بحث فى رياضيات المنطق ..هـــل الوردة البيضاء حقــا بيضــــاء؟



أنا غريب على ميدان الفلسفة، حيث إن تخصصى هو الرياضيات والإحصاء، هكذا تلزمنى الأمانة أن أقول ذلك، لكن إذا عجبتم أن يقتحم هذا الغريب ميدان الفلسفة الذى أفنى فيه المتخصصون أعمارهم فاذكروا أولاً أن الغريب قد يرى ما لا يراه صاحب الدار، لأن الجدة والغربة تفتح باصرته على ما قد تُسدل الألفة عليه حجابًا، فلا يثير دهشة ولا تساؤلاً، هكذا على حد تعبير الدكتور ماهر شفيق فريد الأستاذ المخضرم للأدب الإنجليزي، فى كتابه الممتع «تساعية نقدية» الصادر عن مكتبة الآداب، إنه رغم الحدود الفاصلة بين تخصصه وهو الأدب بصفة عامة والفلسفة، فإن هناك أرضا مشتركة بينهما، كذلك أنا أقول إنه رغم الحدود الفاصلة بين الرياضيات والإحصاء الرياضى وبين المنطق والفلسفة، فإن هناك أيضًا أرضًا مشتركة بين التخصصين.
كتب هذا البحث سنة 2002، ووجه الجدة فيه أنه يبين الحركة الجدلية أو العملية الجدلية بين الإنسان وأى عالم ما، سواء كان العالم الكبير أو بتعبير الفيزياء الحديثة: «العالم الماكروسكوبي» أو كان العالم المتناهى فى الصغر «العالم الميكروسكوبي» مثل عالم الذرة مثلاً.
هذا البحث يتصدى لتيار من الفكر الفلسفى والمنطقى (مثل فلسفة الوضعية المنطقية مثلاً) الذين يعالجون مسائل المنطق سواء كانت مبادئ المنطق (المنطق الصورى طبعًا) أو قضاياه بمعنى أنه ليس هناك علاقة تربطها بالعالم، بمعنى أن الأصل فى تأسيسها هو تفاعل الإنسان مع العالم ــ هذا جلى لكل من قرأ للدكتور زكى نجيب محمود الذى يعتبر أكبر مروج لهذا المذهب (الوضعية المنطقية) فى العالم العربى كتبه: «المنطق الوضعي» الجزء الأول. و«خرافة الميتافيزيقا» أو «موقف من الميتافيزيقا» وهو الكتاب نفسه مع تعديل الاسم، أو قرأ للدكتور محمود زيدان كتابه فى فلسفة اللغة الذى اعتمد عليه كاتب هذه السطور فى عمل هذا البحث.
وأخيرًا أود أن أنبه القارئ إلى أنى عندما قمت بتشبيه عقل الإنسان وحواسه بجهاز كمبيوتر محمل كى يعمل بثلاث لغات مثل الكوبول والبيسك والباسكال، وشبهت العالم بأنه عبارة عن برنامج مكتوب بلغة الباسكال، وقلت إننا إذا أدخلنا هذا البرنامج المكتوب بهذه اللغة (لغة الباسكال) فإن الكمبيوتر سيبدأ فى العمل وفقًا لقواعد لغة الباسكال، وأننا لن نعرف أنه يمكنه العمل بلغة الكوبول أو البيسك، إلا إذا أدخلنا له برنامجا مكتوبا بأى من هاتين اللغتين، أرجو أن أنبه القارئ إلى أن هذا التشبيه خيالى لتوضيح الفكرة ليس إلا، لأننى أعرف كما يعرف القارئ أن أى كمبيوتر له برنامج تشغيل مثل ويندوز Windows يمكن عن طريقه معرفة قدرات الكمبيوتر، إلا أن ذلك كما قلت مجرد تشبيه خيالى ليس إلا.

سنحاول فى هذه الدراسة أن نبين أن قوانين المنطق (أو مبادئ المنطق أو قوانين العقل) التى هى قانون عدم التناقض وقانون الثالث المرفوع وقانون الهوية. هى قوانين تفرضها طبيعة التفاعل بين الإنسان بعقله وحواسه مع الحياة بأحداثها وطبيعتها.
من المعروف أن فكرة السلب فكرة أساسية فى المنطق، لأننا يمكننا أن نقول عن طريقها إن قضية ما صادقة، وقضية أخرى كاذبة، نقول إذن إما أن تكون القضية صادقة أو كاذبة، وهذا هو التعبير عن قانون الثالث المرفوع. كذلك نقول إن القضية الواحدة لا يمكن أن تكون صادقة وكاذبة معاً، وهذا هو التعبير عن قانون عدم التناقض. ويمكن القول إن كل قواعد المنطق تعتمد على هذين القانونين(1).
والآن سنبحث فى المبادئ المنطقية (القوانين المنطقية) على وجه العموم ومن الصعب أن نتناول هذه القوانين دون البدء بفكرتين أساسيتين فى الاستنباط هما التضمن IIMPLICATION والصحة المنطقية VALIDITY. لكن هاتين الفكرتين تفترضان منذ البدء فكرة ثالثة هى فكرة الضرورة المنطقية، وتعتمد هذه الفكرة الأساسية بدورها على مبدأى عدم التناقض والثالث المرفوع، ذلك لأننا نقول إن استدلالاً ما صحيح إذا كان لدينا عدة قضايا تتضمن نتيجة أو تلزم عنها نتيجة، وهذا التضمن واللزوم والضرورة آت من أننا نقول إنه من التناقض أن نثبت المقدم وننفى التالي.
وهكذا نعود من حيث بدأنا وهو أن كل قواعد المنطق تعتمد على قانونى (مبدأي) عدم التناقض والثالث المرفوع(2).
يقول د. محمود زيدان فى كتابه (فى فلسفة اللغة) بعد الفقرة السابقة التى اقتبسناها منه: «ليس هذان المبدآن قضيتين تحليليتين، ومع ذلك فهما قضيتان ضروريتان. ليست هذه المبادئ تجريبية أو مشتقة من تجربة وإنما هى مبادئ قبلية ضرورية. قد نكون اكتشفناها فى البدء بتجربة، لكنا حين نصوغها فى قضايا تصبح حقائق ضرورية أو حقائق منطقية خالية من أى مضمون تجريبى ولا تتعارض معها أى واقعة تجريبية».
والآن نبدأ بحثنا مع الاحتفاظ بكل ما قيل فى الفقرة السابقة بدقة: لأن ما سنقوله هو نقد لمعظم ما قيل فيها وإلقاء الضوء على كل ما تتضمنه من أحكام، وذلك عن طريق خطوات فى التحليل نبدأها بالآتي:
1 ــ أداة النفى لا (ليس) هى أساس قانون عدم التناقض وهى ثمرة تفاعل الإنسان مع الحياة:


لنتأمل المثال التالي:

عندما بدأ الإنسان يكون اللغة ويسمى الأشياء المادية رأى وردة بيضاء فأطلق عليها اسم وردة بيضاء (وذلك يتضمن خطوة أسبق وهى أنه أطلق اسم وردة على أى وردة مهما كان لونها)، ثم تصادف بعد ذلك أن رأى وردة حمراء ولم يكن قد سماها وقتئذ حمراء فإنه سيقول عنها إنها وردة ولكنها وردة ليست بيضاء. أى أن علاقة الإنسان بالموجودات المادية ــ بالحياة ــ أجبرته إجباراً على خلق لفظ النفى لا (ليس) فى اللغة العربية، وفى اللغة الإنجليزية NOT، وهكذا فى جميع اللغات بالرموز المختلفة والمفهوم الواحد للنفى حتى يمكن أن نقول: إن ليس = NOT. كذلك دفعه التعبير عن تعدد الأشياء أن يقول هنالك وردة بيضاء ووردة حمراء ونحلة تطير حولهما، أو يقول هنالك أحمد وعلى وحسين ــ هكذا خلق واو العطف والتى هى AND باللغة الإنجليزية، وتساوى رموزاً أخرى فى جميع اللغات الأخرى بنفس المفهوم والمعني.
2 ــ قانون عدم التناقض وصورته:
إنه ليس من الصحيح اجتماع («س» و«لاس») فى وقت واحد:
لو تأملنا هذا القانون الذى هو من إبداع أرسطو المولود سنة 384 ق. م فى مدينة أسطاغيرا STGIRUS وهى مستعمرة يونانية ومرفأ من بلاد مقدونيا ــ نجد أن البشر قد مارسوا هذا القانون فى حياتهم دون أن يدروا قبل مولد أرسطو بألوف السنين. ولتبيين ذلك نضرب المثال الآتى الذى يعبر بالتأكيد عن حادث من أحداث الحياة لابد أن يحدث فى كل زمان وكل مكان:
تصور أن جريمة قتل قد حدثت فى مصر الفرعونية منذ أربعة آلاف عام وهى أنهم قد وجدوا قتيلاً اسمه تحتمس فى بيته وأن الجريمة قد تمت فى الساعة الرابعة بعد الظهر فى يوم محدد من الأيام، وأنهم اتهموا رجلاً اسمه رمسيس بارتكاب تلك الجريمة لأنه قد حدثت مشادة بينه وبين القتيل قبل الجريمة بيومين، وكان رمسيس قد هدده بأنه سوف يؤدبه أى أنه توعده بالأذى نتيجة خلاف فى صفقة تجارية. وبعد أن تم حبس رمسيس أفرجت السلطات عنه بعد شهر لأن التحريات التى قام بها المسئولون عن الأمن قد أسفرت عن أن رمسيس كان بصحبة أحمس وحور محب جالسين على قهوة فى حى بعيد جداً عن منزل وقوع الجريمة من الساعة 2 بعد الظهر حتى السادسة بعد الظهر فاستبعدوا أن يكون رمسيس هو القاتل.. لماذا؟
لأنه من المستحيل أن يكون رمسيس داخل البيت وقت وقوع جريمة وخارج البيت وقت وقوع الجريمة ــ أى (من المستحيل أن يكون رمسيس داخل البيت وقت وقوع الجريمة وليس رمسيس داخل البيت وقت وقوع الجريمة)، (والبيت هنا هو البيت الذى تمت فيه الجريمة أى بيت تحتمس القتيل).
والآن استبدل س بـ (رمسيس داخل البيت وقت وقوع الجريمة) داخل القوسين ( ) تحصل علي:
أنه من المستحيل أن يكون (س وليس س).
أليس هذا هو قانون عدم التناقض الذى ينص على استحالة اجتماع النقيضين.
أبعد كل ذلك يصر المناطقة على أن قوانين المنطق ومن أمثلتها قانون عدم التناقض المشروح آنفاً أنها ليست قوانين تجريبية أو مشتقة من تجربة، وإنما هى قوانين قبلية (أى ليس لها علاقة بالتجربة وصيغت قبل أى تجربة) وضرورية!
أعتقد أننا الآن قد أثبتنا أن قوانين المنطق ليست بأى حال من الأحوال قوانين قبلية ــ يبقى أن نثبت الجزء الأصعب ألا وهو أنها ليست ضرورية أيضاً.
من الواضح أننا بنينا النسق الاستنباطى على أساس اعتماده وإقراره بقانون عدم التناقض، وذلك لأن أمور الحياة وأحداثها تستقيم وهذا القانون ــ لكن ماذا لو أن الحياة كانت حياة مختلفة تماماً، بحيث لا يستقيم معها التفكير بقانون عدم التناقض أو قانون الثالث المرفوع ولتكن الحياة داخل عالم الذرة أو فى كوكب آخر من مجرة أخرى من ملايين المجرات التى تملأ الكون؟
أليس من المحتمل أن تكون هناك قوانين منطق أخرى وربما تكون عكس قوانين المنطق هذه؟
أليس من الممكن أن يكون فى مثل تلك الحالات من المعقول أن نقبل اجتماع النقيضين طالما أننا أثبتنا أن العبرة بطبيعة المحيط (الحياة) بما فيه من سكون وحركة ومكان وزمان وبنية عقلية لا نستطيع أن ندعى أنها أفصحت عن كل مكنونها وقدراتها لأنها لم تستثر إلا من عالم واحد هو عالمنا هذا فكانت حصيلة استجابتها هذا التفكير الذى يعتمد على مثل تلك القوانين الآنفة الذكر. أى أن التفكير بهذه القوانين هو استجابة لمثير هو طبيعة العالم بأحداثه وطبيعة الحواس أيضاً.
ولكى تتضح الصورة أكثر دعنا نشبه العقل والحواس بجهاز كمبيوتر محمل كى يعمل بقواعد عدة لغات ولتكن بيسك وكوبول وباسكال.
دعنا ندخل برنامجا مكتوبا بلغة الباسكال إلى الكمبيوتر (ولغة الباسكال بقواعدها هى العالم فى هذا المثال).
فإنه سيحدث أن الكمبيوتر سيبدأ فى العمل وفقاً لقواعد لغة الباسكال ولن نتبين ما إذا كان الكمبيوتر يمتلك القدرة على العمل بقواعد لغة البيسك أو الكوبول، إلا إذا أدخلنا إليه برنامجا مكتوبا بأى من هاتين اللغتين. هكذا أنا أتصور العقل. أتصور أنه من التعسف أن نعتقل قدراته فى العمل بقوانين لغة واحدة فقط (أى العالم) ونستبعد أن يعمل بقدرات مختلفة قد تكون عكسية للأولى حسب المثير، وفى هذه الحالة سيكون بالتأكيد عالما مختلفا ــ عالما آخر ــ لغة كمبيوتر أخري.
والآن دعنا نستطرد قليلاً ونرجع إلى كتاب فى فلسفة اللغة للدكتور محمود زيدان ونقتبس تلك الفقرة(3):
«إن قضايا الرياضيات البحتة تحليلية ويقينية وصادقة دائماً، ويقوم يقينها فى أنها خالية من أى مضمون تجريبى وأنها ليست مشتقة من أية خبرة حسية وأنها تقوم أيضاً على تحليل معانى الرموز الواردة فى تلك القضايا. تبقى نقطة بالغة الأهمية قال بها الرياضيون والمناطقة المعاصرون فى هذه القضايا، الهدف منها هو التمييز بين القضية التحليلية والقضية القبلية، ولم يكن هذا التمييز معروفاً من قبل، فكل قضية تحليلية هى قبلية مثل قضايا الرياضيات البحتة، لكن هناك قضايا قبلية وليست تحليلية وهى مبادئ المنطق وقواعده، بل إن القول إن قضايا الرياضيات البحتة قضايا تحليلية لا يفسر يقينها، ونفسر هذا اليقين إذا أدركنا أن هذه القضايا تعتمد على مبادئ المنطق. إذا قلنا إن القضية الرياضية البحتة قضية تحليلية على أساس أنها تتضمن تحليلاً لمعانى الكلمات أو الرموز المستخدمة، فهذا لا يكفى لتفسير يقينها. لأننا فى قولنا إن القضية الرياضية البحتة تحليلية لأنها تحلل معانى الكلمات الواردة فى القضية، فهذا يعنى كما يقول وايزمان أى «أنها قضية هوية IDENTITY PROPOSITION» أى يمكن إبدال تصورى الموضوع والمحمول أحدهما مكان الآخر، وإذن يعتمد يقين القضية الرياضية على مبادئ المنطق، بل تصبح القضية التحليلية مبدأ منطقياً، ويقول فريجة أيضاً إننا إذا برهنا على صدق القضية التحليلية نجد أننا أمام تعاريف وقواعد منطقية. وهذا ينقلنا إلى البحث فى سر اليقين فى مبادئ المنطق».
الحجة التى يسوقها محمود زيدان لبيان السر فى اليقين الذى تتمتع به مبادئ المنطق مثل قانون عدم التناقض هو ما ينسب إلى بعض الحروف والكلمات التى تسمى فى المنطق الثوابت المنطقية مثل «لا»، واو العطف «و» (وهما أساسيان فى تكوين قانون عدم التناقض)، «أو» (وهى أساسية مع «لا» فى تكوين قانون الثالث المرفوع)، «إذا»، وما تسمى الأسوار المنطقية مثل «كل»، «بعض»، من قوة منطقية معينة أو استخدام معين(4). بعبارة أخرى يريد د. محمود زيدان أن يقول إن مبدأى التناقض والثالث المرفوع، ومعهما أهم قواعد الاستنباط ومبادئ القياس المنطقى ترجع جميعاً فى جانب منها إلى القوة التى تتمتع بها تلك الحروف والكلمات التى هى الثوابت المنطقية والأسوار المنطقية التى نستخدمها، وذلك يؤكد الصلة الوثيقة بين النحو والمنطق أو بعبارة أوسع بين اللغة والمنطق أو بعبارة أكثر اتساعاً، من وجهة نظرى بين الوجود أو الحياة بأحداثها وتفاعل الإنسان معها الذى هو المسئول عن اختراع الإنسان للكلمة الدالة على النفى «لا (ليس)»، والعطف «و»، «أو» كما شرحنا آنفاً، وأحداث الحياة التى تجبره مع معرفته بهذه الكلمات أن يمارس قانون عدم التناقض وقانون الثالث المرفوع حتى تستقيم الأمور كما يتضح من مثال جريمة قتل تحتمس المشروحة آنفاً.
أى أن سر اليقين وجودى وليس صوريا وأن القوة المنطقية المزعومة للثوابت المنطقية ترتد فى نهاية التحليل إلى تطبيقها ــ بعد أن دخلت فى صورة قانون عدم التناقض الذى مارسه الإنسان دون وعى قبل ميلاد مبدع علم المنطق الأول وهو ــ أرسطو ــ راجع إلى أن أحداث الوجود لا تستقيم إلا وفقاً لتطبيق هذه القوانين بما تحتويه من تلك الثوابت المنطقية ــ أى أن العبرة وجودية والأساس وجودى مادى وليس صوريا فيما يتعلق بسر يقين مبادئ المنطق مثل مبدأى عدم التناقض والثالث المرفوع.

 

الهوامش:

(1) د. محمود زيدان: فى فلسفة اللغة ص 75 ــ دار النهضة العربية ــ بيروت ــ لبنان.
(2) نفس المرجع السابق ص 75.
(3) نفس المرجع السابق ص 74.
(4) نفس المرجع السابق ص 75، 76.

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة