة، ويتعين بالاستقراء مثل ظواهر الطبيعة والظواهر الاجتماعية، وهو بذلك يعتريه التدرج بين الظهور والخفوت، وبين التحدد والتداخل، وبين الانضباط والتردد، وبين التيبس والمرونة. بينما المصطلح القانوني تتحدد به مراكز للحقوق تكون ثابتة كما تكون باتة وحاسمة، وتقطع بين الأمر وغيره. والقانون لا يحيط بالظاهرة ولا يحصي أفرادها، ولكنه يكتفي بما يتوافر «غالبًا» فقط؛ لأن الضبط لديه أولي؛ ولأن الظهور أجدي من حيث ما يتغيا من كفالة الحقوق وتحديدها وتعيين الواجبات والالتزام بها. وإذا كان الوصف السياسي يصدر عن أصحاب رأي في مجتمعهم، فإن المصطلح القانوني يصدر عن ذوي ولاية بسلطانهم؛ ومن ثم يملكون التقرير وإن كان يتضمن قدرًا من التحكم. فالمواطنة والجنسية، أمران يشيران إلي ظاهرة واحدة تتعلق بالوصف الذي يلحق الفرد بموجب انتمائه لجماعة سياسية قامت علي أساسها الدولة. ولكن الأول يتناوله رجال السياسة والاجتماع بآرائهم ودعاواهم، والآخر يملكه رجال الحكم بقراراتهم وسلطانهم وتحديدهم لحد الواجب وحد الحق. والمواطنة ــ باعتبارها وصفًا ــ يكفي فيه التقبل العام والتراضي العام حسبما يشيع بين الناس وتتقبله الحياة الاجتماعية، وقد كان ذلك كافيا في المجتمعات القديمة، وقبل ظهور الدولة الحديثة في القرنين الماضيين. أما الجنسية فهي بما يتعين أن يتوافر لها من ضبط وتحدد، إنما ظهرت مع ظهور الدولة الحديثة من حيث ما انكفل لأداة هذه الدولة من كامل الهيمنة علي المجتمع، ومن حيث ثبوت الحدود الإقليمية للدول بالضبط الذي بينته الخرائط، ومن حيث ما صار لهذه الدولة من ولايات محددة لإصدار القرارات والقوانين وما كفلته أساليب الإدارة الحديثة من الإثبات الكتابي وحفظ المكاتبات وغير ذلك من ضبط السجلات والأضابير. والمواطنة تكشف عن انتماء سياسي للجماعة، وعن علاقة بالدولة التي تحكم وتدير هذه الجماعة، ولا يقوم مشكل في ذلك ما بقي الأصل النظري سائدًا ومطبقًا في الواقع العملي؛ أي ما بقيت الدولة تصدر وتؤسس علي جماعة سياسية محددة ومتبلورة. ولكن الخلل يظهر عندما نلحظ ما لاحظناه من أثر الاستعمار علي الجماعات السياسية وعلي نشأة الدول فيها بالنسبة لشعوب آسيا وأفريقيا، وما حدث من تقسيم وتفتيت لم يراع الضوابط والميزات التي تميز كل جماعة سياسية عن غيرها، من حيث الوصف والتصنيف السائد لدي شعوبها والذي يرتضونه مميزًا لهم عن غيرهم وكافلاً لمصالحهم المشتركة. ولقد كان من شأن هذا التقسيم والتفتيت أن يفضي إلي وضع من أوضاع الاستحالة بالنسبة لعلاقة الجماعة السياسية مع الدولة، من حيث عدم إمكان تحرير وصف المواطنة الذي يتصل بعلاقة الدولة برعاياها، ولكن الحادث أن الدولة الحديثة كانت قد نشأت وظهرت بما تتحلي به من مكنات التشريع والإقرار بالحقوق والواجبات لرعاياها، وظهرت قواعد الجنسية وأحكامها. وقد سبقت الإشارة إلي أن من الفروق بين مفهوم «المواطنة» ومفهوم «الجنسية»، أن مفهوم المواطنة تقرره الجماعة بالنسبة لأفرادها أو لجماعاتها المندرجة في تشكيلها العام، وذلك بالتقبل والتعارف العام وفقًا لما يسود لديها من أعراف، أو بما يتداوله مفكروها وساستها من آراء يستخرجونها بالاستقراء والملاحظة لأوضاع الواقع والجماعات، بينما الجنسية تتحدد بمركز قانوني يحدد حقوقًا وواجبات، وتقرره الدولة بما تملك من سلطات التشريع والإنفاذ لقراراتها. صار الوضع من الناحية الواقعية بالنسبة للجماعات والشعوب والبلاد التي خضعت للاستعمار، صار الوضع يتحدد ــ كما سبقت الإشارة ــ لا بموجب ما تكشف عنه التصنيفات البشرية من جماعات سياسية، ولكن بموجب علاقات القوي بين الدول الاستعمارية في تحديد الحدود الجغرافية لمناطق نفوذها، أو بموجب علاقات القوي بين حركات التحرر الوطني في هذه الأقاليم والقوي الاستعمارية، وذلك بصرف النظر عن التميزات العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والإقليمية، والتي تفرز جماعة عن جماعة، فصار الإقليم يتحدد أولاً بموجب توازنات القوي الخارجة عنه والمؤثرة فيه، ثم تتحدد علي أساسه الدولة، ثم تظهر المواطنة بموجب ما تضعه الدولة من أحكام وقواعد للجنسية التي يتحدد بها رعاياها. وهذا بالضبط هو عكس الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يحدث. ونحن نعرف أنه طبقًا للفكر السائد في فقه القانون الدولي العام، أن الدولة هي جماعة من الناس تقيم في إقليم معين وتقوم عليها حكومة، والتعريف يحدد المسألة، بما يكشف أن الجماعة السياسية هي الأساس، وهذا تكوين ثقافي ــ بطبيعة الحال ــ يعتمد علي الإدراك لعلاقة الانتماء التي تربط ناسًا بعضهم ببعض، بالتفصيل الذي ورد فيما سبق بصدد هذا الموضوع، وأن الإقليم هو ما يتحدد به وجود الجماعة ذات الصيرورة التاريخية، وأن الدولة هي نتاج هذا الوضع؛ لأنها مؤسسة إدارة الجماعة والذود عنها مما هو مشترك وعام لديها. أما الصورة التي صيغت بها دول ما بعد الخضوع للاستعمار، فقد تعينت ــ أولاً ــ بموجب حدود جغرافية، ثم قامت الدولة علي أساس هذه الحدود وما بها من شعوب أو جماعات بصرف النظر عن مدي التجانس والتوحد بينهم، وبصرف النظر عن مدي انتماء بعضهم لباقي جماعاتهم خارج الحدود الإقليمية المضروبة عليهم. ثم إن هذه الدولة هي من أصدر قانون الجنسية الذي تحدد به من هم مواطنوها. أي أنه بدلاً من أن يكون الشعب هو من عين دولته، صارت الدولة هي من عين شعبها. أرأيت إلي جمعية من الجمعيات أو شركة مساهمة من الشركات أو نقابة من النقابات؟ الأصل فيها أن جمعيتها العامة هي من يشكل مجلس إدارتها، أرأيت صورة هذه التكوينات: أن صار مجلس الإدارة هو الأصل وهو من يعين جمعيته العمومية؟ ترتب علي ذلك ما نراه في عالم اليوم من كيانات عجيبة، اتخذت وصف «الدول»، وأقر لها النظام الدولي الذي تسيطر عليه الدول الكبري منذ القرن التاسع عشر، أقر لها بالوجود الشرعي بوصفها دولاً، وهي في الحقيقة دول بغير جماعات سياسية ذات تميز وتكامل متبلور. فعرفنا دولاً هي في الحقيقة مساحات أرض لإنتاج أو استخراج مواد معينة من باطنها؛ فهي تقوم بوظائف تقتضيها الأوضاع العالمية: متطلبات واحتياجات؛ بصرف النظر عن المتطلبات والاحتياجات التي يقتضيها شعب هذه الدولة، وهي تقوم بهذه الوظائف في إطار القدرات والممكنات العالمية، بصرف النظر عن قصور القدرات والممكنات التي يطيقها شعب هذه الدول. ومن ثم، لوحظ أن عدد الأجانب في بعض من هذه الدول يزيد علي عدد من أقر لهم بالمواطنة بموجب قوانين الجنسية. وعرفنا أيضًا دولاً هي في الحقيقة قواعد عسكرية وجدت لتدافع عن المصالح الاستراتيجية للدول الكبري في إقليم معين، وجرت حركة تهجير شعوب إليها؛ ليقوموا بوظائف الخدمة والإدارة والتعزيز للوظائف العسكرية المنوطة بهذه الدول. وعرفنا دولاً تقوم بوظائف الأسواق التجارية فقط في المنطقة التي وجدت بها، وتعتمد في ذلك علي حركة بيع للسلع التي ترد إليها من الخارج، وحركة شراء لذات السلع التي تصدر منها للخارج، والبائع والمشتري كلاهما أجنبي، والتجار أكثرهم أجانب، أو هم وكلاء لأجانب. وعرفنا دولاً هي مجرد نقط مرور تقوم في مضايق البحار أو وسط المحيطات لتقدم الخدمات الملاحية لمن يمرون عليها في طرق التجارة الدولية. وصار إسباغ وصف «دولة» علي إقليم معين إنما يجري ــ لا بسبب يتعلق بالجماعة السياسية ذات الوجود المتجانس التي تعبر عنها هذه الدولة وتشخصها جماعة ومصالح ــ إنما صارت الدولة تنشأ أولاً لاحتياج خارجي، وتترسم حدودها الجغرافية وفقًا لهذه الاحتياجات، ثم تكتسب حماية المجتمع الدولي ومنظماته ــ لا لرعاية شعبها وجماعتها ولا ذودًا عن شعبها وتحقيقًا لمصالحه ــ ولكن لرعاية الوظائف التي نيطت بها خدمة مجموعة الدول الكبري المستعمرة، وسلُس كل ذلك وسهل بموجب أن الإقليم كُوِّن أولاً، ثم نشأت الدولة، ثم قامت الدولة بتعيين شعبها، وتحديد وصف المواطنة والذي يسبغ علي من تري جدارتهم لتحقيق الوظائف المنوطة بالدولة من الخارج. صارت الدولة ــ في هذا النطاق وبهذه الوظائف المنوطة بها ــ ليست فقط عائقًا في وجه تحقيق وحدة من يخضعون لها من فصائل شعبها ومن الجماعات السياسية التي تمتد خارج الحدود الإقليمية لهذه الدولة، ولكنها أيضًا دولة تنتمي إلي نظام الدول الكبري المهيمنة في العالم، وتخدم صوالح هذه الدول الكبري، بصرف النظر عن وجوه الصلاح للجماعات السياسية الخاضعة لها، وصارت منافذ للوفود الأجنبي للجماعات الخاضعة لها، بدلاً من أن تقوم بالواجب الأول الذي يتعين أن تقوم به الدولة؛ وهو حماية شعبها من المخاطر الخارجية. وقد لا تكون مصر علي هذه الصورة الأخيرة بالنسبة لعلاقة الدولة مع الجماعة؛ بسبب ما لشعبها من تجانس، وما لذلك من أثر مهم في تشكل دولتها، ولكن لا ننسي قط أن مصر غير مكتملة؛ لأن ما يتهدد أمنها القومي يوجد خارج حدودها الدولية المرسومة؛ ولذلك أثره الكبير في أنها ما بقيت منكمشة داخل هذه الحدود، فهي بالضرورة ستكون خاضعة للقوة الأجنبية. [ 6 ] إن هذا الذي حدث أوجد شرخًا مؤسسيا في بناء العلاقة بين الجماعة السياسية وبين الدولة، وذلك في الغالب في البلاد السابق استعمارها، أو البلاد التي نجح الاستعمار في خط حدودها، بل الظن القوي أن هذا الحادث لم يشرخ تلك العلاقة فقط، بل صدعها في الكثير من الحالات، فصارت الدولة تشكيلاً مؤسسيا خارجيا عن الجماعة مفروضًا عليها، وصار الخاضعون لها أشتاتًا من جماعات تتدرج بين التنافر وعدم التجانس وتوزع الأجزاء. وأوضح الأمثلة علي ذلك الكثير من البلاد الأفريقية جنوب الصحراء الكبري. وكما سبقت الإشارة، فإن الأصل أن تتبلور وتتعين الجمــاعة الســياسية، وأن تقوم الدولة علي هذا الأساس وفي هذا النطاق، ويتحقق وصف المواطنة لذويهـا. وأن ذلك يشــكل البنية الأساسية التي يقوم عليها أي كيـان سياســي أو مؤسسة تنظيمية تظهر في نطاقها. لذلك من الطبيعي أنه كلما اختلت البنية الأساسية أو اضطربت عناصر تكوينها، كلما اختل واضطرب كل بناء يقوم عليها. إن الجماعة السياسية تضم جماعات عديدة. وإن ما يميزها عنهم أنها الجماعة التي صارت مرشحة لأن تقوم بوظيفة تاريخية تتعلق بحفظ وحماية «المشترك العام» الذي يجمع عناصر هذه الجماعة؛ تصونها من مخاطر الخارج وتضمن لعناصرها أفرادًا وجماعات إمكان العيش المشترك وتحقيق المستوي المعقول للعيش المشترك للجماعة بعناصرها المتضمنة فيها من النواحي المادية والثقافية، وبما لا يضمنه ولا يكفله تاريخيا إلا هذا التجمع. ومن ثم تعتبر الأوصاف القائمة بين عناصر هذه الجماعة السياسية الأساسية أوصافًا تابعة، تقوم بها جماعات انتماء فرعية محكومة بهذا الانتماء العام والذي يقوم به وصف الجماعة السياسية، ويعتبر به حاكمًا لغيره بقدر ما يكون حاميا وحافظًا لهذا الغير. والجماعة السياسية بهذا الاعتبار،لابد أن تكون هي الجماعة الحاكمة؛ لأنها هي ما يبلور في مرحلة تاريخية معينة أصول الصالح المشترك بعيد المدي لمن يندرج فيها من أفراد وجماعات ووحدات اجتماعية، فهي حاكمة بمعني أنها ترعي الصالح التاريخي المشترك لمكوناتها، وهي حاكمة بمعني أنها توجد الصياغات السياسية والاجتماعية المناسبة لتحقيق توازن الوجود وتوازن المصالح المادية وتوازن الهويات الثقافية لما اندرج فيها من جماعات ثقافية وعقيدية ولغوية وإقليمية وعرقية، بحيث يكون اندراج هذه الجماعات الفرعية في الجماعة السياسية الأساسية محققًا لها للقدر المناسب من الوجــود الذاتي والثقــافي والمادي، وكافلاً لهذا الوجود بما لا يكفله ولا يضمنه خيار تاريخي آخر، وبما يكفل لها جميعًا من الأمن تجاه مخاطر الخارج، ما لا يكفله خيار تاريخي آخر كذلك. وبموجب كون الجماعة السياسية هي الجماعة الحاكمة وفقًا للوظائف السابقة، تقوم الدولة علي وفق هذه الجماعة السياسية الأساسية، بما تتيحه مؤسسة الدولة من مكنات وصلاحيات لممارسة واجبات الحماية من مخاطر الخارج، وحفظ قوي التماسك الداخلي. وتصير الدولة وجهازها هي المشخص للجماعة السياسية، والمعبر عنها، والمحقق لإرادتها عندما تتهيأ الإرادة، ولفاعليتها وولاية نفاذها عندما تتقرر الفاعلية. والدولة ــ بوصفها المعبر والمشخص الفاعل للإرادة الجماعية ــ يتعين أن تبني علي وفق ما اتصفت به الجماعة السياسية من وصف مميز لها، وجامع لوحداتها، ومانع من التباس غيرها بها، كوصف الإسـلام إن كان هو ما جمعها، أو وصف العــروبة إن كانت صـارت كــذلك، أو وصف المصرية أو السورية أو غيرها، ما بقيت كذلك، أو حتي الوصف القبلي أوالعشائري حيث يكون هو ما تميزت به جماعة سياسية ما في زمان أو مكان ما. وإذا قامت الدولة لا بموجب الوصف العام الذي يجمع الجماعة السياسية ويميزها، ولكن بموجب وصف يتعلق بأي من الجماعات الفرعية المندرجة في الجماعة السياسية، واقتصرت علي من يضمهم انتماء فرعي فحسب، ولو في مستوياتها العليا الخاصة باتخاذ القرارات ورسم السياسات، فإن ذلك من شأنه أن يكون مهددًا للصيغة العامة التي تقوم عليها الجماعة السياسية، ولقوة التماسك الواجب وجودها لوجود الجماعة العامة؛ ذلك لأن أي جماعة أو مؤسسة أو كيان تنظيمي، إنما تقوم له ذاتية خاصة به، وتستوعب هذه الذاتية مع الوقت فاعلية الكيان التنظيمي، وأن مما تنبني عليه هذه الذاتية ما يضم القائمين علي هذا الكيان التنظيمي من أوصاف مشتركة تمزج بينهم وتفرقهم عن غيرهم. ونحن نعرف من تجارب الدول أن طوائف أو قبائل أو أهل إقليم اجتمع منهم ما صاغ المراكز الرئيسية في تكوين لدول بعينها، فاصطبغت الدولة بهذا الوصف الإقليمي أو الطائفي أو القبلي، وصارت الدولة مفروضة علي الجماعة كلها بموجب هذا الوصف الخاص، ولاحظنا ذلك ــ في باكستان مثلاً ــ عندما قامت الدولة الموحدة من باكستان الشرقية (البنجال) والغربية، وسيطر عليها أهل الغرب وحدهم، وانتهي الأمر إلي انفصال بنجلاديش عنها. ونلاحظه أيضًا في مشاكل شمال السودان مع جنوبه، ولاحظناه مثلاً في سيطرة أهل تكريت بخاصة علي العراق، ونلاحظه فيما ترتب علي سيطرة السنة العرب علي العراق جميعه مما تجري فصوله إلي الآن. لذلك، فإنه يتعين في صياغة مؤسسات الدولة أن تكون من حيث التكوين العضوي لها، ومن حيث الشاغلين لمناصبها الرئيسية وذوي الإرادة والنفوذ فيها، القابضين علي مفاتيح حركتها، يتعين أن يكونوا ممن يضمهم الوصف المميز للجماعة السياسية التي قامت الدولة علي أساسها، وألا يقوم مانع من شغل مناصبها يتعلق بمن توافر فيهم الوصف العام المذكور، ولا أن يقوم بالقانون أو بالعرف العملي المطبق ما يمنع ذوي انتماءات فرعية ما من تولي مناصب الدولة وشغلها، مادامت انتماءاتهم الفرعية مندرجة في شمول الانتماء العام الذي تبلورت به الجماعة السياسية وانبنت به الدولة. ومن هذا، يظهر أن الدولة لا تتكامل وظائفها ولا تتهيأ للقيام بها علي النحو التاريخي المأمول، إلا إذا كانت تعكس في تكوينها العضوي والذاتي ما تبلورت الجماعة السياسية علي أساسه؛ ولذلك فإن ما حدث من اضطراب في تشكل الجماعات السياسية بسبب الحدود الاصطناعية التي فرضتها أوضاع الاستعمار علي بلاد آسيا وأفريقيا، وبناء الدول لا علي وفق تشكل متكامل للجماعات السياسية، هذا الذي حدث جعل الدول المذكورة ــ في أغلب صورها ــ لا تعكس في تكوينها العضوي إلا أقسامًا محدودة من القاعدة الشعبية التي تحكمها، والتي تتكون من أجزاء وأشلاء من جماعات شتي مبتورة وموزعة عبر حدود دولية مفروضة. ومن هنا لا نلحظ نظام حكم مستمرًا منضبطًا في تداوله، وفي تغيراته، وفي اتصاله بجمهوره، بصرف النظر عن مدي ما ينبني عليه من ديمقراطية أو استبداد. أي أنه حتي الحكم المستبد قديمًا كانت له منظومة يقوم عليها وأعراف تحكم تداولاته. أما الظاهرة المشار إليها هنا فهي تتخطي ذلك وتتجاوزه إلي أنواع من الاضطراب ناتجة عن هذا الصراع القائم بين الجماعة والدولة، لأن الدولة لا تعكس تكوينات الجماعة. والحاصل ــ في ظني ــ أن اتصال الدولة بالجماعة السياسية من حيث إن الجماعة تكون متبلورة ومتكاملة، ومن حيث إن الدولة يتعين أن يكون تركيبها العضوي متجانسًا ومتناسبًا مع الوصف الذي تصنفت به الجماعة السياسية وتبلورت، هذا الاتصال هو شرط مسبق أو هو ما يمثل البنية الأساسية التي يقوم عليها نظام سياسي فعال، وجماعة قادرة علي القيام بوظائفها التاريخية الفعالة، ودولة قادرة علي تشخيص هذه الجماعة والتعبير عنها. ونحن عندما ننظر في أنظمة الحكم في التجارب المختلفة، يتعين علينا أن ننظر أولاً في أوضاع البنية الأساسية للجماعة السياسية، والتي تقوم عليها هياكل البناء الحاكم. وإذا كنا في هذا العصر الحديث المعيش نصدر عن مسلَّمة فكرية تتعلق بأفضلية النظم الديمقراطية علي نظم الاستبداد السياسي، وأن هذه الأفضلية إنما تقوم علي مستوي الفاعلية السياسية في حفظ أمن الجماعة السياسية وكفالة تماسك قواها، كما تقوم علي مستوي الرشد في النظر إلي الواقع وفهم أوضاعه وتقرير السياسات الخارجية والداخلية المناسبة، وكما تقوم علي المستوي الأخلاقي في ضمان الحد الأدني المرجو من تحقق المساواة والنأي عن الظلم والجور، أو بالأقل ضمان السعي لهذا الأمر. إذ كنا علي هذه الدرجة من الإدراك، فإننا عندما ننظر في تجاربنا في هذا الشأن ومدي ما حاق بها من تعثر أو تعطيل أو فشل، فإننا يتعين أن نوجه بعض جهودنا البحثية إلي النظر في أصل تبلور الجماعة السياسية في الإطار المضروب عليها مما سبق شرحه أو الإشارة إليه، كما يتعين النظر إلي التركيب العضوي للدولة، ومدي ما يعبر هذا التركيب عن كمال العلاقة بين هذه الجماعة السياسية المتبلورة وبين الدولة المشخصة لها والمعبرة عنها إرادة وفعلاً. فمثلاً، لقد سبقت الإشارة إلي صلة الجماعة السياسية بالمواطنة وبالدولة، والديمقراطية تتعلق بالجانب التنظيمي الذي تبني به الدولة بوصفها مؤسسة، وتتشكل به هيئاتها. وأسس الديمقراطية هي الأصول العامة لنوع من أنواع إدارة شئون الجماعات، ويمكن أن تتشكل وفقًا لها تنظيمات عديدة تقوم بمهام مختلفة ومتنوعة، سواء في إدارة شئون مصالح إقليمية كالإدارات المحلية، أو وحدات الانتماء الفرعية كالجمعيات والنقابات، أو ذوات المصالح المالية كالشركات أو غير ذلك. وغني عن البيان أن الدولة، وهي المؤسسة القائمة علي أساس الجماعة السياسية وهي ما يهيمن علي إدارة المجتمع برمته، هي أوضح وأهم مثال في هذا الشأن. والديمقراطية ــ من ناحية البناء التنظيمي للمؤسسات ــ تقوم علي مبدأ النيابة أو التمثيل النيابي الذي يصدر من الجماعات في عمومها إلي من يتولون شئونهم، وعلي مبدأ توزيع السلطة علي العديد من الهيئات التي تتداول أمورها كي لا تستبد بالأمر والنهي والفعل هيئة وحيدة، وكي يقوم نوع توازن بين هذه الهيئات. كما تقوم علي مبدأ القرار الجماعي الذي يصدر عن أية هيئة من جماعة بها، وليس من فرد، ويصدر القرار بالأغلبية، بما يعني أن رأي الكثرة يرجح رأي القلة. وإن مبدأ المساواة هو ما به يسلس اتخاذ القرار الجماعي؛ لأنه يقوم علي العدد، وذوو العدد الأكبر في أي تشكيل يترجح رأيهم علي رأي ذوي العدد الأقل. والعدد يقتضي التجريد؛ أي تجريد الفرد من كل ما سوي الوصف الذي يجلسه مع غيره من المعدودين ويجعل له صوتًا بين أصواتهم. ولا يتأتي ذلك إلا بالمساواة. فوصف العضوية في مجلس ما يلحق بالعضو فيجعله مساويا تمامًا لغيره من الأعضاء عند اتخاذ القرار، سواء كان ذلك مجلس إدارة شركة أو جمعية أو نقابة أو جماعة. وعلي هذا الوضع التنظيمي بالضبط، يكون مبدأ المساواة هو نقطة الوصل التي لا فكاك منها بين الديمقراطية وبين مبدأ المواطنة، بحسبان المواطنة هي الوصف المتخذ أساسًا لتصنيف الجماعة السياسية التي تشخصها الدولة، وهو الوصف الحاسم في اكتشاف الكثرة والقلة التي تتخلق بها الإرادة وتنبني علي أساسها الأفعال الجماعية. ومن هنا، تظهر جلية الصلة العضوية بين قيام الجماعة السياسية المتبلورة، وصلة ذلك بقيام الدولة المشخصة لها والمعبرة عنها، وعلاقة ذلك بالمبدأ الأساس الذي يقوم به البناء الديمقراطي، وكل ذلك له آثاره المتبادلة في الواقع الفعلي لهذه المفاهيم. وما بقيت الدولة الحديثة ــ في غالب البلاد حديثة الاستقلال ــ علي حالها المتعارض مع ما يتعين أن تشخصه من جماعات سياسية متبلورة ومتكاملة، وما بقيت الجماعات السياسية مجزأة ومنقسمة وموزعة أشلاء، وما بقي الصراع بين التركيب العضوي للدولة وأجهزتها وبين التشكل والتبلور للجماعة السياسية المحكومة بهذه الدولة، ما بقي ذلك كذلك فلا أظن أن الدول تكون قادرة علي القيام بواجبيها الأساسيين؛ وهما حفظ الأمن القومي للجماعة، وحراسة قوي التماسك الداخلي لها. ولا أظنها تكون دولاً قادرة علي تحقيق ما يتعين أن نصبو إليه من توحيد، أو من استقلال، أو من تحقيق لنظام ديمقراطي. مع ما يجري علي التخوم العربية شرقًا وجنوبًا، ومع الدعوات الـ «شرق أوسطية» الملحة والمتلاحقة، يرتَجُّ عالمُنا العربي. إن لم يكن بفعل قذائف تنهمرُ علينا هنا وهناك، فتحت وطأة أسئلة ثقيلة وصعبة. يتواترُ الحديث، يعلو حينًا ويخفت أحيانًا أخري، عن إعادة رسم خرائط المنطقة، إن لم يكن حدودًا سياسية علي الأرض، فحدودا للقوة والمكانة والنفوذ. فضلاً عن محاولات لتذويب الانتماءات والمرجعيات. أو علي الأقل تهميشها. وبغض النظر عن مدي واقعية هذا الحديث، أو قدر المبالغة فيه، تبقي العواملُ الديموجرافية وطبيعة تكون الجماعات السياسية رقمًا أساسيا في المعادلة. وليس العراق والسودان، بل وحتي سوريا ولبنان، الا مجرد أمثلة. كاتبنا ومؤرخنا طارق البشري، المشغول دومًا بقضية المواطنة، ينظر في التاريخ والجغرافيا ليقدم لنا منهجًا للنظر في تشكيل الجماعة السياسية وحركيتها. المحرر لم يحتل الغرب الأرض ويستعمر الشعوب فقط، ولكنــه انتهك الجماعـات السياسـية في توحدها وتكاملها، وقسم الأقطار والأقاليم لا علي وفق هذه الجماعات، هذا الفعل الاستعماري كافحته حركــات التحرير، ولكن لم تلــغ مشيئتـه في التقسـيمــات الحــاصــلة منــه
إسباغ وصف «دولة» علي إقليم معين إنما جري ــ لا بســبب يتعلق بالجماعـة السياسـية ذات الوجود المتجانس التي تعبر عنها هذه الدولة وتشخصها جماعة ومصالح ــ إنما صارت الدولة تنشأ أولاً لاحتياج خارجي، وتترسم حدودها الجغرافية وفقـًا لهــذه الاحتياجات
حركات التحرر الوطني إن كانت اســتطاعت أن تزيــح الاحتلال الأجنبي الاستعماري عن أراضيها في داخل أقطارها إلا أنها احتفظت بالحدود الاقليمية والقطريــة التي ســبق أن وضعتـها الفـتـرة الاســتعمارية
الجماعة المصرية ــ وإن كانت متجانسة تمامًا مــن النــاحيـة البشــرية والثقافيـة والتاريخية ــ إلا أن القسم الغالب من أمنها يقف خارج حدودها، فهي غير مكتملة، وأن هذه الحدود التي حُدَّت بها مصر، ليست إلا نتاج عمـل اسـتعماري غـربي
الحدود الجغرافية لمصر تنحسر عن أن تستوعب أوضاع أمنها القومي، ومصدر الحياة لمصر وشعبها هو النيل، وهو يأتي بالمياه من مصادر تبتعد عن مصر بمسافات تتراوح بين ألفي كيلو متر وثلاثة آلاف كيلو متر. فمصر باعتبارها كائنًا حيا توجــد أمعاؤه خارج جسمه
التكوينات السياسية التي ظهرت، من أواخر القـرن التاسع عشـر وأوائل العشرين لم تكن تتطابق مع تكوينات الجماعات السياسية حسب أي من معايير التصنيـف التــي تجمــع هذه الجماعــات وتميــزها عـن غيرهــا
لا أخـال أن وحــدة جرت إلا مــا كان مــن وحــدة اليمــن الشــمالي مع جنوب اليمن المكون أساسًا من عدن وحضرموت عند شاطئ بحر العرب والبحر الأحمر.وكانت هذه حالة فريدة جرت في «غفلة من الزمان الاستعماري»
علي مدي القرن العشرين تحقق الاستقلال السياسـي للغالب الأعـم من بلاد العالم وأقطاره التي تم اقتسامها بين الدول الغربية الكبري، ومع ذلك، فلا نكاد نلحظ واقعــة توحــد جـرت ونجحـت بيـن بعض هـذه الأقطــار وبعضهــا الآخــر
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة