« ســــيرة في كتــــــــــــاب » نيكــولا ســاركوزي...مشـاهد الحـرب والحـب!



ديسمبر 1948. في ليلة ظلماء من شتاء قارس البرودة، أمام بوابة محطة المترو بساحة «ليتوال»، في عاصمة فرنسية مصت دماءها الحرب وتدفقت إليها أسراب المهاجرين من أوروبا الشرقية، وقف فتي عشريني طويل القامة، لافت الوسامة، قد بدت عليه مخايل الذلة بعد العز. ورغم ثيابه الخفيفة الرثة، ورأسه الحليق كالأيتام، ووحدته بلا عدّة أو مأوي أو ظهير، بدا الفتي مستبشراً كالقادم لتوه من الأعراف إلي الجنة. فلو لم يكن قد فر من المجر لربما كان الآن مجنداً في صفوف الجيش الأحمر، أو محتجزاً في جولاج كئيب في أقاصي سيبيريا. لكن ها هي فرنسا تستقبله، ولا يهم بعد برودة الاستقبال أو وحشة اللقاء. فالعبرة بقابل الأيام، وهو علي يقين من إصابة النجاح، كل النجاح. فقط لو كان بوسعه الإفلات من هذا الصقيع! ففي ذلك اليوم البعيد، كان بال ساركوزي نجيبوكساي يقف حافي القدمين... وحول بنصره، التمع خاتم ذهبي يحمل شعار النبلاء المنحدرين من أسرة ساركوزي المجرية العريقة، ذلك الشعار الذي يحمل صورة ذئب يقف منتصب القامة كأنه إنسان، شاهراً سيفاً في يده اليمني بينما خرج لسانه الطويل من بين أسنان حداد. مايو2007 . تري هل جالت تلك الذكري البعيدة بخاطر الأب وهو يحتفل بوصول ابنه نيكولا ساركوزي إلي قصر الاليزيه؟ يتشابه الأب والابن في كثير من الصفات: نفس الجبهة العريضة، والطموح الجامح، واحتداد الحواس.لكن نيكولا كان، من بين إخوته، الأكثر رفضا للأب الغائب، والأكثر عنفا في ثأريته، والأقل موهبة في التحصيل الدراسي. تنتمي أسرة الأب إلي سهول المجر، ويمتد تاريخها في الماضي إلي القرن السابع عشر. وهم في الأصل من أهل الريف البروتستانت، وقد ترقوا إلي مكانة النبلاء بعد أن أنعم بها الملك فرديناند الثاني علي الجد الأكبر للأسرة «ميهالي ساركوزي» لاستبساله في قتال الأتراك علي مشارف فيينا في 1628.فليس من المستغرب إذن اليوم أن يستقتل الحفيد نيكولا في رفض انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي. وكثيرا ما يحكي بال ساركوزي عن حياته في قصر والده جيورجي، والأراضي الشاسعة التي كانوا يمتلكونها، وجيش الخدم الذي كان يعمل علي راحتهم، وعازفي الكمان الذين كانوا يحيون أوقاتهم وهم جالسون إلي مائدة الطعام. لكن تلك الذكريات البعيدة تبدو وكأنها مكتوبة بمداد الخيال علي أوراق الريح. والثابت في سجلات العائلة أن جيورجي ساركوزي الذي تقلد منصب عمدة «سزولنوك»، وهو في الثلاثين من عمره، قد أثبت كفاءة عالية في النهوض بالمدينة، وفي تحديث مرافقها.لكن الثابت أيضا أنه قد أدين في قضية «قروض سبيير» التي شكلت فضيحة محلية شهيرة في نهاية الثلاثينيات، وتضمنت تفاصيلها انتهاكات واختلاسات وفسادا ورشاوي. وبعد إقالته من منصبه، عمل جيورجي مدير إدارة في مصنع للنسيج علي أطراف بودابست. ومع تصاعد طموحات الرايخ الثالث بألمانيا الهتلرية، قرر ديكتاتور المجر ميكلوس أورتي التعاون مع النظام النازي، بإرسال قوات عسكرية في الحرب علي الاتحاد السوفيتي. ومن أسرة ساركوزي، كان بال، هو الوحيد الذي لم يتم تجنيده، فلقد كان لم يبلغ بعد السن القانونية، أما أخو اه أعمام نيكولا فلقد حاربا في سلاح الخيالة، جنبا إلي جنب مع الجنود الألمان، تحت اللواء الأحمر ذي الصليب المعقوف. وبعد اجتياح الجيش السوفيتي لبودابست في فبراير 1945، واستيلاء الشيوعيين علي الحكم، وتأميم الأراضي والممتلكات، يتوفي جيورجي ساركوزي، ويتم تهريب الابن، بال، إلي النمسا، ومنها يتجه إلي فرنسا، في رحلة عذاب مضنية، ليصل إلي باريس في تلك الليلة الباردة من ديسمبر 1948. لا يملك إلا خاتم نسبه الأرستقراطي، الذي يحمل شعار الذئب، بعد أن باع في الطريق كل شيء، كل شيء، حتي حذاءه... وفي باريس، راح المهاجرون المجريون يتكاتفون. فما إن يصل لاجئ جديد حتي يقدموا له المأكل والملبس، ويساعدوه في التحصل علي عمل. وبعد أن مل بال عمله الأول في توصيل البضائع، عمل رساما للبورتريهات، فلقد كان يجيد الرسم. وكان الشاب يتمتع بجرأة كبيرة، وسحر يتحدث عنه كل كتبة سيرة نيكولا ساركوزي بإسهاب ممل. وكانت له تطلعات وآمال لا حدود لها، في عوالم المال والشهرة والنساء . وبعد عام واحد من وصوله إلي باريس، تزوج بال ساركوزي من فتاة صغيرة، حلوة، كان مقدراً لها أن تفتح باب بيتهم حين أتي طالبا وساطة أختها لكي يحصل علي وظيفة مدرس رسم. وكانت أندريه ـ العروس ــ ابنة الطبيب الفرنسي ذي الأصول الإسبانية اليهودية، الدكتور بندكت مالاه، تحلم بدراسة القانون وممارسة المحاماة. لكن العريس الشاب رفض الفكرة وفرض شرط بقاء العروس بالبيت. ويوم الزفاف كانت هديته لها ثلاثمائة عام من تاريخ أسرة ساركوزي العريقة، وخاتم نسبه الأرستقراطي، الذي يحمل شعار الذئب. ولقد أسفرت الزيجة عن ثلاثة صبية هم جيوم 8سنوات، ونيكولا 5 سنوات، وفرانسوا رضيع. تلك كانت أعمارهم يوم صفق أبوهم باب البيت وراءه وتركهم بعد أن اتفق مع أمهم علي الطلاق عام1960، لكي يتزوج من ابنة السفير المجري. وعلي الفور، تعود أندريه إلي دراستها، وتحصل علي شهادة كلية الحقوق. وفي الوقت نفسه، راحت تجتهد في تربية الأولاد، تحت حمي الجد الدكتور بندكت مالاه. من بين الأبناء الثلاثة، نيكولا هو الأكثر شعورا بالوحدة، والأكثر تأثرا من جراء هجران الأب، وهو أيضا الأكثر عنفا وشراسة .كان كثير العراك مع أخيه الأكبر.و بالرغم من أن نيكولا كان الأقصر ــ فهو أقصر بكثير من جيوم أخيه الأكبر ــ فإنه كان الأكثر ضراوة وتوحشا. يصف سيرج دانلو، صديق نيكولا، معارك الطفولة بين الأخوين، قائلا: «من بين الاثنين، كان نيكولا هو الأشد خطرا.فلم يكن يتردد في الوثوب علي ظهر أخيه، ليمسك بخناقه، ويظل يضغط بساعده علي رقبة جيوم، حتي يحمر وجهه، ويطوح بقبضتيه في الهواء حتي يتخلص من نيكولا». Nivelle et Karlin, p 134. ولقد استخدم نيكولا ذراعه بطريقة أخري في موضع أخر. كان ذلك أمام محكمة الأسرة، بعد أن ادعي والده، الذي كان قد حقق ثروة طائلة في عالم الدعاية والإعلان، أنه لا يسعه تقديم أية نفقة لمطلقته وأولاده.فلما رفضت المحكمة الدعوي، جن جنون الصغير وانقض علي أبيه فأمسك بذراعه ولواها بعنف خلف ظهره . فما كان من الأب إلا أن استدار ليواجه الابن، ويلقي في وجهه بالجملة التي ظلت تطن في أذنه إلي الأبد: «أنت وإخوتك، ليس لكم عندي من معروف!». كان نيكولا بشهادة أمه طفلا ممتلئا بالحزن، قليل الكلام، قليل الاندماج مع من حوله، دائم التشاحن مع أخيه الأكبر، لا يخاف أحدا. كان إذا رأي أخاه بادره قائلا:«أنت لن تخيفني». ومن المعروف أن علماء النفس المنتمين إلي المدرسة الفرويدية، الذين اهتموا بتحليل طبيعة الصراع بين الإخوة، يؤكدون أنه في معظم الأحيان حين يتعرض الأخ الأصغر لضغوط الأخ الأكبر فإنه يطمح إلي تخطيه بل إلي التفوق عليه. ويذكر ألفريد أدلر، تلميذ فرويد، إن الأشخاص الذين يشبون وفي دواخلهم شعور بالانسحاق أمام إخوتهم الأكبر سنا، يلازمهم فيما بعد إحساس بالنقص والدونية، أما أولئك الذين يدخلون في منافسة مع الكبار فهم ممن تزداد احتمالات نجاحهم. ولقد ظل نيكولا رافضا للقاء أبيه طوال أعوام صباه. لكنه وجد العوض الحقيقي في جده الذي كان يحنو عليه، ويجلسه إلي جواره للاستماع إلي خطب الجنرال ديجول. وفي أيام الأعياد الوطنية، كان الجد يحمل حفيده الثائر الشرس المتنمر، ويرفعه فوق الرؤوس، ليتمكن الصغير من رؤية قائد التحرير وبطل فرنسا العظيم، وهو مقبل في موكبه علي أنغام موسيقي الحماس العسكرية. بدايات 1975 كان عام المولد الحقيقي لنيكولا ساركوزي. في صباح أحد الأيام من ربيع ذلك العام، كان روبير جروسمان، المكلف من قِبل شيراك بتكوين تنظيم شبابي ديجولي تابع لحزب «الاتحاد من أجل الدفاع عن الجمهورية» UDR، جالساً في مكتبه حين سمع صوتاً شاباً عالي النبرات آتيا من وراء الباب. في أول الردهة، لمح جروسمان فتي ذا هيئة صبيانية يحمل باقة ضخمة من الورود. شيء ما في ذلك الولد كان يسترعي الانتباه، فبالرغم من قصر قامته كان يتمتع بطريقة فريدة في التعبير عن نفسه وفي استغلال الحيز الفراغي من حوله. بادر الفتي قائلاً إن اسمه نيكولا ساركوزي، وإن عمره تسعة عشر عاما، وإنه يدرس القانون، وإنه ناشط ديجولي من بلدية «نويي سور سين»، أما الورود فهو مكلف بتسليمها إلي عنوان بالجوار، إذ إنه يعمل في محل لبيع الزهور للإسهام في تغطية تكاليف دراسته.بدا الفتي ذكيا واثقاً ومفعما بحماس غير مألوف. وعلي الفور ألحقه جروسمان بركبه، وسرعان ما فرضه علي اللجنة المركزية للمكتب التنفيذي للحزب، ليصبح ساركوزي المتحدث باسم شباب حزب الـ UDR . وقبيل أسابيع قليلة من المؤتمر الحزبي الوطني، كان هو الذي وقع عليه اختيار جروسمان للمشاركة في مناظرة تليفزيونية يعبر فيها الفتي عن مطامح الشباب الديجولي الجديد. وقبل البث بأيام جلس جروسمان يدرب ساركوزي علي فن الإلقاء السليم وعلي أسرار المحاججة وتكتيكاتها ومراوغاتها.وحينما كان المعلم يسرف في النقد والتصحيح كان التلميذ يستشيط غضباً، فيداعبه معلمه قائلا:«صبراً، أنت قطعة من الألماس الحر، وعليّ أنا أن أهذبها..». وفي يوم المناظرة، لمع الفتي كما يلمع البرلنت. فقد تجلت مواهبه الفطرية في الكر والفر، والمحاورة والمداورة، وإطلاق السهام وقطع الرقاب، حتي أن شيراك الجالس مع أعوانه أمام التلفاز قد سأل : «ما اسم هذا الصغير؟» فأجابه أحدهم: «نيكولا ساركوزي». فقال شيراك: «لتكن له كلمة يلقيها يوم المؤتمر»... فقد أراد شيراك، رئيس الحكومة آنذاك، أن يكون المؤتمر الوطني بمثابة استعراض لقوي الديجوليين في وجه جيسكار ديستان، استعراض يشرف علي إخراجه ومسرحته شيراك بنفسه، كي يجعل منه تذكرة لرئيس بدأ ينسي من كان مهندس نجاحه وقاطرة وصوله إلي الاليزيه. في حياة كل إنسان، ثمة لحظة يُفتح فيها باب تدخل منه الفرصة وهي تتأبط ذراع المستقبل. وبالنسبة لنيكولا ساركوزي حانت تلك اللحظة يوم المؤتمر الحزبي الوطني بمدينة نيس في 15 يونيو عام 1975. وقد عرف هو كيف يفيد منها، فيزيد القطاف ويعجل الآجل. فبعد أن ألقي ميشيل دبريه رئيس الوزراء الأسبق كلمة طويلة جدا أنهكت الحضور وجعلتهم يهمون بالخروج من القاعة لالتقاط الأنفاس، صعد نيكولا ساركوزي إلي المنصة بهمّة بونابارتية ليلقي كلمة ما إن ابتدأها حتي انتبه الجمع وعاد الوقوف إلي مقاعدهم. لم تكن قوة الخطيب الصغير في آرائه بقدر ما كانت أساسا في حنجرته وفي لسانه، في حاسة الشم الحادة التي يلتقط بها أجواء القاعة، في الطريقة التي ينقض بها علي أذن سامعه ليتسرب منها إلي عقله، في أسلوبه الخاص جداً في ضبط حساسية اللفظ مع انتقاء نبرة الصوت وتخيّر الإيماءات والإشارات والتحكم في تعابير الوجه وإيقاع العبارات. ترشده في كل ذلك سليقة مدربة، وتدبير ممنهج، يقيس المسافة بين المنطلق والغاية بحسابات محكمة، لا تفسح مجالا لبدعة ارتجال، أو تترك حيزا للعبة مصادفة. وبالرغم من امتلاء القاعة يومئذ بجمهرة من بارونات السياسة الفرنسية الأشداء، لم يلحظ أحدٌ كم كان خطاب الفتي زاخرا ببذور الديماجوجية الكامنة.لكن تلك البذور لم يكن لها ذلك اللون الذي ميز مفهوم الديماجوجية عند الإغريق، حين كانت الصفوة الحاكمة تلصق تلك الصفة بالسفسطائيين الذين كانوا يستخدمون خطابهم كوسيلة للتربح وكسب العيش. وبالمثل، كان خطاب الفتي نائيا عن مفهوم الديماجوجية الرائج اثر اشتعال أوار الثورة الفرنسية، حين كان الاصطلاح يشير إلي الخطيب الذي يسعي لتحريك أرذل ما في الشعب من مشاعر، مثل الغضب والحسد والحقد والخبث ، وغيرها من بقية الانفعالات التي سماها سبينوزا في كتاب «الأخلاق» بالــ «انفعالات الحزينة». كانت كلمات ساركوزي في ذلك اليوم تجسد المدلول الحداثي أو ما بعد الحداثي للديماجوجية.ذلك الذي يصفه مسار طالبي السلطان، ويعكسه التجاؤهم لتملق الجماهير، طمعا في تحقيق السلطة والاحتفاظ بها، أيا كانت الوسيلة، ومهما بلغ الثمن، فيما يساير النهج الذي وصفته دروس مكيافيللي القديمة في كتاب «الأمير». في ذلك اليوم، كان الزمن المقرر لكلمة ساركوزي دقيقتين اثنتين، فإذا بخطابه يستطيل ليشغل نصف ساعة، تخللتها عدة وقفات، ضجت فيها القاعة بالتصفيق الحار، وراح الكل يتساءل عمن يكون ذلك الفتي الأعجوبة. في ذلك اليوم المشهود، حين انفتح الباب، ولاح المستقبل باسماً أنيقاً، لم يكن يصطحب معه فرصة واحدة فحسب، بل تعلقت في ذراعيه فرصتان يانعتان، تتنافسان في الصبا والجمال. فأفراح ساركوزي ــ كما هي أحزانه ــ لا تأتي فرادي عادة.فلقد تلقي دعوة حفية من قبل عمدة بلديته المخضرم أشيل بيريتي الذي سيصبح له دور أساسي في تقريبه من دوائر منصب العمودية. وفي الوقت نفسه، تحدد لنيكولا موعد غداء مع شيراك، تقرر فيه أن يلتحق الفتي النجيب بكتيبة الجوارح السياسية التي أعدها رئيس الحكومة لتكسير عظام فاليري جيسكار ديستان. في مدرسة الحرب كان جاك شيراك المدرسة الأولي التي تعلم فيها نيكولا ساركوزي فنون الحرب السياسية. فلقد رأي التلميذ كيف ناصر شيراك الديجولي عدوا لدودا للجنرال ديجول، وهو المرشح جيسكار ديستان، في انتخابات 1974، ليمكنه من الفوز علي جاك شابان دولما، مرشح الحزب الديجولي UDR. ثم راقب ساركوزي شيراك الأستاذ وهو يستقر علي كرسي رئيس الوزراء في قصر ماتينيون وهو بعد في الحادية والأربعين من عمره. وقتها، سمع الفتي هتافات الغاضبين ضد «شيراك الخائن» تتعالي في صفوف الديجوليين الذين كانوا لا يزالون يمثلون الأغلبية البرلمانية. ثم رأي كيف ينفق رئيس الوزراء الشاب كل وسعه لاسترضاء عشيرته الأولي، إن بالقول المعسول، أو بالود الموصول، أو بالعطاء المبذول . تعلم الفتي أن مثيلة تلك الإجراءات تنشر بلسماً ملطفاً فوق الجروح، وتهيئ عمل المضادات الحيوية العميق، في التعجيل بالشفاء واستعادة الولاء. رأي الفتي كيف انقض جاك شيراك علي زعامة حزب الديجوليينUDR، في ديسمبر 1974، فيما يشبه السطو المسلح السياسي، حين كان ديستان في رحلة خارج البلاد، فلم يظهر أي من بارونات الحزب الرفض أو الممانعة بعد أن تم حقنهم بمخدر موضعي اسمه«شيراك هو الحل». وكان الفتي في جوار معلمه حين حل هذا الأخير الحزب الديجولي UDR وأسس بدلا منه حزبا شيراكيا صرفا يفرغ الديجولية من محتواها، سماه حزب «التجمع من أجل الجمهورية» RPR. لتتحول الأعوام السبعة لحكم ديستان إلي ساحة تصفية حسابات علي طريقة أفلام رعاة البقر، بين قاطن الاليزيه وسيد ماتينيون، الذي استقال ليصبح من ثم عمدة لباريس. طوال تلك السنوات الأولي، كان الفتي نيكولا ساركوزي يسمع ويري ويدرس.فيري معلمه الذي يدعي أنه الوريث الشرعي للجنرال ديجول، قد انتهك كل القواعد التي فرضتها الديجولية. رآه، في تعامله مع الأنداد، يضرب هذا بذاك، ويستعمل هذا علي ذاك، لا ينصت إلا لنداء المنفعة، ولا يبطئ في طلب الغاية، مهما كانت الوسيلة. رآه يقتل حينما يكون الضرب كافيا. وقبل مشهد القتل، رأي مشاهد صبره علي التخفي وسط الحقول، ترصداً لغفلة الهدف، وتحينا للحظة الانقضاض. والحق أن الفتي قد انبهر بهذا الوحش السياسي الضاري.وفي كل النجاحات التي حققها الأستاذ، كان التلميذ يجري في موكبه، ويذب الطير عن أجوائه، ويمتص كالإسفنج عصير التجربة ورحيق الأيام. ويتعلم قبل كل شيء أن المبادئ والقيم لا بجدر احترامها إلا في حالة نفعها، فإن تحولت إلي عبء مضنٍ فالأولي التحرر منها أو تجاهل وجودها لاسيما في أزمنة المعارك. في الأعوام الثلاثين التي اقتضاها الصعود السياسي لنيكولا ساركوزي حتي دخل قصر الاليزيه، لم يكن طريقه مفروشا بالورود، ولا ظل هو ذلك الصبي الصغير المكلف بتوصيل الورود. فلقد تعلم مبكراً أن السلطة إنما تؤخذ عنوة، وتخطف من بين فكي الأسد خطفا، لاسيما وأن أهل اليمين في بلاده لا يعرفون إلا لغة التصفية والاغتصاب. فكل المغانم التي حازها ساركوزي في معاركه، ما كان له احتيازها لو لم يكن انتزعها انتزاعا بأسنانه وبمخالبه. كان هو من فرض نفسه في الترشح لوظائفه الأولي، وهو من أسقط أستاذه شارل باسكوا من علي صهوة جواده لينطلق هو إلي منصب عمدة نويي، وهو الذي حاز سلطاته داخل حزب الشيراكيين، «التجمع من أجل الجمهورية» RPRبقفز الأسوار واختراق الحواجز، وهو الذي انتزع زعامة حزب التجمع من أجل الحركة الشعبية UMP بعد ألان جوبيه، حين خبر أسرار فن المساومة واستعان بها علي تعنت شيراك. حتي حقائبه الوزارية في الميزانية، وفي الاقتصاد، وفي الداخلية، حازها بالاجتراء، وبالتدافع، وبجذب البُسُط من تحت الأقدام، وبمقارعة الأشداء ومصارعة الثيران، ثم بفرض قواه التي لا يستهان بها في لعبة الموازين والحسابات والكراسي الموسيقية المتبدلة. ولكن أو ليست هذه بعينها هي شروط لعبة السياسة؟ يقول باتريك دوفيدجيان، صديق نيكولا ساركوزي، الذي عمل معه عام 1977، في أمانة الحزب UDR بمقاطعة «أو دو سين »، بتكليف من رجل شيراك القوي شارل باسكوا، الذي أزاحه ساركوزي فيما بعد كما أسلفنا: «ما لفتني في نيكولا هو جرأته التي قد تصل إلي حد الوقاحة، وكذلك خياله الجامح. كان لديه تعبير طريف يقول فيه: حينما أكون من غير المدعو ين علي عشاء،فأنا أطرق الباب، وآتي معي بالطعام، ومن النادر جدا عندئذ ألا يطلب مني رب البيت البقاء حتي يحين موعد العشاء». والترجمة: «حينما تكون هناك مشكلة قائمة ولا يُطلب فيها رأيي، فأنا أبادر بتقديم الحل ثم أفرض وجودي بمنتهي القوة». ثعلب في الصحراء وحين اشتد عوده واستقوي، واستحال الزغب الذي يغطي جسمه الصغير فراء كثيفا خليقا بأن يقيه البرد القارس فوق الذري، استدار ساركوزي ليواجه جاك شيراك. فعندما اندفع وزير الخزانة الشاب إلي تأييد ادوار بالادور ضد شيراك في الانتخابات الرئاسية عام 1995، كان يحلم بالقفز إلي قصر ماتينيون، ولكنه لم يكن يعلم أن إخفاقه سيلصق به لفترة طويلة لقب «يهوذا»، الحبر الخائن، وأنه سيتيح له معرفة كم تبدو أنياب معلمه مخيفة من قريب. وبعد سقوط قائمته في الانتخابات الأوروبية عام1999، وجد ساركوزي نفسه وحيدا يجتاز صحراء يكاد التعطش إلي استعادة السلطة يرديه فيها، بعد أن فقد الثقة، والحزب، ولقب «فتي اليمين الفرنسي الواعد». لكنه قرر أن يستغل تلك الفترة في شحذ أدواته، وفي ترتيب أوراقه، فكانت ساعة فشله تلك هي بحق اللحظة التي بدأ منها انطلاقته نحو سدة الحكم. إذ راح يعمل وينشط بضراوة الكواسر الجريحة، فيوطد علاقاته بوسائل الإعلام والنقابات والمؤسسات الصناعية الكبري.فكان منذئذ رجل السياسة المفضل لدي أرباب العمل. راح يزور السجون والمستشفيات وثكنات رجال الشرطة والإطفاء.يسافر كثيرا ويدعو إلي مكتبه في بلدية » نويي» أهم الشخصيات العامة من كافة الاتجاهات والأطياف- بالطبع في وجود عشرات الصحفيين.راح يحاول أن يبني لنفسه ثقافة في التاريخ والحضارة مثل شيراك، ويجتهد في القراءة قدر ما يسعه وقته وعقله، ويشارك في كتابة سيناريو فيلم عن الحرب الفرنسية في الهند الصينية، ويؤلف كتابا سماه «حر» Libre، يؤسس فيه لرؤيته الخاصة ليمين ما بعد الشيراكية. وفي كل مكان يذهب إليه، يؤكد رغبته في أن يكون حيثما لا يتوقعه أحد، وفي أن يكون الأمثل والأقدر والأكثر قدرة علي الإقناع والتأثير، مؤملا نفسه بأن الفرنسيين يعشقون قصص النجاح والانتصار، وإن كانوا يفضلونها مليئة بالعوائق والانتكاسات والانبعاث كما العنقاء من تحت الرماد، ودليل ذلك أنهم لا يزالون يمجدون أبطالا مثل سيزيف وفينكس وبونابرت. وإن كان انبعاث نيكولا ساركوزي من تحت الرماد يتخذ علي لسانه صورة كاريكاتورية، حينما يصف حيرة خصومه وهم لا يزالون يتابعون تكرار صعوده وهبوطه، إذ يقول: «سأكسر رقابهم لكثرة ما يرونني أقفز في وجوههم فور وقوعي علي الترامبولين». ومع قفزته إلي وزارة الداخلية في وزارة جان بيار رافاران 2002، اكتسب ساركوزي صلاحيات مكنته من وضع يده علي أجهزة الاستخبارات، وتنظيم الانتخابات . أما في قفزته إلي وزارة الاقتصاد فكانت خطته أن يصنع يوميا حدثا إعلاميا. وإلي جانب الوزارة، انتزع ساركوزي رئاسة الحزب UMP، وحوله من آلة حرب شيراكية إلي كتيبة دفاع ساركوزية. وتضخم عدد أعضاء الحزب، وصار كل عضو فيه يعتبر نفسه الحارس الشخصي للسيد الجديد القافز من تحت الرماد، القادم من صحراء السخط والإبعاد، المتجه بسرعة فائقة إلي الاليزيه. وحين عرض رافاران علي الرئيس أن يتيح له مشاركة ساركوزي في رئاسة الحزب، أجابه شيراك بقوله المعروف: «اسكت، ففي غضون شهر واحد سيلبسك طبق الشوربة فوق رأسك».. وإثر رفض الفرنسيين التصديق علي الدستور الأوروبي، قدم إلي قصر ماتينيون دومينيك دو فيلبان، الذي يستثير كراهية ساركوزي بوسامته اللافتة، وطول قامته، وقربه من شيراك، وشعبيته التي اكتسبها يوم وقف في مجلس الأمن عام 2003 وعبر عن رفض فرنسا للغزو الأمريكي للعراق. ولما أحس ساركوزي من شيراك الرفض النهائي لاختياره علي رأس الوزارة، فرض عودته إلي وزارة الداخلية، وهو المكان الأمثل لأي مرشح أثناء الانتخابات. وبالطبع، احتفظ ساركوزي برئاسة الحزب الذي راح يتضخم إلي جانب الوزارة التي فتحت له الأبواب المغلقة. وحين كان يسأله المقربون: «كيف لك أن تجسد فكرة القطيعة مع حكومة أنت جزء منها؟»، كان يجيب:«سيوفر لي الـ 500000 شرطي حماية أفضل في مقر الحزب من تلك التي يمكن أن يوفروها لي الـ 200000 عضو الذين يضمهم الحزب». وبدا لفترة أن نيكولا ساركوزي يعيش أزهي أيام مجده، وأنه يخطر علي طريق مُعبد موصول في نهايته بقصر الرجوات والصبوات، حين حلت به كارثة يشبه أثرها لدغة عقرب.كان ذلك أثر القصة التي أسهبت في نقلها الصحف بشأن هجر سيسيليا ساركوزي زوجها في صيف 2005، وسفرها إلي نيويورك مع منظم الاحتفالية التي شهدت تتويجه زعيما للحزب. وكانت تلك فرصة عظيمة لكي يسلقه خصومه بألسنة حداد، لكن أحدا لم يفكر في مدي التشابه بين هذه الواقعة وواقعة قديمة، كان ساركوزي فيها الجاني، قبل أن يصبح المجني عليه. وكأن ربات القصاص أرادت أن تسقي الفتي، وهو مشرف علي يوم مجده، رشفة من كأس كان قد مدها بيده إلي آخرين... .. معركة الحب 1984. في البداية، بدا الأمر لنيكولا ساركوزي وكأنه بصدد يوم آخر من أيامه المعتادة. فمن صميم مهامه كعمدة لبلدية «نويي» أن يباشر إتمام مراسم الزواج المدني بنفسه، لاسيما حين يتعلق الأمر بزواج المشاهير، حيث تومض عدسات التصوير المتهافتة، ويتزاحم داخل القاعة بياض أهل الفن والسياسة. لذا، ما كان للعمدة الشاب أن يتخلف عن إتمام زواج النجم القدير جاك مارتان.كان هذا الممثل الكبير في بداياته من أهم تلامذة المخرج المسرحي شارل دولان. وكان مارتان قد قفز من نجاح إلي نجاح في المسرح والسينما، كما قدم عدة برامج تليفزيونية مميزة. وفي كل من أوبرا ليون وأوبرا باريس، أدي هذا الباريتون الشهير أدوارا لا تنسي، لاسيما دور الملك مينيلاس، الزوج المخدوع، في أوبريت «هيلينا الجميلة» للمؤلف الموسيقي أوفينباخ، والذي يحكي قصة هروب هيلينا الطروادية مع عشيقها الشاب الأمير جاريس... هكذا، في صباح أحد أيام الصيف الساخنة، كان عمدة «نويي» الشاب 29 سنة قد عاد لتوه من أجازة قصيرة قضاها في جزيرة كورسيكا ــ موطن زوجته ــ ليجد علي مكتبه طلب عقد زواج مدني يوم العاشر من أغسطس 1984، مقدم من قبل جاك مارتان52سنة والآنسة سيسيليا سيجاني ألبينيس 26 سنة... ولكن ــ أولا ــ من تكون هذه الحسناء الشابة المولودة بين نساء برج العقرب؟ الأب أندريه سيجاني مهاجر روماني حصل علي الجنسية الفرنسية عام 1955. يعرفه المجتمع الباريسي الراقي كأفضل مورد للفراء الطبيعي المميز بكل أنواعه ــ لاسيما فراء الثعالب الناعم النادر.متجره الرئيسي في جادة «بوفو» الأنيقة حيث تقع، علي بعد خطوتين من المتجر، وزارة الداخلية. زوجته، تيريسيتا، المعروفة تحت اسم » ديان»، إسبانية الأصل، وتصغره بخمس وثلاثين سنة.جدها هو المؤلف الموسيقي الشهير اسحق ألبينيس، تلميذ دوبوسي الموهوب، ووالدها سفير بعصبة الأمم بجنيف في فترة ما بين الحربين العالميتين. أما هي، تيريسيتا أو ديان، فكانت تمتلك جمالا راقيا وجاذبية نادرة، أورثتهما كاملين لابنتها الوحيدة سيسيليا، التي أجريت لها في طفولتها عملية قلب مفتوح، فشبت وسط أجواء الدلال والتنعيم الزائد في بيت كللته أمارات الثراء والترف و أضاءت ثرياته ليالي الأنس والسمر... تلقت سيسيليا أفضل تعليم في مدرسة راهبات سانت ماري دو لوبيك الثانوية، ثم التحقت بكلية الحقوق لدراسة القانون، لكنها لم تكمل دراستها الجامعية بعد أن اختطفها عالم الأضواء، واحترفت عرض الأزياء لدي كبريات بيوت الموضة العالمية. وبالطبع كان أول التصاميم التي عرضتها هو إبداعات والدها من قطع الفراء الثعلبي الخلاب... ولقد خفق قلب الصبية عدة مرات، إذ يبدو أن جراح القلب الذي أجري لها العملية في صغرها كانت له أصابع سحرية! لكن، في كل مرة، سرعان ما كانت جذوة العلاقة تنطفئ . علاقة واحدة ــ تلك التي كانت الأقرب إلي الجد منها إلي الهزل ــ خلفت في قلبها غصة، وأشاعت في داخلها شعورا بالمهانة، وحركت في نفسها رغبة عارمة ،ملحة، في الثأر. كانت تلك علاقتها مع واحد من أشهر مصوري مجلة «فوج»، الذي صورها أول مرة وهي تعرض قطع الموسم الجديد من فراء أبيها. وبالرغم من أنه كان يكبرها بعشرين عاما،فقد شغفها حبا وامتلكها تماما، حتي أنها كرست كل جهدها وعلاقاتها لمساعدته ولإدارة شئون عمله وبيته، ثم طافت معه في رحلة بهيجة حول العالم، قبل أن يهجرها قبل أيام من الموعد المقرر للزفاف... كانت جالسة تصف حسرتها لصديقتها في مطعم «بيت الكافيار» قريبا من شارع الشانزيليزيه، حينما تقدم جاك مارتان لتحية الصديقة. وفي أثناء تبادل عبارات المجاملة، لم تبتعد نظرات النجم عن صديقة الصديقة. وفي اليوم التالي، دعا مارتان الصديقتين الشابتين إلي العشاء في منزله. كان يعيش وحيدا بعد أن هجرته زوجته الأولي. وكانت قد أصابته كآبة وأهمه إحباط اثر رحيلها. لكن مع وصول الفتاتين في تلك الليلة، كان الممثل الاستعراضي قد استعاد طلاقته اللسانية ولياقته الفكاهية... ولقد وجدت سيسيليا في جاك مارتان رجلا مسليا متعدد المواهب. فلقد كان يضحكها في وقت كان فيه قلبها الجريح يحاول التعافي، وكان يطبخ لها أشهي الأطباق بمهارة لا تباري، ويحدثها في الأدب والتاريخ والأساطير الساحرة، بسعة وعلم لم تشهدهما في محيطها، ويغني لها بصوته القوي الحنون أغاني العشق والهوي، ولا ينسي ــ قبل النوم ــ أن يهمس في أذنها بأبيات من الشعر الرقيق الغزِل... كان يدللها كطفلة، ويداويها كأنثي، وكانت هي له عارفة ممتنة، تتقبل قرابين محبته بمنتهي الحفاوة، ولا تألو في المقابل بجهدها لمساعدته ولتدبير شئون عمله وبيته. ولقد شهد لها أصدقاء مارتان، في معظم الكتب التي تناولت تلك الفترة، بمبلغ تفانيها في إسعاده وفي تخليصه من اكتئابه القديم. وبالطبع، لم يفت سيسيليا أن تتصل بصديقها المصور، لكي تقول له بهدوء وثقة: «أنا الآن أعيش مع أشهر رجل في فرنسا»... ولقد حان موعد الزفاف بعد عاميْن، في احتفال اقتصر علي عدد محدود جدا من المقربين من الأهل والأصدقاء. فلقد كانت سيسيليا تنتظر حدثا سعيدا يتوقع تحققه خلال أيام. ولما كان العريس يقطن بلدية نويي الأنيقة فلقد طلب إلي عمدتها تشريفهم بعقد مراسم الزواج. ويذكر نيكولا ساركوزي أن أستاذه وسلفه في عمودية نويي، الراحل المبجّل أشيل بيريتي، الذي كان يأسف علي وقته الضائع في عقد الزيجات، كان يقول له إن الشيء الوحيد الذي يسليه في هذه المناسبات هو عندما يرنو إلي العروس ويسأل نفسه إن كان يتمني لو استبدل بحاله حال العريس... لكن في ذلك اليوم الذي وافق 10 أغسطس 1984، حين رنا العمدة الشاب إلي العروس، لم يسعفه الوقت كي يسأل نفسه ذاك السؤال . فلقد كانت للصبية نظرة أودت بقلبه، واستقر سهمها فيه فأدماه . وجد نفسه أعزل بلا سلاح ولا مدد ولا عسكر، وهو الذي طالت فتوحاته كل الآفاق. ولكن.. لنعهد بوصف وقائع تلك المعركة الفاصلة إلي كاترين ني، موثقة السيرة الشخصية الرسمية لنيكولا ساركوزي. تقول ني : « ها هو قد أصابه اضطراب لم يعرفه قط حتي اللحظة.ثمة لهيب يجتاح داخله، لا تفي بتفسيره حرارة الصيف، فهو أشبه بذلك التوهج الذي تحدثه صاعقة الحب من النظرة الأولي. قد سحره حضور الفتاة الذي يحاكي حضور السنيورات مهابة وطغيانا، وعيناها اللتان ترسلان إليه نظرة متنائية كعيني قطة فرعونية، وهيئتها التي تذكره بهيئة جاكي كنيدي. إن فيها كل المواصفات المرجوة في سيدة أولي لهذا البلد. ولعله كان يحدث نفسه في تلك اللحظة قائلا: «ماذا أصنع هنا؟ما الذي يحملني علي تزويج هذه المرأة لرجل آخر وأنا أريدها لنفسي؟ إنها لي.. لي أنا». ولقد وصل به الافتتان إلي الحد الذي لم يلحظ معه أي تكوّر غير عادي في بطن العروس. وراح يتلعثم وتضيع منه الكلمات، وكاد أن ينسي الخطاب البديع الذي كان قد أعده لتحية النجم ــ العريس . لكنه تشبث بالورقة رغم ذلك وراح يقرأ.ولكي يداري اضطراب حاله، راح يمطر الزوج بآيات الثناء والمديح، وقد توجه بكامل اهتمامه إليه فلم ينظر إلي سواه.و بعد أن رسم بكلماته تاريخ الفنان ومآثر الرجل، اختتم سيمفونيته الرنانة بحركة موسيقية أخيرة، قال فيها: «يا... جاك، لكم كنت أود اليوم أن أقدم لك هدية لن تكلفني كثيرا من المال وإن كانت لا تقدر عندي بثمن.. لكن للأسف، ليس بوسعي أنا أن أقدمها لك ولا بوسعك أنت أن تقبلها مني، لأنها ليست لها استعمال عندك..وددت لو قدمت لك هذا الوشاح.. وشاح العمدة الذي أرتديه.»... ولقد كان ذلك إشهارا لمودة غير معتادة، أدهشت الحضور، فلقد كانت تلك هي المرة الأولي التي يتحدث فيها العمدة بهذه الصورة، أما المحتفي به، الذي أصابه ذهول هو الآخر، فلقد تلقي كلمات الخطيب بتأثر أطفر الدمع من عينيه. ذاك العمدة! ياله من رجل عظيم المروءة! ولكن ما الذي يعنيه بالضبط؟ كان يريد أن يقول ببساطة إنه كان يتمني لو أن جاك مارتان كان العمدة، وكان هو ــ نيكولا ساركوزي ــ العريس... » Catherine Nay, p144. بالطبع كانت ثمة رسالة وراء الرسالة، ومعان تتزاحم من وراء عتبة الشعور، فلقد كان نيكولا يريد في حقيقة الأمر أن يوجه خطابه إلي سيسيليا لكي يقول لها: لكم أود أن أقدم لك اليوم ما لا أملكه وما هو ليس بملكك أنت أن تقبليه مني اليوم: الزواج. وبالطبع أيضا، ما كان بوسع الرجل أن يتزوج من فتاته، لأنه كان متزوجا بالفعل من ماري كوليولي، «درة النساء»، كما كان يلقبها في ذلك الزمان، حين كان الزواج بالنسبة له بوابة الاستقرار، ووسيلته لبناء أسرة سعيدة متحابة، يوفر لها كل ما حرمه منه أبوه حين صفق الباب وراءه وتركه وأمه وإخوته ومضي. ولقد أحب نيكولا أم ولديه بيار وجان كثيرا. وان لم يمنعه ذلك من تجربة آثار سحره علي كل من يلتقيهن علي طريق صعوده الدائم من الناشطات الفاتنات، والنجمات الحسناوات، إلي أن كان ذلك اليوم الساخن الذي ضربته فيه صاعقة الحب وأقضت مضجعه: 10 أغسطس 1984. في ذلك اليوم، أسرف نيكولا ساركوزي في الإكرام والمجاملة إلي الحد الذي صار معه المقدَّم علي كل أصدقاء العروسين السعيدين. وحين رزق آل مارتان بابنتهم الأولي بعد الفرح بثلاثة عشر يوماً، كان عرابها ــ الذي تم ترشيحه بإجماع الأصوات ــ هو بالطبع عمدة نويي الحبيب .أما الطفلة الثانية فكانت عرابتها هي ماري، «درة النساء»... أضحت الأسرتان لا تفترقان: في المطاعم، وفي المتنزهات، وفي الأسفار، والتزاور بينهما لا ينقطع، وسيسيليا وماري متلازمتان، تنزهان أطفالهما معا، وتشتريان أغراضهما سويا، وان أرادت ماري تقديم سيسيليا إلي معارفها ،فهي تعرفها بوصفها أحب صديقاتها إلي قلبها وأقربهن إلي نفسها. وساركوزي يحضر تسجيل برنامج مارتان الجماهيري الضخم المقام في مسرح «لامبير»، ويجلس في الصف الأول ليحييه النجم في أول كل حلقة ويصفق له الحضور. وفي المقابل كان مارتان وزوجته مدعوين دائمين في جميع حفلات البلدية، وكان نيكولا يزمع أن يجعل جاك عضوا في مجلس البلدية و«تسهيل» اختياره في انتخابات 1989. لكن تلك الصداقة الجميلة ما كان لها أن تدوم. فلقد كان نيكولا عاشقا. وكانت المرأة التي يعشقها هي زوجة صديقه. وهو يقول في روايته لهذه الواقعة إنه قد حاول أن يقاوم. لكن محاولاته باءت بالفشل. وعليه، ففي صباح أحد الأيام قرر السياسي الشاب أن يطبق في الحب مبادئه في الحرب. ولقد أبلي المحب بلاء حسنا في الهجوم، بما عرف عنه من ثبات في البأس، واستذءاب في القتال، ومهارة في الاقتحام. وبإحكام الحصار، واستخدام مدفعية القول المعسول، والود الموصول، والعطاء المبذول، تحقق النصر. واستسلم الحصن من دون مقاومة تذكر. وهجرت سيسيليا ممثل المسرح لتتزوج من ممثل الشعب... المشهد الرئيسي وعودة إلي ذلك اليوم المؤجل من صيف 2005، حين رحلت الزوجة والحبيبة مع رجل آخر، وأقبلت ربات القصاص بكأس المرِّ ليرشف منها الزوج رشفة، فاجأ نيكولا ساركوزي الجميع، فنظر بتحدٍ وثبات في أعين جنيات الثأر الثلاث - وكانت أعينهن جد مخيفة- ثم تناول الكأس من أيديهن وصعد بها علي مسرح الحياة العامة ،حيث أدار كل كشافات الإضاءة الإعلامية،التي يملك في جيبه كل مفاتيحها، وإذا به يجرع شراب العذاب جرعا علي أعين الناخبين المتعجبين، منشدا مونولوج الملك مينيلاس، المطعون في شرفه، مرددا في ألم و كبرياء فصول مأساته. ها هو الحزن النبيل يغسل سريرته، ها هي الآلام تحمل إليه التطهر، ها هو العذاب يأتي له بالخلاص ، ها هي صحائفه تعود أكثر بياضا من صحائف الأطفال. ها هي المعاناة تصنع منه رجلا جديدا. ها هو الآن قد تأهل تماما لأن يصبح رئيسا لكل الفرنسيين! و بمثل ما أبدع ساركوزي في استخدام عدة الحرب علي جبهة الحب، راح يبدع في توظيف أتراح الحب في إذكاء نار الحرب، و كأن حيزي الحب والحرب يربطهما عنده باب دوار، يدفعه أني شاء ليدلف من أحدهما إلي الآخر بأقل جهد . وعلي طريقة المسلسلات الأمريكية المطولة، راحت الجماهير تتابع فصول حرب الانتخابات الرئاسية، وقد خالطتها مؤثرات خاصة ، ضخمت الصورة، وحولت المسألة إلي مأساة رجل همام طعنته امرأة غادرة وهو يواجه بفروسية امرأة أخري متنمرة، هي سيجولان روايال. فيالكيد النساء ويالشدة مكرهن! وفي الوقت ذاته ، راح مستشارو الرئيس يصنعون له حلة جديدة تظهر التغيير الذي اعتري الرجل وترسم له بين الناخبين إطلالة جديدة : فالرجل الذي ظل يسهم طوال ثلاثين عاما في تطبيق السياسة الليبرالية التي جلبت علي فرنسا الفقر والبطالة والبؤس يتحدث الآن بعبارات زعماء الاشتراكية الكبار مثل جان جوريس وليون بلوم، وصديق حيتان وسائل الإعلام الذي قام بإقالة رئيس تحرير مجلة «باري ماتش» بعد أن صدّرت غلافها بصورة الزوجة وعشيقها في نيو يورك يدافع اليوم عن حرية الرأي وهو يساند جريدة «شارلي ابدو» في قضية مفتعلة حول تصدي الإسلام لحرية التعبير، والرجل الذي أبدي فيما مضي استعدادات بليرية صريحة في التعاون المثمر مع إدارة جورج بوش هو اليوم حفيد الجنرال ديجول ونصير المقاومة الفرنسية، أما شرطي فرنسا الأول الذي كان يعتبر شباب الضواحي من «الحثالة» وأنه الذي سيفلح في «تنظيف» فرنسا منهم، هو الذي راح يستضيف في احتفالياته الانتخابية الفرنسيين الأفارقة والمغاربة، ووزير الداخلية الذي عارض مطالب النقابات وطالب بإلغاء حق الإضراب ، ونادي بخفض سن المعاش، ها هو اليوم يحيي ذكري زعماء الشيوعية الفرنسية؛ باختصار ها هو محترف التلون والخديعة ، القوي علي الضعفاء، الضعيف لدي الأقوياء ، يتحدث بتأثر بالغ عن الشرف والفضائل والأخلاق الحميدة. فيالسرعة تقلب عجلة الأيام، ويالحمق القابضين علي مبادئهم الثابتين علي كلمتهم! المشهد الختامي علي كل الأحوال، يندرج العهد الجديد تحت شعار القطيعة مع الماضي. ففي يوم احتفال نيكولا ساركوزي بنصره الكبير، حين عزفت فرقة الموسيقي العسكرية مقطوعات «اسحق ألبينيس»، جد سيسيليا، أمام بوابة الاليزيه، انتشرت في الأجواء حالة من التسامح النبيل. فبدا أن العداوات السالفة لم تكن، وأن ذكريات الهجر والخيانة كانت محض سراب، وأن الطعنات الغائرة الغابرة لم تسل دما... لكن الحق هو أن الطقس المشمس في باريس يومئذ قد دعا كل فرد في أسرة الوطن المتحابة إلي ترك فرائه الثقيل في الخزانة.. بدا الرئيس الجديد حفيا بالرئيس المغادر، وبدا الأستاذ فخورا بتلميذه، بدا ساكنا الاليزيه الجديدان وكأنهما عروسان في مستهل العمر، ووقف بال العجوز في كامل بهائه إلي جوار أندريه ساركوزي، وكأنه لم يهجرها يوما. لكن ذلك لم يمنعه بالطبع من مجاملة السيدة بيرناديت شيراك بما عرف عنه من ظرف أبدي لا ينطفئ...
حين اشتد عوده واستقوي، واستحال الزغب الذي يغطي جسمه الصغير فراء كثيفا خليقا بأن يقيه البرد القارس فوق الذري، استدار ساركوزي ليواجه جاك شيراك.
من بين الأبناء الثلاثة، نيكولا هو الأكثر شعورا بالوحدة، والأكثر تأثرا من جراء هجران الأب، وهو أيضا الأكثر عنفا وشراسة .كان كثير العراك مع أخيه الأكبر.و بالرغم من أن نيكولا كان الأقصر ــ فهو أقصر بكثير من جيوم أخيه الأكبر ــ فإنه كان الأكثر ضراوة وتوحشا.
يذكر ساركوزي أن أستاذه وسلفه في عمودية نويي كان يقول له إن الشيء الوحيد الذي يسليه في هذه المناسبات هو عندما يرنو إلي العروس ويسأل نفسه إن كان يتمني لو استبدل بحاله حال العريس...
كان نيكولا عاشقا. وكانت المرأة التي يعشقها هي زوجة صديقه.وهو يقول في روايته لهذه الواقعة إنه قد حاول أن يقاوم.لكن محاولاته باءت بالفشل.وعليه، ففي صباح أحد الأيام قرر السياسي الشاب أن يطبق في الحب مبادئه في الحرب.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة