أفكار دافع عنها سعيد النجار..اقتصاد السوق والليبرالية السياسية



لن أحاول أن أعدد، من جديد، صفات الرجل ومزاياه، فهذا أمر تناولته أو سوف تتناوله أقلام العديدين من محبيه ورفاقه. ولكنني فضلت اختيار قضية أو قضيتين وقف الرجل وراءهما بكل قوة ودافع عنهما بصلابة وقوة ومنطق وذلك مع محاولة استجلاء بعض الأمور حولها. فرغم أن هذه القضايا مهمة، فإن ذلك لم يمنع من أن اختلط بهما الكثير من سوء الفهم، مما قد يحتاج إلي بعض التوضيح. لقد دافع سعيد النجار، خلال حياته - في دروسه أستاذاً في الجامعة، أو مفكراً ينشر آراءه في الصحف أو الندوات - عن قضيتين أساسيتين، وهما اقتصاد السوق والليبرالية السياسية. وقد عانت كل منهما من الكثير من سوء الفهم وغير قليل من التشويه أو التشويش. ولذلك، فقد يكون من المفيد، في مناسبة رثاء الفقيد الكبير، إعادة توضيح هذين المفهومين بإزالة بعض اللبس حولهما. فليس الغرض معاودة الحديث عن اقتصاد السوق أو الليبرالية في عمومهما، وإنما فقط التعرض لبعض الأمور التي ثار حولها الجدل وأحياناً سوء الفهم. ولعلنا بهذا نعمل علي توضيح رسالة الفقيد والتأكيد علي الدعوة التي عمل من أجلها. أولاً: عن اقتصاد السوق: لست هنا في مجال إعادة ترديد ما تورده كتب مبادئ الاقتصاد عن هذا الموضوع. ولكني أود أن أزيل بعض اللبس عن عدد من الأفكار غير الدقيقة، التي تثار بمناسبة كل ما يقال عن «اقتصاد السوق»، وخاصة فيما يتعلق بعلاقة «اقتصاد السوق» «بالرأسمالية» ومظالمها الاجتماعية، وبدور الدولة بالنشاط الاقتصادي، وما يقال عن انعدام التخطيط، وغلبة العشوائية علي اقتصاد السوق. وهي انتقادات كثيراً ما وجهت إلي كل من يدعو إلي الأخذ باقتصاد السوق، ولم يكن سعيد النجار بعيداً عن هذه الانتقادات. اقتصاد السوق ومظالم الرأسمالية: كلنا يعرف تاريخ الرأسمالية، وما حققته من إنجازات من ناحية، وما ترتب عليها من تضحيات وآلام وظلم اجتماعي من ناحية أخري. فالرأسمالية - وقد قامت علي أكتافها الثورة الصناعية بدءاً بإنجلترا في منتصف القرن الثامن عشر - أنجزت للبشرية تقدماً اقتصادياً مذهلاً في زيادة الإنتاجية وارتفاع معدلات النمو وتحقيق اختراقات تكنولوجية ضخمة، وانتقلت المجتمعات الأوروبية معها من مرحلة حضارية غلبت عليها الزراعة إلي مرحلة حضارية أرقي مع الصناعة. ولكن هذه الإنجازات لم تكن مجاناً أو بلا ثمن، وإنما صاحبها ثمن باهظ تمثّل في تضحيات إنسانية بالغة، وظلم اجتماعي غير قليل. وقد ظهر ذلك، بوجه خاص، في بدايات الثورة الصناعية، حيث عرفت الطبقة العمالية استغلالاً بشعاً، وعاشت في ظروف حياتية بائسة؛ أجور منخفضة، تكدس في المدن، تدهور في الأوضاع الصحية، تشغيل الأطفال والنساء في ظروف غير إنسانية. وتم كل ذلك في غيبة من نظام سياسي ديمقراطي كامل وفعال يدافع عن حقوق الفقراء، ونتيجة جشع الرأسماليين، ورغبتهم في الكسب والمنافسة للاحتفاظ بالأسواق. وقد كتب كارل ماركس - وأتباعه - الكثير عن هذه المظالم الاجتماعية التي صاحبت الرأسمالية الأولي، وإن كان لم ينكر أيضاً التقدم الاقتصادي الذي حققه هذا النظام في الوقت نفسه. وكانت كتابات الأدباء - وخاصة الإنجليز مثل شارلز ديكنز - تعبيراً عن المظالم الاجتماعية التي عاشتها الطبقات الفقيرة في ظل هذه الثورة الصناعية والنظام الرأسمالي. كل هذا معروف، ولا حاجة بنا إلي التذكير به. ولكن أهميته في صدد حديثنا عن سعيد النجار، هو أن كل حديث عن «اقتصاد السوق» يعيد إلي الأذهان، بشكل واع أو غير ذلك، ذكري هذا التاريخ المؤلم للرأسمالية في مراحلها الأولي. ومن هنا يثور التساؤل: هل الدعوة إلي اقتصاد السوق هي أيضاً دعوة إلي استعادة هذه المظالم؟ وهل هذا الثمن الفادح، أمر ضروري لكل مجتمع يأخذ بهذا النظام؟ وكيف يطلب منا سعيد النجار أن نقبل بمثل هذا النظام إذا كانت نتيجته هذه المظالم الاجتماعية؟ ونبدأ بالقول أن المظالم الاجتماعية في الاستغلال، بصفة عامة، وسوء أوضاع الطبقة العمالية بوجه خاص - ورغم أنها حقيقة تاريخية - إلا أنها ليست بالضرورة مرتبطة بطبيعة النظام الرأسمالي في ذاته، بقدر ما هي مرتبطة بمراحل الثورة الصناعية الأولي، وبدء التصنيع بشكل عام. فالانتقال من مجتمعات ما قبل الصناعة - الزراعة - إلي التصنيع، يتطلب توفير مدخرات عالية للاستثمار الصناعي الجديد، وهذا يتطلب بدوره، فرض قيود شديدة علي الاستهلاك وبالتالي علي مستوي المعيشة، وهي قيود تفرض - عادة - علي الأغلبية وهم من الفقراء. ولذلك فإن هذه التضحيات والمظالم الاجتماعية لم تكن حكراً علي الدول الرأسمالية بل إن ما عرف من تضحيات وآلام في الدول الاشتراكية عند بدء ثورتها الصناعية لم يكن أقل قسوة أو ظلماً. فعندما حاول ستالين بدء عملية التصنيع المكثّف اعتباراً من عام 1929 مع بدء الخطط الخمسية، فإنه طبق نظاماً صارماً علي الاقتصاد السوفيتي، بغرض ضغط الاستهلاك إلي أدني الحدود. فكان أن فرض نظام المزارع الجماعية وتعميمه علي مختلف الجمهوريات السوفيتية، وعرف المجتمع السوفيتي في ذلك الوقت ولسنوات طويلة، درجة من التضحيات في الأجور وفرض العمل القسري والتهجير،مما ترتب عليه تضحيات اجتماعية صارخة راح من ورائها عشرات الملايين من البشر. وقد عاصر هذا التحول إلي الصناعة نوع من الإرهاب السياسي فيما عرف آنذاك بمحاكمات التطهير. وهكذا، فقد جاء التحول الصناعي في دولة الاشتراكية الأولي، مصاحباً لمظالم اجتماعية وبؤس عام، تتضاءل معها كل قصص الظلم الاجتماعي التي تحدث عنها ماركس في كتاباته أو منشوراته أو كتب عنها ديكنز في رواياته. وإذا كانت التضحيات السوفيتية في الثلاثينيات من القرن الماضي عند بدء التصنيع المكثف، لا ترجع كلها إلي احتياجات التحول إلي الصناعة، بل تعكس - إلي حد بعيد - الطبيعة القاسية لستالين، فإن تجربة الصين في التحول إلي الصناعة، مع ماوتسي تونج، لم تكن أكثر رحمة. فقد عرفت الصين، بعد ثورة التحرير، عدة أزمات زراعية صاحبتها مجاعات، وخاصة في فترة ما عرف بالثورة الثقافية في الستينيات من القرن الماضي. وهكذا يتضح أن الكثير من التضحيات والمظالم الاجتماعية، التي عرفتها الرأسمالية الأولي، لم تكن فقط نتيجة طبيعة هذا النظام الرأسمالي، بقدر ما كانت نتيجة لظروف الانتقال إلي اقتصاد صناعي، وما يتطلبه ذلك من ضرورة توفير مدخرات كبيرة للاستثمار الصناعي، أو ما كان يطلق عليه التراكم الرأسمالي. أضف إلي ما تقدم، أن وجود نظام سياسي ديمقراطي عند التحول إلي المجتمع الصناعي، من شأنه أن يخفف كثيراً من حدة هذه التضحيات الاجتماعية. فالديمقراطية الإنجليزية، عند بدء الثورة الصناعية، في منتصف القرن الثامن عشر، كانت ما تزال ديمقراطية محدودة، تضع السلطة السياسية في أيدي كبار الملاك، ولم يكن للطبقة العاملة أي تنظيم و دور سياسي فعّال، وكان حق الانتخاب محدوداً لا يتمتع به معظم الفقراء. وهكذا لم يستطع النظام السياسي القائم، أن يكبح جموح الرأسمالية المتوحشة في فترات التحول الأولي للتصنيع. وبالمثل فإن ما زاد من قسوة تجربة التصنيع، سواء في الاتحاد السوفيتي في الثلاثينيات من القرن الماضي، أو في الصين في الستينيات، هو أن هذه التجارب تمت في إطار نظم سياسية دكتاتورية، لا تأبه بالفرد وحقوقه وحرياته. وعلي العكس من ذلك، جاءت تجربة بداية التصنيع المكثف، في دول صناعية أخري، في وقت لاحق، أكثر رحمة وإنسانية. فعندما بدأت ألمانيا - مع بسمارك - اتجاهها إلي الثورة الصناعية في نهاية القرن التاسع عشر، حرص بسمارك علي وضع تشريعات اجتماعية، للضمان والتأمين علي مصالح العمال والفقراء إلي حد بعيد. فجاء التصنيع الألماني أكثر إنسانية وأقل آلاماً مما عرف في إنجلترا، أو في الاتحاد السوفيتي، أو الصين. كذلك، جاءت تجربة الولايات المتحدة، للانطلاق في حركة التصنيع، في نهاية القرن التاسع عشر، دون مظالم اجتماعية باهظة، بسبب ثرائها في الموارد الطبيعية من ناحية، واستفادتها من القروض والاستثمارات الأجنبية من ناحية أخري. ولا شك أن النظام الديمقراطي، وعمق تقاليد المشاركة السياسية، واحترام حقوق الأفراد في الولايات المتحدة الأمريكية، كان أحد عوامل ضبط التضحيات الإنسانية التي صاحبت التحول الصناعي الكبير في أمريكا بعد الحرب الأهلية. ومع ذلك، فلا يمكن أن نتجاهل أن الولايات المتحدة الأمريكية، والتي عرفت تحولاً إلي الصناعة دون مظالم اجتماعية شديدة، كما في حالة إنجلترا، فإنها قد مارست في الوقت نفسه، أحد أقسي النظم الاجتماعية، وهو الرق. فقد عرفت الولايات المتحدة نظاماً إنسانياً ظالماً وبالغ القسوة بالنسبة للعبيد المستوردين من أفريقيا. ولكن ينبغي أن نتذكر في هذا الشأن، أن نظام العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية، كان نتاجاً للمجتمع الزراعي أي مجتمع ما قبل الصناعة، ولم يكن نتيجة للتصنيع والرأسمالية. بل إن الحرب الأهلية لتحرير العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية، كانت إلي حد بعيد، حرباً بين الشمال الأكثر صناعة، والمدافع عن تحرير العبيد، وبين الجنوب الزراعي المؤيد للرق. فكانت حرباً بين متطلبات الصناعة ليد عاملة حرة وبين احتياجات الزراعة في الجنوب إلي العبيد. كانت، بعبارة أخري، حرباً بين النظام الرأسمالي الصاعد والنظام الإقطاعي المتهالك. وهكذا، فإن استمرار المظالم الاجتماعية في الولايات المتحدة، مع التمييز العنصري ضد السود، لم يكن نتيجة للرأسمالية الصناعية، بقدر ما كان أثراً من آثار المجتمع القديم. ولكل ما تقدم، فإن المظالم الاجتماعية التي عرفتها الدول الغربية مع بداية الرأسمالية، لم تكن بالضرورة نتيجة للأخذ باقتصاد السوق، وإنما كانت مرتبطة بظروف تاريخية خاصة، سواء تعلق الأمر ببداية التصنيع في دول متخلفة، أو لوجود نظم سياسية أرستقراطية (إنجلترا)، أو دكتاتورية (الاتحاد السوفيتي والصين). ومن هنا أيضاً أهمية الربط بين وجود اقتصاد السوق، ونظم ديمقراطية حقيقية تعني بمصالح الجماهير العددية. وهو أمر سوف يتضح عندما نتناول قضايا الليبرالية، فالليبرالية السياسية ضمان لمنع انحرافات ومظالم اقتصاد السوق إذا ترك دون رقابة وضبط من ديمقراطية سياسية. ولكن الحديث عن اقتصاد السوق لم ينته، فلا تزال هناك أسباب أخري للبس وسوء الفهم. اقتصاد السوق ودور الدولة: لا يرجع التخوف من الحديث عن اقتصاد السوق، إلي ما يثيره فقط من ذكريات أليمة صاحبت الرأسمالية الأولي، عند بداية التصنيع في إنجلترا، بل إن هناك انطباعاً شائعاً بأن اقتصاد السوق يعني ترك الحبل علي الغارب للمصالح الخاصة والتخلي عنه لدافع الربح يعبث بأرزاق الناس دون قيود أو ضوابط، أو ما أطلق عليه اقتصاد «سداح مداح». فهل يعني اقتصاد السوق أن تتخلي الدولة عن دورها لتتراجع عن مسئوليتها في إدارة الاقتصاد، وتترك الأمر للقطاع الخاص ورجال الأعمال يفعلون ما يشاءون دون رقابة أو مسئولية؟ فهل هذا صحيح؟ وهل هذا ما يدعو إليه سعيد النجار؟ لعله من المفيد أن نبدأ بالتذكير، أن قيام الرأسمالية، واقتصاد السوق في معناهما المعاصر، قد تعاصر تاريخياً مع نشأة الدولة الحديثة، بل إن قيام هذه الدولة المركزية كان سابقاً وبمثابة شرط مسبق لازدهار اقتصاد السوق. ففكرة الدولة الحديثة، القائمة علي الإقليم والشعب والسيادة، فكرة حديثة لم تجاوز القرن السادس عشر، حيث سادت قبل ذلك وحدات سياسية قائمة علي مفهوم العائلة المالكة أو الإقطاعية أو حتي الولاء الديني. أما الدولة المعاصرة وبالتالي الدولة الإقليمية ذات السيادة، والتي لا تسمح بتدخل أجنبي في شئونها، فهي فكرة حديثة نسبياً. وليس من قبيل الصدفة أن يكون ظهور الدولة الحديثة معاصراً لقيام الرأسمالية، فهما ظاهرتان مرتبطتان. وقد ساعد قيام الدولة علي تطور مفهوم اقتصاد السوق. فاقتصاد السوق ليس مجرد تلاقي مجموعة من الأفراد، وحيث تتحدد الأسعار من خلال سلوكهم، بل إن السوق، وهي تستند إلي منظومة من الحقوق، تفترض وجود دولة قوية تفرض القانون الذي يعرف هذه الحقوق ومداها، ويضمن حمايتها بفرض الالتزام بتنفيذ التعهدات والوفاء بها. فاقتصاد السوق لا يمكن أن يعمل ما لم يتوافر نظام قانوني للحقوق (حقوق الملكية بوجه خاص) والعقود، نظام يعترف بالحقوق، ويضمن الوفاء بالعقود والتعهدات، بما يتطلبه ذلك من نظام قضائي عادل وفعّال. هكذا يتطلب السوق ضرورة تحقيق الأمن والدفاع والعدالة. ودون هذا الاستقرار في الأمن الداخلي والخارجي فلا اقتصاد. كذلك، فإن اقتصاد السوق، وهو يقوم علي التبادل النقدي، فإنه يفترض وجود نقود وطنية مستقرة، وبالتالي سياسات نقدية سليمة وفعالة. وقل مثل ذلك بالنسبة للبيانات والمعلومات، فينبغي أن تكون هذه البيانات متاحة ودقيقة. ولكن الأمر لا يقتصر فقط علي مجرد توفير الإطار القانوني، وتحقيق الاستقرار النقدي، وتوافر البيانات السليمة، بل يتطلب الأمر أيضاً استقراراً سياسياً وحداً أدني من البنية الأساسية المادية والمؤسسية. فهناك حاجة إلي الطرق والموانئ وشبكات الكهرباء والاتصالات، ولكن هناك أيضاً الحاجة إلي نظام تعليمي وتوافر مستوي صحي وغير ذلك من عناصر البنية الأساسية، التي لا يمكن توفيرها إلا من خلال حكومة مركزية قوية. وعندما تحدث آدم سميث عن «اليد الخفية»، التي تسمح لقرارات الأفراد بتحقيق المصلحة العامة، فإنه لم ينس أن يشير إلي أن الدولة عليها، إلي جانب ضمان وجود جيش وأسطول ونظام قضائي، أن تتدخل عندما تتطلب المصلحة العامة ذلك. «فاليد الخفية» لا تعمل في فراغ كما لا تعمل وحدها، وإنما تقوم بدورها في ظل دولة قوية توفر لها شروط البقاء والنماء وتضمن فاعلية دورها. ويثار - أحياناً - القول بأن نظام السوق يستند إلي مقولة، «دعه يعمل، دعه يمر» «laissez faire, laissez passer» وأن هذا هو شعار اقتصاد السوق. وهذا غير صحيح. فهذه المقولة لا تعبر عن حقيقة «اقتصاد السوق»، سواء علي المستوي الفكري أو المستوي العملي والتطبيقي. فمن الناحية الفكرية، تنسب هذه المقولة إلي مدرسة الطبيعيين Physiocrats الفرنسيين وقبل آدم سميث وأتباعه من الاقتصاديين الكلاسيك، الذين دافعوا عن نظام اقتصاد السوق. وقد صدرت هذه العبارة من أحد رجال الأعمال الفرنسيين، في حواره مع المسئولين من الحكومة الفرنسية، بأن «دعونا نعمل»، أي اتركوا الفرص لنا (أي التجار) للعمل دون قيود. فتذهب الرواية التاريخية لأصل هذا الشعار، إلي أن كولبير، وزير المالية في عصر لويس الرابع عشر، تساءل أمام رهط من التجار «ماذا تستطيع حكومة الملك أن تفعل لكم؟»، فرد عليه أحد التجار - فرانسو لو جندر Legendre - «اترك لنا هذا الأمر» Laisser - nous faire. أما كتابات الاقتصاديين، منذ آدم سميث وريكاردو ومالتس وغيرهم، فإنها وإن افترضت حرية الأسواق، فإنها أيضاً افترضت وجود دولة قوية تفرض إرادتها وسلطتها علي الاقتصاد، من خلال القانون وفرض احترامه ووضع السياسات الاقتصادية بل والتدخل المباشر إذا لزم الأمر. وأما من الناحية التطبيقية أو من حيث العمل، فإن اقتصاد السوق، منذ الثورة الصناعية، قد قام في حضن دولة قوية تتدخل وأحياناً بالقوة العسكرية المسلحة لضمان حقوق ومصالح الدولة. فالدولة في إنجلترا كانت تتدخل ليس فقط بوضع السياسات المالية والنقدية والقواعد القانونية والنظم الداخلية الملائمة لنمو الاقتصاد وازدهار السوق، وإنما أيضاً لتنظيم حقوق ونظم العمل وضع القيود علي استغلال العمال عن طريق التشريعات الاجتماعية. وكذلك كانت الدولة تمنح المزايا لشركاتها في الخارج، وتقدم الحماية لمصالحها في الخارج، وكثيراً ما تدخلت عسكرياً لحماية هذه المصالح. وبالمثل، فإن الحكومة في ألمانيا، أقامت نظاماً اقتصادياً تمتعت فيه السوق المحلية بحماية جمركية عالية، لتخفيف حدة المنافسة من الصناعات الأجنبية، ونفس الوضع مع الولايات المتحدة الأمريكية. فالقول بأن نظام اقتصاد السوق، يفترض انسحاب الدولة من الساحة الاقتصادية وتركه لقوي الطلب والعرض، هو قول لا يستند إلي السوابق التاريخية، التي تؤكد أن ازدهار اقتصاد السوق منذ الثورة الصناعية قد صاحبه ازدياد لدور الدولة وقوتها ونفوذها. ولكن الدولة عندما تتدخل في إطار اقتصاد السوق، لا تتدخل باعتبارها منتجاً عن طريق قطاع عام يشارك غيره من المقيمين في النشاط الإنتاجي، وإنما تتدخل الدولة باعتبارها سلطة إشراف ورقابة وتوجيه. فهي تضع الإطار القانوني المناسب، وتفرض الشروط والمواصفات، وتمنع الانحرافات، وتوفر المزايا والحوافز. كذلك فإن الدولة تتدخل بسياسات عامة في المسائل النقدية والمالية والتجارية. وهي تتدخل أخيراً في توفير بعض السلع والخدمات - علي سبيل الاستثناء - عندما يستحيل أو يصعب علي السوق توفير هذه السلع أو الخدمات علي نحو كفء. وهذا الأمر الأخير هو المعروف بقضية السلع العامة Public Loads. وقد يحتاج الأمر إلي بعض الشرح. طور الفكر الاقتصادي، ومنذ فترة غير قصيرة، مفهوماً مهمًا للسلع العامة. وهي السلع أو الخدمات الأساسية والضرورية للمجتمع، والتي لا تنجح السوق في توفيرها أو في توفيرها بشروط مناسبة للمجتمع، وذلك رغم الاعتراف بأهمية هذه السلع والخدمات. فنحن هنا بصدد سلع أو خدمات لا شك في أهميتها، ولكن السوق لا تصلح في توفيرها بشروط مناسبة. ويرجع فشل السوق في توفير هذه السلع لأسباب متعددة، فهناك سلع وخدمات متي ما أديت فإن الجميع يفيد منها ولا يمكن حرمانهم منها، ويقال أنها لا تخضع لمبدأ الاستئثار Exclusion principle، بمعني أن المنافع المترتبة علي توفير السلعة أو الخدمة، تصبح شائعة بين الجميع ولا يمكن حصرها فيمن يتحمل تكلفة أدائها. وهذا النوع من السلع والخدمات لا يمكن توفيره عن طريق السوق، نظراً لأن أحداً لن يقبل بتحمل تكلفة أدائها، وعلي العكس، يفضل الجميع الانتظار حتي تتوفر السلع والإفادة منها مجاناً. وهذا هو السلوك المعروف باسم «الراكب المجاني» Free Rider. كذلك ترتبط فكرة السلع العامة أيضاً بالتفرقة بين المنفعة العامة والمنفعة الخاصة. فهناك خدمات يترتب عليها - بالإضافة إلي المستفيد المباشر منها - مزايا أو أضرار للغير، وهو ما يطلق عليه الآثار الخارجية Externalities. فالتعليم مثلاً ليس مجرد خدمة الطالب أو التلميذ المستفيد بالتعليم وحده، ولكنها خدمة عامة ترفع من مستوي المجتمع في مجموعه، ومثل ذلك خدمات الصحة. فهذه السلع والخدمات لا تهم المنتفع المباشر بها وحده ولكنها تهم المجتمع في مجموعه، ولذلك فإنه لا يجوز أن يتوقف حجم توفير هذه السلع والخدمات علي رغبات المنتفعين وقدراتهم وحدهم، ولابد أن يقرر المجتمع حجم ما يقدم من هذه الخدمات وبصرف النظر عن مدي استعداد هؤلاء المنتفعين لدفع تكلفة هذه السلع والخدمات. وهناك بالمقابل سلع وخدمات تؤدي إلي الإضرار بالمجتمع، مثل تلوث البيئة أو انتشار المخدرات. وفي كل هذه السلع والخدمات تختلف المنفعة العامة عن المنفعة الخاصة، وبالتالي لا تصلح السوق وحدها مقياسًا لأداء وتقديم مثل هذه السلع والخدمات، وإنما تتدخل الدولة مباشرة للتأكد من توافر هذه السلع والخدمات. أو محاربتها والحد من آثارها إذا كانت ضارة. وهكذا يتضح أن الحديث عن اقتصاد السوق لا يعني تقليص دور الدولة، فمثل هذا الحديث هو وهم وأسطورة لا تسندها وقائع التاريخ، كما لا تبررها النظريات الاقتصادية السائدة. فالدولة لا تزال لاعبًا أساسيا في اقتصاد السوق. بل لعل دور الدولة يصبح أكثر أهمية وخطورة، مع التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ولكن هذا الدور يختلف عنه في الاقتصاد الموجه أو الاقتصاد المركزي. فالدولة في اقتصاد السوق لم تعد منتجاً يملك عناصر الإنتاج ويقوم بإنتاج السلع والخدمات، إلا استثناء وفي حالات محدودة. ولكن الدولة تضع القواعد وتقوم بالرقابة والإشراف، وهي تصمم السياسات وتعمل علي تنفيذها. الدولة تقوم بوظيفتها الطبيعية باعتبارها حكماً صاحب سيادة يفرض قواعد اللعبة علي جميع المشاركين ويراقب تنفيذها، ولكن الدولة ليست لاعباً في عملية الإنتاج، مثلها مثل المشروعات الأخري. ويلخص سعيد النجار الوظائف الاقتصادية للدولة في ثلاث: الوظيفة الأولي هي السياسات الماكرواقتصادية من خلال السياسات النقدية والمالية، بهدف تحقيق الاستقرار المالي والنقدي، وحماية مستوي الأسعار وقيمة العملة في الداخل والخارج، ومستوي العمالة والنشاط الاقتصادي. والوظيفة الثانية هي الوظيفة الرقابية، لمنع الاحتكارات والاستغلال، والتوفيق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وحماية البيئة وتحقيق العدالة الاجتماعية. والوظيفة الثالثة هي الوظيفة التنظيمية، أو تقديم الخدمات العامة بإرساء البنية الأساسية، وتوفير الخدمات العامة في الأمن والدفاع والعدالة والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي. اقتصاد السوق وكفاءة الإدارة الاقتصادية: نأتي الآن إلي الاتهام الأخير لاقتصاد السوق، وهو أن هذا الاقتصاد يعني في الواقع ترك إدارة السوق لفوضي الطلب والعرض، دون نظرة عامة للاقتصاد في مجموعه. ففي اقتصاد السوق تصدر القرارات عن آلاف مؤلفة من المستهلكين والمنتجين، مما يعني انتفاء النظرة العامة والتنسيق بين هذه القرارات. فكل مستهلك أو منتج يتخذ قراره منفرداً لتحقيق صالحه الخاص ودون رعاية أو اهتمام بالمصلحة العامة. فنحن نترك إدارة الاقتصاد للعشوائية، بعكس الاقتصاد المخطط الذي يخضع القرار الاقتصادي للتفكير العلمي، وحيث توضع الصورة الكاملة أمام المخطط وبما يسمح بترشيد القرارات الاقتصادية، بدلاً من عشوائية السوق. فهل هذا صحيح؟. الواقع أن هذا الموضوع قد أثار خلطاً شديداً، كما أدي إلي سوء فهم لطبيعة عمل الاقتصاد. فذهب العديدون إلي أنه مادامت لا توجد سلطة مركزية عليا في اقتصاد السوق لتنسيق القرارات، فإن هذا النظام يؤدي إلي الفوضي والعشوائية في القرارات الاقتصادية، وبالتالي نقص الكفاءة وهو الأمر الذي يباهي به أنصار السوق دائماً. فكيف يمكن القول بأن اقتصاد السوق اقتصاد كفء رغم عدم التنسيق في القرارات الفردية المتعددة والمستقلة لآلاف مؤلفة من المستهلكين والمنتجين؟ هذه هي القضية، وهي، من ناحية أخري معجزة السوق علي ما سنري. ويتمتع اقتصاد السوق بمزايا من حيث حجم المعلومات المتاحة وراء القرارات الاقتصادية، ومن حيث تكلفة هذه القرارات والبواعث عليها. ولبيان ذلك نشير إلي أن كفاءة القرار الاقتصادي تتوقف علي حجم البيانات والمعلومات المتاحة حين إصداره. وكلّما كانت البيانات كافية وصحيحة، كلما كانت الفرصة في سلامة القرار أكبر. أما إذا بني القرار علي معلومات وبيانات قاصرة أو غير صحيحة، فالغالب أن يكون القرار غير سليم. فالنظام الاقتصادي الذي يستخدم حجماً أكبر من البيانات والمعلومات يكون أكثر كفاءة، والأمر كذلك إذا كانت هذه البيانات صحيحة وغير اصطناعية. ولبيان ذلك نقارن بين نظامين، أحدهما يعتمد علي قرارات سلطة مركزية والآخر يستند إلي قرارات الوحدات اللامركزية في السوق. فماذا يحدث إذا كان الاقتصاد يدار مركزياً من سلطة فوقية؟ في هذه الحالة لابد أن يتوافر لهذه السلطة كافة البيانات والمعلومات، حتي يمكن أن تصدر القرارات السليمة. فهل يمكن أن يحدث ذلك عملاً وبتكلفة معقولة؟ كلا، والسبب في ذلك هو أن الحياة الاقتصادية ستتعامل مع أمور شتي لكل منها خصائص الذاتية. فإذا كان الأمر متعلقاً باتخاذ قرار حول زراعة قطعة أرض مثلاً، فنحن نتعامل مع التربة وخصائصها ومدي توافر المياه وهناك آلاف الخصائص الذاتية لكل قطعة أرض؛ من حيث موقعها، وظروف الري والصرف فيها وطبيعة التربة واتجاه الريح وقربها أو بعدها عن شبكات المواصلات والاتصالات. وعندما نتحدث عن المحصول فلكل خصائصه واحتياجاته. وقل نفس الشيء بالنسبة إلي كل عامل من العوامل التي يتعامل معها الاقتصاد. وعندما نحاول أن نستخلص بعض البيانات عن هذه العوامل، فإننا سوف نغرق في آلاف مؤلفة من البيانات التفصيلية لكل عنصر، ولذلك لابد أن نلجأ بالضرورة إلي الاقتصار علي بعض الخصائص العامة، والتجاوز عن بعض الخصائص التفصيلية. كذلك فإننا عندما ننتقل من مستوي إداري إلي رئاسي آخر، فإننا نضطر إلي تجميع هذه البيانات المتعددة في شكل تجميعات مختصرة، وبالتالي الاعتماد علي بعض المتوسطات الإحصائية. فقد نبدأ عن الحديث عما يستهلكه الفرد من سلع وخدمات في ميزانية الأسرة، موزعة علي العديد من السلع والخدمات. ولكن التعامل مع هذه الصورة التفصيلية، لا يصلح لوضعه تحت تصرف السلطات المركزية لاتخاذ القرار. فنلجأ إلي أخذ نوع من التعميمات والمتوسطات، فقد نبدأ بالحديث عن استهلاك الفرد، ثم نلجأ إلي نوع أعلي من التعميمات، فنتحدث عن استهلاك الطبقة الاجتماعية أو المنطقة أو الإقليم أو الاستهلاك القومي. وهكذا يتم التعامل مع الاقتصاد في شكل تعامل مع عدد من المتوسطات الإحصائية التي لا تعني في الواقع شيئاً حقيقياً وينتهي الأمر إلي اختصار الوضع الاقتصادي في رقم واحد هو الناتج القومي. فالقرارات تصدر علي أساس متوسط الاستهلاك القومي ومتوسط الادخار القومي، ومتوسط الدخل الفردي. فهل رأي أحد، في الواقع والطبيعة، هذا المتوسط الإحصائي؟!. ومن الواضح أنه، بقدر ما يساعد هذا التجميع وهذه المتوسطات علي إعطاء صورة كلية عن الأوضاع الاقتصادية، بقدر ما تؤدي إلي تجاهل الفروقات والاختلافات بين الأفراد والمناطق. وهكذا ينتهي التعامل علي المستوي المركزي إلي اتخاذ قرارات مبنية في الحقيقة علي تجميعات أو متوسطات إحصائية، وهي بذلك تبتعد عن أن تكون معبرة عن الحقيقة. كذلك، لا يخفي أن عملية تجميع البيانات وتبويبها ثم تجميعها في تجميعات ومتوسطات، أمر يتطلب تحمل تكلفة وأعباء، فضلاً عن أنه قد يؤدي إلي تشويه هذه البيانات، عندما تحاول كل إدارة بيروقراطية إعطاء صورة أفضل للمستوي الإداري الأعلي. وهكذا ينتهي الأمر، بأن الصورة التي تعرض علي سلطات التخطيط المركزية، تكون عادة صورة بعيدة عن الواقع، ليس فقط بسبب تجاهل التفاصيل والاختلافات والاعتماد علي المتوسطات الإحصائية، بل إنها تصبح أحياناً بيانات غير صحيحة، بقدر ما تحاول أجهزة الإدارة تجميل الصورة وتحسينها في محاولة لكسب رضاء الرؤساء عن حسن الإنجاز. وأخيراً فإن هذه البيانات قد تكون غير صحيحة لمجرد تكاسل الجهات الإدارية عن البحث عن البيانات الحديثة اكتفاء بإعادة ترديد البيانات السابقة بعد إضافة معدل للنمو أو الزيادة. وفي كل هذا، فإن عمليات تجميع البيانات وتصنيفها وتلخيصها، كل هذا يحتاج إلي وقت، بحيث قد لا تكون مفيدة عند اتخاذ القرار نتيجة لتغيير الظروف. وبذلك فإن اتخاذ القرار علي المستوي المركزي، يكون عادة مكلفاً وغالباً مشوهاً ودائماً متأخراً. ولذلك يندر أن يكون قراراً سليماً، خاصة إذا شملت مسئولية السلطة المركزية كل نواحي الحياة الاقتصادية، كما في الاقتصادات المخططة مركزياً. فهي بذلك تغرق في بحر من البيانات التفصيلية والمتعارضة أو المتناقضة أحياناً. كذلك ينبغي أن لا ننسي أن تجميع هذه البيانات وتصفيتها وتحليلها وإزالة التناقضات بينها تمهيداً لاتخاذ القرارات والحرص علي التنسيق بينها يتطلب المتابعة والرقابة، والرقابة علي الرقابة، كل ذلك يتطلب أجهزة إدارية ضخمة. وقد تضخمت أعداد العاملين في الاتحاد السوفيتي في ميادين جمع الإحصاءات، وفي إدارات التخطيط في المشروعات والوزارات، والحزب وأجهزة الرقابة علي هذه البيانات بشكل كبير. وقدر في منتصف الستينيات، أنه إذا استمر معدل الزيادة في أعداد هؤلاء العاملين بنفس النسبة، فيخشي أن تستوعب هذه العمليات كل القوي العاملة في الاتحاد السوفيتي قبل نهاية القرن العشرين. وبطبيعة الأحوال فقد سقط الاتحاد السوفيتي نفسه قبل ذلك التاريخ. أما في اقتصاد السوق فإن متخذ القرار - مستهلكاً أو منتجاً - يعرف احتياجاته بالضبط ولا يعتمد لاتخاذ قراره - في الغالب - علي متوسطات إحصائية، فهو يعرف دخله وميزانيته، وهو يعرف - بدرجة معقولة - ما يتوافر في الأسواق من سلع وخصائصها وأثمانها. ولذلك يصدر قراره - عادة - بناء علي معلومات واقعية وكافية، ودون تكلفة عالية، وهو أخيراً، يقوم بذلك بنفسه بلا حاجة إلي أجهزة للتخطيط والمتابعة والرقابة. فتكلفة معظم القرارات الاقتصادية أرخص بكثير في اقتصاد السوق. وبالنسبة للمنتج فإنه يتعامل - عادة - في إطار سلعة واحدة أو عدد محدود منها، وهو يعرف الموردين للمواد الخام ومستلزمات الإنتاج وظروفهم، وهو علي معرفة بالسوق التي يعمل فيها والمنافسين وظروفهم. وهذه المعلومات تكون عادة تفصيلية بقدر ما هي واقعية ومفيدة. فكل متعامل في السوق - مستهلك أو منتج - يحصر نفسه في نطاق ضيق يكون علي معرفة كاملة وتفصيلية به، ولكنه لا يأبه بالمعلومات الأخري عن الاقتصاد لأنها لا تهمه مباشرة. والنتيجة أن القرار الاقتصادي يصدر بناء علي حجم أكبر من المعلومات، رغم أن صاحب القرار ربما يجهل أشياء كثيرة، ولكنها لا تتصل مباشرة بقراره في الاستهلاك أو الإنتاج. أما كيف يحدث التنسيق بين قرارات مختلف الوحدات الاقتصادية، فهناك مؤشر Signal مهم في السوق وهو تغيير الأسعار. فإذا زاد الطلب علي سلعة بما يجاوز ما هو متاح منها، فإن الأسعار تتجه إلي الارتفاع، الأمر الذي يضطر بعض الطالبين إلي التخلي عن طلبهم لهذه السلعة لأنها أصبحت تجاوز قدرتهم المالية، وفي نفس الوقت فإن ارتفاع الأسعار يعني توجيه إشارة إلي المنتجين بأن هناك طلباًَ متزايداً لهذه السلعة وبالتالي فرص لتحقيق الأرباح، وبذلك يتجهون إلي زيادة عرضها، وهكذا يتحقق الاتساق والانسجام في التوازن، دون إرادة أو قرار من سلطة عليا، وهو ما أطلق عليها آدم سميث اسم «اليد الخفية» Invisible hand . فهذه اليد الخفية تستند إلي سعي كل فرد نحو تحقيق مصالحه بالشراء بأقل الأسعار أو البيع بأعلي الأسعار، وهي تؤدي إلي تغيرات في الأسعار وبالتالي في سلوك المنتجين والمستهلكين، بما يحقق التوازن بين الطلب والعرض، وبالتالي تحقيق المصلحة العامة بإنتاج السلع والخدمات بالقدر والنوع المطلوب من المستهلكين. وكل هذا يتحقق دون تكلفة خاصة تتحملها أجهزة التخطيط والتنفيذ والمتابعة، وبجمع الإحصاءات ومراجعتها وتصنيفها إلي غير ذلك من الأعباء الإدارية للتخطيط المركزي. وقد يكون من المفيد أن نؤكد هنا، أن التنسيق في القرارات، في اقتصاد السوق، لا يمكن أن يكون دائماً دقيقاً وكاملاً، ففي كثير من الأحوال، تظهر الاختلالات سواء بظهور عجز أو نقص في بعض السلع أو فائض لا يجد مشترياً في سلع أخري. ولكن هذا الاختلال في السوق يتجه إلي الإصلاح السريع، فارتفاع ثمن سلعة أو اختفاؤها من السوق مدعاة لمزيد من الإنتاج أو الاستيراد من الخارج، وأن هناك فرصة من الربح من القيام بذلك. أما الاختلال في حالة التخطيط المركزي فإنه غالباً ما يحتاج إلي إجراءات إدارية معقدة، وربما لا يكشف أصلاً إلا بعد نهاية الخطة بسنوات، ناهيك عن ادعاءات مديري المشروعات بأن كل شيء علي ما يرام. والقول بأن اقتصاد السوق يصحح الاختلالات لا يعني أن ذلك يتم دائماً بصورة سليمة، بل هناك احتمال للتجاوزات، ولذلك فإن دور الدولة مطلوب هنا. وبطبيعة الأحوال، فإن اقتصاد السوق، وهو يقوم علي القرارات اللامركزية للأفراد، لا يعني أن تكون الدولة متغيبة عن التدخل في الحياة الاقتصادية. فقد أشرنا إلي أن اقتصاد السوق، لا يستبعد دور الدولة الاقتصادي، علي ما سبق أن أشرنا. ولكن هناك فارقًا كبيرًا بين أن تتحمل الدولة مسئولية الإنتاج بشكل مستمر أو تتدخل لإصلاح الأمور عند ظهور الاختلال أو ظهور أزمة. فالدولة عندما تتدخل في مثل هذه الحالات الأخيرة، فإنه يتوافر لها - عادة - البيانات المناسبة عن طبيعة المشكلة وحجمها لأن الأزمات بطبيعتها غير متكررة، ولذلك تعبئ الدولة إمكانيات لمواجهتها حتي تعود الأمور إلي نصابها، فتعود الدولة إلي دورها الرقابي. فإذا تعلق الأمر باختلال في سوق محددة، فإن الدولة تكون قادرة علي الحصول علي معلومات تفصيلية ودقيقة حول هذه السوق لإصلاح الوضع الخاص بهذه السوق. فالدولة هنا كالطبيب، يعالج المريض ويرعاه فترة مرضه، ثم يتركه بعد أن يستعيد نشاطه وينصرف إلي مريض آخر. أما في الحالات العادية الأخري فإن تدخل الدولة يكون عادة عن طريق السياسات الاقتصادية العامة التي تعتمد علي الإحصاءات العامة. وفي هذه الحالات، فإن البيانات الاقتصادية التجميعية تكون ضرورية بقدر ما هي مفيدة. فمعرفة المستوي العام للأسعار أو معدلات البطالة أو حجم العجز في ميزان المدفوعات، ورغم أنها أنواع من البيانات الإجمالية، إلا أنها تكون كافية لاتخاذ سياسات اقتصادية توسعية أو انكماشية، بالتغيير في السياسات المالية والنقدية والتجارية والتأثير بالتالي في اتجاهات التغيير في أسعار الفائدة أو أسعار الصرف، أو في مستوي الضرائب والنفقات. ولكن هذه البيانات الإجمالية، وهي بالغة الأهمية في صدد وضع السياسات الاقتصادية للنشاط الاقتصادي في مجموعه، فإنها لا تساعد كثيراً عندما يتعلق الأمر بتحديد حجم وشكل الإنتاج في حالات محددة، مثل إنتاج الثلاجات أو أنواع الملابس وتوزيعها علي المقاييس المختلفة وأذواق المستهلكين، وهكذا. ولعلي أشير هنا إلي أن أسلوب عمل اقتصاد السوق هو أشبه بعمل جسم الإنسان. ففي كلتا الحالتين هناك سلطة مركزية ووحدات لامركزية متعددة. فهذا الجسم يتكون من ملايين أو حتي بلايين الخلايا، ولكل منها حياتها الخاصة. ولكن هناك أيضاً المخ، الذي يمثل الجهاز المركزي بتوجيه القرارات الرئيسية للجسم. فكيف يعمل هذا الجسم؟ هناك توزيع في الوظائف بين الخلايا والمخ. هناك قرارات تتخذ علي المستوي اللامركزي لكل عضو أو خلية، وهناك قرارات مركزية تتخذ علي مستوي المخ. فالتنفس والدورة الدموية وآلاف الوظائف التي تقوم بها الخلايا وأعضاء الجسم تتم بشكل تلقائي وفقاً لوظيفة كل خلية، ودون حاجة إلي تصريح من السلطة المركزية، أي من المخ. ومع ذلك، فإن هناك قرارات، لا يمكن اتخاذها إلا بأمر وتصريح من المخ، وهي القرارات المتعلقة بالاختيار. متي تقوم من السرير، أو أن تسير في هذا الطريق أو ذاك أو أن تقرر شراء هذه السلعة دون الأخري، أو السفر إلي الخارج، أو الزواج أو الذهاب إلي الطبيب. هذه أمور تتم علي المستوي المركزي. أما كيف تتنفس، أو كيف تسير الدورة الدموية أو عملية الهضم أو الإفرازات، فهذه قرارات لا مركزية تصدر علي مستوي الخلايا وأعضاء الجسم. وهذه القرارات اللامركزية تصدر بناء علي المعلومات التفصيلية التي تصل إلي الخلايا أو أعضاء الجسم نتيجة للوسط الذي تعمل فيه. وفي هذا التوزيع للاختصاصات بين الخلايا والأعضاء من ناحية والمخ من ناحية أخري يتحقق أفضل استخدام للمخ، فهو يركز طاقته وجهوده المركزية علي القرارات الأساسية، ولا يبددها في القرارات الروتينية والمستمرة التي تترك للوحدات اللامركزية. وهكذا اقتصاد السوق. الدولة - كما المخ - تتخذ القرارات الرئيسية وتترك للوحدات الاقتصادية اتخاذ القرارات اليومية تحت رقابتها وإشرافها المستمرين. وإذا كنا تحدثنا فيما سبق، عن قدرة نظام السوق علي توظيف البيانات والمعلومات الحقيقية بشكل أكثر كفاءة، وأن التنسيق بين القرارات يتم بشكل غير إرادي عن طريق تغيرات الأسعار وما ترسله من رسائل ومؤشرات لتغيير سلوك المستهلكين والمنتجين فإن ذلك لا يفي اقتصاد السوق حقه في أسباب كفاءته. وربما ينبغي أن نضيف إلي كل ما تقدم، عنصراً آخر لا يقل أهمية، وهو عنصر الباعث، وما يرتبط به من توفير في التكاليف. فالجميع يعمل من أجل مصلحته الشخصية، ومن ثمّ يوفر للنظام باعثاً قوياً ورخيصاً لاتخاذ القرارات الاقتصادية. فأنت لا تحتمل أية تكلفة لكي تقنع المشتري بألا يبدد دخله في شراء سلع لا يحتاجها أو بأسعار مرتفعة، أو لإقناع المنتج بأن يتخذ كل ما يلزم لتخفيض تكلفة الإنتاج. وفي هذا يحقق الاقتصاد كسباً بحسن استخدام الموارد وعدم تبديدها اعتماداً علي باعث المصلحة الشخصية. فالطبيعة زودت كل فرد بجهاز للبحث عن «المصلحة الشخصية»، وجاء اقتصاد السوق ووظف هذا الجهاز لزيادة الكفاءة بمنع تبديد الموارد والحرص عليها. هذا بعض عن أسباب الخلط وسوء الفهم عن حقيقة اقتصاد السوق. فماذا عن الليبرالية؟ ثانياً: عن الليبرالية السياسية: نبدأ بالقول بأن الدعوة لليبرالية مكملة للدعوة لاقتصاد السوق، وذلك من ناحيتين علي الأقل، الأولي هي أن اقتصاد السوق لا يمكن أن يلعب دوره بكفاءة إلا في ظل نظام سياسي ليبرالي، والثانية هي أنه دون نظام ليبرالي، فإن اقتصاد السوق يمكن أن ينحرف ليصبح أداة للاستغلال والظلم الاجتماعي. فالليبرالية السياسية ضمان لكفاءة السوق وحسن أدائها، وهي أداة لمنع انحرافاتها أيضاً. الحديث عن الليبرالية السياسية هو حديث عن الديمقراطية. ولكنه يعني أكثر من مجرد الديمقراطية السياسية واختيار الحكام ومساءلتهم. فاصطلاح الليبرالية مأخوذ - كما هو معروف - من الكلمة الأجنبية Liberty أي «الحرية»، وهذه الحرية لا تعني فقط مجرد الحرية السياسية في اختيار الحكام، وإنما تعني حرية الفرد بكل ما يتضمنه ذلك من حقوق ومسئولية. فإذا كان تاريخ الديمقراطية يرجع إلي المدن الإغريقية منذ القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، فإن مفهوم الليبرالية قد تبلور في إنجلترا منذ القرن السابع عشر وخاصة مع جون لوك. وقد دعا ذلك المفكر الفرنسي بنجامين كونستانت B. Constant إلي التفرقة بين الحريات «القديمة» و«الحديثة». فالحرية بالمعني القديم - وهي الديمقراطية الإغريقية - تعني مشاركة الأفراد في اتخاذ القرارات السياسية، سواء باختيار الحكام أو بالتصويت علي القرارات المهمة. أما الحرية «الحديثة» فهي تتضمن الاعتراف للفرد بمجال خاص يتمتع فيه بالاستقلال ولا يخضع فيه لغير القانون. ويري كونستانت - بالنسبة للديمقراطية الإغريقية أو الحرية بالمعني القديم - أن «الفرد وهو يتمتع بالمشاركة في السيادة في المسائل العامة، فإنه يكاد يكون عبداً ولا يعرف أي استقلال في أموره الخاصة». وعلي العكس فإن الفرد، وهو يمارس حرياته الحديثة، فإنه يتمتع «بالاستقلال في حياته الخاصة» و«لا يكاد يتمتع بأي سيادة في المسائل العامة» وأنه «حين يشارك في المسائل العامة، في لحظات الانتخاب، فإن ذلك يكون عادة بقصد التخلي عن سيادته في المسائل العامة لنوابه وممثليه». وعندما يتحدث سعيد النجار عن الليبرالية، فإنه يقصد الحرية بجانبيها القديم والحديث معاً، فالليبرالية ليست مجرد إجراءات، بل هي مضمون أيضاً. الديمقراطية الليبرالية، هي بالقطع الانتخابات وتداول السلطة والمساءلة والشفافية ودولة القانون وحرية تكوين الأحزاب. ولكن الديمقراطية الليبرالية لها جانب آخر موضوعي أو مضموني، هو حقوق الأفراد وحرياتهم. فالليبرالية مذهب يؤمن بالفرد، باعتباره أساس المجتمع، وأن لحقوقه قدسية واحترامًا تمنع من التعرض لها تحت أية حجة. ففكرة الحقوق الأساسية للأفراد، هي جوهر الفكر الليبرالي ولا يجوز - تحت أي اعتبار - إهدار هذه الحقوق أو التضحية بها. وبوجه خاص، فإن الأخذ بالديمقراطية السياسية واعتماد حكم الأغلبية، لا يبرر بأي شكل المساس بحقوق الأقلية. ولذلك فإن الديمقراطية الليبرالية وهي تضع حقوق الأفراد وحرياتهم كأساس لجوهر النظام لا تسمح بالمساس بهذه الحقوق ولو باسم الأغلبية. ولعله من نفس المنطق جاء إليكس دي توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا» محذراً من خطورة وسطوة الأغلبية - باسم الديمقراطية - علي الحريات الفردية. فالديمقراطية الليبرالية، هي في الوقت نفسه، الديمقراطية الدستورية. فالدستور، هو القانون الأعلي للبلاد، وهو يضمن حقوق وحريات الأفراد، لا يجيز المساس بها، ولو باسم الأغلبية. والحكم الدستوري بهذا الشكل لا يعني فقط دولة القانون The Rule of Law، بمعني أن الفرد لا يخضع في مباشرة حقوقه وحرياته إلا للقانون، وأن يكون الجميع متساوين أمامه، بل يعني فوق ذلك، أن هذا القانون لا يمكن أن يخالف مبادئ الدستور، في احترام حقوق الأفراد وحرياتهم. والدستور ليس فقط هو النصوص الواردة في وثيقة الدستور، بل إنه يتضمن المبادئ الأساسية العامة المستقرة في الضمير الإنساني في احترام حقوق الأفراد وحرياتهم. وهذا هو المعني الذي أراده جون لوك، عندما دافع عن مفهوم العقد الاجتماعي والملكية الدستورية. ورغم أن مفهوم «العقد الاجتماعي» كان سابقاً علي لوك، حيث دافع عنه هوبز، ثم أعيد الحديث عنه مع جان جاك روسو، فإن هذا المفهوم قد اختلف فيما بينهم. فرغم أنهم جميعاً يرون أن الدولة هي نتاج لعقد اجتماعي، إلا أن مفهومهم عن الحرية ليس واحداً. أما هوبز فقد استخدم مفهوم «العقد الاجتماعي» لتبرير الحكم المطلق، في حين أن كلا من لوك وروسو استخدماه للدعوة إلي الديمقراطية. ومع ذلك، فإنهما يختلفان من حيث نتائج هذه الديمقراطية علي الحرية الفردية. فروسو - وهو الأحدث تاريخياً - إلا أن مفهومه للحرية كان أقرب إلي مفهوم الأقدمين، فالحرية أو الديمقراطية عنده لا تتجاوز حق المشاركة في الحكم وتكوين الإرادة العامة للشعب volonte generale، ولكن باسمها يمكن أن تتحقق ديكتاتورية الأغلبية والإرهاب الثوري. وهو الأمر الذي وقع بالفعل خلال الثورة الفرنسية. أما لوك، وهو الممثل الحقيقي لليبرالية، فإنه يجمع بين الديمقراطية وحقوق الأفراد، فالديمقراطية عنده وهي تعني مشاركة الشعب في الحكم - عن طريق البرلمان - إلا أنها لا تطلق العنان للأغلبية، وإنما تقيدها بقيود دستورية. فهي ديمقراطية دستورية تحمي حقوق الأفراد الأساسية. ويؤكد لوك علي اعتبار - سيصبح فيما بعد أحد أسس الليبرالية - وهو العلاقة بين الحرية الفردية والملكية الخاصة. فالاعتراف بمجال خاص للفرد يستقل فيه دون تدخل يتطلب أن تتوزع الملكية ولا تتركز في يد واحدة - ولو كانت يد الدولة. وهنا نلمح أيضاً أن الاحتكار عدو الليبرالية، يستوي في ذلك الاحتكار الخاص أو الاحتكار العام. وهكذا نجد عند لوك مبدأين أساسيين من مبادئ الليبرالية، ألا وهما فكرة دولة القانون من ناحية، وفكرة اقتصاد السوق القائم علي الملكية الخاصة. ويترتب علي ما تقدم، أن الدولة الليبرالية الحديثة تقوم علي فكرة المواطنة. وفي هذا يخبرنا سعيد النجار بأن «هناك متطلبات لقيام الدولة الحديثة واكتمال أسباب قوتها. ومن أهم تلك المتطلبات أن تكون المواطنة - وليس الانتماء الديني - هي مصدر الحقوق والواجبات العامة. ومن هنا المساواة المطلقة بين المواطنين، بصرف النظر عن ديانتهم» ويستمر سعيد النجار ليفرق بين هذا المفهوم للدولة الليبرالية الحديثة، وبين الدولة الدينية، التي «تجعل العقيدة الدينية مناط الحقوق والواجبات وأساس كافة التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويترتب علي سيادة اللون الديني في كافة المجالات، وجوب التفرقة بين المواطنين علي أساس عقيدتهم الدينية». فأبناء الوطن في ظل النظم الليبرالية سواسية لا فرق ولا تمييز بينهم. الوطن للجميع والدين لله. وفي الوقت نفسه الذي تنبذ فيه الديمقراطية الليبرالية التفرقة بين الأفراد علي أساس ديني، فإنها تري أنه من أهم الحريات، حرية الاعتقاد وحرية الممارسات الدينية ومع الاحترام الكامل للمشاعر الدينية للآخرين. فحدود الحرية تنتهي عندما تمس حريات الآخرين. وبطبيعة الأحوال، فإن الحريات لا تكتمل، إلا بالاعتراف بالحريات السياسية، وحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية الاجتماعات وتكوين الأحزاب والجمعيات. ولسنا في حاجة إلي التفصيل في هذه الأمور فهي معروفة للقاصي والداني. وعندما دعا سعيد النجار لليبرالية مع إنشاء «النداء الجديد»، فإنه لم يقصد إعادة بعثها، كما بدأت في القرن السابع عشر، أو حتي كما طبقت في القرن التاسع عشر، بل كان يدرك أننا في نهاية القرن العشرين، وأنه لا مستقبل لليبرالية ما لم تأخذ البعد الاجتماعي كبعد أصيل في توجهها. ولذلك فقد حرص علي التأكيد علي أن الليبرالية الجديدة، هي دعوة للحرية، بقدر ما هي دعوة للعدالة الاجتماعية، وأن هناك مسئولية مجتمعية لتوفير الخدمات الأساسية، وضمان استمرارها للجميع من تعليم وخدمات صحية ومرافق عامة، وأن هناك حقاً للفقراء والمستضعفين في وجود شبكة للضمان الاجتماعي تكفل لهم حدا أدني من مستوي المعيشة في إطار الإمكانات المتاحة للدولة. وبطبيعة الأحوال فإن حسن إدارة الاقتصاد القومي في إطار من الديمقراطية والمساءلة السياسية من شأنه أن يحقق مستويات معقولة من النمو الاقتصادي وبالتالي من فرص العمل. وليس الغرض هنا مناقشة قضية الليبرالية في كافة توجهاتها، وهو أمر سبق أن تناوله الكاتب في مناسبات أخري، وإنما للتأكيد علي تكاملها مع مفهوم اقتصاد السوق. ولذلك فإني أكتفي بالإشارة إلي علاقة هذه الليبرالية السياسية باقتصاد السوق. هناك حديث طويل عن علاقة اقتصاد السوق بالديمقراطية، وهل الديمقراطية السياسية شرط لاقتصاد السوق أم أن الاقتصاد يمكن أن يزدهر، رغم تخلف أو قصور الديمقراطية. وقد أوضح سعيد النجار - كما أوضح غيره - أن الحديث عن اقتصاد السوق في غيبة الديمقراطية - أو ما درج التعبير عنه بالإصلاح الاقتصادي دون الإصلاح السياسي - أمر في أحسن الأحوال يقيد من نجاح اقتصاد السوق وقد يؤدي إلي عرقلته وتشويهه كلية. ودون الدخول في تفاصيل هذا الجدل، فإنني أود الإشارة إلي أمرين مرتبطين. الأول أنه في غيبة الديمقراطية، فإن اقتصاد السوق يفتقد الكثير من العناصر اللازمة لازدهاره وكفاءته. والأمر الثاني هو أن غيبة الديمقراطية لا تحول فقط دون ازدهار ونضج اقتصاد السوق، بل قد تؤدي إلي أن ينفلت هذا الاقتصاد ليصبح نظاماً للاستغلال وسيطرة رأس المال علي الحكم. فالأمر ليس مرتبطاً فقط بتحسين كفاءة اقتصاد السوق، بل أخطر من ذلك، أنه يتعلق بمنع أمراض السوق الكامنة فيما أطلق عليه أحياناً «الرأسمالية المتوحشة» أو «مافيا السوق». فالديمقراطية وهي تؤدي من ناحية إلي إطلاق لقوي الاقتصاد السوق، بإبراز إمكانياتها وقدراتها الكامنة، فإنها أيضاً ضابط وحارس ضد انحرافات رأس المال والسوق. ففي غياب الديمقراطية قد يتحول اقتصاد السوق إلي غول مفترس وإلي استغلال بلا رحمة بل وقد يأخذ شكل الجريمة المنظمة. وقد عرفت بعض الدول بعد تحولها من الاشتراكية وحين تراجعت الديمقراطية وانهارت دولة القانون - إلي ما عرف بمافيا الاقتصاد باسم اقتصاد السوق والاقتصاد الحر. وهي في الحقيقة أبعد الأمور عن اقتصاد السوق بل هي مخلفات الحكم الشمولي بعد أن فقد أسنانه وكلاب حراسته، فأطلق العنان للغرائز المكبوتة. الديمقراطية السياسية صمام الأمان لإطلاق طاقات اقتصاد السوق الكامنة، ووضع القيود والضوابط أمام انحرافاته. ومن هنا فإن دعوة سعيد النجار - وهو الاقتصادي المعروف - إلي الديمقراطية السياسية، لأنه يعرف أن الاقتصاد وحده - ودون ضابط من الرقابة الشعبية والمساءلة السياسية - يمكن أن يكون وبالاً علي المجتمعات بدلاً من أن يكون نعمة لها. اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية كانا مركزي الثقل في دعوة سعيد النجار عند تأسيسه «للنداء الجديد». وهما معاً متكاملان متلازمان يدعم أحدهما الآخر، والتخلي عنهما أو عن أحدهما لا يمكن أن ينجم عنه أي خير بل غالباً ما ينتج عنه شر مستطير. ولكن أفكار ومساهمات الفقيد لم تقتصر علي ذلك، فقد كان أستاذاً لامعاً في الاقتصاد له مساهمات واضحة في نظرية القيمة ونظرية التجارة الخارجية، كما كان خبيراً في شئون العلاقات الدولية والمنظمات الاقتصادية العالمية وقضايا التنمية. والقائمة طويلة. رحم الله الفقيد، فقد كان ذا نظرة ثاقبة وفكر رائق ووفاء مطلق لبلده وأبنائه. والله أعلم.
إن المظالم الاجتماعية التي عرفتها الدول الغربية مع بداية الرأسمالية، لم تكن بالضرورة نتيجة للأخذ باقتصاد السوق، وإنما كانت مرتبطة بظروف تاريخية خاصة، سواء تعلق الأمر ببداية التصنيع في دول متخلفة، أو لوجود نظم سياسية أرستقراطية (إنجلترا)، أو دكتاتورية (الاتحاد السوفيتي والصين)
إن قيام الرأسمالية، واقتصاد السوق في معناهما المعاصر، قد تعاصر تاريخياً مع نشأة الدولة الحديثة، بل إن قيام هذه الدولة المركزية كان سابقا وبمثابة شرط مسبق لازدهار اقتصاد السوق
عندما تحدث آدم سميث عن «اليد الخفية»، التي تسمح لقرارات الأفراد بتحقيق المصلحة العامة، فإنه لم ينس أن يشير إلي أن الدولة عليها، إلي جانب ضمان وجود جيش وأسطول ونظام قضائي، أن تتدخل عندما تتطلب المصلحة العامة ذلك
الدولة لا تزال لاعبًا أساسيا في اقتصاد السوق. بل لعل دور الدولة يصبح أكثر أهمية وخطورة، مع التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ولكن هذا الدور يختلف عنه في الاقتصادالموجه
دور الدولة مطلوب هنا. وبطبيعة الأحوال، فإن اقتصاد السوق، وهو يقوم علي القرارات اللامركزية للأفراد، لا يعني أن تكون الدولة متغيبة عن التدخل في الحياة الاقتصادية
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة