الأنفلــــونزا الكبـــــرى :قصـــــة الجائحــــة



ترفع منظمة الصحة العالمية درجة التحذير من انتشار أنفلونزا الخنازير إلى الدرجة السادسة. وتنتشر مقالات على الإنترنت تقول بأنه «لا وباء هناك». وأن المسألة كلها صنعتها شركات الأدوية. وتعلن وزارة الصحة فى مصر عن وصول عدد الإصابات بأنفلونزا الخنازير إلى 17 (حتى كتابة هذه السطور). الأمر الذى يمثل خطرًا، أخذا فى الاعتبار أن وباء أنفلونزا الطيور كان قد استوطن مصر والتى سجلت أعلى معدل للوفيات بسبب هذا المرض فى العالم.
فى أرشيف «وجهات نظر» مقال نشر فى عدد أغسطس 2004 يلخص القصة الملحمية التى كتبها جون بارى عن هذا الوباء، عندما تفشى ما بين عامى 1918 و1919 واستحق أن يوصف بأنه الوباء الأكثر فتكًا فى التاريخ.
(المحـرر)


[ 1 ]
رواية «جون باري» عن وباء الأنفلونزا الذى تفشى ما بين عامى 1918 و 1919. وقتل من البشر أكثر مما قتلتهم بنادق وحراب الحرب العالمية الأولي، رواية رائعة مفعمة بالحياة زاخرة بالمعلومات ويتعين أن تثير اهتمامًا غير عادى فى عام ظهور نوع فتاك من «أنفلونزا الطيور» ينتقل إلى البشر ويتفشى فى شرق آسيا وقد يكون على وشك اجتياح العالم على نطاق واسع كما فعل سلفه «وباء 1918». فى ذلك العام، لم يكن أحد يعرف سبب الوباء، الأمر الذى أدى إلى فشل جهود إيجاد الدواء. أما اليوم فإن المشتغلين بالطب، وكذلك هيئات الصحة العامة، فى وضع استعداد أفضل كثيرًا عما كان عليه الحال عام 1918. إنهم يعرفون الآن طرق تحصين الإنسان ضد فيروس الأنفلونزا. رغم ذلك، ومع كل الخبرات والمهارات المتراكمة، يظل الشك قائمًا فى قدرة المؤسسـة العلاجية المعاصرة على تقديم المصل الضروري، فى التوقيت الصحيح، وبالقدر الكافي، لإحباط زحف أمراض وموت مشابه لما حدث قبل 86 عامًا.

 


يروى «باري» قصة الوباء فى فصول تبحر عبر أزمنة بعيدة وقريبة، وتفاصيل مثيرة لذكريات بداية تفشى الأنفلونزا فى ولايات أمريكية. يتعرض للمحاولات المعملية والجهود الحثيثة، وإن فشلت، لمجموعة من الأطباء الأمريكيين سعت إلى العثور على الجرثومة المسببة للمرض، بهدف إيجاد المصل المضاد للوباء الذى خمد فى نهاية المطاف وانحسر نتيجة عوامل خاصة بالدورة الطبيعية للجرثومة وتطورها، والعلاقة الأزلية ما بين الكائنات الحية والبيئة وارتفاع مستويات المقاومة داخل خلايا الدم عند الإنسان، والتغير المهم المفاجئ للمورثات، والذى يجرد الفيروس من خاصيته المميتة.
خمد الوباء لأسباب لم تكن مفهومة زمن تفشيه، ودون أى تدخل طبى يعترض عملية التفاعل الطبيعى بين الفيروس الطفيلى وجسم الإنسان. لكن رواية «باري» تستفيد من الاكتشافات العلمية اللاحقة، وتستند إلى فهمه المتجدد المثير للإعجاب والذى يضفى تفردًا و«هيبة» على الصور التى يرسمها لـ «ديناميكية» العدوى والوباء، ووظيفة الفيروس ومحاولة الأطباء ومسئولى الصحة العامة مواجهة الخراب والتعامل مع الموقف. يرصد «باري» الأخطاء ويبدى تقديره لـ «الجهد» ويعيد بناء دورة العدوى وطبيعة الوباء فى ضوء مستويات الفهم العلمى الحالية، ويقول إنه احتاج لكى ينجز كتاب «الأنفلونزا الكبري» إلى 7 سنوات، وهى ضعف الفترة التى توقعها لإنجازه، وإن بعض أسباب «التأخير» تعود إلى توسعه فى فصول الكتاب عندما قرر دراسة الأوضاع المؤسفة لصناعة الدواء الأمريكية قبل العام 1918 كى يتوصل إلى فهم أفضل للموقف الذى كان على العلماء والأطباء مواجهته عندما تفشى وباء الأنفلونزا فى ذلك العام. ويشير بارى إلى سبب آخر يكمن فى صعوبة الحصول على مادة مفيدة عن الوباء ويقول: «كان من السهل تتبع حكايات الموت. لكن اهتمامى الأكبر انصب على حكايات أولئك الذين حاولوا ممارسة بعض سيطرة على الأحداث. وكل من فعل ذلك كان فى عجلة من أمره، وفى حالة ارتباك شديدة إلى درجة أن أحدًا لم ينتبه إلى ضرورة تدوين الأحداث وحفظها فى سجلات».
السجلات هى ـ بلا شك ـ أول ما ينهار تحت وطأة تفشى الوباء. وظنى إن عاملاً آخر له تأثيره فى هذا السياق ويتمثل فى وجود أسباب خاصة تدفع الذين نجوا من الوباء إلى قمع ذكريات معاناتهم. وهذا العامل يفسر ـ فى اعتقادى ـ ندرة الأرقام فى الذاكرتين العامة والخاصة عن وباء أنفلونزا عام 1918، رغم ضخامة الإحصاء الذى سجل حوالى 675 ألف حالة وفاة فى الولايات المتحدة، وما بين 20 إلى 50 مليون حالة حول العالم، معظمها فى الأسابيع الاثنى عشر الأخيرة لعام 1918. إن كل من عاش تلك الأسابيع الأخيرة، وإلى أن دار الوباء دورته، خاض تجربة الخوف من الموت أو من السقوط مريضًا، أو عانى معاناة حادة مع المرض. لقد كنت من هؤلاء الناجين لكننى لا أتذكر شيئًا إذ كان عمرى وقتها 13 شهرًا عندما سقطت أمى صريعة المرض فى شيكاغو. كانت حاملاً فى شقيقتى التى وضعتها فى الرابع عشر من ديسمبر 8191، قبل موعد ولادتها بأسابيع. أصبت، ووالدي، بالأنفلونزا، وكان والدى خريجًا جامعيا مفلسًا وجد نفسه، وأمي، وحيدين فى مدينة مشلولة وبلا أقرباء أو عون خارجى. لم يسجل والدى معاناتهما فى كتاب. ولم أسمعهما يتحدثان ـ فيما بعد ـ عما تبقى لديهما من ذكريات. بدت التجربة الأكثر رعبًا فى حياتهما وكأنها تعرضت لمحو ذاتى منظم لكى يبقى ما جرى بالفعل، وصراعهما من أجل البقاء، مجهولاً بالنسبة لى. لكننى علمت من كتاب «باري» أن وباء الأنفلونزا كان أقل فتكًا فى شيكاغو مع حلول شهر ديسمبر عام 1918 ، عما كان عليه بداية تفشيه داخل معسكرات الجيش بالساحل الشرقى والمدن القريبة. «أصيب الشرق والجنوب بالوباء مبكرًا وبقوة أعنف من تلك التى أصابت الساحل الغربى.. وفى وسط البلاد كانت المعاناة قليلة». وهذا يفسر لى نجاة والدتي، وكذلك شقيقتي، رغم أن الأشهر الستة الأولى من عمرها كانت محفوفة بالمخاطر. وعندما لجأت أسرتى خلال الصيف إلى مسقط رأس أبى فى مزرعته بكندا، أنقذت الشمس المشرقة، ورعاية جدتي، أمى وشقيقتى من أهوال شهر ديسمبر. انزوت الأهوال بعيدًا فى زوايا النسيان وبقيت النهايات السعيدة تعاد وتروى دون ذكر لتفاصيل آلام الوحدة والخوف واليأس والمعاناة.
لدى كل من عانى وشفى من وباء الأنفلونزا ذكريات مشابهة مقموعة. ويرى «باري» أن كتاب الصحافة والدراما فى العشرينيات لم يذكروا إلا القليل عن معاناة البشر أيام الوباء. وأذكر أن الشخص الوحيد الذى تحدث معى عنه، فى المحيط الذى تربيت فيه، كان صبيا مات والده فى معسكر للجيش. وما نقلته إليه أمه لم يكن فيه الكثير عن وباء الأنفلونزا بقدر ما فيه عن الحرب التى اعتبرتها سبب وفاة زوجها. الجديد عند «باري» هو عثوره على ما يشبه رواية يوميات تسجل حالة الإصابة بالوباء فى كتاب بعنوان «فرس شاحب.. فارس شاحب» نشرته «كاترين آن بورتر» عام 1939، وكانت نفسها ضحية المرض. وينقل «باري» عن «بورتر» قولها: «... راحت تغرق وتغرق فى ظلمات عميقة. رقدت كحجرة فى قاع الحياة مدركة أنها لم تعد ترى أو تسمع أو تتكلم. لم تعد تشعر بأعضاء جسدها. انسحبت إلى نقطة بعيدة عن اهتمامات البشر ولم تتبين سوى لحظة احتراق وحشية فى بؤرة من كينونتها لعلها شكلت الدافع الوحيد وراء إرادة عنيدة لكى تقاوم الانهيار دون حراك أو مساعدة أو خطة...». هذه المشاعر تبدو زائفة بالنسبة لى فقد أصبت، فى الخمسينيات، بالتهاب رئوى (وهو القاتل الفعلى لمعظم ضحايا وباء الأنفلونزا). وربما شعرت وقتها بـ «قاع ظلمات وانسحابات» بورتر. لكننى لم أشعر بتلك «الإرادة المشتعلة» للحياة. فى المقابل، وبفضل «البنسلين» أصابنى الشحوب ورقدت فى حالة إغماء وصحوت فى اليوم التالى خائر القوى بدرجة لم أعرفها من قبل.
آلام الحمى تعقبها حالة إغماء، وبعدها إما أن نشفى أو نموت. وأظن أن هذا هو ما خبره معظم ضحايا وباء الأنفلونزا ما بين عامى 1918 ـ 1919. لا يوجد الكثير لكى يقال ويذكر. ولا يقول كتاب «باري» الكثير عن كيف كان الحال عند الإصابة بالأنفلونزا الوبائية فى تلك الفترة. لكنه، وبصياغات أدبية غير عادية، وبراعة مثيرة للإعجاب فى عرضه لكل جديد فى علم الأوبئة، يقوم بعملية تنشيط قوية للذاكرة المعاصرة فى وقت قويت فيه التهديدات من أشكال جديدة لفيروس أنفلونزا مميت ظهر ويثير قلق المختصين والعامة على نطاق واسع.


[ 2 ]

يعد وباء الأنفلونزا من أخطر الأوبئة التى تهدد البشرية. وتكمن خطورته فى أن الفيروس المسبب له يكون فى حالة تغير مستمرة خلال انتقاله ما بين الطيور والخنازير والكائنات الحية. وكل موسم جديد من مواسم «الأنفلونزا» يحمل تحديات جديدة للمختصين الذين عليهم أن يحددوا، وعلى وجه الدقة، نوع سلالة الفيروس التى يمكن استخدامها لإعداد المصل المضاد الملائم، وكذلك تحديد نوع الجرعات التى يمكن لملايين الأطفال والمسنين تعاطيها لمنع العدوى. ومواجهة هذه التحديات لا تزيل التهديد الذى يظل قائمًا ويتمثل فى أن كل نوع يظهر فجأة من فيروسات الأنفلونزا يكون على درجة من الاختلاف عن ما قبله، تجعله قادرًا على مقاومة المصل وكل المضادات الحيوية المتراكمة داخل أنظمة التحصين عند الطيور والخنازير والبشر.
وتتميز الفيروسات، كشأن كل الكائنات الحية، بقدرة على التحول والتغير واستمرار افتراسها ـ بلا رحمة ـ لخلايا أجسادنا. ونحن ـ كبشر ـ لدينا قدرات فريدة تمكننا من مقاومة أشكال هائلة لأنواع أخرى من فيروسات الأنفلونزا، إضافة إلى قدرة على استفزاز مصادر الطاقة الكامنة داخلنا. ونجد ـ فى المقابل ـ أن فيروس الأنفلونزا مقيد، بشكل محدود، ويعتمد ـ كما أشرنا ـ على إمكانية التحول المفاجئ والناجح إلى طفيل يصيب الطيور (المصدر الأساسى لتغذية الفيروس) كما يصيب مختلف الثدييات مثل الخنازير والبشر بالدرجة الأولى. هكذا يقدم «باري» فى كتابه، أكثر التفسيرات وضوحًا لكيفية تمكن نوع بعينة من فيروس الأنفلونزا من اختراق الخلايا البشرية والتكاثر داخلها، وخلال ما يقرب من عشر ساعات، إلى آلاف الفيروسات المنبعثة من الخلية الميتة والمستعدة القادرة على تكرار الدورة المميتة.
أوضح بارى كيفية تغير الفيروس عبر ما يسمى بـ «تحول الجسم المضاد» وبصياغات دقيقة ومحكمة وأسلوب بسيط يسهل فهمه. فالسرعة التى تتكاثر بها فيروسات الأنفلونزا وتنتشر بنجاح داخل أجسادنا هى التى تزيد من وطأة المرض وشدته. ورغم قدرة الأجسام المضادة، داخل الجسد البشري، على كبح هذا التكاثر، إلا أن نوعًا ثانويا من البكتيريا يغزو الحنجرة والرئة ويتكاثر ويكون القاتل الفعلى لمعظم ضحايا الأنفلونزا.

يسوق «باري» فى كتابه ملاحظات كثيرة وجيهة حول انعكاسات سلبية لحالة التعبئة الأمريكية النشطة فى الحرب العالمية الأولي، على وباء عام 1918. فى مقدمة هذه الملاحظات أن الآلاف من الجنود الصغار كانوا أكثر عرضة للعدوى عندما فرضت التعبئة للحرب تكدسهم بالآلاف داخل معسكرات ضيقة وعشوائية. هذه الحقيقة كانت معروفة لمجموعة صغيرة من الأطباء الذين تتبع «باري» تاريخهم المهنى مثل ويليام هنرى ويلش، سيمون فيلكستر، ويليام كراوفورد جورجاس، ويليام بارك، أوزوالد أفيري، وبول لويس. بعض هؤلاء، وخاصة جورجاس، ويلش، وفيلكستر، كانوا فى وضع سمح لأصواتهم المحذرة بأن تصل إلى القيادات لكن ضرورات الحرب، الحقيقية أو المبالغ فيها، أدت إلى تجاهل جهودهم الرامية إلى عزل ومحاصرة المرض الوبائى فى بداية تفشيه. وتفيد إعادة ترتيب الإحصاءات بأن عدد الجنود الذين لاقوا حتفهم بسبب العدوى أكثر من عدد هؤلاء الذين قتلتهم إصابات الجروح. كما أن الأمصال المضادة لأمراض مثل التفوئيد والكوليرا، والتى جاءت ثمرة تطورات علم الجراثيم عام 1917، هى التى ساعدت على نجاة ملايين البشر داخل الخنادق على الجبهة الفرنسية، فى وقت كان فيه الجنود الروس يموتون بالتيفوس وأوبئة مماثلة، على الجبهة الشرقية لتلك الحرب البعيدة كان الطبيب جراح كراوفورد جورجاس يعرف ذلك جيدًا عندما عين برتبة جنرال بالجيش الأمريكى بعد أن ذاع صيته لنجاحه فى السيطرة على وباء الحمى الصفراء فى هافانا ومنطقة القنال (فى كوبا). لقد عمل جورجاس على إنتاج وتخزين كميات كبيرة من الأمصال والمضادات الحيوية والمحاليل. رغم ذلك، وعندما تفشى وباء الحصبة فى ولايتى جورجيا وتكساس ما بين سبتمبر 1917 ومارس 1918، تبين أن استعداداته لم تكن كافية وتسجل الإحصاءات 5 آلاف و741 حالة وفاة بالحصبة فى معسكرات الجيش الموبوءة. لكن هذا الرقم سرعان ما تضاءل أمام أرقام ضحايا هجوم الأنفلونزا الذى بدأ فى الشهر الذى خمد فيه وباء الحصبة. ففى مارس 1918 بدأ وباء الأنفلونزا يتفشى فى معسكر «فنستون» بولاية كنساس. كانت الوفيات قليلة فى البداية، ولم يبدأ الاهتمام الواسع المشوب بالخوف إلا فى شهر يوليو عندما حصدت موجة ثانية من الوباء المزيد من الأرواح مع ظهور أعراض حادة تشير إلى أنها أنفلونزا غير عادية، وتزامن تفشيها فى كل من برست بفرنسا، فرى بورت بسيراليون، وبوسطن ماستشوستس. وسرعان ما راح ينتشر فى أنحاء العالم تحمله السفن والطرق الحديدية ليصل ذروته فى سبتمبر وأكتوبر ثم يبدأ فى الانحسار تدريجيا بعد توهجات متواترة.
يرجع جديد الأبحاث نشأة وباء أنفلونزا عام 1918، داخل الولايات المتحدة على الأقل، إلى سلالة خبيثة لفيروس أصاب بعض أهالى ريف كنساس فى فبراير من ذلك العام، وأن العدوى انتقلت إلى معسكر «هاكسل» بواسطة ثلاثة رجال طُلبوا لأداء الخدمة العسكرية فى ذلك الشهر وقبل بداية موسم الحصاد فى كنساس. ونحن نعرف أن نشأة وباء أنفلونزا الطيور الجديد وتفشيه (بداية العام الجاري) كانت فى ريف شرق آسيا. ففى الريف يعيش الإنسان عادة على قرب شديد من الطيور والخنازير.
المصدر الأكيد للوباء القديم (1918) لم يتحدد بعد. لكن «باري» ركز انتباهه على سلسلة أحداث مترابطة ومنتقاة عن مسار الوباء وانتشاره فى الولايات المتحدة وبعض أجزاء من العالم. وقد لوحظت أهم إصابات الوباء مع نهاية أغسطس وخلال الأيام الأولى من سبتمبر فى معسكر ديفنس بولاية ماستشوسيتس حيث تكدس ما يقرب من 45 ألف رجل فى المعسكرات العشوائية وسجلت أيام الذروة ما يقرب من ألف و543 إصابة، وحوالى 200 حالة وفاة كل يوم. كان الأطباء والممرضات الأكثر عرضة للعدوي، وسقط العديد منهم بين مرضى وموتي، وسرعان ما انهار مستشفى المعسكر وأعلن المتحدث الرسمى له، يوم 21 سبتمبر، أنه لن يسمح بدخول المزيد من المرضى مهما كانت حالاتهم. كادت الرعاية الصحية تنعدم تمامًا إلى أن ظهر الدكتور ويليام هنرى ويلش على مسرح الأحداث باعتباره «البطل الأمريكي» الرئيسى الذى أنشأ مختبرًا علميا للدواء، على الطريقة الألمانية، ووصفه بارى فى كتابه بأنه «زعيم الحركة التى أوجدت أكبر مؤسسة علمية للدواء، وربما أعظم مؤسسة علمية فى العالم كله». وقت ظهور الدكتور ويلش كان أكثر من ستة آلاف جندى قد حشروا داخل المستشفى صمم لاستيعاب ما لا يزيد على 2500 مريض. و«اختفت الممرضات وتزايدت المخاطر مع تزايد الأمراض. أنوف وآذان نازفة، وجوه زرقاء، ورئات محطمة بصور غير معهودة، جنبًا إلى جنب مع جثث الموتى المتراكمة كالحبال والأخشاب». هذه الصور الدامية اقنعت ويلش ورفاقه بأن «هذا لابد أن يكون نوعا جديدا من العدوى أو الطاعون». لكن ويلش، وبعض العلماء، سرعان ما تخلوا عن هذا الاعتقاد وتوصلوا إلى أن سبب الوباء يكمن فى نوع خبيث جديد من الأنفلونزا مركب من «تشكيلة» من الأوبئة الأخرى. وبقى السؤال يبحث عن إجابة محددة: ما هو سبب وباء الأنفلونزا؟
أوضحت أبحاث حديثة، فى مجالات وباء السل وأوبئة بكتيرية أخري، أن معرفة الوباء تتطلب أخذ مسحات من الأغشية المخاطية للمرضى والموتي، ثم محاولة إنماء البكتيريا العالقة بتلك المسحات فى المختبرات على أمل تحديد هوية الكائن الحى المسئول، أو المسبب للمرض. وتستند هذه النظرية إلى فرضية أن كائنًا شديد الدقة، متناهى الصغر، لا يرى إلا تحت المجهر ويدعى «الفيروس المترشح»، ربما يكون مسبب المرض. وكان الدكتور لويس، أهم أبطال رواية «باري» ميالاً إلى هذه النظرية خاصة وقد أثبت من قبل أن فيروسًا مشابهًا يكمن وراء «شلل الأطفال». لكن تسمية المسبب غير المرئى باسم جديد دون تحديده، تعد أمرًا شديد الشبه بأن نرجع سبب مرض ما إلى «بخار عفن منبعث من مستنقعات»! وهذا هو ما فعله أكثر أطباء أوروبا إطلاعًا، فيما قبل الثمانينيات، عندما أثبت الطبيب الألمانى روبرت كوتش، نظرية «الجرثوم المنافس» وأعلن أن أنواعًا محددة من البكتيريا الدقيقة التى يمكن رؤيتها تحت المجهر، هى التى تتسبب فى وبائى السل والكوليرا. تمكن كوتش من تطوير طرق إنماء هذه البكتيريا فى معمله ثم قتلها وإعداد أمصال مضادة. ولا يمكن لهذه الخطوات أن تتم طالما بقيت الفيروسات غير مرئية. لهذا لم يكن أمام أطباء وعلماء عام 1918 إلا تركيز جهودهم الساعية إلى إيجاد علاج لوباء الأنفلونزا، على ضرورة اكتشاف البكتيريا العضوية المسئولة عن الوباء. وفى ألمانيا، عندما تفشى نوع بسيط من وباء الأنفلونزا، أعلن طبيب محترم يدعى ريتشارد بفييفر أنه اكتشف نوعا جديدا من هذه البكتيريا قال إنها تنمو داخل حناجر المرضى وتسبب ما أسماه بـ «الأنفلونزا البكتيرية». ويبدو أن الدكتور بفييفر ظن أن موقعه كمدير لمعهـد برلين للأمراض الوبائية سـيجعل «اكتشافه» جديرًا بالتصديق. إذ إن العثور على تلك البكتيريا الجديدة فى حناجر المصابين بالأنفلونزا كان أمرًا شديد الصعوبة. إضافة إلى فشل د. بفييفر فى إيجاد الوسائل المعملية الكفيلة بإنماء هذه البكتيريا ومحاولة إعداد أمصال مضادة للمرض.
ومن المؤكد ـ علميا ـ أن ما حدث عام 1918 هو أن مجموعة متنوعة من البكتيريا غزت حناجر ورئات الأشخاص الذين تحللت أو دمرت أغشيتهم المخاطية نتيجة إصابتهم بفيروس الأنفلونزا الخبيث. هذا الفيروس الذى أحكم سيطرته وأحدث تلفيات وردود أفعال لأنظمة المناعة داخل جسم الإنسان، وغمر الرئة بخلايا ونفايات فيروسية. هذه هى الأسباب ـ المرجحة ـ وراء معظم الوفيات. أما بكتيريا الدكتور بفييفر فقد ظلت غير واضحة إلى أن تحسنت وسائل الفحص المعملى وتم اكتشافها فى مِسحات أغشية مخاطية، الأمر الذى دفع د. بول لويس إلى التخلى عن فكرة وجود فيروس واحد وراء العدوى واللحاق بالفريق الذى يعتقد أن بكتيريا د. بفييفر هى المسبب للمرض. لكن هذا الاعتقاد انتهى بإعداد مصل يستفيد من جثث الموتى لكنه عديم الجدوى فى مكافحة الأنفلونزا. عدم فاعلية هذا اللقاح، وكل جهد بذل فى إطار نظرية بفييفر، أنعش من جديد نظرية الفيروس الواحد إلى أن جاءت الأربعينيات بالمجهر الإلكترونى القادر على أن يجعل الفيروس مرئيا وأصبح من الممكن تمييز مختلف الفيروسات ودراسة سلوكها. لقد كان على الفهم المعاصر لفيروس الأنفلونزا، وقدراتنا الحالية على إعداد المصل المضاد، أن ينتظر اختراع المجهر الإلكترونى. ويقودنا الحديث إلى جهد مواز بذل ما بين عامى 1918 و 1919 وكان أكثر نجاحًا فى إيجاد المصل المضاد للالتهاب الرئوى رغم أن فاعلية هذا المصل كانت مقصورة على التعامل مع بعض سلالات الجراثيم التى تصيب الرئة، وأدت صعوبة تصنيعه إلى إنتاج كميات ضئيلة منه لم تكن متوفرة إلا قبل النهاية «الطبيعية» للوباء. رغم ذلك، وكما يقول «باري» فى كتابه، تبين أن تلك الأبحاث والتجارب التى أجراها د. أوزوالد حول جراثيم الرئة هى التى قادت عام 1943 إلى الاكتشافات الأولية للحمض النووى DNA فى التركيب الوراثى.

حكايات «باري» عن بكتيريا الدكتور بفييفر وجهوده المعملية لإيجاد علاج للإنفلونزا، حكايات زاخرة بالمعلومات وتنويرية يرويها بإعجاب ويضفى أبعادًا درامية فى تناول كل جهد لكل عالم أو طبيب من أبطال روايته. رغم ذلك يعانى كتابه من أوجه نقص تجعل روايته عن وباء الأنفلونزا غير شاملة، ركز بارى على ما حدث داخل الولايات المتحدة لكنه لم يخبرنا ـ عمليا ـ إلا بما حدث فى مكانين فقط بـ الموقف الكارثى فى معسكر ديفنس بولاية ماستشوستس والذى اقترن برواية أطول عما حدث فى فلاديلفيا. قفز بارى فوق مدن أخرى مثل نيويورك وبوسطن حيث كان للوباء القدر نفسه من الشلل والفتك.
أما إشاراته إلى تفشى الوباء فى أجزاء أخرى من البلاد فقد جاءت متناثرة وشحيحة. ولم يقل «باري» شيئًا عن أوروبا. وما قاله ـ بالفعل ـ حفل بمغالطات ناجمة عن رغبته فى التعظيم من خطر الأنفلونزا. يقول ـ على سبيل المثال ـ إن الهجوم الألمانى فى ربيع عام 1918 ربما يكون توقف بسبب تفشى الأنفلونزا وأن «القائد الألماني» لودندورف نفسه «لام الوباء الذى أفقده المبادءة». ثم يتراجع قائلاً إن لودندورف ربما يكون اتخذ من سقوط جنود الحلفاء مرضى بالأنفلونزا ذريعة أو حجة لوقف الهجوم.
وفى السياق نفسه يأتى قول «باري» أن هجمة أنفلونزا فى عام 1920 «أضعفت عقل وجسد الرئيس ويلسون إلى درجة دفعته إلى إنهاء صراعه مع كليمنصو ولويد جورج حول شروط معاهدة فرساى للسلام».
هكذا يحمل بارى الأنفلونزا مسئولية قرارات سياسية وحربية من المؤكد أنها تأثرت باعتبارات أخرى أكثر إلحاحًا. كذلك عانى كتاب بارى من قصور ملحوظ فى تصويره لمدى وحجم تفشى الوباء فى بقية أنحاء العالم. جملتان فقط هما كل ما كرسه للصين، البلد الأكثر تعدادًا فى السكان، تلتهما صفحة من الوصف المبالغ فيه عن الوباء فى الهند: «لم يكن هناك إلا الموت فى شبه القارة الهندية، القطارات تغادر حاملة الأحياء وتعود كل يوم محملة بالموتى والموت». وفى تصوير آخر مفعم بالدراما يقول «اندفع الفيروس بعنف مخترقًا السنغال، سيراليون، إسبانيا، وسويسرا، مخلفًا الدمار الحاد وفارضًا ضريبة موت زادت فى بعض المناطق عن 15% من إجمالى عدد السكان». معلومات مبهمة عشوائية وتكاد تكون بلا معنى.
يضاف إلى ذلك أن بارى يتمسك بمجموعة من المشتغلين بالطب كأبطال لروايته رغم أن تجاربهم المعملية لم تخرج بشيء يذكر لمقاومة الأنفلونزا. ويبدو أن النجاحات اللاحقة فى اكتشاف الفيروس جعلت بارى لا ينظر إلى جهود أخري، غير فعالة أيضًا، وإن كانت مريحة ومساعدة، بذلها آخرون فى مواجهة المرض وللحد من الوباء. لقد قلل من شأن أطباء فعلوا ما يفعله أمثالهم من مهنيين عبر قرون مضت: تقديم علاجات غير مفيدة. لكنهم ـ ومع ذلك ـ أكدوا للناس أن شيئًا ما يحدث وأن أطباء «باري» ليسوا أفضل منهم.

 


يعرب «باري» عن أسفه للسياسة الحكومية والإعلامية التى حاولت التقليل من حقيقة الوباء، أو إنكارها. وينقل ـ بسخرية ـ عن مفوض الصحة العامة قوله: «إن من واجبنا إبعاد الخوف عن الناس، فالقلق يفتك بأعداد أكثر من تلك التى يفتك بها الوباء». وهذه مجرد أكاذيب أو أنصاف حقائق صممت لطمأنة الناس، وقد تكون سمحت للمجتمع الأمريكى بالاستمرار فى أداء وظائفه قبل وبعد تفشى الوباء، وحافظت على «السلوك العادي» فى العديد من القرى والمدن. ومن المهم ملاحظة أن اقتصاد المجتمع الأمريكى فى عام 1918 كان يقوم ويعتمد على تدفق السلع والخدمات عبر البلاد. وكل إعاقة لحركة التدفق هذه تعد تهديدًا للحياة. فلا توجد مدينة تستطيع أن تحيا دون إمدادات متواصلة من الغذاء والسلع الضرورية الأخرى. وقد زاد المجهود الحربى من قابلية هذه الأوضاع للانكسار بأن حشد ملايين الجنود فى معسكرات جيش عشوائية. وكان من الضرورى الحفاظ على «روتين» عمل يومى. وربما يكون الإنكار الرسمى لاقتراب الوباء القاتل من هذه المدينة أو تلك قد ساعد فى تحقيق الأهداف المرجوة. لكن «باري» يظن أن مثل هذه السياسات الرسمية أوجدت عدم الثقة. وفى المقابل لا تذكر فصول الكتاب شيئًا عن دور رجال الدين والجهد المنوط عادة بالقساوسة ورؤساء الكنائس لطمأنة رعاياهم وقت الأزمات. ومن المؤكد أن هؤلاء جابوا البلاد ما بين عامى 1918 و 1919 لتقديم العون التقليدى عبر إقامة الصلوات والاحتشاد وأداء شعائر وطقوس وخدمات دفن الموتى. هذه الجهود لم تقدم الدواء لكنها طمأنت الخائفين وساهمت فى الحفاظ على تماسك المجتمع الأمريكي، ولو لبعض الوقت.
لقد شيد بارى نصًا شديد البراعة يبدأ وينتهى بلقطات فوتوغرافية للدكتور بول لويس وهو يتحدى المرض الجديد داخل مستشفى فلاديلفيا عام 1918، ثم وهو يعانى سكرات الموت بالحمى الصفراء عام 1929 فى البرازيل. جعل «باري» من الدكتور لويس النموذج والرمز للجهود «غير المجدية» التى حاولت إيجاد علاج للوباء فى المختبرات العلمية. وصفه بأنه «أذكى من عرفهم» لكنه، وفى كل مرة يتحدث فيها عنه كان يكرر وصفه بالعبارة نفسها التى بدت وكأنها شعار أو «موتيفة» لشركة لإنتاج الأفلام. وفى السياق نفسه صاغ العناوين الرئيسية لفصول كتابه وكأنها ترديدات «كورس» فى فرقة إنشاد: «هذه أنفلونزا.. مجرد أنفلونزا»، «الحرب هناك والوباء هنا» و«لم يكن هناك وقت»، لكن هذه الصور البلاغية أضفت ظلالاً شبه ملحمية على النص. ولعل هذا هو سبب اختيار «باري» للعنوان الفرعى لكتابه: «القصة الملحمية للوباء الأكثر فتكًا فى التاريخ». ولأن هذه العبارات توحى بالملحمية وتكرسها نرى «باري» قد أكثر من اللجوء إليها فساوى بذلك ـ فى كتابه ـ ما بين الأبطال والمخادعين. وهنا قد تكمن حقيقة الأنفلونزا ذاتها: فوباء عام 1918 قتل من البشر أكثر من الذين قتلهم أى وباء سابق. لكن «حجم الفتك» وفداحته كان بسبب كثافة بشرية مكنت الفيروس من العثور على من يتغذى بهم. وفى النتائج النهائية فإن هذا الوباء يكاد يكون من الأوبئة العادية إذا ما قورن بـ «الموت الأسود» الذى تفشى فى أوروبا وآسيا فى القرن الرابع عشر، أو الطاعون الذى تلاه. فكلاهما كان له التأثير الأبقى والأقوى على المجتمعات البشرية، وحصد من الناس حصة أكبر مما حصدها وباء أنفلونزا عام 1918 ـ 1919.

وطوال فصول كتابه يريدنا «باري» أن نرتجف من الموت والمعاناة وأن نُعجب بأبطاله فى المختبرات العلمية ونستهين بشأن هؤلاء الذين حاولوا تهدئة الأمور وطمأنة الناس بالكلمات والعلاجات غير الكافية وقد يؤخذ عليه أنه بدأ فى بعض الفصول كمحرر إعلانات يريد أن يملأ شاشات التلفاز بالمبالغات والإثارة. لكن فهمه الموسوعى لعلم الأوبئة المعاصر، وتفسيره البارع لكيفية عمل الفيروس داخل جسم الإنسان، يطغيان على بعض صياغاته التى جنحت إلى المغالاة.
ويبقى النص رسالة واضحة تجعل كتابه الكتاب الأكثر جدارة بالقراءة.. ذلك أن عودة انتشار الموت بفعل الأنفلونزا لاتزال قائمة رغم كل المعرفة العلمية المعاصرة، ورغم كثرة المنظمات العالمية المنوط بها مقاومة الأوبئة.

 

القـصـة الملحمية
للـوباء الأكثـر فـتـكـا
فـى التاريـخ

 

The Great Influenza: The Epic Story of the Deadliest Plague in History
الأنفـلونـزا الكبـري: القصة الملحميـة للوبـاء الأكثر فتكًا فى التاريـخ
John M. Barry
Viking Books، 2004، 560pp

 

 

بترتيب مع:
The New York Review of Books
ترجمة: جمال إسماعيل

 

 


الرسالة الواضحة هى أن
عـودةانتشار الموت بفعل الأنفـلونزا
لاتزال قائمة رغم كل المعرفة العلمية المعاصرة،
ورغـم كثرة المنظمات العالميةالمنـوط
بها مقاومـة الأوبئة

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة