حدث في مارس 1944 الميلاد والموت.. والكاتب الذي اختفي



أنطوان دي سانت اكزبيري Antoine, De, Saint-Exupery 1900/1944 أديب فرنسي عمل طيارًا وربطه عمله بالأرض حينما كان يراها من طائرته مجردة. وبالناس حينما ابتعد عنهم فازداد شوقا وارتباطًا بهم. وبالصحراء لأنها هيأت له السكون والصمت ومواجهة الموت في سلام. يتغذي بالشجاعة من وحدة الكون والإيمان. تعرض للموت عدة مرات، وكان في كل مرة لا يفكر إلا في إعادة الكرة حينما تكتب له النجاة. ولكن في مارس عام 1944 لم يعاود الكرة لأنه لم تكتب له النجاة من رحلة استكشافية فوق أرض الجزائر. وذكر منذ فترة أنه عثر علي بقايا طائرة علي ساحل فرنسا المتوسطي، يعتقد أنها كانت للأديب أكزبيري. من أعماله (بريد الجنوب) 1929، (طيران الليل) 1931، (أرض البشر) 1939 وكانت آخر أعماله التي نشرت من بعد اختفائه (القلعة) 1948، انفرد أكزبيري بكتابة قصة رسم صورها بنفسه يعزي فيه الصغار، ويلوم فيها الكبار محاولا تنمية قدرات ومدارك وحس الكبار حتي يصبح في مقدورهم فهم عالم الصغار. اسم القصة (الأمير الصغير) نشرت عام 1943 وأعتقد أنها جديرة بأن نقدمها للصغار في زمن إفساد الصغار، وللكبار في ذكري مرور 60 عاما علي اختفاء صاحبها. كان بيكاسو يقول إنه يتمني أن يرسم كما يرسم الأطفال، بمعني أن يرسم بذهنية وتلقائية الأطفال، وهناك كما يقول (اكزبيري) عالمان. عالم الصغار وعالم الكبار. وإذا أمكن للبشرية أن تدون تاريخ عالم الكبار فإنها رغم كل تقدم لا تستطيع أن تدون تاريخ عالم الصغار، فمشكلة البدء تشابه مشكلة النهاية من حيث الغموض. ورغم أن الميلاد أقل غموضا لأنه يسير مع النمو إلي التفتح والوضوح بمفهوم الكبار، ولكن لا ندري كيف يحسه أو يصفه الذين يولدون. ولا يمكن بالطبع معرفة ذلك، فكما أن لحظات الموت غير ممكنة التدوين، فإن الميلاد والطفولة لا يمكن تدوينها في حينها لنقص طاقات الإدراك، وأدوات التعبير عند الصغار بمفهوم الكبار. ونعرف عدة مذاهب فلسفية للتاريخ اعتبرت في غالبيتها التاريخ، والتأريخ علما، ولكنا نجد (برتراند راسل) يعتبر التاريخ والتأريخ فنا. فعلي المؤرخ في رأيه أن يقرأ، ويقرأ في المرحلة المراد الكتابة عنها. ثم يطرح جانبا مراجعه ويبدأ في الصياغة بعد تمثل المرحلة. وهذا ما انتهجه تقريبا عدة أدباء الآن منهم (أمين معلوف) و(رضوي عاشور). وتعتبر هذه الطريقة هي أفضل ما وصلنا إليه للآن لتمثل حالة الطفولة في التفكير والتعبير. لحظة الموت عاني (اكزبيري) من المشكلتين معا حينما أراد كتابة قصته الفريدة والوحيدة للأطفال والكبار معا... (الأمير الصغير) المشكلة الأولي هي التفكير وفيها الداء برمزية الحوار الطفولي بما يجسم درامية الخيوط الخفية بين الصغار والكبار. والثانية وفيها الدواء وهي التعبير بالرسم المصاحب لكل صفحة من صفحات القصة بما يعقد عروة جميلة بين الأمير الصغير والطيار الضائع في الصحراء. فإذا كان الأول يمثل لحظة البدء بكل معجزاتها، ونقائها، وبساطتها، ووصولها إلي الأعماق والحقيقة في أقل الكلمات، فإن الثاني يمثل لحظة النهاية أو الموت الذي يواجهه طيار هبط اضطراريا في صحراء خالية، بذهنية الكبار... من ذكريات معقدة، واضطراب، وخوف، وتتبع للألم الجسدي حينما تأتي اللحظة الحاسمة.. لحظة الموت. كان (اكزبيري) بارعا ولو أنها كلمة لا تناسب المقام حينما صور لنا هذه اللحظة في قصة أخري أخذ عليها الجائزة الكبري للأكاديمية الفرنسية هي قصة (أرض البشر). تحكي واقعا عاشه الكاتب حينما اضطر إلي الهبوط مع زميله في صحراء عرف بعد نجاته أنها صحراء ليبيا.. «ولم أعد أكتشف أي شيء في نفسي، اللهم إلا جفافا عظيما في القلب. أنا علي وشك الموت ولكن لا أعرف اليأس، وحتي الألم لا أعرفه. وإني لآسف علي ذلك فإني أعتقد أن الألم لو أتي لكان حلوًا كالماء، فإن المرء يرثي عندئذ لنفسه، ويشكو إلي نفسه كما لو كان يشكو لصديق عزيز، ولكن لم يعد لي في الدنيا صديق». نلاحظ في العبارة قدرا من التسليم ينمو في عبارة أخري صاغها في لحظة أقرب للموت من الأخري فيقول «وسرت مرة أخري أمام حقيقة لا أفهمها. اعتقدت أني هالك وأني وصلت إلي أقصي درجات اليأس، ولكن ما كدت أستسلم لمصيري حتي عرفت السلام. ويبدو أن الإنسان يكتشف نفسه في تلك اللحظات، ويصبح صديقا لنفسه، ولا يعود هناك شيء يستطيع التغلب علي ذلك الشعور بالكمال الذي يرضي فينا حاجة ضرورية لم نكن نشعر بها من قبل». تعرض (اكزبيري) للموت مرتين. الأولي في صحراء ليبيا، والثانية في جواتيمالا. وأعطته هذه اللحظات العصيبة تجارب أخري عديدة، وإحساسا صوفيا بدور الإنسان أمام الخطر. فلحظة الميلاد في نظره بسيطة، ولحظة الكبر بسيطة. بل ولحظة الموت بسيطة ما دامت تصل الإنسان بنسيج الأخوة البشرية، وبهذه الأرض التي يراها من طائرته بلا نقاب، وبلا شرايين الطرق الخادعة حين الاقتراب منها. لحظة الموت في الصحراء لا تعني شيئا ما دامت تعطي للوجود كل معني وهي خير من موته في قطار الضواحي الذي يحمل الرجال كل صباح إلي أعمالهم بلا معني وكأنه يردد قول الشاعر الرقيق الراحل صلاح عبد الصبور: أعطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة لقاء يوم واحد من بكارة لحظة البكارة والنقاء أين توجد؟ في نهاية قصة (أرض البشر) يلتقي الكاتب في قطار بعمال بولنديين يتم ترحيلهم من فرنسا إلي بولندا، ويري بين هذه الأكوام البشرية البائسة الغافلة، طفلا (كأنه فاكهة مذهبة ).. (هذا وجه موسيقي، هذا موزار الطفل، هذه هدية جميلة من الحياة. وإن الأمراء الصغار الذين كنا نسمع عنهم في الأساطير لا يختلفون عنه في شيء. فماذا يصبح هذا الطفل لو وجد الرعاية والتثقيف؟.. ما يعذبني هو موزار الصريع في كل فرد من هؤلاء الناس. وليس هناك إلا الأرواح لو هبت علي الصلصال لاستطاعت أن تخلق الإنسان». كتب اكزبيري قصة (أرض البشر) عام 1939، وقصة (الأمير الصغير) عام 1943. اكتشف بها لحظة النقاء في لحظة البدء والطفولة.. لحظة تشابه في طاقتها وعفويتها كافة استهانة الإنسان بالموت نفسه، وكان طبيعيا أن يوجه الكاتب قصته للأطفال، فقد كتبها ورسمها لهم. وإن كان أمله وهدفه أيضا أن تمس رمزيتها العميقة، وألحانها الرقيقة أوتار الكبار المتراخية، فتشدها، وتعيد إليها علي الأقل بعضا من ذكريات ألحان الطفولة ليغني الكبير والصغير قصيدة واحدة.
يبدأ القصة بالاعتذار للأطفال لأنه يقدم قصته إلي صديق من الكبار، ولكنه يستدرك فيقدمها لصديقه عندما كان طفلا. يحكي لنا الكاتب جزءا من ذكريات الطفولة عندما كان في السادسة يمارس الرسم ككل الأطفال. أراد بخياله النقي أن يرسم ثعبانا ضخما ابتلع ذئبا. ولكن الكبار استهانوا برسمه، ونصحوه ككل الكبار بترك الرسم وتعلم مهنة مفيدة.. وتعلم الطيران.. وصار طيارا يجيد الحديث عن البريدج والجولف، ويسعد الكبار بهذه الأحاديث الجادة. حدث ذات مرة أن تعطلت طائرته في صحراء خالية، أخذه الهم والرعب وهو يحاول إصلاحها. وفجأة وفي وسط صمت الصحراء يسمع صوتا طفوليا يقول له: من فضلك ارسم لي خروفا. التفت في رعب ليجد أمامه طفلا له هيئة غريبة ولكن ساحرة. يدور الحوار بين الطيار والطفل. الأول يلح في معرفة كيف جاء إلي الصحراء المعزولة، والثاني يلح في طلب رسم الخروف. يرسم الطيار المطلوب علي عجل حتي يصل إلي إجابة عن سؤاله، ولكنه لا يتبين حقيقة هذا (الأمير الصغير) إلا بين سطور كلامه، فهو لا يحب الاستجوابات بطريقة الكبار. الأمير الصغير سقط أيضا من كوكب صغير يعيش فيه وحيدا، وطبقا للقاعدة الجغرافية التي تجعل نصف الكرة الشرقي من الأرض مشمسا، لحظة ما يكون نصفها الغربي مظلما، فكذلك كوكب الأمير الصغير ولكن في حدود حجمه. وبالتالي يستطيع أن يمارس هوايته ورياضته المفضلة التي أحجم عنها الكبار منذ زمان، وهي رؤية غروب الشمس مرات عديدة وذلك بتغيير مقعده مرة في اتجاه الشرق، ومرة في اتجاه الغرب. في كوكب الأمير الصغير ثلاثة براكين تناسب حجمه، وبالتالي يستطيع أن يستخدم اثنين منها في الطبخ، بينما الثالث خامد، وعمله اليومي الذي يقوم به في همة هو تنظيف الكوكب من الأعشاب الضارة التي يمكن أن تكبر وتصبح نوعا من الأشجار الضخمة (BAOBABS) فتهدد كوكبه بالانفجار. من هنا يكتشف الطيار سر طلب الأمير رسم الخروف. حتي يخلصه من هذه الأعشاب. ولكن هل يأكل الخروف الورود؟ نعم كيف إذن يحمي وردته حبه الوحيد وأنيس وحدته علي كوكبه من الخروف؟ ينشغل الطيار بهمة بطائرته، ويجيب ككل الكبار كيفما اتفق علي تساؤلات الصغار، ولكن أميرنا الصغير طفل من عالم لا يعرف منطق الكبار. يكتشف اللعبة وينفجر في الطيار قائلاً: إنه قد عرف ذات يوم رجلا يقوم بجمع الأرقام دائما ويردد (أنا رجل جاد. أنا رجل جاد) ولكنه لم يعرف في حياته كيف يتأمل نجما، أو يستنشق عبير وردة، أو يحب إنسانا... وحار الطيار أمام عالم العبرات التي انفجرت من عيون أميره الصغير. عرف الطيار إن كوكب الأمير فيه وردة صغيرة هي همه الحقيقي، لقد أعجب بها ذات يوم فأجابت بغرور (أنا فعلا جميلة فقد ولدت مع الشمس) ويأخذها الغرور والغموض في يوم آخر فتطلب أن يحميها من النمور وهي تعلم أنه لا توجد نمور في الكوكب، أو تصطنع السعال وتطلب أن يحميها من الرياح. ويحار الأمير أمام انفعالاتها المصطنعة ويقرر الرحيل عن كوكبه. وقبل أن يكمل قصته لصديقه الطيار يسر إليه قائلاً: (إنني لا أفهم شيئا علي الإطلاق، كان يجب علي أن أحكم عليها بناء علي الأفعال لا الأقوال. كانت تعطرني وتنير لي، فما كان يجدر بي أن أهرب منها أبدا. كان يجب علي أن أدرك حنانها وراء خدعها الواهية، فالوردة متناقضة علي هذا النحو، ولكن كنت صغيرا جدا حتي أعرف كيف أحبها). ودع الأمير وردته دون أن يفهم آخر كلماتها (أنا أحبك، وأنت لم تدرك شيئا بسبب خطئي، وهذا ليس مهما لقد كنت أنت أيضا أبله مثلي.. حاول أن تكون سعيدا). وبدأ جولته يبحث عن السلوي والمعرفة فهبط علي كوكب صغير لا يسع سوي عرش بسيط يجلس عليه ملك مهيب يملأ عباءته الكوكب، ويهوي إصدار الأوامر. ويعجب
الأمير لهذا الملك الذي يحكم كوكبا خاليا، ولكنه يتصور أنه يحكم الكون، ويتحكم فيه بشكل مطلق... حتي غروب الشمس، ويأذن له الملك في أن يطلب رؤية غروب الشمس، ويجيب الملك بأن عليه انتظار اللحظة المناسبة. يضيق الأمير الصغير بهذا الكوكب ولا يغريه منصب الوزير المعروض عليه من قبل ملك يعيش في وهم ويقرر الرحيل مرددا (إن عالم الكبار هذا عالم غريب). يصل إلي كوكب آخر يشغله شخص مغرور يحمل قبعة، ويطلب من الأمير أن يصفق، وكلما صفق رفع قبعته في تحية متواضعة. يضيق الأمير بترديد اللعبة دون معني ويسأل لإنهائها في بساطة لا يري فيها قلة أدب بمنطق الكبار. ماذا يجب عمله لكي تسقط القبعة؟ ولكن المغرور لا يسمعه، فالمغرورون لا يسمعون إلا المديح، ويقرر الرحيل مرددا: إن الكبار بالتأكيد أطوارهم غريبة. ويصل إلي كوكب ثالث فيجده مشغولا بسكير يشرب لينسي.. ينسي العار.. عار أنه يشرب ثم يلوذ بالصمت. ويعجب الامير ويترك الكوكب قائلا: إن الكبار بالتأكيد أطوارهم غريبة جدا. ينزل الكوكب الرابع فيجده مشغولا بشخص ممتلئ منكب علي الأوراق يحمل علي طرف شفتيه سيجارة غير مشتعلة ويردد في أرقام، وحينما يصل إلي خمسمائة مليون يقول للأمير: ألا زلت هنا؟ خمسمائة وواحد مليون من.. لا أدري مطلقا.. أنا مشغول للغاية. أنا جاد أنا لا ألهو بالهزار.. اثنان وخمسة وسبعون. يكتشف الأمير أن رجل الأعمال يعد النجوم، ويعدها لأنه يمتلكها، ويمتلكه لأنه وجدها ليست في ملكية أحد. إنه يستطيع أن يحتفظ بورقة عليها عدد نجومه في البنك. يعجب الأمير الصغير لهذا العمل غير الجاد في نظره، ويقول لرجل الأعمال إنه يمتلك في كوكبه وردة يعتني بها وثلاثة براكين ينظفها دائما، وبالتأكيد أنا مفيد لوردتي وبراكيني، ولكن ما فائدتك أنت لنجومك.. ويرحل الأمير مرددا: إن شخصيات الكبار غير عادية تماما. وكان الكوكب الخامس وأعجبها لا يشغله سوي مصباح ورجل يشعل المصابيح. يقوم الرجل بإشعال المصباح ثم يقول مساء الخير، ثم يقوم بإطفائه ويقول صباح الخير. ويفهم الأمير أن هناك تعليمات للقيام بهذا العمل. وكان الجزء الأول من هذه المهمة في السابق يتم في المساء، والجزء الثاني يتم في الصباح. أما اليوم فالكوكب يدور أسرع وبالتالي علي الرجل أن يقوم بالمهمة كل دقيقة. وينقضي شهر علي حديث الأمير مع رجل المصباح بمقياس الزمان الغابر، أي ثلاثين دقيقة بمقياس زمان اليوم الملتهب. يثير عمل هذا الرجل إعجاب الأمير فإنه الوحيد الذي يهتم بشيء غير نفسه، وتغريه الإقامة عند هذا المتبتل الذي تتاح الفرصة في كوكبه لرؤية غروب الشمس مائة وأربعا وأربعين مرة كل أربع وعشرين ساعة. ولكن الكوكب صغير جدا لا يسع سوي المصباح وصاحبه.. ويرحل الأمير حزينا. كان الكوكب السادس يسكنه عالم في الجغرافيا يمسك دفترا ضخما ويقوم بتدوين معلومات المكتشفين. ويسأل الأمير أن يصف له كوكبه حتي يضيفه إلي علم الجغرافيا. ولا يري الأمير شيئا يثير الاهتمام في كوكبه سوي الوردة والبراكين الثلاثة. ويحزن حين يعلمه العالم أن هذه أشياء لا تدون... إننا نسجل ما هو ثابت فقط ووردتك زائلة. ماذا تعني كلمة زائلة؟ يظل الأمير يردد بعد أن فهم.. وردتي زائلة. ويطلب من العالم أن يستكمل معرفته فيشير عليه بزيارة كوكب الأرض. كوكب الأرض به111 ملكا و7000 من الجغرافيين و 900.000 رجل أعمال وستة ملايين ونصف سكير و111 مليون مغرور. أي نحو مليارين من الكبار. وكان يقوم علي إنارة الأرض قبل اختراع الكهرباء 562.511 رجلا يشعلون المصابيح، كما أن في مقدورنا أن نضغط كل سكان الأرض في أصغر جزيرة بالباسيفيك.. ولكن هل يصدق الكبار؟ أرض البشر هذه اللمحة من (اكزبيري) عن سكان الأرض تجعله يختار لأميره الصغير النزول في الصحراء. فالصحراء يصفها في قصة (أرض البشر) قائلاً: (هذه هي الصحراء تجعل قواعد الحياة المقدسة بين رمالها عالما، فالصحراء التي يحسبها المرء قاعا صفصفا تمثل رواية خفية تهز مشاعر الناس، وليست الحياة الحقة في الصحراء هجرة قبائل سعيًا وراء المراعي، ولكنها جهاد يبذل، وما أعظم الفرق بين نوع الرمال في الأرض الخاضعة، ونوع الرمال في الأراضي الثائرة. وليس كذلك الأمر بالنسبة لكل الناس؟هذه الصحراء البعيدة عن البشر، ولكن لكونها بعيدة فإنها تربط المتأمل بالبشر) يقول أيضا: (فما أنا إلا شخص تائه بين الرمال والنجوم. لم أعد أحس بأي لذة سوي لذة التنفس.. ورغم ذلك رأيت نفسي مفعما بالأحلام). ينزل الأمير الصغير وكأنه رسول إلي أرض البشر، إلي الصحراء، ولكنها الأرض علي أي حال. أرض الكبار. وبكل النقاء، والحب، والبساطة يلتقي بثعبان فيشفق علي هذا الكائن الضعيف الذي يشبه الإصبع، ولا يستطيع أن يذهب بعيدا، ويجيبه الثعبان الذي ورث خبثا من عالم الكبار بأنه يستطيع أن يحمله إلي أبعد مما تحمله سفينة.. (ومن أمسه ارجعه إلي الأرض التي خرج منها، إنني أستطيع أعيدك يوما إذا ما برح بك الشوق إلي كوكبك). ولا يفهم الأمير الصغير هذه الألغاز فيرحل ويصعد جبلا عاليا أملا أن يري الناس من ارتفاعه، ويردد صباح الخير.. صباح الخير. ولا يجيبه سوي الصدي.. صباح الخير.. صباح الخير. ويضيق بهؤلاء الناس الذين لا يعرفون سوي ترديد ما يقال لهم. لا يعرفون الخيال، ولا يعرفون تبادل الحوار. ويلتقي في بستان بآلاف الورود، ويدرك أن وردته ليست فريدة فيبكي، ولكنه يفيق علي صوت يقول (صباح الخير). يلتفت ليتعرف علي ثعلب فيطلب منه أن يلعبا سويا فهو حزين ولكن الثعلب يقول للأمير: أنا لست مستأنسا، فأنا ثعلب وأنت من البشر، والبشر يطاردون الثعلب لأنه يأكل الدجاج. ولكن إذا استأنستني سنكون أصدقاء. ويضيف الثعلب:
إن المرء لا يعرف إلا الأشياء التي يستأنسها، فالناس ليس لديهم وقت لمعرفة شيء، إنهم يشترون الأشياء الجاهزة من عند التجار، ولا يوجد تجار أصدقاء، فالناس ليس لديهم أصدقاء. يتعجب الأمير الصغير من هذه النتيجة ويصير صديقا للثعلب، ثم يذهب إلي البستان ويحدث الورود بأن علاقته بوردته الوحيدة علاقة ألفة، فهي بالتالي فريدة لا ليست ككل الورود. ولكنه مضطر إلي ترك الثعلب عند الرحيل، ويشعر بالأسف ولكن الثعلب يعزيه قائلا: الجوهر يخفي عن الأنظار وعلاقتك بوردتك باقية. أنت مسئول عنها. ويشاء حظ الأمير الصغير، أو الإحكام البديع في قصة (اكزبيري) أن يلتقي بعد هذه التجربة برجل يقوم بتحويل قطارات المسافرين.. قطارات الحياة. البعض يرحل لليسار، والبعض يرحل لليمين. وقطارات يتصور الامير الصغير أنها تعود من رحلاتها، فيفهمه الرجل بأنها قطارات أخري، فمن يرحل لا يعود. * ولماذا يستقل الناس القطارات وعما يبحثون؟ إنهم لا يعلمون، الأطفال فقط يدسون أنوفهم في زجاج القطارات، ويعرفون عما يبحثون. إنها لعبة بسيطة أو قصاصة ورق تمثل لهم كل الحياة. ولكن هل يعلم الكبار؟ الكبار.. يلتقي الأمير بأحدهم، فيجده مشغولا بتسويق اختراع جديد. حبوب من يبتلعها مرة كل أسبوع تعفيه من شرب الماء فيوفر وقته. ويسأل الأمير: ولكن ماذا يفعل بوقته المكتسب؟ يعجب الأمير لاستغلال الكبار للوقت الفائض في أمور مادية.. فلو كان لديه وقت لضيعه في السير علي مهل إلي نبع الماء. نبع ماء.. يفيق الطيار عند هذه اللحظة من ذكريات الأمير بعد مرور ثمانية أيام، وبعد أن شرب آخر قطرة ماء كانت معه. ويقنع الأمير بضرورة البحث عن الماء. فالماء عنده يصلح القلب، والجلوس في الصحراء يجعل الإنسان لا يسمع شيئا، ولا يري شيئا. ومع ذلك هناك شيء يشع في الصمت.. إن جمال الصحراء ذاتها تخفي بئرا في مكان ما، إن جمالها غير منظور. إنها حكمة صديقه الثعلب (الجوهر يخفي عن الأنظار). ويجد الطيار بئرا فينشغل بأن يشرب الصغير، ويشرب هو. ولكن الأمير يستأنف.. الكبار لا يعلمون أنهم يتهالكون علي القطارات السريعة، إنهم يزرعون آلاف الورود ولا يدرون السبب الحقيقي. إن السبب الحقيقي خفي لا يري بالعين، ولكن يدرك بالقلب. ويتذكر الأمير المكان الذي سقط فيه من كوكبه علي الأرض، ويشعر الطيار بالانقباض. إن أميره الصغير يدبر أمرا. إنه يطلب منه أن يتركه في هذا المكان، ويعود لإصلاح طائرته علي أن يرجع إليه في مساء الغد. وعند عودة الطيار في اليوم التالي يجد الأمير معلقا علي حائط يتبادل حديثا غريبا مع شخصية غير مرئية. وعندما يقترب يلمح أسفل الحائط ذلك الثعبان الأصفر الذي يقضي علي الإنسان في ثلاثين ثانية. يجري مسرعا ويلتقط أميره بين ذراعيه، وينبض قلب الأمير كعصفور أصابته طلقة من صياد. يستعيد الأمير ابتسامته، ويبلغ الطيار أنه سعيد لأن صديقه أصلح طائرته، يستطيع إذن أن يعود لبيته، فالأمير الصغير ينوي أيضا العودة. إن لديه الخروف وصندوقا، وكمامة للخروف، ووردته الضعيفة الساذجة تعيش وحيدة قلقة في كوكبه. وعند المساء سيكون كوكبه فوق هذا المكان تماما، ولكنه لا يستطيع أن يطلع صديقه علي موضعه فهو متناهي الصغر وسط آلاف النجوم. ويستدرك.. ولكن هذا أفضل لأنك ستحب كل النجوم حينما تحاول أن تبحث عني في السماء. سأكون في نجمي الخاص أضحك، وأنت تحب ضحكتي، أنك ستري كل النجوم تضحك. وتضحك كل النجوم في المساء ينسحب الأمير الصغير في هدوء ليلتقي بالثعبان، يلحق به الطيار ولكنه عازم علي تحمل مسئوليته ليرحل إلي بيته الحميم، وحبه الوحيد، ولكن جسمه ثقيل لن يرتفع عن الأرض إلا بعضة الثعبان.. ويسقط في الصحراء بلا ضوضاء. أما الطيار فلا تبقي له سوي الذكريات.. تتردد في أذنه تارة ضحكة الأمير فتضحك كل النجوم، وتارة بكاء الأمير فيبكي الوجود، ولا يستطيع تفسير هذه الكآبة للكبار، إلا بأنها نوع من الإرهاق. يرسم (اكزبيري) آخر صفحة في كتابه خالية تماما، إلا من نجم معلق في السماء ويقول لنا.. إذا قمتم بسياحة في الصحراء الأفريقية أرجوكم ألا تتعجلوا وانتظروا تحت هذا النجم، فإذا ظهر الأمير الصغير لا تتركوني في كآبتي.. اكتبوا لي إنه عاد. ورحل (انطوان دي سانت اكزبيري).. ولم يعد الأمير الصغير، ولا ينتظر أن يعود، فقد بتنا في زمان يفخر فيه الكبار حينما يقلد الصغار خشونتهم، وغفلتهم، وطغيانهم.
هناك كواكب لأوراق الكبار،وفردوس واحد مفقود للبراءة والنقاء.. والصغار
كان بيكاسو يقول إنه يتمني أن يرسم كما يرسم الأطفال، بمعني أن يرسم بذهنية وتلقائية الأطفال
Le Petit Prince (الأمير الصغير) Antoine de Saint - Exupéry Gallimard (Folio), 1999, 97 pages
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة