كلام فى ما يجرى



"رغم أن الأستاذ هيكل ـ التزامًا بقرار اتخذه ـ يبتعد عن التعليق المباشر ـ كتابة ـ علي أحداث جارية، إلا أننا ـ دون تعسفٍ أو مبالغة ـ نري في بعضِ ما قاله قبل سنواتٍ اقترابًا ـ وربما تنبيهًا مبكرًا ـ لمخاطر أزمة عندما طرقت أخيرا أبوابنا، بدت لبعضنا «مفاجِئةً» وما كان لها أن تكون كذلك. قبل أعوام ثلاثةٍ كاملةٍ أو كادت (14 أكتوبر 2002)، وفي افتتاح الموسم الثقافي للجامعة الأمريكية بالقاهرة، ألقي هيكل محاضرةً تحدث فيها عن ضرورة أن نرتب أوراقنا «الآن» لمستقبلٍ، وإن كان نظريا ـ بحكم الطبيعة ـ في رحم الغيب، إلا أن وقع أقدامه الثقيلة يمكن أن يكون مسموعا لمن يريد أن ينصت .. فيسمع. المحاضرة التي أجملت مضمونَها في عنوانها «المستقبل ـ الآن» كان لها وقتها ردودُ فعل متعددة، و«متعدية» في بعضها لخطوطٍ كان تجاوزُها يشير مبكرا إلي أن مصر ستواجه ما تواجهه الآن. .......... نستأذنُ قارئنا.. ونستأذن أستاذنا في أن نعيدَ قراء`ة المحاضرة." وجهات نظر" حضرات السيدات والسادة إنني سعيد إذ أجد نفسي الليلة وسط هذه الصحبة الكريمة المهتمة بالشأن العام، والحريصة علي متابعة الحوار فيه. وسعيد أيضا أنني أتكلم في هذه القاعة التي سمعت علي مدار تاريخها صوت الحوار مفتوحا دون قيد. وسعيد أخيرا أن ذلك يجري في رحاب هذه الجامعة التي قامت ومازالت تقوم بدور تعليمي وتنويري أضاف إلي العقل العربي ومازال يضيف. وحديثي الليلة حول موضوع حسبته لازما ــ وغرضي منه إلقاء نظرة فاحصة ومتأملة علي أحوال مصر قبل نهاية هذه السنة بالذات ــ فتلك كما قيل وتكرر بإلحاح طوال شهورها ــ ذكري مرور نصف قرن علي ثورة سنة 1952 ــ وقيمة أي مناسبة من هذا المستوي أنها تذكير بما جري بالأمس، وتفكير فيما يجري اليوم، واستشراف لشكل غد مأمول ومرتجي. وربما تفضل البعض ولاحظ أنني علي شدة ما اقتربت من ثورة يوليو ومن قائدها ــ تباعدت عامدا عن مناسبة الذكري ولم أشارك بفعل أو بقول في احتفالاتها ــ لسببين: أولهما ذاتي ــ والثاني موضوعي. ــ السبب الذاتي ــ أن ذلك الاحتفال بالطريقة التي جري بها كان هوائيا ــ صاخبا ــ ومسرحيا. وفيما بدا لي فقد كان الاحتفال الذي امتد عاما بأكمله (كما قيل) ــ مناسبات لا أظن أن أيا منها ترك علامة، أو استنهض همة، أو رسم خطا يومئ إلي أفق أو يدل علي طريق. ــ والسبب الموضوعي ــ أن الاحتفال جري محاولة للتوفيق والتزويق، خلطت السياق وتعسفت مع المراحل، حتي بلغت حدا شديد الوطأة ــ ليس علي التاريخ فحسب، وإنما علي العقل وعلي الوعي، وبالتالي علي المستقبل، وعلي الضرورات التي تستدعي النظر إليه ودراسته والاستعداد لرحلته. ولقد كان يمكن لمناسبة الذكري أن تضع أمام الشعب والأمة خريطة تكشف وترشد، لكنها لسوء الحظ وضعت أمامه ألبوم صور لا منطق فيه ولا معني. كانت الصور لأربعة رجال رُتبت مواقعهم متصلة ببعضها، متتالية واحدة بعد الأخري. وفي وضع الصور إيحاء بأن الجميع عائلة متماسكة، وعصر ممتد، وسياق متسق، وبالتالي فهم في الهوية رؤية واحدة، وفي المرجعية سند واحد، ثم إنهم في النتيجة شرعية متصلة، وظني أن ذلك غير صحيح. ولست هنا في مجال إصدار حكم أختار به أو أنحاز ــ مع أن ذلك إنساني! ــ وإنما مطلبي الآن مجرد الملاحظة، والتحديد، والتمييز، لأنه في القواعد الأساسية للحساب لا يجمع غير المتشابه! وحقيقة الأمر ــ بدون مقارنة أو مفاضلة أو تقييم ــ أننا أمام أربع صور حول كل واحدة منها إطار يحدد ويفصل، والألبوم من أوله لآخره ناطق بأن تلك الخمسين سنة لم تكن عمرا تدفق طبيعيا مرحلة بعد مرحلة، وإنما هي بكل الشواهد ــ عصور متعددة ــ اختلفت ــ وتناقضت ــ وفي بعض الأحيان تصادمت. وترتبت علي هذه الأحوال نتائج: أبرزها، تباين رؤي للهوية وتباين نظر إلي المرجعية، وبالتالي تباين أسس في الشرعية. وقد تكون تلك طبيعة ظروف تبدلت ــ أو طبيعة نفوس تغيرت في وطن خرج (طبق مقولة عالِم الاجتماع الأشهر «ماكس فيبر») من مرحلة الإطار الأبوي التقليدي للشرعية ــ إلي شرعية مرحلة الانتقال وفيها دور الرجل الواحد سواء كان ذلك الرجل زعيما شعبيا، أو خلفا له من أقرانه، أو من جهاز الدولة المسئول عن تسيير الأمور ــ (وذلك تقدير «فرانسيس فوكوياما» وهو عالِم اجتماع آخر معاصر)، مع العلم (وتلك مرة أخري عودة إلي «ماكس فيبر») ــ أن كلا من المرحلتين التقليدية الأبوية، ومرحلة الرجل الواحد وما بعدها تمهد للنموذج الأرقي من الشرعية وهو الشرعية الدستورية القانونية. وقد كان ذلك هو الهدف الذي كافح الشعب المصري ــ وغيره من شعوب الأمة العربية لبلوغه ومازالوا ــ مؤمنين أنه حق الوطن وكرامته ودرس التاريخ وعبرته. وكان هناك شكل لهذا النموذج من الشرعية قبل الثورة ــ لكن نتائج التجربة تكشف أنه ظل استعارة للمظهر دون الجوهر لأن الشرعية الدستورية والقانونية تتأتي وتترسخ نتيجة تطور اقتصادي وسياسي وثقافي يتجلي معه نوع من النمو المجتمعي يعطي للشعوب والأمم فرصة للحوار تتكافأ فيه المواقع، ومن ثم تتوازن المصالح وتتوافق الأهداف. وللإنصاف فإنه في بلدان مستعمرة أو محتلة، وهو ما كان عليه الحال في كل البلدان العربية إلي بداية الخمسينيات من القرن العشرين، فإن الكلام عن الشرعية الدستورية القانونية يجيء حلما متخطيا للواقع، لأن الاستعمار والاحتلال الأجنبي كلاهما مانع من الشرعية، والممكن الوحيد في مثل تلك الظروف هو ملء الفراغ بنوع من نصوص القانون تفرضه القوة الغالبة. وحكم الحياة في مواجهته ظهور نوع من مشروعية المقاومة يعبر عن إصرار يتحدي الواقع المفروض ويجاهد للانتصار عليه. ومن قبل الثورة ــ وبعدها ــ وحتي الآن، فليس من باب التجاوز أن يقال أن ما عاشه العالم العربي ظل محصورا في نوعين ــ أو إطارين من الشرعية ينتظران ثالثهما طبق مقولة «ماكس فيبر»: ــ عرف العالم العربي تجربة الشرعية الأبوية التقليدية ــ قبلية أو عائلية ــ وهي مازالت حاكمة حتي الآن في بعض أوطان الأمة، تسمي نفسها ملكيات أو سلطنات أو مشيخات أو أوصافا من هذا القبيل. ــ وعرف العالم العربي تجربة شرعية الانتقال يبرز فيها دور الرجل الواحد زعيما شعبيا، أو خلفا له نادته الظروف من أقرانه أو من غيرهم. ــ وفي التجربة المصرية ــ وربما في غيرها ــ فإن تكرار دور الرجل الواحد أربع مرات لا يعني وجود وحدة في النسب ــ أو اتصال للسياق ــ أو مصدر مستمر لذات الشرعية! [ 1 ] كان اللواء «محمد نجيب» أول هؤلاء الرجال الأربعة ــ في التجربة المصرية ــ وكان يمثل شرعية التغيير من الملكية إلي الجمهورية، ومواصفاته أنه الرجل الذي لقي إجماع ضباط الجيش في انتخابات ناديهم (آخر ديسمبر 1951)، وكانت تمهد له طلعة تقابل الناس بقسمات رجل ناضج، متهلل بابتسامة تحمل رسالة طمأنينة تبشر بأن التغيير الذي هبت رياحه فجر 23 يوليو 1952 ــ آمن ومعقول. وفي ظروف ذلك التغيير فإن الرجل قام بدوره كاملا، علي أن المشكلة التي واجهته في النهاية أن اعتبارات التغيير وملابساته كانت مختلفة عن دواعي التغيير وأحكامه. وفيما بين هذا الاختلاف ــ بين قدوم التغيير، وبين ضغط مطالبه ــ وقع مأزق الصورة الأولي، وكذلك رُفِعَت من مكانها دون فرصة لها تحدد هوية ــ أو تؤكد مرجعية ــ أو تؤسس شرعية. [ 2 ] وكان «جمال عبد الناصر» هو الرجل الذي يمثل دواعي التغيير ومطالبه، ومعه يصح القول بأن الشرعية الثورية ليوليو بدأت. وأرجح التقدير أن الشرعية الثورية ليوليو لم تكن نظرية معروفة أو خطة متكاملة ولعلها كانت أقرب إلي تعبير متجدد عن المشروع الوطني القومي الذي ينادي مصر في عصور نهضتها ــ وقد ناداها أكثر من مرة عبر القرون وحتي قبل أن تتحدد بوضوح تلك المعالم السياسية المُتفق عليها لكيان وطني أو رابطة قومية ــ أو شرعية حقوق أساسية يحكمها دستور وقانون وغير ذلك من القيم التي طرحتها وعمقتها الثورات الكبري في التاريخ الإنساني. وفي تعبيرها المتجدد ــ وفي زمانها ــ فإن الشرعية الثورية ليوليو حاولت التوصيف والتحديد، وهنا فإنها أمام قضية الهوية عرضت نفسها ــ كما هي طبيعة أي حياة إنسانية ــ في عدد من الملامح متعددة ومنسجمة في نفس الوقت: * ملمح هوية مصري ــ يتصور وطنا يحقق استقلاله، ويخطط لتنمية شاملة توفر أرضية لتقدم يواكب العصر، ولعدل اجتماعي تتكافأ فيه الفرص بقدر ما يتسع نطاق العمل الوطني. *وملمح هوية قومي ــ يتصور انتماءه إلي أمة تفاعلت في محيطها عوامل الجغرافيا المتصلة، والتاريخ المتواصل، ومعهما عوامل الثقافة المستندة إلي لغة واحدة ــ إلي جانب تأثير التشريع المعتمد لأكثر من أربعة عشر قرنا علي مصدر رئيسي تمثله سلطة خلافة متماسكة ــ أو مبعثرة ــ في شظايا تسمي نفسها دولا أو إمارات أو حتي خديويات! * وملمح هوية إنساني مستقل مفتوح لتعاون حر تتسع دوائره عربية ــ إسلامية ــ آسيوية ــ وأفريقية. وهذا التعاون حريص في كافة الأحوال أن يكون استقلاله موصولا بميثاق الأمم المتحدة ومبادئه. وهنا كانت مرجعية يوليو استطرادا منطقيا لهذه الملامح المتعددة والمنسجمة لهويتها: * فهذه المرجعية علي التراب الوطني كفاحا لبلوغ الاستقلال ينهي بقايا الاحتلال العسكري والسيطرة الامبراطورية ويصفي مواقع الاستغلال الأجنبي اقتصادية ومالية. * وهذه المرجعية في العمل الداخلي خططا للتنمية (أساسها التصنيع والتعليم) ــ وجهدا في تحقيق العدل الاجتماعي (يقوم في الزراعة علي إعادة توزيع الأرض وتدعيم الملكية بالتعاون، وفي الصناعة علي الملكية العامة كما كان الحال في معظم بلدان العالم المتقدم، بالذات في أوربا ــ بعد الحرب العالمية الثانية) ــ ويتزامل مع التنمية الشاملة طموح إلي المشاركة السياسية يبحث عن وسائل تمكن منها. * وهذه المرجعية في المجال القومي دعوة إلي وحدة الهدف ووحدة العمل ووحدة الأمن، باعتقاد أن حق الأمة أكبر من سلطة أي نظام يحكم في وطن من أوطانها. * وهذه المرجعية في المجال الخارجي يدا ممدودة إلي العالم القريب والبعيد (من تأسيس حركة التحرر الآسيوي الأفريقي في باندونج والقاهرة، إلي تأسيس تجمع الدول غير المنحازة في بلجراد ودلهي والقاهرة، إلي تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية من الدار البيضاء وأديس أبابا إلي القاهرة)، وذلك طريق طويل ومضنٍ في طلب السلام مع العدل، يصاحبه استعداد في أي وقت لحمل السلاح ورد العدوان. ومن هذه الملامح ــ تشكلت هوية يوليو ــ وتحددت مرجعيتها ــ وتأسست شرعيتها. لكن شرعية يوليو واجهت مأزقها الأكبر سنة 1967 ــ لأن ما وقع في يونية من تلك السنة ــ ومع الاعتراف بضلوع قوي خارجية كبري في تدبيره وتنفيذه ــ أدي إلي شرخ خطير، بحكم أن أي نظام لا يستطيع حماية ترابه الوطني، مُهَدَّد في مبرر وجوده، وانكشاف شرعيته. وكان يمكن لشرخ سنة 1967 أن يتحول إلي كسر، لولا أن جماهير الشعب المصري وجماهير الأمة العربية خرجت يومي 9 و 10 يونية تفرض إرادة المقاومة فرضا، وتصر علي مواصلة القتال. علي أن ذلك الخروج لم يكن شفاءً، وإنما كان معالجة موقوتة ــ تُمنح لحساب مهمة محددة، هي مهمة إزالة آثار العدوان، وبعدها يكون لكل حادث حديث ــ كما يقال! وكانت الأمة فيما تصرفت به أصيلة وحكيمة. وعلي نحو صادق مع النفس فإنه لا يصح لأحد نسيان أن شرعية يوليو أصيبت يوم 5 يونية 1967 ــ ثم إن هذه الشرعية جري تجبير شرخها للتمكين من مهمة مؤقتة، ولمدة محددة. وكان «جمال عبد الناصر» نفسه أول من فهم الحقيقة واستوعب معناها وتصرف وفق إملائها ــ سواء حين أعلن قراره بالتنحي مساء 9 يونية، أو حين عاد عنه ظهر 10 يونية تحت ضغوط شعبية مصرية وعربية وعالمية. وأظن أنني الطرف الذي يستطيع أن يؤدي القسم ويتكلم بيقين، فقد كنت شاهدا وحيدا حاضرا عاش مع «جمال عبد الناصر» داخل غرفة مكتبه طول نهار 9 يونية ــ وكل صباح 10 يونية، ورأي بنفسه وتابع ــ وأكثر من ذلك ــ كانت لديه فرصة ــ وشرف ــ أن يساعد في صياغة ثلاث وثائق رئيسية عبرت عن الحقيقة ودرسها ــ وهذه الوثائق الثلاث هي: خطاب التنحي مساء 9 يونية ــ والرسالة إلي مجلس الأمة بالعودة عنه ظهر 10 يونية 1967 ــ وفيما بعد تعزيزا وتوثيقا للحقيقة ودرسها: بيان 30 مارس 1968 . وفي هذه الوثائق الثلاث ونصوصها مشهورة، تحدث «جمال عبد الناصر» عما جري بأمانة وتحمل مسئوليته بشرف ــ وقَبِلَ مقتضياتها مقتنعا. وفي خطابه إلي مجلس الأمة ظهر 10 يونية 1967، فإن «جمال عبد الناصر» قال بالحرف: «إنني مقتنع بالأسباب التي بنيت عليها قراري (بالتنحي عن السلطة)، وفي نفس الوقت فإن صوت الجماهير بالنسبة لي أمر لا يرد، ولذلك فقد استقر رأيي علي أن أظل في موقعي حتي تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من إزالة آثار العدوان، علي أن يعود الأمر بعد هذه الفترة إلي الشعب». كان ذلك ما قاله، وأعرف بيقين أنه كان صادقا فيه، بل أزعم أنني أعرف كيف كان ترتيبه لما بعد إزالة آثار العدوان. وباختصار ــ علي الأقل في هذه المناسبة ــ فقد كان مصمما علي أنه ــ بعد تحقيق هذا الهدف (ومعه استكمال بناء السد العالي رغم ضغوط حرب الاستنزاف) ــ لابد أن تقوم في مصر شرعية من نوع مختلف، وكان حسابه أن الشعب بموقفه في تحمل المسئولية والقبول بتبعات استمرار المقاومة، أثبت أن طاقته تجاوزت شرعية الثورة، وشرعية قيادتها معا. ومع أنه اعتبر ذلك في جزء منه نجاحا يحسب لها ــ فإنه في نفس اللحظة أدرك أن دوره قارب نهايته، وأن عليه بعد إزالة آثار العدوان أن ينسحب من الصورة، تاركا الأمة والتاريخ معا لحركة التقدم الطبيعي ــ وتاركا سجله الكامل لأجيال قادمة تحقق فيه وتدقق وتوازن وتحكم علي تجربته في مجملها ــ مبدأ وتنفيذا، فكرا وفعلا ، آفاقا وعصرا. [ 3 ] وعندما جاء «أنور السادات» علي طريق «عبد الناصر» (كما قال بنفسه) ــ فإنه ظل يواصل العمل داخل تلك الشرعية المؤقتة المرهونة بمهمة محددة هي إزالة آثار العدوان، وقد تحمل «أنور السادات» مسئوليته في ظروف بالغة الصعوبة والحرج. وكانت شرعية يوليو ــ ما بقي من أصلها أو ما أُضيف إليها مؤقتا ــ قاعدته ظهر يوم 6 أكتوبر 1973 حين أصدر قرار الحرب، وعندما تحقق ذلك العبور للجسور، وتمكنت الجيوش العربية لمصر وسوريا ــ يدعمها تحالف عربي ودولي واسع ــ من إحراز ذلك النجاح المشهود بعد ظهر يوم 6 أكتوبر، فإن شرعية يوليو ــ ما بقي من الأصل وما أُضيف إليه ــ أدت مهمتها، بشهادة ما رآه وزير خارجية الولايات المتحدة «هنري كيسنجر» وقدره وسجلته علي لسانه محاضر محادثاته السرية مع قادة إسرائيل (وهذه المحاضر منشورة بنصوصها ضمن وثائق زمنها) ــ وفيها قوله لقادة إسرائيل وبينهم «جولدا مائير» و«موشي ديان» و«ييجال آللون» «أن العرب أحرزوا نصرا استراتيجيا يعطيهم حق أن يطلبوا وأن يحصلوا علي انسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل من كل الأرض العربية المحتلة بعد 4 يونية سنة 1967، كما أنه ليس أمام إسرائيل غير ترتيب نفسها علي هذه الحقيقة والانصياع لحكمها». والشاهد أنه من طبيعة الأشياء والبشر أن كل رجل لا يكفيه أن يكون تكملة لصفحة، وإنما طموحه الإنساني أن يبدأ من رأس صفحة، فإذا كان معه إنجاز علي مستوي أكتوبر 1973، إذن فإن الرئيس السادات كانت لديه بالفعل إمكانية ــ وأهلية ــ فتح صفحة من أولها ــ علي شرعية جديدة. وقد مضي الرئيس السادات يؤسس لهذه الشرعية الجديدة، برؤية مختلفة للهوية، ومصدر مُغاير للمرجعية. ــ كانت الهوية في رؤيته مصرية. ــ وكانت المرجعية في تقديره توجها إلي نوع من الرأسمالية عُرف باسم الانفتاح. ــ وجاءت بعد ذلك ــ وهو منطق الأشياء ــ نقلة في الساحة السياسية الداخلية من تنظيم واحد لما سُمي تحالف قوي الشعب العامل ــ إلي إنشاء ثلاثة منابر مختلفة سُميت يمينا ويسارا ووسطا. ــ وفي نفس الوقت كانت مرجعية السياسة الخارجية للشرعية الجديدة ــ ما رآه الرئيس «السادات» ــ صحبة مع المتقدمين عن طريق علاقة خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية ــ تتبعها إمكانية صلح مع إسرائيل، يبدأ منفردا إذا اقتضي الأمر، ويلحق به الآخرون حين يريدون ــ أو حين يقدرون! وهنا كان مأزق شرعية أكتوبر، لأن ما وصلت إليه في رؤية الهوية وفي سند المرجعية لم يكن متسقا مع الواقع في «شرعية أكتوبر» ــ وأوله أن الرئيس السادات توصل إلي قرار الحرب بعد أكثر من ثلاث سنوات في رئاسته ــ وعندما يئس من إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بالمساعدة علي بلوغ حل عادل لأزمة الشرق الأوسط ــ ولم يحقق مطلبه رغم كل ما حاول بسبب الانحياز الأمريكي لإسرائيل ــ وحين وصل الرجل إلي لحظة الحسم فإنه تحمل مسئولية الحرب، وكذلك جاء قراره الشجاع بقبول المخاطرة. ثم حدث أن الرئيس «السادات» ــ وعند توقف إطلاق النار ــ اعتبر أن 99% من أوراق حل أزمة الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة الأمريكية وبدا ذلك للوهلة الأولي مفاجئا ــ فإذا أُضيف إليه أن حرب أكتوبر كانت عملا مشتركا مع سوريا، وتحالفا عربيا أوسع، ثم إنها كانت بالكامل سلاحا سوفيتيا ــ فقد وقع تناقض بين النتائج والمقدمات! وزاد علي ذلك في شأن المرجعية تناقض آخر، مؤداه أن القطاع العام المصري (وهو قاعدة التنمية التي قام بها الشعب المصري في ذلك الوقت) ــ كان الركيزة الاقتصادية التي تحملت تكاليف وأعباء إنجاز أكتوبر ــ لكنه عندما جاءت شرعية أكتوبر تعيد حساب مرجعيتها، فإن الذين مشوا بشجاعة علي جسور العبور في أكتوبر لم يكونوا هم الذين نالوا جوائز النصر. ثم كان أن شرعية أكتوبر أصابها ــ بدورها ــ شرخ خطير يومي 18 و19 يناير 1977، فيما عُرف «بمظاهرات الطعام» ــ ذلك أنه حين يعجز أي نظام عن إقناع شعبه بوسائل السياسة ــ وهو صاحب المبادرة فيها، وبوسائل الإعلام ــ وهي رهن إشارته، وبوسائل البوليس ــ وهي تصدع بأمره، ثم يضطر لاستدعاء القوات المسلحة في مواجهة جماهير تطالب بحقها في الخبز بعد تضحياتها بالدم ــ فإن شرعية هذا النظام تصاب بضربة شديدة. والراجح أن الرئيس «السادات» ــ رغم أنه أطلق علي المظاهرات وصف «انتفاضة حرامية» ــ كان يملك من الذكاء ما جعله يستشعر الحقيقة في ضميره وإن أنكرها علي لسانه، وقد فكر بكل جهده في ترميم شرعية عهده، وتوصل إلي أنه يستطيع بوعد السلام أن يستعيد حلم الرخاء، وكان ذلك في الغالب دافعه إلي مبادرته الشهيرة بزيارة القدس بعد ثمانية شهور من نفس سنة 1977 ــ وأمله أن هذا الاختراق الصاروخي كفيل بأن يكسر آخر حاجز بينه وبين أمريكا المتقدمة، بما يضعه في حساباتها وسياساتها علي قدم المساواة مع إسرائيل. ومن سوء الحظ أن الذين لم يتركوا للرئيس «السادات» غير خيار الحرب، تركوه وحيدا ــ في خيار السلام، وكذلك استحكم المأزق. ومن المفارقات المحزنة أن ذكري تأسيس شرعية أكتوبر، أصبحت سنة 1981 يومها الأخير. ومع ذلك فإن أحداث ذلك الخريف الغاضب من زمن «أنور السادات» بما فيها تلك النهاية الحزينة لحياته ولشرعية أكتوبر ــ لا يصح أن تكون وحدها حساب تاريخه، فقصة كل رجل كتاب كامل وليست فصلا واحدا من كتاب، حتي وإن كان ذلك الفصل ذروة المأساة. الصورة الرابعة كانت الصورة الرابعة لرجل آخر شاء تقديم نفسه بطريقة لا تلحقه بما قبله، وعندما سئل كان حرصه علي التذكير باسمه ــ كاملا ــ ثلاثيا (محمد حسني مبارك)، لكي ينبه مبكرا إلي أنه ليس خلفا لسلف من يوليو أو من أكتوبر. وكان ذلك الحرص من جانبه ــ تأكيدا مُضافا لمنطق أن مرحلة الانتقال تنسب شرعية الرجل الواحد إلي قيمة منجزاته. والحاصل أن تلك الصورة الرابعة في مرحلة الرجل الواحد بدأت واستمرت وعدا وعهدا بالتقدم نحو الشرعية الدستورية والقانونية. وربما أن التطورات والمتغيرات في الوطن وفي العالم وفي الإقليم عوقت وعطلت، وتسببت في تأخير يمكن فهم بعض دواعيه: * بين الدواعي أن الصورة الرابعة انتقلت إلي موقع الصدارة من خلال عاصفة نار ودم تسبب فيها صدام بين النظام وبين عناصر تعصب ديني مقاتل يتصور علي أحسن الفروض أن من حقه أن يسوق الناس إلي الفردوس بتصويب السلاح إلي صدورهم أو ظهورهم! * بين الدواعي أن ذلك الانتقال جري في أجواء دولية ملبدة بضباب آخر معارك الحرب الباردة ــ وهي المعركة التي وصفها الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» بالمعركة ضد «امبراطورية الشر» (كان الشر أيامها سوفيتيا والآن أصبح الشر عربيا أو إسلاميا!). * بين الدواعي أيضا أن الإقليم راح يشهد أحوال وأهوال حروب أهلية في لبنان، والسودان، واليمن، والجزائر ــ إلي جانب حربين شاملتين في منطقة الخليج العربي بدأتا باقتتال داخلي بين الأطراف المباشرين ثم حلت النهاية طوق حصار علي الجميع فرضته قوي كبري. وهكذا فإن كثيرين من ذوي الرشد ساورهم ظن أن الصورة الرابعة تلزمها فسحة وقت: * من ناحية لأنه في أوقات الاضطراب يكون البطء أسلم من الاندفاع، ويكون احتمال ضياع فرصة ــ أكثر أمانا من تحمل مخاطرة. * ومن ناحية ثانية لأنه تبدي لكثيرين أن الصورة الرابعة في حاجة إلي وقت تظهر فيه توجهاتها، لأن خلفية تلك الصورة كانت من الأصل بعيدة عن ألوان السياسة ــ وتلك في ظروفها حكم قانون. وهكذا بدا «الانتظار» أدعي للسلامة ــ لكن ما حدث بعد ذلك هو أن «الانتظار» تحول من سد فجوة إلي طبيعة سياسة ــ كل شيء فيها مؤجل وأي تغيير عليها لا داعي له. فإذا اشتدت المطالبات وزادت الضغوط فإن المسموح به يجيء حلا وسطا يكرس الانتظار أكثر مما يسمح بالانطلاق. ومثل ذلك وقع حتي في القضايا الكبري. ــ بمعني أن الهوية بدت في عديد من الأحيان ملتبسة ــ فلا هي وطنية تلزم حدودها، ولا هي قومية تحمل مسئوليتها. ــ ثم إن المرجعية ترددت في خياراتها الاجتماعية ــ فلا هي مرجعية التنمية الشاملة ولا هي مرجعية المبادرة الفردية، (وللإنصاف فقد كانت هناك محاولة للخروج من هذه الحيرة بجهد واضح في مشروعات البنية الأساسية علي انتظار أن يجيء فصل الخطاب، وأخيرا جاء الترياق بالوصفة الجاهزة لصندوق النقد الدولي.) ــ ونفس الشيء تكرر حيال مرجعية السياسة الخارجية ــ بمعني أن 99% من أوراق الحل في أزمة الشرق الأوسط ومستقبله بقيت في يد الولايات المتحدة ــ لكن ذلك صاحبه شعور بالحرج من واقع تزايد انحياز الولايات المتحدة لإسرائيل. وفي موقف الانتظار الذي طال ــ تداخلت الثوابت والمتغيرات. ونسي البعض أن الثوابت هي التي ترسي قواعد الاستراتيجية العليا للدولة، وأن المتغيرات ترسم السياسات الآنية لها. وإذا أصبحت الثوابت متغيرات وأصبحت المتغيرات ثوابت ــ فقد غامت الرؤي وغابت المصالح الحيوية للأمة. ومع مثل هذا الخلط في المعايير يصبح السلام ــ وليس الأمن ــ مطلبا استراتيجيا، وتصبح مائدة المفاوضات ــ وليس نتائجها ــ غاية في حد ذاتها! علي أن هذا التداخل والخلط زاد مقداره بسبب طوارئ تزاحمت وأحاطت بالشأن المصري. * الطارئ الأول: أنه نتيجة اعتبارات مختلفة، أن إدارة الموارد الاستراتيجية المصرية في المنطقة تناقص تأثيرها علي نحو يستدعي القلق، فمصر تبدو طالبة أكثر منها مطلوبة ــ قاصدة أكثر منها مقصودة، وذلك لا يريح. وهنا فإن تغطية نقص الفعل بزيادة الكلام لا يحل مشكلة ــ لأن الأدوار لا تقاس بما يدعيه طرف عن نفسه وإنما تقاس بما يعترف به الآخرون! * والطارئ الثاني: أن هناك قضية قديمة جديدة ــ ممزوجة بمياه النيل ــ عادت تفرض نفسها بإلحاح متجدد ينضاف إلي قيمتها الأصلية، وتلك هي علاقة مصر بالسودان، وهذه قضية تعرضت لأساليب متعددة في التعامل معها، وبصرف النظر عن التفاصيل، فإن التطورات في السودان تستدعي نظرا أكثر تركيزا وأوسع فهما. * والطارئ الثالث: أن هناك صمتا يبدو ثقيلا ــ إزاء خطر زادت وطأته ملاصقا للحدود الوطنية، ينادي بأنه ليس في مقدور مصر ــ بالتزامها القومي أو بدونه ــ أن تقبل علي جوارها تفوقا في المجالات: العسكرية والعلمية والتكنولوجية ــ تختل به موازين القوة علي هذا النحو، فذلك وضع لم تعرفه مصر من قبل علي طول تاريخها، وإذا كانت تحتاج إلي درس فيه (رغم أن جوارها إسرائيل حادث مستجد) فعليها مراجعة تجارب التاريخ مما كان في أوربا (بين فرنسا وألمانيا) ــ وفي آسيا (بين الصين واليابان) ــ وقريبا منها في البحر الأبيض (بين تركيا واليونان) ــ ثم تقرر ــ دون عصبية لا تقفز فوق الواقع ولا تخضع له ــ أن فجوة القوة علي حدودها يستحيل قبولها أمرا مسلما به ــ وأن تلك الاستحالة ــ وليس غيرها ــ هي تحدي القرن الجديد. * والطارئ الرابع: أن إسرائيل بما تقوم به في المنطقة وعلي نطاقها المباشر أو الأوسع، لم تعد بعيدة عن ذلك الحلم الذي تصوره مؤسس دولتها «دافيد بن جوريون»، وهو حلم يسعي إلي حصر مصر وراء حدودها ــ مع إطلاق يد إسرائيل في مشرق العالم العربي ــ ومن سوء الحظ أن مشاهد هذا الحلم المجنون تتوالي علي خط الحدود المصرية ذاته ــ واصلة إلي قطاع غزة ــ نافذة إلي قرية رفح المقسومة إلي نصفين بين مصر وفلسطين ــ ثم لا يستدعي ذلك وقفة لازمة ــ بالضمير علي الأقل. * والطارئ الخامس: أنه جري عدوان متوحش علي حُرمَة المال العام، وفاحش علي أمانة النظام المصرفي، وهذا العدوان المزدوج أهدر الحقوق واستباح القيم، وألحق أشد الضرر بالاقتصاد الوطني ــ فضلا عن تأثيره علي الضامن الأخلاقي والقانوني لهذا الاقتصاد الوطني ولغيره من شئون المجتمع. * والطارئ السادس: أن هناك بينات تشير إلي أن الدور الثقافي المصري يتراجع، وذلك مثير للشجن، فقد كان لمصر دائما ــ حتي بغير العنصر السياسي وأدائه ــ إسهام ثقافي خلاَّق ومُلْهِم لم تشحب أنواره. ومن الحق أن أضيف أن مكتبة الإسكندرية الجديدة تستطيع أن تكون شعاعا في سماء رمادية عندما تقدر طاقة الفنار علي اختراق كتلة المعمار. * والطارئ السابع: أن ذلك تزامن في التوقيت مع قضية خلافة تنتظر الحسم، لأن رئاسة الجمهورية الحالية قاربت مدتها الدستورية بعد أربع فترات تناسخت ــ بدأت في 14 أكتوبر 1981 وتتصل بإذن الله إلي 14 أكتوبر 2005 ــ ولم يعد ممكنا لهذه الفترات بحكم الطبيعة أن تزيد. ومعني ذلك أن الغد أحد احتمالين: إما صورة خامسة تتكرر بها الصور علي نحو ما، أو أنه ــ إذا صدق الوعد والعهد ــ باب مفتوح لتطور صحي تستقيم به الأمور وتستقر الحقوق. وكل تلك طوارئ جادة لا تُعالج بلصق الصور، ولا بصخب الاحتفالات. وفي محصلة ذلك ومغزاه أن مصر الآن ــ وليس غدا ــ في حاجة إلي رؤية للهوية أمينة ــ وإلي سند في المرجعية أصيل ــ وإلي شرعية تؤسس لزمن، يستحيل قبوله امتدادا متكررا لشرعية الرجل الواحد ، أو لدعاوي حزب يعتبر نفسه ديمقراطيا بدليل تزاحم الأجنحة داخله، وبشاهد تجمعات تظهر علي هامشه ــ تحاول إثبات وجودها ــ دون وسيلة لإبراز ذلك إلا نشر صحف يومية أو أسبوعية! ومن المحقق أن الوقت حان ــ وزيادة ــ للانتقال إلي الدرجة الأعلي في مراحل الشرعية ــ أي الشرعية الدستورية والقانونية. لأن مصر بكل ما حققت، تجاوزت ــ وينبغي لها أن تتجاوز ــ مرحلة الشرعية الأبوية التقليدية (وفق مقولة فيبر)، ثم إنها اجتازت كذلك شرعية مرحلة الانتقال وفيها دور الرجل الواحد، وقد جمعت في تلك المرحلة ألبوم صور يكفيه ما فيه، ولا يحتاج يقينا إلي خامسة، خصوصا إذا لم يكن لهذه الخامسة ما يستدعيها من مطالب ثورة ــ أو حتمية حرب ــ أو مفاجأة اغتيال. وفي تلخيص مختصر فإن ما جئت لأقوله اليوم ــ ينحصر في نقطتين: * نقطة تتعلق بما كان ــ مؤداها أن تلك الخمسين سنة لم تكن هوية واحدة أو مرجعية واحدة ــ أو شرعية واحدة، وإنما كانت عددا من التجارب أعطت كلا منها ما عندها بقدر ما استطاعت في حدود تفسيرها للتاريخ وللعصر، وقد يمكن القول بأن تلك التجارب عَلَّمَت وأضافت، وتلك قيمة التجربة. * ونقطة ثانية تتعلق بما هو كائن، ملخصها أن الغد لا يقدر ولا يملك أن ينتظر صورة خامسة تزيد علي ألبوم الصور السابقة، لأن تحديات زمان جديد لا تحتمل استراتيجية الانتظار وسياسة التأجيل. والآن فإن المشاركة في حوار ــ والتوصل جماعة إلي قرار ــ هو القضية الأعظم التي تستحق أن نقصد إليها ونلتقي حولها في السنوات الثلاث من فترة الرئاسة الحالية، مُسلمين أنها قضية لا يحق لأحد ــ حكما أو حزبا ــ أن يدعي فيها بوصاية أو باحتكار! وربما أن الوقت قد حان للاتفاق علي عدد من الشواهد لم يعد ممكنا ولا جائزا إنكارها: أولها: أن مجرد التواجد في الحكم ليس كافيا في حد ذاته لإضفاء الشرعية علي أي تنظيم أو نظام. ثانيا: أن القعود الحذر طول الوقت يتحول إلي حالة من الجمود، تهدد مطلب التجدد سواء في الأفكار أو في السياسات أو في حركة تتابع الأجيال ــ دون إقرار بأن الاستقرار يتحقق بالتواصل مع الزمن وليس بتجبيس كل شيء علي حاله وكل رجل في وظيفته! ثالثا: أن مرجعيات مصر في الداخل والخارج غير واضحة، وعلي الأقل فإنها ليست مسنودة بقواعد مرئية يمكن قياسها وحسابها ــ ومن ثم التعامل معها بأمان. رابعا: أن هناك تناقضا في الأداء الرسمي بين زهو الكلمة وتواضع الفعل، وهذا التناقض أنتج فجوة مصداقية أوصلت إلي إحباط شبه عام. وخامسا: أن أوضاع الإقليم وأوضاع العالم تواجه مصر بما لم يعد في مقدورها تأجيله أو تحويل النظر عنه أو الادعاء في شأنه سواء أمام النفس أو أمام جماهير تجد نفسها باحثة في فضاء الآخرين لتعويض فراغ تحسه حولها. وكل تلك أسباب تستوجب حوارا جادا ــ واسعا ــ عميقا ــ صافيا ــ شفافا خلال السنوات الثلاث الباقية من مدة الرئاسة الحالية، حتي يستطيع الوطن أن يرسم خريطة متجددة لحياته ــ في إطار موضعه وموقعه ــ متناسبة مع أزمنة متغيرة تحركها أشواق للرُقي غير محدودة. وتتداعي في هذا السياق ملاحظة جاء موضعها، وذلك أن همسا شاع أخيرا حول اقتراح بتوريث السلطة في مصر. ومن الحق والإنصاف أن يسجل بأمانة ــ واعترافا بالفضل ــ أن المعنيين بهذا الموضوع مباشرة ــ أبدوا فيه رأيا قاطعا ومسئولا. فقد عرض رئيس الجمهورية في كلمات لا تحتمل التأويل، ونبرة حزم لا يظهر عليها تردد ــ نقطتين: ــ الأولي: أن مصر بلد يختلف عن غيره من البلدان، فلا هو وطن طائفة أو قبيلة أو عشيرة أو عائلة تلح عليها فكرة توريث السلطة لسبب أو لآخر. ــ والثانية: أن النظام الجمهوري بطبيعته وفلسفته لا يعرف «توريث السلطة» أيا كانت الحجج. زاد علي ذلك أن الوريث الذي تردد اسمه في حديث الخلافة أبدي هو الآخر في هذه المسألة رأيا واضحا وبينا، قائلا بأجلي عبارة أنه لم يفكر ولا يفكر في أي منصب تنفيذي. وذلك كلام يليق بالثلاثة: النظام ــ والرئيس ــ والابن ــ (والوطن بالطبع قبل الثلاثة). وبالرغم مما سلف فإنه في مناسبة انعقاد المؤتمر الأخير للحزب الحاكم، عاد اللغط مرة أخري حول ذات الموضوع. ومع أنني أعرف أن معظم اللغط السياسي في مصر منفلت ، فإنه ــ قد يكون مناسبا ومن باب التَحَوُّط ــ أن يستعيد الكل ما قاله الأب ــ صريحا، وما نفاه الابن ــ قاطعا. وأُضيف للحق أن كل ما أسمعه عن الابن المعني بالأمر يثني عليه ويشهد له ــ إلا أن المحاذير في مثل هذا الموضوع ظاهرة، وفيها ما يعكس علي المستقبل ظلالا ــ لا هي تنفعه ولا هو يحتاجها. والحقيقة أن التاريخ لا يتواصل ولا يتقدم بالتلكؤ أو التزيد، وإنما يتقدم التاريخ ويتجدد بمقدار ما تستطيع الأمم والشعوب أن تحدد من رؤاها وطموحاتها، وبمقدار ما توظف من مواردها ووسائلها، وبمقدار ما تحشد من فكرها وإرادتها، وبمقدار ما تستوعب من حقائق وأدوات عصرها، وبمقدار ما يتوافر لها علي طول الطريق من استنارة وعزم في إدارة شئون حياتها موصولة بزمانها وعالمها. وهنا تزيد الحاجة إلي المشاركة في الحوار والقرار. وإذا كان لأحد أن يعرض في هذا الأمر اجتهادا، فلعلي أتجاسر وأقترح أن يكون المنطلق ــ مشروع تصور مستقبلي تطرحه رئاسة الدولة، ويكون من حوله مدار الحوار ومجاله ــ حتي يتوصل إلي هدفه في فسحة وقت تكفيه: ــ مشروعا يقدم تصورا لشكل وخطوط وإجراءات الانتقال المقبل بأكبر قدر ممكن من التحديد والتفصيل حتي لا يفاجأ أحد بأن المواقيت حلت علي حين غفلة، وأن الضرورات حينئذ تبيح المحظورات! ــ مشروعا يطرح أسسا وأهدافا وضمانات يتم علي أساسها الانتقال ــ (آخذا في اعتباره أن المطلوب ليس نقلة من رجل إلي رجل وإنما من عصر إلي عصر ــ أي من شرعية مرحلة الانتقال إلي الشرعية الدائمة وبالتالي: من الفرد إلي الدستور ومن الصورة إلي القانون). ــ مشروعا يستبعد الإحالة إلي الدستور القائم بمقولة أن بنوده فيها ما يتكفل بالمطلوب، لأن نصوص ذلك الدستور فيها من الثغرات أكثر مما فيها من الضمانات. ــ مشروعا يرسم الطريق ويختار المعلوم، ولا يترك للارتجال ثغرة ينفذ منها المجهول في زمن لا يتحمل العثرات، ولا ينتظر المصادفات ولا يقبل مناورة تؤخر جواب كل سؤال إلي الدقيقة الأخيرة من الساعة الأخيرة، ثم تضيع الفرص ومعها حق الاختيار. ــ وبالزيادة علي ذلك، مشروعا يعطي للأمة مثالا حيا يقدمه وطن من أوطانها تَعَوَّد طول عمره أن يكون مهد البدايات، وراسم الخرائط، وكاشف الطرق. بقي أخيرا نداء ورجاء: ــ من فضلكم تذكروا أن الأحلام تختنق داخل الغرف المغلقة كما أن مطلب الديمقراطية لا يدير حواراته ولا يصدر قراراته همسا لا يسمعه الناس! ــ من فضلكم لا تبخلوا علي القلوب والعقول بفرصة يتفتح فيها الأمل يجدد عزما ويولد طاقة فعل. ــ من فضلكم لا يعرقل أحد أو يعطل بما يكلف غاليا وعزيزا. ــ من فضلكم لا لزوم لكي يتنازل طلب الحوار إلي جدل مراوغ ــ مستهتر أو مستكبر. ــ من فضلكم دعوا المستقبل يتحرك بحرية، ودعوا المستقبل يمر بأمان، ودعوا المستقبل يبدأ الآن قبل أن يفوت الأوان. شكرا لكم ــ وسلمتم علي الدوام.

المطلوب ليس نقلة من رجل إلي رجــل. وإنما مــن عصر إلي عصــر. أي من شرعية مرحلة الانتقال إلي الشرعية الدائمة. وبالتالي: من الفرد إلي الدستور.. ومن الصورة إلي القانون

مصر الآن ــ وليس غدا ـ في حاجة إلي رؤية للهوية أمينة ـ وإلي سند في المرجعية أصيل ـ وإلي شرعية تؤسس لزمن، يستحيل قبوله امتداد متكررا لشرعية الرجل الواحد، أو لدعاوي حزب يعتبر نفسه ديموقراطيا

من قبل الثورة ـ وبعدها ـ وحـتي الآن، فليس مــن باب التجـاوز أن يقــال أن ما عاشه العالم العـربي ظل محصورا في نوعين أو إطارين من الشرعية ينتظران ثالثهما

الغــد لا يقدر ـ ولا يمــلك أن ينتظــر صــورة خامسة تــزيد عـلي ألبـوم الصور الســابقة لأن تحـديات زمن جديد لا تحتمل استراتيجية الانتظار وسياسة التأجيل
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة