انتفاضة الأقصي..رواية إسرائيلية أخري



منذ اندلاعها في أواخر أيلول سبتمبر من العام2000، حاولت ماكينة الدعاية الإسرائيلية تصوير انتفاضة الأقصي علي أنها الرد «الإرهابي» الفلسطيني علي عروض السلام السخية التي طرحتها الدولة العبرية قبيل اندلاع الانتفاضة. ورفضت إسرائيل الرسمية الربط بين اندلاع الانتفاضة وبقاء مظاهر الاحتلال كمفجر لها، وحاولت نزع الشرعية عن حق الشعب الفلسطيني في النضال ضد هذا الاحتلال. وفي المقابل ادعت إسرائيل أن لديها الحق في استنفاد كل ما لديها من قوة عسكرية وتفوق تقني كاسح من أجل حسم المواجهة خلال الانتفاضة لصالحها. واعتبر المستويان العسكري والسياسي في إسرائيل أن الحرب ضد الفلسطينيين في الانتفاضة تكتسب نفس أهمية حرب العام 1948 التي علي أثرها كان مولد إسرائيل. في نفس الوقت حرص قادة الدولة علي تجاهل الآثار الكارثية التي تركتها الانتفاضة علي المجتمع الإسرائيلي ونسيجه الداخلي، وعكف قادة الدولة علي امتداح «قدرة» هذا المجتمع علي الصمود خلال الانتفاضة، وادعوا أنه بفضل هذا الصمود لم يستطع الفلسطينيون إملاء مواقفهما علي إسرائيل. في إسرائيل صدر مؤخراً كتابان ينسفان الرواية الرسمية من الأساس: كتاب «أكاذيب عن السلام حرب باراك وشارون ضد الفلسطينيين»، للمؤرخة والمحققة الإسرائيلية تانيا راينهارت. وكتاب «الحرب السابعة» لمؤلفيه افي سيخاروف، مراسل الشئون الفلسطينية والعربية للإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية، وعاموس هارئيل المراسل العسكري لصحيفة «هآرتس». في كتابها تطرقت راينهارت بشكل أساسي إلي الظروف التي كانت سائدة قبل الانتفاضة والعلاقة الوثيقة بين هذه الظروف باندلاعها، وهو الأمر الذي واظبت إسرائيل الرسمية علي إنكاره. أما كتاب «الحرب السابعة» فقد عني بشكل أساسي بتسليط الأضواء علي طبيعة الأحداث أثناء الانتفاضة: القمع الإسرائيلي والرد الفلسطيني وتأثيرات الانتفاضة علي المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي في الدولة العبرية. في كتابها تؤكد راينهارت أن الظروف التي سادت قبيل اندلاع انتفاضة الأقصي لم تدع أمام الفلسطينيين أي مجال إلا المبادرة لشن الانتفاضة. وتؤكد أن الحكومات الإسرائيلية التي تعاقبت منذ التوقيع علي اتفاقية أوسلو واصلت دعم المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم تدع أمام الفلسطينيين سبيلاً إلا محاولة استخدام العمل المسلح لوقف الاستيطان. وتؤكد راينهارت أن الفلسطينيين، لم يخوضوا غمار انتفاضة الأقصي، إلا بعد أن تحرروا من الوهم الذي زرعته اتفاقيات أوسلو التي وقعت في العام 1993، حيث اعتقدوا أن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة الذي بدأ في العام 1967 يوشك علي نهايته، وآمن قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني بأن اتفاقات أوسلو، ستؤدي إلي انسحاب إسرائيلي من المناطق المحتلة وإقامة دولة فلسطينية. لكن الأمور لم تسر علي هذا المنوال. وحسب راينهارت فإن الفلسطينيين صعقوا عندما اكتشفوا أن القيادة السياسية لمعسكر اليسار الصهيوني التي كانت تتولي مقاليد الأمور في الدولة العبرية قبيل وعند اندلاع انتفاضة الأقصي حولت روح أوسلو التصالحية إلي وسيلة جديدة أكثر إحكامًا لمواصلة الاحتلال.وتشير إلي أن إسرائيل بعد أوسلو واصلت تعزيز الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية علي اعتبار أنه الوسيلة المثلي لتصفية حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وتري راينهارت أن أي زعيم إسرائيلي يتطلع إلي المصالحة مع الفلسطينيين علي المستوي الرمزي كان يتعين عليه بداية، من وجهة نظرها، الاعتراف بمسئولية إسرائيل عن نشوء قضية اللاجئين. لكنها تستدرك قائلة أن إسرائيل لم تحظ حتي الآن بزعيم كان معنياً حقاً بإنهاء النزاع. وفي سبيل التشديد علي هذه المسألة تحديداً تشدد راينهارت في مقدمة الكتاب، من دون أي تردد علي أن الأرض التي قامت عليها دولة إسرائيل تمت السيطرة عليها بواسطة تطهيرها عرقياً من سكانها الأصليين الفلسطينيين. وتضيف «لو أن إسرائيل توقفت عما اقترفته (من تطهير عرقي) في عام 1948 لكان من الممكن التعايش مع ذلك، لكنها واصلت التطهير العرقي وتعاظم بعد التوقيع علي «أوسلو»، وفي خضم الانتفاضة. تؤكد راينهارت أن إسرائيل استغلت انتفاضة الأقصي لممارسة اكبر قدر من القمع ضد المدنيين الفلسطينيين من أجل إجبارهم علي الفرار. وتشير إلي أن جميع القادة العسكريين اعتبروا الحرب التي يخوضونها ضد الانتفاضة تعتبر مكملة للحرب التي خاضتها الدولة العبرية في العام 1948. وتضيف «لما نجحت إسرائيل في العام 1948 بتشريد نصف الفلسطينيين من أرضهم، فإنها خلال انتفاضة الأقصي قررت استكمال المهمة وطرد البقية». تؤكد راينهارت أن المستويين السياسي والعسكري في الدولة العبرية استندا إلي هذا المنطلق لتبرير الإفراط غير المسبوق في استخدام القوة العسكرية في مواجهة المدنيين الفلسطينيين. وتشدد علي أن قادة الجيش كانوا يهدفون إلي التطهير العرقي. وتضيف أنه لا يمكن تفسير سياسة إسرائيل المنهجية في إصابة المدنيين الفلسطينيين كدفاع عن النفس أو كرد فعل تلقائي علي الإرهاب. وتؤكد إن ذلك هو نوع من ممارسة التطهير العرقي، أي عملية يجري فيها طرد مجموعة اثنية من مناطق تتطلع مجموعة اثنية أخري للسيطرة عليها. وتنوه إلي انه لما كانت فلسطين مكان يحظي باهتمام عالمي كبير، فإنه يستحيل علي قادة الدولة العبرية اقتراف تطهير عرقي عبر القيام بعمليات ذبح جماعي للفلسطينيين وإخلاء الأراضي. وبدلاً من ذلك يقود الجيش الإسرائيلي عملية مثابرة هدفها إجبار الفلسطينيين، رويداً رويداً، علي الموت أو الهرب لكي ينجوا بجلودهم. وتشدد راينهارت علي أن إسرائيل حرصت دوماً علي استدراج الفلسطينيين للمواجهات من أجل تحقيق مكاسب علي الأرض من خلالها. فإسرائيل هي التي كانت دائما تبادر إلي إفشال تفاهمات التهدئة والهدنة مع الفصائل الفلسطينية عبر المبادرة بشن عمليات عسكرية من أجل إفشال التهدئة ووضع حد للهدنة. وفي شهادة هامة تؤكد راينهارت أن الفلسطينيين لم يمنحوا البتة أية فرصة لتحويل نضالهم إلي مقاومة مدنية، وهو ما كانوا راغبين به مرات كثيرة. وتنوه راينهارت إلي ما بات معروفاً وهو حقيقة أن الجيش الإسرائيلي أعد مخططات للقضاء علي السلطة الفلسطينية وعلي مؤسسات المجتمع الفلسطيني قبل اندلاع انتفاضة الأقصي في سبتمبر من العام2000. مبدأ التواريخ غير المقدسة
من ناحيتهما يشير سيخاروف وهارئيل في «الحرب السابعة» إلي أن أحد الأسباب التي دفعت الفلسطينيين للتشبث بانتفاضة الأقصي هو حقيقة يأسهم من إمكانية الحصول علي ثمار من العملية التفاوضية. فعلي الرغم من تحرر معظم سكان الضفة والقطاع بالتدريج من السلطة الإسرائيلية المباشرة، وذلك كجزء من الاتفاقات التي وقعتها قيادة منظمة التحرير مع الحكومة الإسرائيلية، إلا أن مصالح الفلسطينيين ظلت مرتبطة بالجيش الإسرائيلي. فالاتفاقيات الموقعة لم تؤد إلي تمتع الفلسطينيين بحرية الحركة بين مناطق تواجدهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وعلي الرغم من التحسن المحدود للأوضاع الاقتصادية، فإن الازدهار الموعود تحقق جزئياً فقط،. فقد خسر عشرات آلاف الفلسطينيين أماكن عملهم في إسرائيل جراء سياسة الإغلاق التي اتبعتها إسرائيل منذ حرب الخليج عام 1991 (ووضعت الإغلاقات صعوبات كبيرة جداً أمام التنقل بين القطاع والضفة). وعندما عاد العمال الفلسطينيون إلي إسرائيل في فترات هدوء نادرة، وجدوا بأن عمالاً من رومانيا والصين وتايلاند احتلوا أماكن عملهم. وينوه المؤلفان إلي أن تشكيل السلطة الفلسطينية لم يحل دون توقف مسلسل الإهانات التي يتعرض له المواطن الفلسطيني منذ خروجه من بيته وحتي عودته إليه. بالإضافة إلي كل ذلك، فقد اعتمدت الدولة العبرية مبدأ «التواريخ غير المقدسة». ووفق هذا المبدأ أعاقت إسرائيل مراراً وتكراراً تسليم مناطق وعدت السلطة بتسليمها وفق الاتفاقيات الموقعة، وذلك جراء خلافات محددة أو رداً علي عمليات المقاومة. وفي مقابل كل ذلك فقد استغلت إسرائيل الاتفاقيات السياسية مع السلطة في تطوير مشروعها الاستيطاني الذي نما بشكل هائل. ويكشف الكتاب عن حقيقة لافتة للنظر، فقد تضاعف عدد المستوطنين خلال العقد الذي تلا التوقيع علي اتفاق أوسلو في المناطق من حوالي 115 ألفاً إلي 230 ألف مستوطن. ويؤكد المؤلفان أن أعداداً متزايدة من المدنيين الفلسطينيين قتلوا «برصاص طائش يطلقه جيش الاحتلال قبل اندلاع انتفاضة الأقصي، في حين اكتفت قيادة جيش الاحتلال في أحسن الأحوال ب «الإعراب عن أسفها». لكن لم تكن ممارسات جيش الاحتلال القمعية فقط هي التي كان يكابدها الفلسطينيون قبل اندلاع الانتفاضة. فالمستوطنون وتحت حماية الجيش يقومون بعمليات عربدة في بلدات وقري الفلسطينيين، وكثيراً ما أسفرت هذه العمليات عن إزهاق أرواح مزيد من الفلسطينيين. مسئولية باراك تؤكد راينهارت أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك الذي اندلعت انتفاضة الأقصي في عهده هو الذي يتحمل الجزء الأساسي من المسئولية عن اندلاع الانتفاضة لعدم جديته في التوصل لتسوية سياسية مع الشعب الفلسطيني، علي الرغم من الضجيج الذي أثاره حول تحركاته السياسية. وتضيف راينهارت أنه بخلاف الانطباع الذي حاول رسمه حول نفسه، وساعدته في ذلك وسائل الإعلام الإسرائيلية المتجندة، فأن باراك لم يتطلع في قرارة نفسه إلي تحقيق مصالحة مع الفلسطينيين. وتؤكد أنه خلال مؤتمر «كامب ديفيد» الذي سبق اندلاع انتفاضة الأقصي ماطل باراك ولم يكن جدياً في التوصل للتسوية السياسية. وتذهب راينهارت إلي أبعد من ذلك عندما تؤكد أن باراك «بادر إلي هذه القمة بهدف إفشالها متعمداً، من أجل أن يثبت أن الفلسطينيين هم الطرف الرافض، وهم الذين يتحملون المسئولية عن إهدار فرصة تاريخية للتوصل لتسوية سياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي». تري راينهارت أن الذي يؤكد صحة ما تذهب إليه هو حقيقة حرص باراك علي التباهي دائماً بأنه هو «الذي كشف الوجه الحقيقي لعرفات». وتقدم راينهارت الأدلة علي أن باراك خلال مؤتمر «كامب ديفيد» خطط لجعل المؤتمر فرصة لتجريد الفلسطينيين من الحقوق التي يكفلها لهم القانون الدولي و قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وتضيف أن نقطة التحول الحاسمة في كامب ديفيد تمثلت في مطالبة باراك بأن يوقع الطرفان علي «اتفاق نهائي» يترافق مع إعلان فلسطيني بشأن «نهاية النزاع». وتؤكد أنه لو أن الفلسطينيين وقعوا علي إعلان كهذا لكانوا سيفقدون بشكل تلقائي الحق بالمطالبة بتطبيق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن لاحقاً. وتشرح راينهارت قائلة إن الأساس القانوني للمفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل كان ولا يزال قرارات الأمم المتحدة، وخصوصاً قرار 242 الذي اتخذ (من قبل مجلس الأمن) في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 وطالب بانسحاب القوات الإسرائيلية المسلحة من المناطق التي احتلت في حرب الأيام الستة. إلي جانب ذلك فأن من حق الفلسطينيين المطالبة بتطبيق قرارات مجلس الأمن التي سبقت ذلك وخصوصاً قرار 194 الذي صدر في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1948، و الذي يتطرق إلي حق العودة للاجئين الفلسطينيين وقرارات أخري اتخذت علي مدار السنوات. وتؤكد أن الفلسطينيين احسنوا صنعاً عندما لم يستجيبوا لطلب باراك، وتضيف أنه لو استجاب الفلسطينيون لطلب باراك وأعلنوا عن «نهاية النزاع» ووقعوا علي اتفاق نهائي، عندها يكون الاتفاق الجديد هو، بصورة رسمية، الأساس القضائي الملزم لأي تسوية سياسية مستقبلية وتفقد قرارات الأمم المتحدة التي سبقته مفعولها. وتؤكد راينهارت أن باراك طرح في قمة «كامب ديفيد» مواقف متطرفة من كل قضايا الحل الدائم التي كانت علي جدول البحث.وتدحض بشدة المزاعم التي حاولت وسائل الإعلام الإسرائيلية تكريسها علي أساس أنها حقائق وتتعلق باستعداد باراك ل «تقسيم القدس». فباراك لم يقدم أكثر من استعداد إسرائيل لدراسة الوفاء بتعهد إسرائيلي قديم يتعلق بإعادة «أبو ديس» للفلسطينيين. وتؤكد أن الحكومات الإسرائيلية حرصت أثناء التفاوض مع العرب علي اتباع منهجية محددة تقوم علي أساس: سحب تعهدات سابقة وعرضها كما لو أنها اختراقات جديدة في العملية التفاوضية، وهذا هو جوهر السياسة التي انتهجتها إسرائيل منذ أوسلو. وتؤكد راينهارت أن باراك خلال مؤتمر كامب ديفيد تبني موقفاً بالغ التطرف من مصير المسجد الأقصي، لم يجرؤ علي تبنيه حتي غلاة المتطرفين في حزب الليكود. وتضيف راينهارت أنه منذ العام 1967حرصت الحكومات الإسرائيلية علي عدم المطالبة بالسيطرة اليهودية علي المسجد الأقصي، وباستثناء عدد من الحركات المسيحانية الهامشية التي طالبت بالسيطرة اليهودية عليه، وعلي الأخص منظمة «أمناء جبل الهيكل»، فأنه حتي الحركات اليمينية لم تدع للسيطرة علي المسجد الأقصي. وتضيف راينهارت أنه حتي وقت قريب اعتبر مصطلح «جبل الهيكل» جزءًا من القاموس المسيحاني لمتدينين أصوليين متطرفين». لكن المفاجأة التي تشير إليها راينهارت تتمثل في حقيقة أن باراك رئيس الوزراء العمالي العلماني، الذي يقف علي رأس اليسار الصهيوني، هو الذي بادر إلي تغيير موقف الدولة العبرية من مصير المسجد الأقصي، حيث حول باراك السيطرة علي المسجد الأقصي خلال مفاوضات كامب ديفيد إلي قضية مركزية. وتشير راينهارت إلي نقطة بالغة الأهمية في سلوك باراك الذي كان له الدور في إجبار الفلسطينيين علي القنوط من أي رهان علي التسوية السياسية مع الدولة العبرية، ألا وهو اتباع الخداع. وتؤكد راينهارت أن لباراك سجلاً حافلاً في ممارسة الخديعة في التعامل مع العرب. وتضرب مثال علي ذلك هو حقيقة تعمده إفشال المفاوضات بين سوريا والتي سبقت مؤتمر «كامب ديفيد». ويقدم الجنرال أوري ساغيه، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي والذي كان عضواً بارزاً في الوفد الإسرائيلي في المفاوضات مع سوريا المزيد من الأدلة علي أن باراك هو الذي احبط فرصة التوصل لتسوية سياسية مع سوريا، حيث تراجع باراك- في اللحظة الأخيرة - عن التفاهمات التي توصل إليها ساغيه نفسه مع عدد من الجنرالات السوريين والمتعلقة بخط الانسحاب من هضبة الجولان. وتعتبر راينهارت أن باراك هو الوجه الآخر لشارون، وتقدم عدداً كبيراً من الأدلة علي ذلك. وتؤكد أن سجل التعاون بين باراك وشارون يعودة إلي خدمة باراك كقائد بارز في الجيش. وتشير إلي وثيقة نشرها الصحافي أمير أورن في صحيفة هارتس في يناير 1999، وهي عبارة عن مذكرة شخصية وجهها، في مارس (آذار) 1982، إيهود باراك الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب رئيس شعبة التخطيط في هيئة أركان الجيش، إلي شارون الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع شارون، وذلك في سياق الاستعدادات التي كانت إسرائيل تقوم بها لغزو لبنان. في هذه المذكرة يحضّ باراك شارون علي تضليل الحكومة، وتجاوز قرارها، وتوسيع نطاق الغزو المرتقب إلي درجة «شن هجوم واسع النطاق علي سورية». راينهارت تعتبر أن الوثيقة «تكشف عن جانب خطير في شخصية باراك، هو جانب الاستعداد (غير المحدود) للمشاركة في مؤامرة غايتها أن تخدع ليس فقط الأعداء وإنما أيضًا المواطنين والجنود والقيادة المنتخبة». وتشير راينهارت إلي أن باراك يقدر الفهم العسكري لأرئيل شارون ، فكلاهما استمرار جلي لأبي سلالة الجنرالات السياسيين موشيه ديان. وتصب راينهارت مجدداً جام غضبها علي وسائل الإعلام التي تناست وتجاهلت ما تعرفه من تفاصيل إشكالية في شخصية باراك وجديته ومصداقيته. شيطنة عرفات علي الرغم من توقيع قيادة منظمة التحرير علي اتفاقيات أوسلو، وعلي الرغم من اعترافها الرسمي بدولة إسرائيل، إلا أن المسئولين عن تقديم التقييمات الإستراتيجية للحكومة سواء كانوا في شعبة الاستخبارات العسكرية المعروفة ب «أمان»، أو في جهاز المخابرات الداخلية «الشاباك» ظلوا يشككون في نوايا قيادة المنظمة. سيخاروف وهارئيل يؤكدان أن التقييمات الاستراتيجية التي علي أساسها تبلور الحكومات الإسرائيلية سياساتها الخارجية تأثرت بالمواقف الأيديولوجية للذين يصوغونها، سيما المسئولين عن قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية، الذي كان يديره الجنرال عاموس جلعاد، الذي قاد توجهاً داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لشيطنة عرفات. جلعاد ونظراؤه في جهاز «الشاباك» قالوا أنه رغم التوقيع علي اتفاقيات أوسلو، فإن الفلسطينيين لا يعترفون حتي بحدود 1967 كحدود لدولة إسرائيل، ويبدون اهتماماً باستمرار التآمر عليها من خلال فلسطينيي العام 1948. وحسب هذه التقييمات فإن عرفات يحاول الاحتفاظ من خلال مطالبته بحق عودة اللاجئين إلي داخل دولة إسرائيل ب «قنبلة ديموجرافية» هدفها النهائي إبادة الدولة.فعرفات بالنسبة لأصحاب هذه التقييمات يريد أن يحرم إسرائيل من أكبر إنجاز حققته الحركة الصهيونية وهو تحقيق تفوق ديموجرافي لليهود بين نهر الأردن وحوض البحر الأبيض المتوسط. خلاصة هذه التقييمات كانت تصل إلي نتيجة مفادها أن احتمال التوصل لتسوية سياسية دائمة مع الفلسطينيين تبدو متدنية جداً. من ناحيتها تشير راينهارت إلي أن المشهد السياسي في الدولة العبرية أبان الانتفاضة تميز بالتأثير الهائل للمؤسسة الأمنية علي دائرة صنع القرار في الدولة. وعلي الرغم من أنها تؤكد أن المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل كانا دائما متداخلين ويصعب وضع حدود فاصلة بينهما، إلا أن انتفاضة الأقصي دلت علي أن العسكر زادوا من تأثيرهم علي عملية صنع القرار. وتقتبس راينهارت أقوال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي الذي زار إسرائيل، وعلق علي شبكة العلاقات بين المستويين الأمني والسياسي، قائلاً «إن الذي يقرر في إسرائيل الاستراتيجيات وسلم الأولويات القومي، باعتبارهما موضوعًا يقف في صلب الإجماع الوطني ليس هيئات منتخبة وإنما أشخاص في البزات العسكرية.. وجميع حكومات إسرائيل السابقة أولت اهتمامًا هائلاً للاقتراحات التي طرحها الجيش، علي اعتبار أنه يمثل «الحكومة الدائمة». زيارة شارون الاستفزازية للأقصي في الفصل الأول من «الحرب السابعة»، يؤكد سيخاروف وهارئيل أن ارئيل شارون، الذي كان زعيماً للمعارضة اليمينية، يتحمل مسئولية كبيرة عن اندلاع انتفاضة لإصراره علي دخول المسجد الأقصي، وتجاهله بشكل تظاهري الحساسية المطلقة التي ينظر بها المسلمون والفلسطينيون علي وجه الخصوص إلي دخول اليهود إلي باحة الحرم، سيما عندما يدور الحديث عن شارون الذي ينظر إليه كمجرم حرب قاس، و جزار صبرا وشاتيلا وكذلك أحد الذين شاركوا في حروب الاستنزاف الدامية في الخمسينيات ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، فهو عدو الشعب الفلسطيني. رفض شارون التحذيرات التي قدمها قادة الأجهزة الأمنية والشرطة من النتائج الوخيمة للزيارة. يري المؤلفان أن موقف شارون هذا يجعله مسئولاً عن شلال الدماء الذي خلفته هذه الزيارة. يوجه المؤلفان انتقادات لاذعة لرئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت ايهود باراك الذي خضع لشارون ووافق علي إتمام الزيارة. ويوضح سيخاروف وهارئيل أن طريقة تعامل قوات الاحتلال الوحشية مع المظاهرات السلمية التي نظمها الفلسطينيون لدي اندلاع الانتفاضة، دفعت الفصائل الفلسطينية للانتقال من وسائل الاحتجاج المدني إلي العمليات المسلحة.وحسب المؤلفين فقد حرصت قيادة جيش الاحتلال علي التسبب في قتل أكبر عدد من المدنيين الفلسطينيين الذين يشاركون في التظاهرات السلمية. ويستند سيخاروف وهارئيل إلي تقرير مراقب الدولة للعام 2003 ، الذي أكد انه طوال الفترة الممتدة من الانتفاضة الأولي وحتي انتفاضة الأقصي ،لم يبذل الجيش الإسرائيلي جهودا حقيقية لتطوير وسائل أقل فتكا لتفريق المظاهرات التي ينظمها المدنيون الفلسطينيون. وكان جيش الاحتلال يتذرع بعدم استخدام الوسائل الأقل فتكاً مثل الغاز المسيل بالدموع بأنه «يملك كميات قليلة منها!!!». وحتي استخدام العيارات المطاطية التي كان جيش الاحتلال يدعي أنها من الوسائل «غير الفتاكة»، فقد تبين أنها تؤدي إلي الوفاة. وحسب شهادة قائد إحدي كتائب الاحتياط في جيش الاحتلال فقد كان جيش الاحتلال يسارع إلي استخدام الذخيرة الحية بدون أن يكون هناك أي دواعي ميدانية تبرر ذلك.وفي الشهر الأول من انتفاضة الأقصي أطلق جنود الاحتلال 850 ألف عيار من الذخيرة الحية علي الفلسطينيين. عدد من الوزراء في حكومة باراك من بينهم امنون شاحاك الذي كان في السابق رئيساً لهيئة أركان الجيش اتهم قيادة الجيش بتجاوز تعليمات الحكومة والإسراف في قتل الفلسطينيين بدون مبرر. يقول أحد الجنود الذين خدموا في الضفة الغربية أثناء اندلاع الانتفاضة «هذه الحرب غير الأخلاقية أدت إلي فضح إسرائيل». ويؤكد المؤلفان أن الجنود منحوا تراخيص للقتل، حيث كانت تأتيهم تعليمات لقتل الأطفال والنساء من خلف الكواليس. إنها حرب إبادة شاملة للإنسان والنبات والمزروعات والتراث، حرب لم يكن لها ضوابط. ويشير سيخاروف وهارئيل إلي أن هناك علاقة وثيقة بين طريقة انسحاب جيش الاحتلال من جنوب لبنان في العام 2000، وبين حرص الدولة العبرية علي ممارسة أكبر قدر من القوة لقمع الانتفاضة. وحسب المؤلفين فإنه في التحقيقات الداخلية التي أجرتها قيادة المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال في أعقاب الانسحاب من جنوب لبنان ،أشار عدد من كبار الضباط لثغرات في عملية تنفيذ الانسحاب. هؤلاء الضباط وصفوا الانسحاب بأنه «هروب مع ذيل بين الساقين». ويشير زخاروف وهارئيل إلي أن أكثر ما أثار حفيظة قادة جيش الاحتلال وزعماء الأحزاب السياسية اليمينية والدينية كان الخطاب التي ألقاها أمين عام حزب الله الشيخ حسن نصر الله بتاريخ 26 أيار من العام 2000في المهرجان الذي أقامه حزب الله احتفاءً بانتصار المقاومة في بلدة بنت جبيل جنوب لبنان. نصر الله الذي كان المتحدث الرئيسي في المهرجان ، توجه للعالم العربي قائلاً: «إخواني الأعزاء، أقول لكم: إسرائيل التي لديها سلاح نووي أضعف من بيت العنكبوت». المؤلفان يؤكدان أن خطاب نصر الله ترك آثاراً بعيدة المدي علي الوعي الجمعي للعرب والمسلمين. وقادة الجيش الإسرائيلي ورؤساء الأجهزة الاستخبارية توصلوا لقناعة مفادها أنه يتوجب العمل علي إزالة الآثار الكارثية التي تركها الانسحاب من جنوب لبنان، وبعث الحياة من جديد في قدرة الردع الإسرائيلية في مواجهة العالم العربي. في إسرائيل أدركوا أن الفلسطينيين سيجدون في نجاح المقاومة الإسلامية اللبنانية في تحرير جنوب لبنان بالقوة نموذجاً يقتدي، ومثل الانتصار علي الجيش الإسرائيلي كسابقة لم تحدث في تاريخ الصراع، تجربة يتوجب اتباعها. من هنا فقد اعتبرت الدولة العبرية أن أحد أهم الأسباب التي حثت الفلسطينيين علي خوض غمار انتفاضة الأقصي كان بلا شك الانتصار غير المسبوق للمقاومة الإسلامية في جنوب لبنان. في إسرائيل أخذوا يؤكدون أن الفشل في مواجهة انتفاضة الأقصي يعني دمار الدولة، علي اعتبار أنه بخلاف جنوب لبنان، فإن إسرائيل لا يمكنها أن تنسحب من الضفة الغربية التي تمثل العمق الاستراتيجي لها. من هنا اعتبر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق موشيه يعلون انتفاضة الأقصي بأنها «المعركة الأهم منذ الإعلان عن الدولة العبرية في العام 1948». العمليات الاستشهادية وروح المجتمع الفلسطيني يري سيخاروف وهارئيل أن انتقال الفلسطينيين لتنفيذ العمليات الاستشهادية كان ضرورة يمليها واقع ميزان القوي بين الجانبين. فالاختلال الهائل في موازين القوي العسكرية بين الفلسطينيين ودولة إسرائيل، دفع حركات المقاومة الفلسطينية إلي الاعتماد علي العمليات الاستشهادية، حيث أصبح الاستشهاديون «قنابل بشرية» للرد علي فعل طائرات الإف 16 ودبابات الميركفاة. العمليات الاستشهادية كانت الفعل المقاوم الفلسطيني الأبرز الذي ترك آثاره علي المجتمع الإسرائيلي. فالعمليات الاستشهادية حصدت أرواح معظم الإسرائيليين الذين قتلوا أثناء الانتفاضة. تقريباً طالت العمليات الاستشهادية كل المرافق التي يتوجه إليها الإسرائيلي العادي، فقد تم تفجير حافلات النقل والمطاعم والملاهي والفنادق. يؤكد المؤلفان أن الاستشهاديين ومرسليهم نجحوا في بث الذعر والإحباط الجماعي داخل طبقات كثيرة في المجتمع الإسرائيلي. كان للعمليات الاستشهادية الدور الأساسي في تغيير أنماط حياة الجمهور الإسرائيلي. فقد قلل الإسرائيليون من الخروج لمرافق الترفيه والتسوق. وفي نفس الوقت أصبح الطلب هائلاً علي شركات الحراسة الخاصة، وأصبح بالإمكان رؤية الحراس وعناصر الأمن في كل زاوية. وقفز عدد العاملين في شركات الحراسة الخاصة بشكل كبير ليصل إلي 46500حارس. في نفس الوقت قلل الإسرائيليون من استخدام المواصلات العامة. كان للعمليات تأثير سلبي هائل علي السياحة، التي تعتبر من أهم المرافق الاقتصادية في الدولة. فقد انخفض عدد السياح بشكل لم يحدث حتي في أثناء حرب الأيام الستة، حيث انخفض عدد السياح بنسبة 68%. يرسم سيخاروف وهارئيل صورة قاتمة للأوضاع الاجتماعية في الدولة في ذروة تنفيذ العمليات الاستشهادية في الأعوام 2001 و2002 و 2003. فقد تحولت الدولة إلي دولة جنازات، حيث أقيمت الجنازات للقتلي في كل مكان ومنطقة من مناطق الدولة. ويقتبس المؤلفان عن تقرير أعده جيش الاحتلال حول تأثير العمليات الاستشهادية، حيث أشار التقرير إلي أن الإسرائيليين أخذوا يشعرون أنهم أصبحوا أهدافا متحركة. وحسب التقرير فإنه حتي تموز 2004 تم تنفيذ133 عملية استشهادية ، بالإضافة إلي مئات المحاولات الإضافية الفاشلة، عدد العمليات الاستشهادية وعدد المحاولات لتنفيذها أصبح يقترب من تسجيل رقم عالمي. ويعقد المؤلفان مقارنة بين ظاهرة العمليات الاستشهادية لدي حركات المقاومة الفلسطينية، وبين نفس الظاهرة لدي المتمردين التاميليين في سيريلانكا. ويشيران إلي أنه في الوقت الذي نفذ فيه التاميل مائة وستين عملية انتحارية خلال عشر سنوات، فإن الفلسطينيين نفذوا خلال أقل من أربع سنوات 133 عملية استشهادية ومئات المحاولات لتنفيذ مثل هذه العمليات. يرفض المؤلفان الربط بين الاستعداد لتنفيذ عمليات استشهادية وبين حقيقة كون منفذي هذه العمليات من المسلمين. ويؤكدان أنه علي مر التاريخ تم استخدام العمليات الاستشهادية عندما كان هناك اختلال في موازين القوي. ويحمل سيخاروف وهارئيل الواقع الذي خلقه الاحتلال المسئولية عن دفع الشباب الفلسطيني لتفجير أنفسهم من أجل ضمان المس بجنود الاحتلال ومستوطنيه. فبالنسبة للشباب الذين نفذ العمليات الاستشهادية فإن الموت أفضل بكثير من مواصلة العيش تحت نير الاحتلال. ويري المؤلفان أن قدرة الاستشهاديين علي المس بالمجتمع الإسرائيلي علي هذا النحو أيقظت المشاعر في العالم العربي. يستند المؤلفان إلي مقابلات أجرياها في سجون الاحتلال مع عدد من قادة الأذرع العسكرية في حركات المقاومة الذين اعتقلوا علي خلفية دورهم في التخطيط للعمليات الاستشهادية وتجنيد الاستشهاديين. وحسب هؤلاء القادة فإن لجوء حركات المقاومة الفلسطينية إلي استخدام هذا العدد الكبير من الاستشهاديين لم يكن فقط بسبب توفر عدد كبير من المتطوعين لتنفيذ هذه العمليات، بل بسبب «المزايا الميدانية» للعمليات الاستشهادية، مقارنة بوسائل المقاومة الأخري. فالاستشهادي يتحكم بتوقيت عمل القنبلة التي يحملها أو الحزام الذين يضعه علي جسمه، إلي جانب قدرته علي اختيار توقيت التنفيذ، بحيث يؤدي إلي إحداث أقصي ضرر ممكن، فضلاً عن صعوبة إلقاء القبض علي مخرب منفرد يخبئ قنبلة علي جسده. وفوق كل ذلك، فإنه من الصعب جداً ردع الشباب الذي ينوي تنفيذ عمليات استشهادية، فالدافعية النفسية التي يتسلح بها الاستشهاديون تجعل من محاولة ردعهم مجرد عبث، إذ أنهم يقدمون علي الموت طواعية وباختيارهم. الفشل في مواجهة الاستشهاديين يشير المؤلفان إلي أنه علي الرغم من نجاح المخابرات الإسرائيلية في جمع المعلومات الاستخبارية التي قادت في كثير من الأحيان إلي إحباط العمليات الاستشهادية قبل تنفيذها، إلا أن الجهود التي بذلتها إسرائيل لردع الفلسطينيين ومنعهم من الانضمام لمنفذي العمليات الاستشهادية قد باءت بالفشل الكبيرة. في جلسة عاصفة في صيف العام 2002، وإزاء تفاقم الضرر الناجم عن العمليات الاستشهادية، قررت الحكومة الإسرائيلية العمل ضد عوائل الاستشهاديين. المنطق وراء هذا القرار كان يقول أنه إذا كان من الصعب ردع الاستشهادي نفسه، لأنه أصلا اختار الموت، فيتوجب ردع عائلته، والإثبات للمجتمع الفلسطيني أن العقاب الإسرائيلي لا ينتهي بموت الاستشهادي. من هناك قررت الحكومة الإسرائيلية الشروع بتدمير منزل كل استشهادي بأثر رجعي، وتقرر أيضاً تدمير منزل كل من يثبت أنه قام بتجنيد الاستشهاديين وإرسالهم لتنفيذ العمليات. علي مدي عامين قام جيش الاحتلال بتدمير مائتين وسبعين منزلا لعائلات الاستشهاديين ومرسليهم. الرسالة الإسرائيلية للاستشهادي قبل تنفيذ العملية أن عائلته ستعيش في العراء بعد موته،وسيكون هو مسئولا عن تشتيتها. ينقل المؤلفان عن الجنرال إسحاق ايتان الذي كان قائداً للمنطقة الوسطي في جيش الاحتلال ومسئولاً عن قواته في الضفة الغربية قوله أن هذه السياسة آتت نتائج عكسية تماماً. يجزم ايتان أن سياسة تدمير منازل الاستشهاديين أججت مشاعر الانتقام في المجتمع الفلسطيني، وفاقمت من خطر العمليات الاستشهادية. الذي يصيب سخاروف وهارئيل بالإحباط هو حقيقة أن المقاومين الفلسطينيين الذين التقيا بهم خلف القضبان والذين يقضون أحكاما بالسجن المؤبد بعد إدانتهم بالمشاركة في التخطيط للعمليات الاستشهادية وتجنيد الاستشهاديين غير نادمين إطلاقا علي ما قاموا به. ويقولان أنه من خلال المقابلات التي اجرياها مع هؤلاء المقاومين الذين يعيشون ظروف قاهرة في السجن تبين لهما أن لدي هؤلاء : إيمان كامل بضرورة الاستمرار في الصراع ضد الاحتلال ورفض قاطع للتعبير عن أدني ندم. تواصل العمليات الاستشهادية جعل اليأس يتسلل إلي نفوس قادة الأجهزة الأمنية أنفسهم. ويقتبس المؤلفان جزءًا من الكلمة التي ألقاها افي ديختر رئيس جهاز «الشاباك» أمام مؤتمر «هرتسليا» في كانون من العام 2003 حيث أكد أن أجهزة الأمن الإسرائيلية فشلت في حماية الإسرائيليين من العمليات الاستشهادية. أحد القادة الكبار في «الشاباك» يعبر عن صور اليأس من إمكانية النجاح في مواجهة الاستشهاديين، قائلاً «الصراع بالمنتحرين لن ينتهي إلي الأبد لأنه أشبه ب تفريغ البحر بملعقة». ويري سيخاروف وهارئيل أنه بعد فشل وسائل الفعل العسكري التقليدية ممثلة في عمليات المداهمة والاعتقال، إلي جانب المخاطر الجمة التي يتعرض لها الجنود أثناء محاولتهم أسر المقاومين الفلسطينيين، بالذات أولئك الذين علي علاقة بالعمليات الاستشهادية، قررت إسرائيل تغيير الوسائل التي اتبعتها المخابرات والجيش في مواجهة حركات المقاومة، وكان الانتقال إلي عمليات التصفية، والاعدام بدون محاكمة. يشير سيخاروف وهارئيل إلي أن عمليات التصفية استهدفت في البداية المقاومين الذين يقومون بتجنيد الاستشهاديين وإرسالهم، والذين يقومون بتصنيع العبوات والأحزمة الناسفة. وجه الشبه بين العمليات الاستشهادية التي ينفذها المقاومون الفلسطينيون وأحداث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وواشنطن وفرت لإسرائيل فرصة نادرة لتبرير سياسة التصفية وإضفاء شرعية عليها، أو علي الأقل ضمان تأييد القطب الأوحد في العالم لهذه السياسة. يؤكد سيخاروف وهارئيل أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر زادت من الانسجام بين شارون والرئيس الأمريكي بوش. ووصل الأمر إلي حد أن بوش اعتبر أن حرب إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية هو جزء من الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة ضد «الإرهاب العالمي». هذا الفهم لم يكن حكراً علي بوش، بل أصبح يتبناه عدد من كبار الكتاب في الولايات المتحدة، وعلي رأسهم توماس فريدمان الذي كتب بعيد قيام إسرائيل بشن حملة «السور الواقي» في أبريل من العام 2002 والتي هدفت إلي تصفية البني التنظيمية لحركات المقاومة في الضفة الغربية، قائلا «لنتيجة الحرب الدائرة الآن بين الإسرائيليين والفلسطينيين سيكون تأثير حاسم علي أمن كل أمريكي وأيضاً علي أمن الحضارة كلها». فريدمان دعا العالم إلي دعم إسرائيل في حربها ضد «الانتحاريين»، قائلاً إذا نجح إرهاب الانتحاريين في إسرائيل مثل اختطاف الطائرات فسيأتي اليوم الذي ينفجر فيه انتحاري متحزم بحزام نووي«. يقول سيخاروف وهارئيل أن الإدارة الأمريكية منحت شارون تصريحاً مفتوحاً بالقتل، و طالما أنه من الممكن تبرير الخطوات الإسرائيلية المتصاعدة، كأنها حرب ضد «الإرهابيين» فإن الإدارة الأمريكية لن تعترض. معظم دول العالم اكتفت باحتجاجات هشة علي عمليات التصفية، فشارون عملياً حصل علي ترخيص للقتل.قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان الأمريكيون يكثرون من انتقاداتهم لعمليات التصفية، لكن بعد ذلك انقلبت الأمور رأساً علي عقب. الاغتيالات: نتائج عكسية يؤكد سيخاروف وهارئيل أن إحدي النتائج العكسية والسلبية جداً لسياسة الاغتيالات أنها أدت إلي ذواب الفوارق بين التنظيمات الفلسطينية. ويؤكدان أنه بسبب هذه السياسة أصبحت الحركات العلمانية الفلسطينية تتجه نحو تنفيذ العمليات الاستشهادية، بعد أن كانت العمليات الاستشهادية حكراً علي حركتي حماس و«الجهاد». فقد أصبحت الحركات العلمانية مثل «فتح» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، تنفذ عمليات استشهادية. نقطة التحول الفارقة في آليات عمل حركة «فتح» في المجال المقاوم كانت عندما قامت إسرائيل باغتيال رائد الكرمي قائد جناحها العسكري في مدينة «طولكرم» في شباط 2002. حتي هذا التاريخ لم تقم «فتح» بأي عملية استشهادية، لكن بمجرد أن وقعت عملية الاغتيال، رد الجناح العسكري ل «فتح»، المعروف ب «كتائب شهداء الأقصي» بسلسلة من العمليات الاستشهادية المؤلمة. ومنذ ذلك الوقت أصبحت العمليات الاستشهادية أداة النضال الأكثر اعتماداً لدي الجناح العسكري ل «فتح». الأمر دفع شخصيات قيادية برغماتية لخوض غمار العمل المسلح، وتحديداً أمين عام سر اللجنة الحركية العليا ل «فتح» مروان البرغوثي الذي كان ينظر إليه في إسرائيل علي أنه من «الحمائم» في الساحة الفلسطينية، والذي يقضي حالياً حكماً بالسجن المؤبد في السجون الإسرائيلية، بعد إدانته بالتمويل والتخطيط وإصدار الأوامر لتنفيذ عمليات استشهادية. وقد وصل الأمر إلي حد أن عدد الإسرائيليين الذين يقتلون في العمليات الاستشهادية التي تنفذها «فتح» أكبر من عدد الإسرائيليين الذي يقتل في العمليات التي تنفذها «حماس». ينقل كل من سيخاروف وهارئيل عن وزير الدفاع الإسرائيلي في عهد حكومة شارون الأولي بنيامين بن اليعازر قوله أنه يعتبر موافقته علي اغتيال الكرمي كانت خطأ حياته، لأنه سمح بانضمام «فتح» للعمليات الاستشهادية بكل قوة. وكرد علي عمليات الاغتيال نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في اغتيال الوزير إسرائيلي الجنرال رحبعام زئيفي رداً علي اغتيال أمين عام الجبهة أبو علي مصطفي. مولد خطة «فك الارتباط» يؤكد المؤلفان أن شارون الذي يعتبر «أبو المشروع الاستيطاني» في الضفة الغربية وقطاع غزة أدرك بسرعة أنه علي الرغم من التفوق الطاغي للقوة العسكرية الإسرائيلية فإن الدولة العبرية ليس بإمكانها مواصلة المواجهة علي هذا النحو. فقد اتضح عدم مقدرة الجمهور الإسرائيلي علي تحمل تبعات المواجهة المتواصلة. شارون الذي كان يتبجح ويتعهد لكل ناخبيه في اليمين، بأنه سيفرط بتل أبيب في حال فرط بنتساريم (مستوطنة نائية تقع إلي الجنوب من مدينة غزة)، وصل إلي قناعة مفادها أن عليه تفكيك جميع مستوطنات قطاع غزة وأربعة مستوطنات نائية في شمال الضفة الغربية، وكانت هذه بداية قصة خطة «فك الارتباط». بالنسبة لشارون كانت خطة «فك الارتباط» آلية لإدارة الصراع لا حله. فإلي جانب إدراكه عجز جيشه عن تحقيق نصر حاسم علي الانتفاضة، خشي شارون أيضاً أن يؤدي التجند العالمي لخطة «خارطة الطريق» التي قدمتها الولايات المتحدة واللجنة الرباعية إلي سحب البساط من تحت أقدامه وإجباره إلي تقديم «تنازلات» لا يقبل بها. فقام شارون من ناحية بالإعلان عن خطة فك الارتباط، وفي نفس الوقت طرح شروط تعجيزية من أجل الموافقة علي خطة «خارطة الطريق». شارون اشترط أن تقوم السلطة الفلسطينية بنزع أسلحة حركات المقاومة وتفكيك بنيتها التحتية والقضاء علي كل مظاهر التحريض علي الدولة العبرية قبل خوض غمار خطة «خارطة الطريق». اعتبر شارون أن خطة «فك الارتباط» تحسن من الواقع الديموغرافي لصالح اليهود، إذ أن إسرائيل ستتخلص من مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين سيتم القذف بهم في الكيان الفلسطيني الذي سينشأ في قطاع غزة بعد تنفيذ خطة «فك الارتباط». قصاري القول فإنه يمكن تلخيص ما جاء في «أكاذيب حول السلام» و«الحرب السابعة»، بالقول أنه بسبب انعدام الجدية الإسرائيلية في التوصل لتسوية سياسية حقيقية، فقد كان من الطبيعي والمنطقي والمطلوب أن تندلع انتفاضة الأقصي.
تري راينهارت أن أي زعيم إسرائيلي يتطلع إلي المصالحة مع الفلسطينيين علي المستوي الرمزي كان يتعين عليه بداية، من وجهة نظرها، الاعتراف بمسئولية إسرائيل عن نشوء قضية اللاجئين
الحكومات الإسرائيلية حرصت أثناء التفاوض مع العرب علي اتباع منهجية محددة تقوم علي أساس: سحب تعهدات سابقة وعرضها كما لو أنها اختراقات جديدة في العملية التفاوضية
الذي يقرر في إسرائيل الاستراتيجيات وسلم الأولويات القومي، باعتبارهما موضوعًا يقف في صلب الإجماع الوطني ليس هيئات منتخبة وإنما أشخاص في البزات العسكرية
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة