عســكرة التعــليم في إسـرائيل



انطلق قادة الحركة الصهيونية ومؤسسو دولة إسرائيل من قناعة مفادها أن هذه الدولة تعيش في أزمة وجود كيانية سترافقها للأبد، علي اعتبار أنها تعيش في قلب محيط عربي لا يمكن أن يسلم بوجودها، ويقبل شرعيتها. لذا فقد كان الاستنتاج الذي توصل إليه قادة الحركة الصهيونية هو أن الصراع بين العرب ودولة إسرائيل هو صراع وجود وليس صراعـًا علي حدود أو أرض أو موارد طبيعية؛ من هنا كانت الإستراتيجية التي اعتمدها الصهاينة من أجل تحقيق الحسم في هذا الصراع هو القوة، والقوة فقط القائمة علي المنعة العسكرية، الأمر الذي أدي الي سيادة الطابع العسكري للمجتمع الإسرائيلي برمته، لدرجة دفعت رئيس وزراء إسرائيل الأول دفيد بن جوريون للقول أن «إسرائيل عبارة عن مجتمع للمحاربين». ويعبر وصف بن جوريون هذا بشكل أمين وصادق عن مظاهر تأثير العسكرة علي المجتمع الإسرائيلي. فهذا المجتمع الذي يقدس القوة، لا يحترم إلا القيم التي تعكسها، من هنا فإن المجتمع الإسرائيلي يمر بعملية عسكرة متواصلة، فالساسة هم جنرالات متقاعدون، ومدراء المؤسسات الاقتصادية هم من خريجي الجيش، والصحف ووسائل الاعلام تبحث عن معلقين من كبار الضباط المتقاعدين. وضمن هذه العملية المتواصلة، فقد تمت عسكرة التعليم أيضا في الدولة العبرية. وكما تقول الباحثة والكاتبة الصحافية الإسرائيلية إرنا كازين «فإن من يطلع علي مناهج التعليم في المدارس الإسرائيلية في جميع المراحل لا بد أن يلفت انتباهه التوجه العام القائم علي التنشئة التربوية علي روح العسكرة والتطوع للجيش وإعداد الطفل حتي يكبر ليصبح مقاتلاً، لتكريس الروح الاسبارطية» . ولقد سادت هذه الروح منذ قيام إســـرائيل في العام 1948، وقد تغلغلت في جميع الأجهزة الرسمية وغير الرسمية الإسرائيلية ضمن محاولة لخلق «الإســــرائيلي الجديد»، الإســــرائيلي اليهودي الذي خرج منتصــــراً ضد ســـــبعة جيوش عربيــــة وأقام دولة «بعد ألف عام»، كما يحلو لواضعي فلسفة التعليم الإسرائيلي أن يكرسوا ذلك في أذهان الأطفال والشبيبة، وإلي غير ذلك من المزاعم الأسطورية. ولا خلاف بين الباحثين في الدولة العبرية علي أن هذه الروح تعززت بعد حرب العام 67، والانتصار الساحق الذي حققته اسرائيل في هذه الحرب علي كل من مصر وسوريا والأردن. وقد تجسدت عملية عسكرة التعليم في الدولة العبرية في مظاهر ثلاثة أساسية: أولاً: زرع مفاهيم العسكرة والقوة في نفوس الطلاب. ثانياً: تكليف العسكر بإدارة مؤسسات التعليم وممارسة مهنة التعليم بأنفسهم. ثالثاً: ظهور المدارس الدينية العسكرية: والتي تعتبر أخطر مظاهر عسكرة التعليم الإسرائيلي، لأن الطلاب هناك تتم تربيتهم علي العسكرة وعلي التطرف الديني في صوره الأكثر سوداوية. زرع قيم العسكرة التربية علي العسكرة في إسرائيل تتم بوسائل مختلفة ومتعددة، ويحاول جهاز التعليم في إسرائيل صبغ وعي الطفل الإسرائيلي بالعسكرة ومفاهيمها منذ نعومة أظفاره. ففي رياض الأطفال تقوم إدارات هذه الروضات بتنظيم رحلات للأطفال لقواعد الجيش الإسرائيلي، وتحرص هذه الإدارات علي أخذ صور تذكارية لكل طفل وهو يقف فوق دبابات الجيش، وبعد ذلك يتم توزيع رايات ألوية الجيش علي الأطفال لكي يقوموا بتثبيتها علي رياض الأطفال؛ في الوقت الذي لا يتم فيه لفت نظر هؤلاء الأطفال إلي قيم الديموقراطية والمساواة التي تدعي الدولة العبرية أنها قيم «مقدسة» لديها. وتقوم إدارات المدارس الثانوية بتنظيم رحلات لطلابها إلي مواقع الجيش، حيث يشاهد الطلاب مناورات وتدريبات بالنار الحية، في حين يتم تنظيم رحلات إلي مواقع المعارك بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية. وتعمل إدارات المدارس علي حث الطلاب علي إرسال هدايا للجنود، سيما الجنود من المهاجرين الجدد الذين وفدوا علي الدولة بدون ذويهم في الوقت الذي لا تبذل إدارات المدارس أي جهد في إقناع الطلاب بإرسال مثل هذه الهدايا للفقراء والمعوزين والمرضي وغيرهم. في نفس الوقت يقوم الطلاب بإرسال رسائل إلي الجنود لشكرهم علي «الجهود التي يبذلونها لحماية أمن الدولة والشعب». ومن ضمن مناهج التعليم يتم تدريس تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، إلي جانب دراسة السير الذاتية لكبار القادة العسكريين الذين حققوا «إنجازات» خلال هذه الحروب، حيث يطلب من الطلاب عادة كتابة مواضيع إنشاء حول هؤلاء القادة. وأحد الأمثلة التي تجسد عسكرة التعليم في إسرائيل بشكل واضح، وهو كتاب الرياضيات للصف الخامس الابتدائي الذي ألفه مردخاي فاشستوم، حيث إن المسائل الحسابية التي تتكون منها التدريبات التي يطلب من الطلاب الإجابة عليها تدور حول الجيش وألويته. فمثلاً يرد في الكتاب السؤال التالي: من بين 6340 جندياً مدرباً، طلب من 2070 الانضمام إلي وحدة المظليات، و1745 إلي سلاح المشاة، كم بقي من الجنود؟ وضمن المناهج اللامنهجية التي تكرس العسكرة قيام مؤسسات التعليم بتنظيم رحلات للطلاب للمعارض الفنية التي تخلد ذكري الجنود الذين قتلوا في حروب إسرائيل، سيما متحف «ياد لبنيم». وتقول الباحثة في مجال التربية الدكتورة فيرد شمرون «بهذه الطريقة يتم تجنيد الفن من أجل التغطية علي بشاعة الحرب». وتضيف شومرون أنه في خارج أسوار المدرسة يشاهد الطلاب الإعلانات التجارية التي تقدس الجيش. فمثلاً شركة «تنوفا» للألبان تقوم بلصق ملصقات دعائية حول الجبن، تقول فيه 50% للمظليين، 50% للواء جولاني، 100 للعائلة. في نفس الوقت، وضمن برامج الإذاعة المدرسية، يقوم الطلاب باستضافة جنرالات وكبار الضباط في الجيش والمخابرات وإجراء مقابلات معهم، ويترك لبقية الطلاب توجيه أسئلة لهم. إلي جانب كل ذلك تقوم ألوية الجيش والوحدات المختارة بلصق لوحات دعائية لها في المدارس الثانوية لحث الطلاب في المرحلة الثانوية علي التطوع في صفوفها بعد تجندهم الإجباري للجيش، لأنه علي الرغم من أن الخدمة العسكرية في الجيش إجبارية في الدولة العبرية، إلا أنه يترك للجنود عادة الانضمام للوحدات التي يرغبون بالانضمام إليها. إلي جانب ذلك، فإن المدارس تتعاون مع قسم القوي البشرية في هيئة أركان الجيش في تنظيم دورات تجنيد للطلاب خلال المرحلة الثانوية، وذلك لإعداد الطلاب لمرحلة الجيش. وتشير الباحثة في مجال التربية الدكتورة ريلي مزالي إلي أن الضباط والجنود يدخلون إلي غرف التدريس ويتحدثون للطلاب عن الفظائع التي يرتكبها الجيش دون أن يثير ذلك أي تحفظ لدي أولياء أمور هؤلاء الطلاب. العسكريون وجهاز التعليم أحد أبرز مظاهر عسكرة التعليم في إسرائيل هو تولي كبار ضباط الجيش في الاحتياط مناصب إدارية مهمة في جهاز التعليم وإدارة المؤسسات التعليمية. فوزارة التعليم في إسرائيل تقوم بتمويل مشروع يطلق عليه «تسافتا»، ويهدف هذا المشروع إلي تأهيل الضباط المتقاعدين من الجيش والمخابرات للانخراط في سلك التعليم. وقام المشروع بتخريج 300 ضابط، حيث تم دمجهم في المؤسسات التعليمية. بعض هؤلاء الضباط درس لعام واحد ونال رخصة لممارسة التدريس، ومنهم من عين فوراً في وظائف إدارة في المدارس، ومن الضباط من عينوا في وظائف تربوية. ومن الضباط من تولوا وظائف مرموقة في جهاز التعليم بدون أي إعداد تربوي، مثل رون خلودائي الرئيس الحالي لبلدية تل أبيب، والذي سبق له أن كان مديراً لمدرسة «جمناسيا هرتسليا»، ودرور الوني. ومن الضباط الذين تولوا مناصب في جهاز التعليم ومارسوا التعليم ضباط كان لهم سجل إجرامي واضح ضد أبناء الشعب الفلسطيني، مثل العقيد ايلان باتمان الذي كان حاكماً عسكرياً لكل من رام الله وجنين. اللافت للنظر، والمثير للاستهجان هو أن القائمين علي جهاز التعليم في إسرائيل يعلنون أنهم لا يستعينون بخدمات الضباط في التدريس لأغراض تربوية وتعليمية، بل لتكريس قيم العسكرة لدي الطلاب. فها هو موطي ساجي، مدير مشروع برنامج إعداد الضباط في جهاز التعليم الإسرائيلي يقول مدافعاً عن الاستعانة بالضباط في التدريس قائلاً: «لدينا في الجهاز التعليم لا يبحثون عن معلمين مهنيين، بل عن قياديين، فضباط الجيش المتقاعدون يتمتعون بميزات خاصة وقدرات ضخمة». ويتحدث عن مزايا الضباط كمدرسين «هؤلاء الضباط في عيونهم بريق وإحساس بأداء الرسالة». ويضيف «يقف أمام الطلاب رجل برتبة عقيد، بشخصيته القوية، فيحقق نجاحاً كبيراً، عندها يقف الطلاب لينشدوا النشيد الوطني، وهكذا يتبين أنه ينقل إليهم العديد من القيم ولديه ما يسوقه لهم، أنه قادم من مدرسة لا مثيل لها: الجيش، أنه ليس كالمدرسات من خريجات كليات إعداد المدرسين». وتفسر الدكتورة سيغال بن بورات، أستاذة التربية في جامعة حيفا، ميل جهاز التعليم للاستعانة بخريجي الجيش، بقولها: «أن تكون مواطناً جيداً في إسرائيل، يعني أن تخدم في الجيش وتندمج في سوق العمل». وتضيف أن مصطلح المواطنة الجيدة يخلو تماماً من المضامين الديموقراطية والإنسانية. وتستذكر أن جهاز التعليم في الدول الديموقراطية يجب أن ينمي مواطنين وليس جنوداً ولا عمال. مناهج لتكريس العنصرية الذي يفاقم تأثير العسكرة في نظام التعليم في إسرائيل هو حقيقة أن مناهج التعليم الإسرائيلية تكرس منهجاً يدعو لمواصلة حالة الصراع. فحسب بحث أعده الباحث الإسرائيلي ايلي بوديا المحاضر في جامعة حيفا فإن كتب التدريس الإسرائيلية حالت دون تحقيق السلام مع العرب. وحسب البحث فإن كتب التعليم في إسرائيل ساهمت طيلة نصف القرن الماضي في إشعال جذوة الصراع الفلسطيني العربي، وكرست حالة الحرب، وحالت دون التوصل للسلام بين العرب واليهود. ووصف بوديا مناهج التدريس اليهودية بـ «المنحرفة»، منوهاً إلي أن هذه المناهج تتميز بطغيان الصورة النمطية والأفكار المقولبة حيال العرب، وزرع كراهيتهم في نفوس التلاميذ الإسرائيليين إلي حد الاستنتاج بأن ما جري داخل جدران المدارس الإسرائيلية قد أثر إلي مدي بعيد في قرار الحرب والسلام لدي قادة الدولة العبرية. وأشار البحث الذي جاء تحت اسم «الصراع الإسرائيلي في كتب التاريخ المدرسية العبرية». والصادر عن مؤسسة مدار لدراسة الشئون الإسرائيلية في رام الله، إلي أن الكتب المدرسية الإسرائيلية رعت نوعاً من الصراع الصامت بين الطرفين وحافظت عليه، وقادت بطريق غير مباشر إلي إثارة الصراع المسلح. وأكد بوديا، أن جهاز التعليم الإسرائيلي قد اختار النهج القومي الذي يخضع الماضي لاحتياجات الراهن والمستقبل علي حساب الحقيقة والموضوعية! في كتابة التاريخ بهدف خلق ذاكرة جماعية متميزة، منوهاً إلي أن ثلاثة أرباع الكتب التي تستخدم في المدارس الإسرائيلية ليست مجازة ما يعني انكشاف التلاميذ إلي مواد أكثر خطورة. وأكد الباحث أن كتب التاريخ الإسرائيلية التي أخضعها للبحث انشغلت بتعميق القيم الصهيونية ورعاية الأساطير والتمجيد بأبطالها ضمن صهر المهاجرين في بوتقة وذاكرة جماعية واحدة. ولفت إلي أن تلك الكتب وصفت الصراع بطريقة تبسيطية أحادية الأبعاد ومشبعة بعدم الدقة إلي حد التشويه. وأوضح الكاتب أن هذه الكتب سعت لشيطنة العرب وتجريدهم من إنسانيتهم، ما أدي إلي ترسيخ صورة نمطية لدي الإسرائيليين الذين ظهروا دائماً بصورة الغربيين المتحضرين صانعي السلام مقابل صورة العرب «الخونة العدوانيين المتخلفين والمجرمين والخاطفين القذرين والمبادرين دوماً نحو التدمير». وحول تناول هذه الكتب لأول مواجهة مع المسلمين التي حدثت في المدينة المنورة، فإن هذه الكتب تصف القبائل اليهودية في تلك الفترة بأنها «شريفة ومحترمة وشجاعة، بينما وصف العرب بأنهم ماكرون وخونة وبأنهم هزموا اليهود بالخدعة والمؤامرة». ونوه الكاتب إلي أن تعابير مثل متوحش ومحتال ومخادع ولص وسارق وإرهابي، كانت كثيراً ما تستخدم في وصف العربي بينما ما يرتكب ضد اليهود يسمي عداوات ومذابح ومجازر بغية خلق صلة بين العرب وبين اللاسامية المتأصلة في تجارب التاريخ اليهودي في أوروبا، مشيراً إلي أن العرب يوصفون بأنهم النسخة الحديثة من العماليق، ألد أعداء الإسرائيليين في التوراة. ويؤكد الكاتب أن كتب التدريس عززت عملية ابتعاد اليهود عن العرب، وهذا بدوره زاد من مستوي أسطرة الصراع وعزز الميل إلي تجريد العرب من إنسانيتهم.. ونوه الكاتب إلي أن التحامل الإسرائيلي ضد العرب كان إسقاطاً للموقف اليهودي تجاه الغريب في الشتات. ويقتبس الباحث قول الباحث اليهودي سيغريد ليحمان، الذي قال: «نحن كيهود نميل إلي رؤية العربي كغير اليهودي كأحد الأغيار، نحن كأوروبيين نراه آسيوياً خصماً لتطلعاتنا القومية وكاشتراكيين نحن نراه كممثل لأشد أنماط الرجعية سواداً».. وأشار بوديا، إلي أن ردة فعل غريبة جاءت في إسرائيل علي زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، حيث حرص كبار المسئولين في الدولة علي الدعوة إلي تعميق القيم الصهيونية علي حساب ثقافة السلام. واقتبس من كلام الوزير التعليم السابق زبولون هامر قوله: هناك زعماء عرب يظنون أنهم إن لم يكونوا قادرين علي القضاء علينا في ميدان المعركة، فإنهم سينجحون في فعل ذلك عن طريق عملية «السلام». ويؤكد الباحث أن كتب التدريس الإسرائيلية تحاول أن تكرس قناعة مفادها أن السلام مع العرب «يهدد إسرائيل المهزوزة ويستلزم تحصين الناشئة بتقوية الوعي الصهيوني».. ويؤكد البحث أنه عندما حاول وزير التعليم السابق اسحاق نافون إحداث تقارب بين التلاميذ العرب واليهود داخل إسرائيل، لم يشارك في هذه الأنشطة إلا 2% من المربين اليهود، منوهاً للموقف الصارم للمؤسسة الدينية اليهودية الرافض لعقد مثل هذه اللقاءات، بحيث إن ذلك يثبت أن الذاكرة الجماعية لليهود كضحايا لمخططات الاضطهاد والإبادة جعلتهم «سجناء ماضيهم الخاص».. ويؤكد الباحث أن الإسرائيليين كانوا يعرفون عن الإسكندينافيين أكثر مما يعرفونه عن جيرانهم العرب، وهو ما ساهم في تعقيد الصراع كما ساعد في خلق أرضية بررت استخدام القوة ضد العرب. ونوه إلي أن 4.1% فقط من الوقت المحدد للتاريخ في المدرسة الإسرائيلية قد خصص للتاريخ العربي، لافتاً إلي موافقته علي رأي باحثين أجانب بأن اليهود نقلوا صورة الأغيار من الشتات إلي إسرائيل وسلطوها علي العرب بشكل خاطئ. من ناحيته يقول الكتاب والناقد أنطوان شلحت، الذي كتب مقدمة للبحث أن السنوات التي تلت العام 2000 قد شهدت صعوداً يمينياً متطرفاً إلي رأس هرم جهاز التعليم في الكيان، بعد تسلم ليمور لفنات من حزب الليكود حقيبة التعليم. واقتبس شلحت الباحث سامي شالوم، الذي رأي بفترة وزيرة التعليم السابقة ليمور لفنات الأكثر خطورة بالنسبة للتعليم الإسرائيلي، باعتبارها «قاب قوسين أو أدني من الفاشية التامة». ونوه إلي أن ليفنات قد أخرجت كل ما ليس مستمداً من الرواية الصهيونية التاريخية، والتي تعتبر أن فلسطين كانت خالية من السكان عدا قلائل هربوا عام 1948 . المدارس الدينية العسكرية «يشيفوت ههسدير» ينقسم المتدينون في إسرائيل إلي تيارين أساسيين: 1- التيار الديني الأرثوذكسي: وهو التيار الذي توصلت مرجعياته الروحية مع مؤسس الدولة دافيد بن جوريون إلي اتفاق يقضي بإعفاء المنتسبين إليه من طلاب المعاهد والمدارس الدينية من الخدمة العسكرية، والتفرغ لدراسة الدين، مع العلم أن أتباع هذا التيار يشكلون حوالي 18% من اليهود في إسرائيل. 2- التيار الديني الصهيوني: وهو التيار الذي اعتبر نفسه منذ البداية جزءاً لا يتجزأ من الدولة، واعتبرت مرجعياته الروحية الخدمة العسكرية ليس مجرد واجب تقتضيه المواطنة، بل فريضة دينية يتوجب القيام بها علي أكمل وجه. ويشكل اتباع هذا التيار فقط من 7-10% من عدد اليهود، وذراعهم السياسي حزب «المفدال» الديني، وينتمي معظم المستوطنين إلي هذه الشريحة. حتي أواخر السبعينيات من القرن الماضي ظلت نسبة المتدينين الصهاينة في الهيئات القيادية في الجيش حتي أقل من النسبة التي يمثلونها من حيث تعداد السكان. فحتي ذلك الوقت ظل القادمون من القري التعاونية «الكيبوتسات» - التي تمثل قلاع العلمانية الإسرائيلية - ينفردون بتبوؤ المواقع القيادية في الجيش، لدرجة أن الانتماء لـ «الكيبوتس» كان رديفاً للانتساب للوحدات المختارة في الجيش، مع أنه بمثل هذا الانتساب تفتح الطريق أمام هؤلاء الضباط والجنود لتبوؤ المواقع القيادية في الجيش والدولة مستقبلاً. لكن منذ ذلك الوقت حدث تغير درامتيكي متلاحق ولافت للنظر. فقد قلت نسبة خريجي «الكيبوتسات» الذين يلتحقون بالوحدات المختارة بسبب تحلل الكثير من هؤلاء من الإيمان بـ «واجب التضحية من أجل الدولة». في المقابل حدثت عملية عكسية تماماً، حيث كانت توجيهات المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني لأتباعها بأن عليهم يتوجهوا تحديداً للانخراط في الوحدات المختارة والسريات النخبوية في الجيش، من أجل قيادة الجيش وبالتالي التحكم في المشروع الصهيوني. الذي سهل علي الصهاينة المتدينين تحقيق هدفهم هو وجود ما يعرف بالعبرية بـ «يشيفوت ههسدير»، وهي مدارس دينية عسكرية - يمولها الجيش - و التي ينضم إليها حصراً أتباع التيار الديني الصهيوني بعد تخرجهم من المدرسة الثانوية. فأواخر السبعينيات توصلت المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني إلي اتفاق مع هيئة أركان الجيش الإسرائيلي تم الاتفاق بموجبه علي أن تتولي المدارس الدينية التابعة لهذا التيار مهمة إعداد الشباب الذين ينتمون لتيار الصهيونية الدينية لمرحلة الجيش. بحيث يتولي الحاخامات الذين يشرفون علي هذه المدارس محاولة زيادة الدفاعية لدي هؤلاء الشباب للتطوع للخدمة في الوحدات المقاتلة والمختارة في الجيش وذلك عبر زرع قيم التضحية من أجل الوطن وغيرها من القيم في نفوس هؤلاء الطلاب، إلي جانب إعدادهم بشكل مهني لمرحلة الجيش؛ بحيث يتم إعداد هؤلاء الطلاب عسكرياً عن طريق ضباط يقوم الجيش بإرسالهم إلي هذه المدارس ليتولوا تدريب الطلاب علي استخدام السلاح، وبعض التدريبات العسكرية داخل إطار المدرسة. ويتولي الجيش دفع مستحقات التعليم في هذه المدارس، إلي جانب دفع رواتب الحاخامات الذين يتولون التدريس فيها، لكن الجيش في نفس الوقت لا يتدخل في منهاج التعليم غير العسكرية، حيث يحظي الحاخام الذي يدير المدرسة بحرية عمل كاملة. فنظام التعليم فيها مستقل تماماً وتتحكم فيه المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني دون أي قدر من الرقابة علي مضامين مناهج التعليم فيه إلي جانب مظاهر العسكرة الصارخة التي تقوم عليها هذه المدارس، فإن الطلاب فيها يتلقون تعليماً دينياً بالغ التطرف ويقوم علي العنصرية وكراهية الآخر بشكل فج. ويكفي أن نعرف أن معظم هذه المدارس تقع إما في المستوطنات، أو في القدس المحتلة ويشرف عليها مدراء هم من أكثر الحاخامات تطرفاً. وإلي جانب العسكرية، فإن هذه المدارس تربي طلابها بصراحة علي رفض القيم الديموقراطية. يقضي هؤلاء ثمانية عشر شهراً في هذه المدارس، يمارسون خلالها تعليمهم الديني وفي نفس الوقت يؤدون الخدمة العسكرية، مع العلم أنه بعد تخرجهم منها يقضون ثلاثين شهراً إضافية في الخدمة العسكرية. يبلغ عدد هذه المدارس اثنتين وأربعين مدرسة، والشعار الذي ترفعه هذه المدارس أن «الخدمة العسكرية والروح القتالية هي مهمة جماعية يفرضها الدين بهدف قيادة المشروع الصهيوني». من هنا كان كل طالب في هذه المدارس لا ينظر خلال تأديته الخدمة العسكرية أنه يؤدي خدمة إجبارية تنتهي بعد ثلاث سنوات، بل إنها بوابة واسعة لممارسة التأثير علي مستقبل الدولة وعلي عملية صنع القرار فيها. وعلي الرغم من أن الخدمة العسكرية في إسرائيل إلزامية، إلا أن الانتساب للوحدات المختلفة داخل الجيش هي أمر اختياري وطوعي. وبفعل التثقيف والتعبئة التي يتعرضون لها داخل «يشيفوت ههسدير»، فإن أتباع التيار الصهيوني الديني يتجهون للانتساب للوحدات المختارة، وسرايا النخبة في الجيش. شيئا فشيئاً أصبح معظم قادة الوحدات المقاتلة هم من المتدينين . ومعظم القادة والمنتسبين للوحدات المختارة مثل «سرية وحدة الأركان»، و«ايجوز»، «دوفيديفان» و «يسام»، هم أيضاً من المتدينين. ليس هذا فحسب أن المتدينين يحتكرون الخدمة في ما يعرف بـ «سرايا النخبة» التابعة لألوية المشاة، فمثلاً 60% من القادة والمنتسبين لسرية النخبة في لواء المشاة «جفعاتي» هم من المتدينين. تغلغل المتدينين الصهاينة في المواقع القيادية للجيش دفع الجنرال يهودا دونيدينان الذي كان مسئولاً عن قسم «الشبيبة» في وزارة الدفاع للقول أن أتباع التيار الديني الصهيوني أصبحوا يشكلون «العمود الفقاري» للجيش. لا يقتصر اندفاع المتدينين خريجي «يشيفوت ههسدير»،نحو المواقع القيادية في الجيش، بل أيضاً في الأجهزة الاستخبارية. فعلي الرغم من أنه لا يعلن عادة عن هوية الذين يخدمون في الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، إلا أن التسريبات الصحافية تؤكد أن المتدينين أصبحوا يمثلون ثقلاً متصاعداً داخل جهاز المخابرات الداخلية «الشاباك»، وهو أكثر الأجهزة الاستخبارية تأثيراً علي دوائر صنع القرار في الدولة. وما ينطبق علي الجيش والمخابرات ينطبق علي الشرطة وحرس الحدود. وهذا كله بالطبع بفضل وجود المدارس الدينية العسكرية. مدرسون ومرجعيات للإفتاء اللافت للنظر أن معظم المدراء والمعلمين في المدارس الدينية العسكرية هم من الحاخامات، وبعضهم يعتبر مراجع هامة للإفتاء، وفتاوي هؤلاء يتم تدريسها في هذه المدارس للطلاب ويتم التعامل معها بقدسية الكتب المقدسة. ويكفي هنا أن نطلع علي بعض الفتاوي التي يدرسها هؤلاء الطلاب حتي نتعرف علي نوعية التعبئة والتثقيف التي يتلقاها هؤلاء الطلاب. ففي هذه المدارس يتم تدريس عدد كبير من الفتاوي التي تعمل علي تكريس ثقافة الكراهية وتدفع الشباب اليهودي إلي تبني مواقف عنصرية ظلامية من العرب والمسلمين. وأكثر من ذلك، تمهد الطريق أمام ارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين. ولعل أخطر الفتاوي التي يتعلمها ويتلقنها طلاب المدارس الدينية العسكرية هي الفتاوي التي يصدرها الحاخام مردخاي الياهو، الحاخام الأكبر السابق للدولة العبرية، وأهم مرجعية دينية للصهاينة المتدينين الذين تتبع لهم «يشيفوت ههسدير حصراً». وتتحول فتاوي هذا الحاخام إلي مادة دراسية وعلمية يتنافس المدرسون من الحاخامات علي تدريسها. فقد أصدر هذا الحاخام فتوي تدعو لإبادة الفلسطينيين بشكل كامل. مردخاي قال في فتوي تم تعميمها علي جميع المدارس الدينية العسكرية، ونشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، وحظيت باهتمام خاص من قبل وسائل الإعلام الدينية وتم تضمينها المئات من المطبوعات التي توزع داخل الكنس اليهودية في الدولة العبرية أنه يتوجب قتل جميع الفلسطينيين حتي أولئك الذين لا يشاركون في القتال ضد الاحتلال. لم يكتف الحاخام البارز بذلك، بل اعتبر أن هذه ليست مجرد فتوي، بل «فريضة من الرب يتوجب علي اليهود تنفيذها». بعد ذلك بأسبوع قام الحاخام اليعازر ملميد مدير المدرسة الدينية العسكرية في مستوطنة «تفوح»، بإصدار فتوي تبيح لطلاب مدرسته سرقة محاصيل المزارعين الفلسطينيين، علي اعتبار أنهم جزء من «الأغيار الذين يجوز لليهود استباحة ممتلكاتهم». بالفعل فقد تم تطبيق فتوي الحاخام وقام تلامذته بنهب المحاصيل الزراعية للفلسطينيين في شمال الضفة. دوف ليئور الحاخام الأكبر لمستوطنة «كريات أربع»، شمال شرق مدينة الخليل، ورئيس مجلس المستوطنات في الضفة الغربية، والذي يدير في نفس الوقت مدرسة دينية عسكرية أصدر فتوي تبيح للمستوطنين تسميم مواشي ودواب وآبار المياه التي يملكها المزارعون الفلسطينيون في البلدات والقري المجاورة للمستوطنة. وأيضاً هنا لم يتردد المستوطنون والطلاب في تنفيذ الفتوي، فلا يكاد يمر يوم في الفترة التي تلت إصدار الفتوي، دون أن يستيقظ سكان هذه البلدات والقري، إلا ويجدوا الكثير من دوابهم قد نفق بفعل السموم التي يرشها المستوطنون علي المراعي التي تقصدها ماشية الفلسطينيين. وفي السابع من أيلول من عام 2005 وجه كبار الحاخامات اليهود، رسالة تتضمن فتوي دينية إلي رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق ارييل شارون، حثوه فيها علي عدم التردد في المس بالمدنيين الفلسطينيين خلال المواجهات المندلعة في الأراضي المحتلة، وجاء في الفتوي التي وقعها الحاخامات المسئولون عن المدارس الدينية، وفي المقدمة منهم الحاخام دوف لينور، ما نصه: «نحن الموقعون أدناه، ندعو الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي إلي العمل حسب مبدأ، من يقم لقتلك، سارع إلي قتله . وأضافت الرسالة: «لا وجود في العالم لحرب يمكن فيها التمييز بشكل مطلق، بين المدنيين والجيش، لم يحدث ذلك في الحربين العالميتين، ولا في حرب الولايات المتحدة في العراق، وحرب روسيا في الشيشان، ولا في حروب إسرائيل ضد أعدائها، قومية تحارب قومية، قومية تنتصر علي قومية»، علي حد تعبير الرسالة . وأردف الحاخامات: «والسؤال المطروح أمامنا هو هل نحارب العدو من خلال هجوم يقتل خلاله مدنيون من صفوفه،! أو نمتنع عن الحرب بسبب المدنيين فنخاطر بذلك بالمدنيين لدينا؟ الجواب علي السؤال نجده ببساطة لدي الحاخام عكيفا أحد مرجعيات الإفتاء لليهود في العصور الغابرة، الذي قال: حياتنا أولي». واعتبر الحاخامات أن هذا ما درج عليه ملوك إسرائيل علي مر التاريخ، مضيفين: «هكذا تصرف شعب إسرائيل منذ أيام النبي موسي، الذي حارب أهل مدين، وهكذا تصرف بفتاح الجلعادي، شاؤول، داود، وكل قادة إسرائيل علي مر العصور، وهكذا تصرفت دولة إسرائيل في حرب الأيام الستة، وهكذا هو المتعامل به في القانون الدولي، لا حاجة ولا فائدة من انتظار المهاجم حتي يبدأ هجومه، بل يجب استباقه ومنعه من تنفيذ مآربه»، كما جاء في نص الفتوي . وحذر الحاخامات مما سموه التقليد النصراني في التعامل في النزاعات القائل «أدر خدك الثانية»، وفي إشارة إلي نشطاء السلام الإسرائيليين قال البيان «لن نتأثر بمن بلغوا الدرك الأسفل منطقيا وأخلاقيا من خلال تفضيلهم لحياة الأعداء علي حياتنا. وما يهم هنا أن هذه الفتوي تم تدريسها في حينه لطلاب المدارس الدينية العسكرية في جميع أرجاء الدولة العبرية. هذه الخلفية تفسر العديد من فتاوي الحاخامات، التي تدرس في «يشيفوت ههسدير»، التي تستهين بحياة العرب وتتعامل معهم بازدراء شديد. فمثلاً يتعلم طلاب المدارس الدينية فتوي الحاخام دوف لينور التي حظر فيها تبرع اليهود بأعضائهم للأغيار، لكنه أباح لهم عند الضرورة تلقي تبرعات مماثلة من أولئك الأغيار. وأمام احتجاج رابطة تبرع الأعضاء في إسرائيل غير الحاخام فتواه قليلا، بحيث أباح لليهودي أن يتبرع بعضو لشخص يحتاج في حالة الضرورة وقال إن اليهود إذا ما امتنعوا عن التبرع للأغيار، فإن هؤلاء الأخيرين لن يعطوهم شيئا بالتالي، وهذا قد يسهم في الإضرار باليهودي الذي قد يحتاج إلي الحصول علي عضو بديل ينقذ به حياته، ومن ثم فإنه اعتبر أن السماح بتبرع اليهودي لأي واحد من الأغيار، هو في حقيقة الأمر احتياط هدفه تحقيق مصلحة اليهودي في أي فترة لاحقة، غدا أو بعد غد. ومن المواد العنصرية التي تدرس في هذه المدارس التفوهات العنصرية الصادرة عن الزعيم الروحي لحزب «شاس» عودفاديا يوسف الذي قال «عندما يأتي المسيح المنقذ، فإنه سيرسل كل العرب إلي جهنم». وأضاف: «لماذا لا يفعل ارييل شارون ما يجب فعله؟ إنه يخاف من شعوب العالم، لكن المسيح المنقذ حين يأتي فإنه لن يخشي أحدا، وسيرسل كل هؤلاء العرب إلي جهنم» . ويصف يوسف العرب بـ «الثعابين» ويدعو إلي عدم الوثوق بهم علي الإطلاق. ويقبل طلاب هذه المدارس علي الاطلاع علي كتب دينية ذات طابع عنصري مقيت، مثل الكتاب الذي أصدره الحاخام اسحاق غينزبرج بعنوان «باروخ البطل» جاء تخليدا لاسم باروخ جولد شتاين، الذي نفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي في العام 1994 . ويعتبر هذا الحاخام أن جولدشتاين قد قام بعمل «جليل ومجيد». وهكذا فإن جميع طلاب المدارس الدينية يتربون علي أن جولدشتاين هو في مرتبة القديسين، وجعلوا من قبره مزاراً يتبركون به. وفي المدارس الدينية يتم التهجم علي الإسلام ونبيه محمد صلي الله عليه وسلم. فها هو الحاخام ايلي الباز، الذي يحاضر في العديد من المدارس الدينية، والذي يعتبر من أبرز الحاخامات الشرقيين، لا يفوت فرصة دون التهجم علي دين الإسلام والتعرض لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم بالذم. ليس هذا فحسب، بل إن هذا الحاخام المجرم يصر علي التندر أمام مستمعيه بترديد النكات التي تمس بالمسلمين والفلســــطينيين ويســــــتخدم عبــــارات نابية في مهاجـمة المســــلمين. أما الحاخام الياهو ريسكين، والذي يدير المدرسة الدينـــية العســـــكرية في مستوطنة «افرات» القريبة من بيت لحم ويعتبر أحد كبار حاخامات المستوطنين فيسخر من الدعوات لإجراء حوار بين حاخــامات اليهود والقائمين علي المؤسسة الدينية الرسمية في العالم العربي. ويري ريســـــكين أن لغة الحوار الوحيدة بين المسلمين واليهود هو «الرصاص»، معتبراً أنه بدون إقناع العرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص أنه لا يمكن فرض تسوية علي «إسرائيل» بالقوة، فإنه لا طائل من مثل هذه الحوارات. من ناحية نظرية بحتة، ولكون دولة إسرائيل دولة علمانية، فإنه لا توجد مكانة قانونية للفتاوي التي يصدرها كبار الحاخامات في الشئون السياسية والعسكرية، باستثناء الشئون الدينية التي تنظم شئون الفتوي بخصوصها مؤسسة الحاخامية الكبري، والتي تمثل أكبر هيئة دينية في الدولة. لكن من ناحية عملية، فإن الثقافة السائدة في الدولة العبرية تجعل لهذه الفتاوي، سيما الصادرة عن مرجعيات الإفتاء الكبيرة في الدولة أهمية قصوي وتأثيرًا بالغًا ليس فقط علي قطاعـــات واســعة من اليهـــــود، وعلي رأســــــــهم طــــلاب المدارس الدينية، بل علي دوائر صنع القرار في الدولة العبرية. صحيح أن المتدينين سواء الذين يتبعون التيار الديني الصهيوني أو التيار الديني الأرثوذكسي يشكلون حوالي 28% من مجمل المـســتوطنين في الدولة، إلا أن أكثر من 50% من سكان هذه الدولة يعـــــــرفون أنفســـــــــهم كمحافظــــــين، وهـــــــــؤلاء يولون أهميــــة كبيرة لما يصدر عن المرجعيـــــات الدينيـــــة في أرجاء الدولة. لكن مكمن الخطورة في تأثير هذه الفتاوي العنصرية التحريضية يكمن - كما أسلفنا - في تأثيره علي المتدينين، وعلي وجه الخصوص طلاب المدارس الدينية العسكرية الذين ينطلقون بشكل كبير لتولي المناصب العليا في الجيش والأجهزة الاستخبارية. فحسب دراسة أعدها قسم العلوم الاجتماعية في جامعة «بار ايلان» التي يسيطر عليها المتدينون، تبين أن أكثر من 99% من طلاب المدارس الدينية العسكرية، و90% من المتدينين بشكل عام يعتقدون أنه في حال تعارضت قوانين الدولة وتعليمات الحكومة مع فحوي الفتاوي الصادرة عن الحاخامات، فإن عليهم أن يتجاهلوا قوانين الدولة وتعليمات الحكومة والعمل وفق ما تنص عليه فتاوي الحاخامات. ولا خلاف بين علماء الاجتماع السياسي في الدولة العبرية وكذلك الجنرالات المتقاعدين علي أنه لن يكون ذلك اليوم بعيداً الذي تنتقل فيه قيادة الجيش بأكملها إلي اتباع التيار الديني الصهيوني. تكريس النزعات الانفصالية: لكن وجود هذه المدارس أشعل الأضواء الحمراء لدي الكثير من النخب في الدولة العبرية التي باتت تري في هذه المدارس تهديداً للنظام الديموقراطي الإسرائيلي ونقطة انطلاق لتشجيع النزعات الانفصالية عن الدولة. ففي النظم الديموقراطية ينحصر دور المستوي العسكري فقط في تنفيذ السياسات التي تقررها الحكومات التي تفرزها الانتخابات. ويعد عدم التزام العسكر بتعليمات الحكومة تقويضاً عملياً لتلك الديموقراطية. هنا يكمن الخطر في تبوؤ المتدينين للمواقع القيادية في الجيش، الذي تضمنه لهم «يشيفوت ههسدير». فالقائد والجندي المتدين في الجيش الإسرائيلي قد تمت تربيته علي أنه عندما يفرض عليه الاختيار بين تنفيذ الأوامر العسكرية الصادرة عن قيادته وحكومته المنتخبة، وتعليمات مرجعياته الروحية، فإنه لا يتردد في تلبية تعليمات المرجعيات الدينية. ولعل المثال الأكثر وضوحاً علي ذلك هو ما قاله الجنرال يسرائيل فايس كبير حاخامات الجيش الذي قال مؤخراً أنه يفضل خلع بزته العسكرية علي تنفيذ أي أمر يصدر عن قيادة الجيش ويتعارض مع تعليمات الحاخام إبراهام شابيرا، ثاني أهم مرجعية روحية للتيار الديني الصهيوني. المفارقة أن مدراء «يشيفوت ههسدير» من الحاخامات الذين يحرصون علي تذكير طلابهم الذين يعدونهم لقيادة الجيش والدولة أنه لا مصدر أكثر قدسية من تعليمات التوراة والكتب المقدسة اليهودية، وأن أي تعليمات تصدرها قيادة الدولة يجب أن تفقد شرعيتها في حال تعارضت مع تعاليم الدين التي تحتكر المرجعيات الروحية للتيار الديني الصهيوني الحق في تفسيرها. فمثلاً جميع المرجعيات الروحية للصهيونية الدينية دعت أتباعها من القادة والجنود إلي رفض تعليمات قيادة الجيش بالمشاركة في تنفيذ خطة «فك الارتباط». ولعل الذي يعكس صدقية المخاوف من تأثير وجود هذه المدارس الكبير هو حقيقة أن معظم الذين شاركوا في الاحتجاجات ضد عمليات إخلاء المستوطنات هم من طلاب وخريجي المدارس الدينية العسكرية. ليس هذا، بل إن حاخاماً بحجم إبراهام شابيرا دعا أتباعه من طلاب المدارس الدينية العسكرية للانشقاق عن الجيش في حال تمت تنفيذ خطة «فك الارتباط». بعض حاخامات الصهيونية الدينية من الذين يديرون بعض المدارس الدينية العسكرية دعوا طلابهم وأتباعهم إلي إطلاق النار علي أفراد الأمن الإسرائيلي الذين يشاركون في إخلاء المستوطنات، كما أفتي الحاخام حاييم دروكمان الذي هو نفسه مدير لإحدي «يشيفوت ههسدير» في منطقة الخليل. وحسب استطلاع لآراء الضباط والجنود المتدينين أشرف عليه مركز هرتسليا متعدد الاتجاهات ونشر العام الماضي، تبين أن أكثر من 95% من الجنود والضباط المتدينين يرون أنهم سينفذون تعليمات الحكومة المنتخبة وقيادتهم في الجيش، فقط في حال توافقت مع الفتاوي التي يصدرها كبار الحاخامات والمرجعيات الدينية. وكما يقول الجنرال شلومو غزيت، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقاً فإنه «لا يختلف اثنان في إسرائيل علي أن الجندي المتدين الذي يتخرج من المدارس الدينية العسكرية يري في الحاخام الذي يدرسه أو يدير المدرسة التي يتعلم فيها هو قائده الأعلي وليس قائده العسكري». من هنا فقد كان تحذير رئيس «الموساد» الأسبق الجنرال داني ياتوم واضحاً وقاطعاً، فإمكانية أن يحدث انقلاب عسكري علي الحكومات المنتخبة في إسرائيل أصبحت أمراً وارداً بسبب التثقيف التي تمنحه المدارس الدينية العسكرية لطلابها الذين يتجهون بقوة إلي تبوؤ المواقع القيادية في الجيش. وإن كان مثل هذا السيناريو ظل ينظر إليه في إسرائيل حتي وقت قريب علي أنه محض خيال، فإن المخاوف علي استقرار النظام السياسي بسبب اندفاع المتدينين الصهاينة نحو المواقع القيادية في الجيش أصبحت حديث الساعة في الدولة العبرية. فإلي جانب ياتوم فإن هناك عدداً كبيراً من الجنرالات المتقاعدين والساسة، فضلاً عن الباحثين والصحافيين من يري في تغلغل طلاب المدارس الدينية العسكرية من أتباع التيار الديني الصهيوني الواسع في الجيش أكبر خطر يهدد النظام «الديموقراطي» في الدولة العبرية، لدرجة أن هناك من دعا إلي التوقف عن استيعاب المتدينيين الصهاينة في الوحدات القتالية، وسد الطريق أمام تبوؤهم المراكز القيادية في الجيش. ويضيف ياتوم «قبل عامين كنت أعتقد أن هذا السيناريو وهم وخيال، لكنه أصبح واقعيا في ضوء الأحداث الأخيرة التي نشهد فيها مظاهر العصيان في الجيش، و التشكيك في شرعية الحكومة والبرلمان» من قبل حاخامات الصهيونية الدينية، وتحديداً الذين يديرون المدارس العسكرية الدينية. ويري المفكر الصهيوني بامبي شيلغ أن الغرور أعمي أتباع التيار الديني الصهيوني من خريجي وطلاب المدارس العسكرية الدينية بحيث لم يعودوا يستسيغون أن يتم حسم القرارات المصيرية للدولة خارج عباءة رجال الدين. ويصل شيلغ إلي القول أن هذا الغرور قد أدي إلي ظهور النزعات الانفصالية لهذا التيار عن الدولة ومؤسساتها. ويصل الكاتب يارون لندن إلي نفس النتيجة محذراً من تفاقم النزعات الانفصالية لدي التيار الصهيوني الديني. اللافت للنظر، أنه وعلي الرغم من تحذير النخب العلمانية من خطورة المدارس الدينية العسكرية، والحاخامات الذين يديرونها علي النظام الديموقراطي في الدولة، إلا أن مؤسسات حفظ القانون والنظام في الدولة العبرية لم تحاول ولو مرة واحدة التعرض لهؤلاء الحاخاما أو مساءلتهم عن هذا التحريض العنصري الذي لا يوازيه تحريض. ليس هذا فحسب، بل إن الحاخامات المتورطين في هذا التحريض يحظون بثقل متزايد في السياسة الإسرائيلية، ويتنافس صناع القرار السياسي في الدولة العبرية علي استرضائهم والتقرب منهم، والتزلف إليهم. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا هذا الصمت إزاء هذه الفتاوي القاتلة، ولماذا الكيل بمكيالين؟. الذي يثير المرارة أن أحداً في العالم العربي لم يحاول الاهتمام بما يصدر عن المرجعيات الدينية الكبري في الدولة العبرية من فتاوي ويحاول اطلاع الرأي العام والعربي والعالمي علي هذا التثقيف علي الحقد الأعمي في المدارس الدينية العسكرية التي تمثل النبع الآسن من الكراهية. لا شك أن المعطيات السابقة يجب أن تشعل الأضواء الحمراء لدي دوائر صنع القرار في العالم العربي، إن كان هناك ثمة من يلقي بالاً لما يحدث في إسرائيل. فعسكرة التعليم في إسرائيل وتبوؤ المتدينين المراكز القيادية في الجيش سيؤثر مستقبلاً بشكل كبير علي طابع العلاقات بين إسرائيل مع العالم العربي. فالجيش الذي سيكون تحت قيادة المتدينين هو غير الجيش الحالي، علي الرغم من أن معظم القادة الحاليين ذوو نزعات عنصرية متطرفة. الجيش الإسرائيلي تحت قيادة المتدينين سيدفع الحكومة إلي سياسات أكثر تصادماً مع العالم العربي، فضلاً عن أنه سيتجاهل مظاهر الغزل التي تبديها أنظمة الحكم العربية تجاه الدولة العبرية، وذلك بفعل تأثرهم الشـــــديد بالأفكــار الخلاصوية التي توغل في نفيهــــا للآخــــــر العــربي وازدرائه. المراجع: 1 امنون ليفي، «المتدينون الجدد»، ماجناس، تل أبيب، 1992 . 2 ايلي بودايا، الصراع في كتب التاريخ المدرسية العبرية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية: رام الله، 2005 . 3 داني ياهف، «ما أروع هذه الحرب»، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية: رام الله، 2006. 4 مجلة قضايا إسرائيلية، السنة الأولي، العدد 3، صيف 2001 . 5 مجلة قضايا إسرائيلية، السنة الثانية، العدد 8، خريف 2002 . 6 معاريف 24/3/2005 . 7 معاريف 16/6/2003 . 8 يديعوت أحرونوت 5/7/2002 .
في رياض الأطفال تقوم إدارات هذه الروضات بتنظيم رحلات للأطفال لقواعد الجيش الإسرائيلي، وتحرص هذه الإدارات علي أخذ صور تذكارية لكل طفل وهو يقف فوق دبابات الجيش، وبعد ذلك يتم توزيع رايات ألوية الجيش علي الأطفال لكي يقوموا بتثبيتها لي رياض الأطفال؛
ردة فعل غريبة جاءت في إسرائيل علي زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، حيث حرص كبار المسئولين في الدولة علي الدعوة إلي تعميق القيم الصهيونية علي حساب ثقافة السلام.
إلي جانب مظاهر العسكرة الصارخة التي تقوم عليها هذه المدارس، فإن الطلاب فيها يتلقون تعليماً دينياً بالغ التطرف ويقوم علي العنصرية وكراهية الآخر بشكل فج.
قام الحاخام اليعازر ملميد مدير المدرسة الدينية العسكرية في مستوطنة «تفوح»،بإصدار فتوي تبيح لطلاب مدرسته سرقة محاصيل المزارعين الفلسطينيين، علي اعتبار أنهم جزء من "الأغيار"
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة