وفاء قسـطنـطـيـن..بــين الدولـة و الإدارة الكنسية



[ 1 ] ونحن نتابع ما يمكن أن نسميه حدث «أبو المطامير» الذي جري في نوفمبر وديسمبر 2004. يمكن أن نتذكر حدثًا آخر سابقًا نسميه حدث «النبأ» الذي جري في يونيه ويوليه 2001. وذلك لنتبين ما اتفق فيه الحدثان وما اختلفا فيه. كلاهما اشتمل علي هياج للشباب القبطي في ساحة الكاتدرائية، وكلاهما أعلن فيه البطريرك الأنبا شنودة الثالث غضبه وغادر المقر البابوي وسافر إلي دير الأنبا بيشوي معلنًا اعتكافه الغاضب، وكلاهما استجابت فيه الدولة لطلب البطريرك وأنفذت مشيئته. وفي كليهما وقعت اشتباكات مؤسفة بين الشباب الهائج وبين قوات الأمن. ولكن ثمة فروقًا، فإن أصل حادث «النبأ» أن صحيفة أسبوعية ضيقة الانتشار هي «النبأ» نشرت صورًا وتعليقات عن راهب في دير المحرق أبعد بسبب انحرافاته الأخلاقية ولما قدم فيه من شكاوي، وكانت الصور شائنة وكان النشر والتعليقات عملاً شائنًا أيضًا. فثار شباب قبطي وأقبلوا إلي الكاتدرائية معتصمين بها، وكان ما كان، وهنا كان هيــاج الشباب مفهومًا ومقدرة بواعثه، وبدا تظاهرهم أمرًا تلقائيا حث عليه شعور نبيل للذود عن المقدسات، وعن معني «الرهبانية» ومعني «الدير». وإن كل ما رأي المعلقون فيه جنوحًا، هو أن احتجاج الشباب جاوز حده وجاوز سببه، وأن الكنيسة حملت الدولة وحملت الجمـاعة الوطنية تبعة حـادث ليست الدولة مسئولة عنه، وليست الجماعة الوطنيـة تنجــرح به ولا تنخدش. ومسـئولية الحدث تدور وتنحصر في فاعليه والناشرين عنه. أما حادث «أبو المطامير»، فهو شأن آخر، ونحن هنا أمام حدث ليس تلقائيا في حركته وملابساته، بل إن الحركة فيه يبدو عليها التدبير وليس التلقائية، وهو مرتبط بأحداث أخري أقل شأنًا ولكنها أرهصت له وعاصرته وساعدته، أو ثمة ما يشير إلي هذه الشبهات كما سيرد البيان إن شاء الله. ونحن نعرف من خبراتنا في كل مجالات العمل أن ما نتكشفه من تلقائيات ردود الفعل أولاً ما يلبث بتراكم الخبرات أن يصير من أساليب تدابيرنا في العمل. إن حادث «النبأ» يمكن القول أنه بدأ حركة شباب تلقائي وانتهي سياسات كنسية، أما حادث «أبو المطامير» فالظن في شأنه هو العكس، بدأ تدبيرًا وسياسة ولم ينته بعد. [ 2 ] بدأ التفات الرأي العام للمسألة المثارة، لا من «أبو المطامير» ولكن من أسيوط، فنشرت صحيفة العربي الأسبوعية في 28 نوفمبر 2004 أن ثمة فتنة طائفية في أسيوط، وأن القمص أبانوب من كنيسة الملاك ميخائيل يتهم محمد عبد المحسن صالح أمين الحزب الوطني بأسيوط بأنه يضغط علي مسيحيين ليعلنوا إسلامهم، وأن شائعة أخري تقول إن القمص أبانوب يثير المشاكل وأنه علي صلة وطيدة بأقباط المهجر. وذكر القمص أن أمين الحزب الوطني يغري المسيحيين المتهمين في جرائم أن يبرئهم من تهمهم إن أسلموا، سواء كانت جرائم مخدرات أو سرقة أو غيرها. ثم ذكر قصة الفتاة «كريمة» التي أسلمت وتزوجت من مسلم، وتكلم عن بناء الكنائس وغير ذلك، وطلب تدخل رئيس الجمهورية شخصيا، ورفض اقتراح الصحيفة حل المشاكل في اجتماع تعقده قيادات أسيوط، وذكر أنه إذا لم يأت أحد من مسئولي القاهرة، فسيوزع بيانًا علي شعب أسيوط بأن جهاز الدولة عاد إلي مستوي الدولة العثمانية. أما أمين الحزب الوطني فقد دافع عن نفسه بإنكار ما نسب إليه وذكر عن الفتاة المسيحية التي قيل أنها أسلمت وتزوجت مسلمًا، ذكر أنها من قريته درنكة وأن أباها أتاه شاكيا من أن ابنته طلبت إعلان إسلامها وزواجها، وأن أمين الحزب حلاً للمشكلة دفع بالفتاة إلي مكتب الصحة «ليتم تسنينها بسن صغيرة حتي تأمر النيابة بإعادتها إلي والدها علي أنها قاصر ولا يجوز أن تزوج نفسها». وفي 6 ديسمبر 2004 نشرت صحيفة الأسبوع عن أحداث أسيوط، وأن القمص أبانوب أعلن في عظته يوم 17 أغسطس 2004 أن رب أسرة مسيحيا أعلن إسلامه هو وأمه البالغة ثمانين سنة، وأن زوجته وأولاده الخمسة لم يعلنوا إسلامهم، وتكلم عن أمين الحزب الوطني ودوره. وتقول الصحيفة إنها من متابعتها الأحداث في أسيوط تبين أن أكثر من سألتهم عن نشاط أمين الحزب استبعدوا أن يكون حضُّ المسيحيين علي الإسلام واحدة من المهام التي يكرس لها جهوده، وأن جهوده تنصرف إلي الأمور المالية والسياسية فحسب. وأن أبانوب أعاد أحاديث شتي عن أمر إسلام مسيحيين بضغوط رجال الحكم بأسيوط وأن ثمة مشاكل تتعلق ببناء الكنائس وأن ثمة أرضًا يريدون ضمها لتوسعة خدمات الكنيسة. ودافع أمين الحزب عن نفسه بأن أبانوب يريد الإثارة لتصل إلي خارج مصر لإعطاء العالم صورة أن المسيحيين مضطهدون في مصر، ثم قال «إنه علي استعداد تام للذهاب إلي المطرانية وأن يخضع لمحاكمة هناك وليحاسب المخطئ..». وبعد هذه الإثارة، ظهر من حديث أبي الفتاة «كريمة» المقول بأنها أغويت علي الإسلام، أنها كانت انجذبت إلي فتي مسلم، فذهب أبوها «بدر رشدي» إلي أمين الحزب، وهو يعمل لديه، «فطلب محمد عبد المحسن من الضابط أن يحرر للبنت شهادة ميلاد بسن 14 عامًا.. الراجل يشكر خدمنا وأنا أخذت بنتي ورجعت البيت «واستبعد الأب أن يكون ثمة غواية له أو ضغط عليه ليتحول إلي الإسلام، وهذا ما ذكرته صحيفة العربي في 12 ديسمبر 2004. ثم لما ذهب الأستاذ نبيل زكي رئيس تحرير صحيفة الأهالي إلي أسيوط كتب في الأهالي في 15 ديسمبر 2004 يقول «الغريب أن هذه الواقعة حدثت منذ سنة، وبالتحديد في شهر رمضان قبل الماضي، ولكنها لم تنفجر كمشكلة إلا في هذه الأيام!» (علامة التعجب من الأستاذ نبيل زكي)، ثم ذكر أن الفتاة اصطحبها أحد الشباب إلي مركز أسيوط لتغيير ديانتها وأن الأب «حاول إقناع ابنته بالعدول عن قرارها وفشل الوالد فاستعان بمحمد عبد المحسن صالح عضو مجلس الشعب الذي اتصل بمفتش الصحة وطلب منه تسنين الفتاة وحيث ظهر أن عمرها 14 سنة، وتمت إحالة الفتاة إلي النيابة التي قررت تسليمها إلي ولي أمرها (الوالد) علي أساس أنها قاصر». وفي حديث أمين الحزب الوطني مع «الأسبوع» في 13 ديسمبر 2004 أن واقعة هذه الفتاة محرر عنها محضر سنة 2003 مركز شرطة ابنوب وذكر أن القس أبانوب «قابل الفتاة محاولاً الضغط عليها لتعدل عن إشهار إسلامها. وأحضرنا هذه الفتاة في حضور والدها وحاولنا معها كثيرًا إلا أنها أصرت علي إشهار إسلامها. وهنا اقترحت علي الحاضرين من الشرطة وأمن الدولة أن يتم عمل محضر بالواقعة وإرسالها إلي النيابة علي أنها صغيرة في السن، وهو ما حدث وأمرت النيابة بتسنينها عن طريق مفتش صحة المركز وفعلاً تم تسنينها بـ (14 سنة) وأمرت النيابة بتسليمها لوالدها..» ثم ذكر أمين الحزب عن علاقته بالقمص أبانوب «أؤكد لك وعلي مسئوليتي أنني طلبت أكثر من مرة من القس مينا ممثل السيد المطران ميخائيل أن التقي بالمطران ومستعد ــ ومازلت ــ أن أحاسب داخل الكنيسة وأمام شعب الكنيسة وأطلب أن يكون المطران نفسه حكمًا..» ثم نفي عن نفسه تهمة أنه لا يستجيب لطلبات الكنيسة ذاكرًا أنه استصدر قرارًا من مجلس محلي المحافظة بتخصيص 13 فدانًا تجاور الدير للدير في 1997 وصارت ملكًا له. فضلاً عن نصف فدان آخر ومساحة للصرف الصحي، وأن ما يزيد علي 40% من كنائس أسيوط أنشئت في السنوات الخمس الأخيرة وأنه منذ 1999 بني وجدد ورمم 139 كنيسة وأن 391 كنيسة في أسيوط وبها عشر مطرانيات منها ست للأرثوذكس. واتفقت تعليقات الصحف التي تعرضت لموضوع أسيوط هذا علي أن محمد عبد المحسن صالح أمين الحزب الوطني بأسيوط له نفوذ كبير جدًا بالمحافظة. وقد يكون من المبالغة ما قيل عنه أن نفوذه يفوق نفوذ المحافظين، ولكن هذه المبالغة ترسم مؤشرًا علي مدي النفوذ الواسع الذي يمارسه لأكثر من عشرين سنة وفي عهود محافظين عدة. وهذا صاحب النفوذ الواسع الكبير الذي يقال أنه ممتد من ثلاث وعشرين سنة ماضية ولا يزال قائمًا، نراه هنا كيف يعامله القمص بانوب ويوجه له العبارات الحادة العنيفة، وكيف يتلقي أمين الحزب سيل التهم منه وهو خافض الجناح مذكرًا بما أسلفه من استجابات وطالبًا أن يحاكم محاكمة كنسية وأن يكون المطران هو من يحاسبه وأمام شعب الكنيسة ويكرر ذلك في كل أحاديثه، ونحن نخلص من ذلك كله إلي: 1 ــ أن هذا الحدث الخاص بالفتاة كريمة بدر رشدي، كان انتهي تمامًا من أكثر من سنة، ثم أعيدت إثارته. 2 ــ وأن من أعاد إثارته هو القمص أبانوب، وأن المطران ميخائيل ترك الأمر يثور وابتعد بالصمت عن لا ونعم، في أمر يتعلق بمطرانيته وبقساوسته. 3 ــ في حدود البيانات التي أمامنا، فإن الفتاة التي قيل أنها كانت تصر علي الإسلام وعلي الزواج، نحن لا نعلم سنها الحقيقي، ولكننا نعلم أنها أحيلت بتوصية من أمين الحزب إلي مفتش الصحة ليسننها فسننها بسن 14 سنة لكي تسلم لأبيها. كما أننا لا نعلم حقيقة اقتناعها بالإسلام ولكننا نعلم أنها سلمت لأبيها بعد تحديد سنها بالأقل لتفادي تمسكها بالزواج وبالتحول الديني. وهذا ما ذكره والد الفتاة الأستاذ نبيل زكي وهو ما أقر به علي نفسه محمد عبد المحسن صالح، وما شهد به أيضًا علي غيره. وهو أيضًا ما نقله الأستاذ عادل حموده وعبد الحفيظ سعد في صحيفة صوت الأمة في 13 ديسمبر 2004. 4 ــ نحن لذلك أمام شبهات قوية أن تواطؤا مشهودًا به جري بين موظفين عموميين لإثبات غير الحقيقة في أوراق رسمية بغية التغلب علي رغبات ملحة ومشروعة عبرت عنها الفتاة، وهي مواطنة مصرية وظلت مصرة عليها حتي سلمت إلي والدها بقرار النيابة العامة بناء علي أن سنها 14 سنة. وهذه أمور تستدعي التحقيق من جهات الرقابة الإدارية ووزارتي الصحة والداخلية، كما أنها تستدعي التحقيق من نقابة الأطباء عن مدي الشبهة التي تلحق بتقرير مفتش الصحة لسن الفتاة المذكورة. 5 ــ إن ما أقر به أمين الحزب علي نفسه من تحريض علي تسنين الفتاة بأربع عشرة سنة ليمكن إعادتها إلي أبيها تخلصًا من إصرارها علي تحقيق رغباتها الجائزة والمسموح بها قانونًا، أن ذلك يقتضي فيما أظن أن ينظر فيه مجلس الشعب بحســبان المذكور عضوًا به، للتثبت مما فعل ولتقدير ما إذا كان ذلك مما يفقده الثقة والاعتبار اللذين يمكن بتقـدير فقـدهما إسقاط العضوية عنه طبقًا للمادة 96 من الدستور. [ 3 ] يتداخل مع الحادث السابق، ما يمكن تسميته حادث «أبو المطامير» وهو يبدأ ظهوره فيما ذكرت الصحف يوم 27 نوفمبر 2004. ذلك أن السيدة وفاء قسطنطين وهي مهندسة زراعية تعمل بهيئة الإصلاح الزراعي بمحافظة البحيرة وتبلغ السادسة والأربعين من عمرها، وهي تعيش في «أبو المطامير» بمحافظة البحيرة ومتزوجة من القس يوسف معوض ولها ابن مهندس متخرج من هندسة جامعة الإسكندرية وابنة في كلية العلوم بذات الجامعة، وزوجها مريض بترت ساقه من مضاعفات مرض السكر. في ذلك اليوم خرجت السيدة وفاء من بيتها ولم تعد إليه حسبما ذكرت صحيفة وطني في 12 ديسمبر، وأبلغ شقيقها مسيحة قسطنطين السلطات عن تغيبها. وتذكر مجلة المصور في 17 ديسمبر أن السيدة وفاء تقدمت في الأول من ديسمبر إلي قسم الشرطة في حي السلام بصحبة سيدة مسلمة هي ابنة جار قديم لأسرة وفاء في «حصة مليج» بالمنوفية حيث نشأت هي. وذكرت في القسم كل ما يتعلق بحالتها الاجتماعية من مؤهل وزواج وأولاد، وأنها تقيم مع صديقتها لعلاقة قديمة بين أسرتيهما وأنها «تطلب إشهار إسلامها». وذكرت أنها قرأت للشيخ متولي الشعراوي واستمعت إلي أحاديث الداعية السوري يوسف طوري وإلي أحاديث عمرو خالد وأنها تتلو سور: يس والكهف والرحمن وتحفظ كل قصار السور وأنها صامت شهر رمضان والأيام الستة من شوال. وليس من سبب يتعلق بزواج جديد يحدوها إلي الإسلام، إنما هي الرغبة الشديدة في الإسلام التي «لم تستطع إقناع نفسها بالعدول» رغم ألمها لما يمكن أن يحدث لأسرتها. وأنها كاشفت ابنتها بالحقيقة. فأبلغ مأمور القسم مباحث أمن الدولة واستدعيت إليها السيدة المذكورة. وأن أسرة السيدة وفاء لم تبلغ عن غيابها حتي أبلغ أخوها عن ذلك في قسم «أبو المطامير» صبيحة اليوم الثاني من ديسمبر. من اليوم الثاني من ديسمبر فيما يبدو بدأ التحرك القبطي قلقًا وشغبًا وشائعات، وانتشرت شائعات تقول أنها اختطفت وأنها هربت مع زميل لها مسلم تريد أن تتزوجه وأنها لم تطق العيش مع زوجها المريض، وأن ثمة من أغراها وحرضها وأن «غسيل مخ» حدث لها. وكل ذلك كان ظلمًا وافتراء وثبت عدم صحته. ولم ترع الشائعات حرمة السيدة ولا ذمة ناقلي الأخبار. ولا أقول ذلك لأنني مسلم يتكلم عن سيدة انتقلت إلي الإسلام، ولكن أقوله نقلاً عما قاله الأنبا باخوميوس مطران محافظة البحيرة والذي يعرف السيدة وزوجها ويتبعه زوجها ويتبعه محال عمل السيدة وزوجها ومحال سكنهما. قال غبطته لصحيفة صوت الأمة في 13 ديسمبر «كانت سيدة تمتاز بالخلق والهدوء.. وحتي مساء يوم الجمعة (أي 26 نوفمبر) وقبل أن تختفي بساعات كانت ترافق زوجها، بل قامت بتغيير جرح زوجها الذي يعاني من بتر في ساقه اليمني وفي اليسري غرغرينة سكر، وكانت رفيقة بارة بأسرتها وتحملت زوجها أثناء فترة مرضه، كما أنها أحسنت رعاية ولديها مينا خريج الهندسة وشيري التي تدرس بكلية العلوم جامعة الإسكندرية، ولم تكن الأسرة تعاني أية مشكلات مالية، فالمطرانية ولظروف زوجها المرضية كانت توفر لها كل شيء ولم تشتك هي من أي شيء». وزميلتها في العمل سهير عصمت الخربوطلي تذكر في «المصور» أنها «مثال للأخلاق والأدب وعفة اللسان وحفظ السر وكانت عاطفية جدًا وقلبها يعرف الرحمة وكريمة مع الجميع وسخية وأسلوبها راق ولا تخدش حياء أحد» (عدد 17 ديسمبر2004)، كما قال ذلك عنها الأب مينا صبحي من أبو حمص بالبحيرة إذ كانت تسهر علي مرض زوجها بالمستشفي ثلاثة أشهر وإنها من بيت طيب (العربي في 12 ديسمبر2004). وتذكر صحيفة العربي في 12 ديسمبر 2004 أن شائعة الاختطاف انتشرت كالنار في الهشيم فتجمهرت أعداد من المسيحيين في المطرانية بالبحيرة يطالبون بعودة السيدة وفاء وتسليمها إلي زوجها، باعتبار أنها أجبرت علي الإسلام وأنها تزوجت زميلها واعتصم المتجمهرون. وبدا أن الأنبا باخوميوس يعمل علي تحويل المسألة إلي مسألة عامة وسياسية فذكر «أناس لهم اتجاهات» سبق أن أبلغ عنهم السلطات وأن «هؤلاء الناس» هم من خطفوها وأن لديه أسماء «هؤلاء الناس». وقال كثيرون بعدها في البحيرة أو في اعتصامات البطريركية بالقاهرة أنها أجبرت علي الإسلام وأنها اختطفت، وأن الاختطاف لا يكون فقط بالسلاسل والحديد إنما يكون أيضًا بالترغيب. وطبعًا تحركت أجهزة الأمن في محافظة البحيرة لعلاج هذا الموقف، مع ما حدث من تجمهر ومن اعتصام، وتحرك المحافظ وذهب الدكتور عبد الرحيم شحاتة وزير الإدارة المحلية إلي البحيرة ليلتقي برجال الدولة والكنيسة، وانتهي إلي أن السيدة وفاء قد أسلمت، وقد أصدر المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس بالإسكندرية بيانًا نشرته صحيفة الوطن، واستنكر قول الدكتور عبد الرحيم شحاتة. كما استنكر نشر «الأهرام» لذلك باعتباره يهدد الوحدة الوطنية. وبدأ التوافد علي القاهرة في الأيام التالية لما صدرت تصريحات بالبحيرة بأن الأمر يكون حله في القاهرة، فتوافدت الوفود من الشباب القبطي الغاضب إلي مقر البطريركية في العباسية. وتذكر صحيفة صوت الأمة أنه من مساء الأحد 6 ديسمبر وطوال الثلاثاء 8 ديسمبر ساهمت مواقع علي الإنترنت للأقباط في النشر عما يحدث في الكاتدرائية، ومنها خبر عن تحرك عدد كبير من الحافلات تحمل أعدادًا كبيرة من أقباط البحيرة يتجهون إلي الكاتدرائية، وكان ذلك في ذات وقت وصول الحافلات، ثم انضم إلي هؤلاء مجموعات من القاهريين ومن المحافظات الأخري. وفي يوم الأربعاء وصل المئات إلي الكاتدرائية لأنه يوم محاضرة البابا الذي كان عاد من سوريا. وتذكر صحيفة العربي أن الكاتدرائية استقبلت المئات جاءوا من مختلف المحافظات في اعتصام مفتوح، وأن ذلك تزامن مع قداس للصلاة بمناسبة وفاة الكاتب الأستاذ سعيد سنبل، وحضره لفيف من كبار رجال الدولة ففوجئوا بالمتظاهرين يحملون اللافتات ويهجم بعضهم علي القاعة الكبيرة ويحاصر عددًا من المسئولين. ورغم الوعود التي قدمت بإعادة السيدة وفاء لم تهدأ الأمور وانضم إلي المتظاهرين مئات من الشباب والفتيات ومن الأسر ومعهم أطفالهم، كما ذكرت الصحيفة أنه حتي ذلك الوقت لم يتدخل الأمن وكان المتظاهرون موجودين خلف البوابة «وأمامهم القساوسة وبعض المسئولين عن الكاتدرائية وعلي رأسهم الأنبا أرميا، كانوا يجبرون أي متظاهر يرغب في الخروج من باب الكاتدرائية علي الدخول مرة أخري وسط هتافات الشباب الغاضبين». ومما يمكن الإشارة إليه هنا أن وظيفة الشائعات فضلاً عن كونها تؤجج الغضب وتثير الحماس وتساعد علي التجمهر والإحساس بالإهانة والخطر، فإنها أيضًا تنقل المسألة من كونها حادثًا فرديا إلي أن تصير حدثًا ذا دلالة عامة، ومن هنا نلحظ أن الأنبا باخوميوس من بداية أحاديثه كان يذكر «هؤلاء الناس» الذين يعرفهم وأبلغ عنهم السلطات، ويشير إلي إمام مسجد وزميل عمل وغير ذلك، ثم الإشارة إلي الضغوط والإغراءات كما لو أن جهازًا يقوم بالحض علي ترك الدين واعتناق دين آخر، ثم يزيد الإحساس بالخطر وافتقاد الأمن الجماعي، فلا يكون بعد ذلك ملجأ من هذا الخطر للشباب المسيحي إلا المطرانية في البحيرة والكاتدرائية في القاهرة. هذه النقطة الأخيرة تلزم الإشارة إليها عند النظر في آثار مواقف غبطة البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة، إزاء هذا الحادث، لقد ترك غبطته الأمر عند أول توافد الشباب إلي البطريركية، تركهم مسافرًا إلي دمشق لحضور اجتماع مجلس الكنائس، ثم عاد بعد يومين وقد غص المكان بمن ينتظرون عودته ليعالج الأمر ويهب القلقين شعور الأمن والأمل. وكل ذلك يتصاعد مع موعد محاضرته يوم الأربعاء، وغص المكان أيضًا بسبب قداس الراحل الكريم سعيد سنبل، وهو قداس ذكر الأستاذ عادل حموده في صوت الأمة أنه كان سيقام في كنيسة أخري أقيم فيها سرادق العزاء، ولكن طُلب إلي أسرة الراحل بالتليفون أن يكون القداس في الكاتدرائية «وبدا أن ذلك نوع من التكريم، فوافقت العائلة دون أن تتصور هي وكل أصدقاء سعيد سنبل أن هناك هدفًا آخر هو المرور علي الشباب الغاضب بكل ما يحمله من لافتات وبكل ما يقول من هتافات» (عدد 13 ديسمبر2004)، وليشمل ذلك جذب كبار الشخصيات وكبار المسئولين الذين سيحضرون القداس. ثم بعد أن حضر غبطة البطريرك وبعد الإعلان عن قرب حل الأزمة وتسليم السيدة وفاء للكنيسة، وقبل أن يلقي محاضرته، عرف الجميع أن غبطته غضب وأنه غادر المقر البابوي ذاهبًا إلي دير الأنبا بيشوي للاعتكاف، ولنا أن نتصور شعور اليتم والضياع الذي يشعر به شباب ثائر مستفز بالخوف وعدم الأمن ويلجأ إلي حيث ينتظر التزود بالثقة والأمن والطمأنينة لدي صاحب المكان، فيتركه ويذهب، يتركه في العراء ويذهب. هنا انفجر الموقف وبدأ خروج الشباب وبدأ قذفهم الشرطة بالطوب، فأصيب 55 من الجنود بينهم 5 من الضباط، وأصيب عدد من الشباب قال أحد رجال الكنيسة أنه بلغ 150 شخصًا، وقبضت الشرطة علي 34 من المتظاهرين. [ 4 ] كان هذا المسلك الأخير في ظني هو ما فجر الموقف، أو هو من أهم ما تفجر به الموقف، والمسألة كلها في ظني ليست مسألة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، ولا هي في الأساس مسألة مسلم يأتي أو مسيحي يذهب، وأن كل الشهادات التي وردت في الصحف في هذه الأيام، سواء كانت من آباء للكنيسة أو من غيرهم قالت أن مسألة السيدة وفاء قسطنطين بوصفها مسيحية، إنما هي مسألة أنها زوجة قسيس، وقد قالها الأنبا باخوميوس صراحة، لقد قال لصحيفة العربي «سلامة الوطن يجب أن نحافظ عليها، ولكن المشكلة أن رجال الدين في مجتمعنا المصري رمز وليس شخصية عادية وزوجة رجل الدين هي أيضًا رمز..» وقال القس اسطفانوس حبيب من كنيسة كفر الدوار أنه عندما يمس الأمر «زوجة كاهن فالمقصود هنا هو الكنيسة». وقال الأنبا باخوميوس في صوت الأمة «إنها زوجة لأحد رجال الكهنوت»، فلما سئل عن ماذا يريدون قال «أن يتم تسليم زوجة القس لنا» فلما سئل عن ماذا إن رفضت. قال «الموضوع لا يحتمل فلا بد أن يتم تسليمها فهي زوجة رجل كهنوت وتعلم أنه ليس لها حرية الإرادة فيما تفعله». وهذه العبارة تكشف عن التناقض مع ما قاله في موضع آخر بصحيفة العربي من أن المهم أن نتأكد أن «تكون لها الأهلية والحرية في اتخاذ القرار لأنها حينما تأخذ القرار وهي فاقدة الأهلية والحرية في تنفيذه فهذا غير معقول». وهكذا يفكر غبطته، مواطنة مصرية تعمل مهندسة زراعية من سنة 1981 وهي في السادسة والأربعين من عمرها وربت شابين: مهندسًا وطالبة بكلية العلوم وعرفت بما أقر به غبطته نفسه من حميد السجايا وشهد لها بذلك زملاؤها، ومع ذلك يري غبطته أن لا حرية لها ولا إرادة لأن الأمر يتعلق بالكنيسة بوصفها مؤسسة. ونحن إذا استخدمنا المفاهيم الحديثة، نقول أن الأمر هنا ليس أمر «المسيحيين» إنما هو مشكلة البيروقراطية الكنسية التي وجدت في الحادث ــ صوابًا أو خطأ ــ ما يجرح عزوتها لدي جماهيرها. والأنبا بيشوي يقول لصحيفة العربي إن الأمر كان يمكن تداركه في «أبو المطامير» «ولكن الأجهزة ظلت تتلاعب بالكنيسة وهو ما كان له أثره البالغ في تصاعد الأزمة وتفجير الموقف. ويظهر بذلك أن سبب الحادث يتعلق بالبيروقراطية الكنسية وأن تصعيده جاء منها وأن الصراع بشأنه دار بين «الأجهزة» وبين «الكنيسة». وظهرت قوة المؤسسة الكنسية في أنها نقلت المسألة من كونها مسألة سيدة انتقلت من المسيحية إلي الإسلام إلي كونها مسألة تتعلق بالأمن المسيحي، بزعم أن السيدة خطفت وأنها تزوجت وأن ثمة أناسًا حرضوها وجهات أغرتها، فضلاً عن استخدام نوع من التشنيع الأخلاقي علي السيدة وفاء، فمثلاً يقول الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس عنها «إذا ذهبت للإسلام حبًا وعشقًا في رجل آخر غير زوجها، فهذا ما ترفضه الكنيسة حتي لو سمحت الأجهزة الأمنية..» (العربي 12 ديسمبر2004)، ولا أدري كيف سمح له ورعه الديني أن يقذف سيدة أشار إليها بالفضل والاحترام كل من تكلم عنها ممن عرفها، وحتي رجال الكنيسة في إقليمها شهدوا بذلك. كان المطلب أولاً تسليم السيدة وفاء إلي أسرتها، ثم سرعان ما تغير، واطرد علي ألسنة رجال الإكليروس مطلب تسليمها إلي الكنيسة، ظهر ذلك علي لسان الأنبا باخوميوس أولاً ثم استشري، وصار في ساحة الكاتدرائية بين المحتشدين المعتصمين مطلبًا شعبيا. وصار هذا الحشد هو أداة الضغط علي الحكومة للرضوخ لمطلب الكنيسة. والوقت مناسب جدًا للضغط، فهو وقت التسليم في الثوابت، وهو موسم الفكر الجديد الذي يدعو إلي عدم التمسك بشيء، هو موسم عزام عزام واتفاقية الكويز وغير ذلك. ومن المؤسف حقًا أن الكنيسة الوطنية المصرية تستغل في صراعها مع الدولة ظروفًا غير مناسبة لتحقق الإرادة الوطنية، وتقف مع من يتربصون بمصر الدوائر في هذا الظرف النكد. صدر القرار السياسي بتسليم السيدة وفاء للكنيسة، وأعلنه الأنبا يؤانس علي جمهور المعتصمين بمقر الكاتدرائية، ذكر أن السيدة وفاء «وصلت في مكان آمن يتبع الكنيسة..» فلما طالب الجمهور المثار بضرورة رؤيتها خرج إليهم الأنبا باخوميوس وأعلن أنها في مكان آمن يتبع الكنيسة فعلاً «وأنه جلس معها». وبعد أن سلمت السيدة إلي الكنيسة أودعتها الكنيسة بيتًا للمكرسات في أرض النعام بعين شمس، وأحاط بها هناك عدد من الراهبات، كما وفد عليها من المطارنة الأنبا باخوميوس والأنبا موسي أسقف الشباب والأنبا أرميا سكرتير البابا والأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس. وصرح باخوميوس لصحيفة العربي بأن السيدة «كانت ولا تزال تحت ضغط لدرجة تفقدها الحرية والأهلية لاتخاذ القرار السليم»، وصرح الأنبا موسي بأنها كانت في حالة من الإعياء والوهن فلم يتحدثوا إليها عند مجيئها ثم «استيقظت بعد أربعة أيام» وتمسكت بمسيحيتها (صحيفة الحياة 16 ديسمبر2004). وصرح القس فليوباتير عزيز بأنها كانت في حالة من الإجهاد والإعياء يوم الأربعاء 8 ديسمبر عندما ذهبت إلي هذه الدار، وفي يوم الجمعة التالي «استعادت توازنها» وأكدت أنها لا تزال علي المسيحية (صحيفة المصري اليوم 16 ديسمبر2004). وفي ذات الوقت الذي دخلت فيه إلي دار المكرسات وصارت في حوزة الكنيسة، صرح مصدر كنسي بما نشرته مني الملاخ في مجلة المصور بأن مفاوضات تجري مع وفد الكنيسة والسيدة وفاء «لإقناعها بالعدول عن قرار رغبتها في إشهار إسلامها، والتي بدأت منذ سبعة أيام قد تطول وتمتد شهورًا» (المصور 17 ديسمبر2004). كما صدر تصريح آخر لأحد المطارنة بأن الأمر قد يستغرق سنة كاملة لأن السيدة وفاء في حالة نفسية سيئة. وعلي كل حال فمن أول ما سلمتها أجهزة الدولة للإدارة الكنسية بناء علي القرار السياسي الصادر بذلك، لم يعد في إمكان أحد في مصر كلها أن يعرف عن السيدة وفاء قسطنطين شيئًا إلا عن طريق الإدارة الكنسية، والحاصل أنه بعد نحو أسبوع من تسليمها إلي الكنيسة وتردد المطارنة عليها تقدم طلب باسمها إلي النيابة العامة وذهبت إلي مقر النيابة التابعة له عين شمس، وكان يصحبها المطارنة الأربعة وعدد من محامي الإدارة الكنسية، ولقد علمنا أن النيابة العامة طلبت دخول السيدة وفاء إليها وحدها كما هي العادة المتبعة قانونًا لتدلي بما تريد الإدلاء به فلم يوافق مصاحبو السيدة علي تركها مع النيابة العامة وحدها وأصروا علي وجودهم معها في هذا اللقاء، وأن أمر هذا الخلاف استمر وقتًا قدره البعض بساعة أو ساعتين، ثم استقر الأمر علي أن يدخل معها محامون من الكنيسة ليحضروا اللقاء ويسمعوا ما تدلي به السيدة في محضر النيابة. وقد تضمنت أقوالها أنها عدلت عن رغبتها في الدخول إلي الإسلام وأنها ستظل مسيحية، وذكرت صحيفة المصري اليوم إن كان ذلك «لتنتهي الأزمة التي تواصلت خلال الأيام الماضية وتتخلص من الحصار المفروض عليها» (عدد 16 ديسمبر 2004)، كما ذكرت صحيفة الحياة أن السيدة وفاء طلبت التوجه إلي النيابة العامة لتثبت أنها «مازالت علي مسيحيتها» مبررة الطلب بأنها «تريد الخلاص من الحصار المفروض عليها». (عدد 15 ديسمبر2004). وأعلن النائب العام بيانًا بحضور السيدة وبعدولها عن رغبتها في الإسلام، وأنها بعد ذلك انصرفت من لدي النيابة العامة. والحاصل أنه بعد خروجها من مكتب رئيس النيابة لم تطلق لها حريتها في الانتقال والتحرك، ولم تعد مواطنة عادية، رغم أن بيان النيابة صرح أنه لا توجد شبهة جريمة، ومن ثم كان يتعين إطلاقها لتذهب كما تشاء، ولكنها أخذت مع السادة المطارنة بسيارة إلي دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون حيث كان البطريرك قد ذهب إليه مغاضبًا ومعتكفًا لأن سيدة مواطنة مصرية لم تسلم إليه عند طلبه إياها. وأقيم قداس بالدير بعد ذلك. ونحن ولا أحد يعلم عنها شيئًا، فقد صارت شأنًا كنسيا وديريا خالصًا. تنحسر عنه كل سلطات الدولة والمجتمع ويقوم مغلقًا وبعيدًا ومتعاليا حتي عن الجماعة الوطنية. [ 5 ] تحقق لإدارة المؤسسة الكنسية ولرجلها الأوحد كل ما طلب، ولكن لم يتحقق له بعد كل ما يريد. ونحن لا نعلم كل ما يريد، وأظن أن غبطته لا يعرف عن أمر نفسه كل ما يريد، فالإرادة مفتوحة للمزيد والمزيد من الرغبات كلما تحقق له المزيد والمزيد من الطلبات. وغاية علمنا عن هذا الأمر المثار، ما ورد في (المصري اليوم 16 ديسمبر) بعد عودة السيدة وفاء إلي المسيحية «أعلن أن البابا ناقش مع كهنة الكرازة المرقسية الأحداث الأخيرة وكيفية تلافيها في المستقبل، حيث أكد البابا أنه سيطلب من الحكومة تسليم أي حالة تريد إشهار إسلامها إلي الكنيسة لعقد جلسة الإرشاد..». وصرح الأنبا موسي «أكد حق الكنيسة قانونًا في تقديم النصح لكل من يفكر في إشهار إسلامه خشية أن يكون ذلك تحت ضغط أو ظروف نفسية أو عائلية أو مادية أو إغراءات من أي نوع» (الحياة 16 ديسمبر2004). ثم بعد ذلك اطرد الحديث في كل المصادر الإعلامية أن غبطة البطريرك باق علي اعتكافه حتي يفرج عن أبنائه الـ 34 شابًا الذين قبضت عليهم الشرطة أثناء التراشق الذي جري عند مقر البطريركية، مع التلويح بأن أعياد الميلاد مقبلة، وأن إبقاء البطريرك علي غضبه من شأنه أن يؤثر في ممارسة شعائر العيد. والسؤال الذي يمكن أن يثور الآن، إذا لم يكن كل هذا سياسة فما هي السياسة إذًا؟ من عدد من السنين مضت. كتب الدكتور رفيق حبيب كتابًا عن «الكنيسة والسياسة» وغضب البطريرك من هذا الزعم الذي نفاه بشدة وغضب وقتها علي صحيفة الأهرام لأنها نشرت للأستاذ فهمي هويدي عرضًا وتعليقًا علي هذا الكتاب. ونحن نلحظ دائمًا في كل ما قيل وما صدر عن آباء الكنيسة في هذا الحادث الأخير، حادث «أبو المطامير» أنهم دائمًا يضعون المطالب باسم «الوحدة الوطنية» ويقيمون مواقف الآخر المؤيدة لمطالبهم أو المعارضة، باعتبار أن من يؤيدها حريص علي «الوحدة الوطنية»، وأن من يعارضهم يخاطر «بالوحدة الوطنية». وفي البيان الذي أصدره المجلس الملي للأقباط الأرثوذكس بالإسكندرية، انتقاد لصحيفة الأهرام وللدكتور عبد الرحيم شحاتة وزير الإدارة المحلية لأن الوزير قال أن السيدة وفاء صارت مسلمة ولأن الأهرام نشر هذا الخبر، وقال البيان أن «نشر هذا الخبر بالأسلوب المثير للمشاعر مما يهدد كيان الوحدة الوطنية الذي نحرص عليه جميعًا (صحيفة الوطن 12 ديسمبر2004) ولا أريد أن أثقل علي القارئ بالمزيد من المقتطفات حول هذا الأمر، ويكفي أن يطالع أي شخص صحف الفترة وبيانات الإدارة الكنسية وتصريحاتهم وإجاباتهم حتي يلتقط منها هذا الخيط. إن إطراد الحديث عن الوحدة الوطنية في هذا الشأن يفيد مصادرة مفهوم الوحدة الوطنية للصالح الكنسي وحده، وهو محاولة ذاتية للمزج بين الصالح القبطي كما تراه الإدارة الكنسية، وكما تروج له بين شبابها، وبين الصالح الوطني العام لمصر بمسلميها ومسيحييها، وقد تكون كثرة الكتابات عن الوحدة الوطنية وما يستدعيه المصري من تصور عن نجاحه في تحقيقها ورغبته النبيلة في حفظها، قد يكون ذلك مما أوحي للكنيسة ورجالها أنهم ما داموا هم «الطرف الثاني» في معادلة الوحدة الوطنية، فلا بأس أن يكونوا هم «الدليل» علي وجود الوحدة أو عدم وجودها. وهو باعتباره «الدليل» فهو من يستطيع إسباغ وصف الوحدة الوطنية علي الجماعة أو سحب هذا الوصف. ويمكنه بذلك السيطرة علي هذا المفهوم واحتكاره ويصير صالحه هو «المعيار» لوجود الوحدة أو عدمها، فيتحول من كونه «دليلاً» إلي كونه «معيارًا». والحقيقة أنه ليس دليلاً وليس معيارًا وليس طرفًا ثانيا في اتفاق ثنائي، إن الجماعة السياسية الوطنية العامة تفرض نفسها علي كل محتوياتها من ذوي أديان وطوائف وأقاليم ومهن ومذاهب، وتراعي في كل ذلك الأحجام والمقادير التي تتكون منها الجماعة الوطنية وإلا اختلت الموازين وفقد المجتمع توازنه. ونحن نرجو ألا يكون وراء مصادرة مفهوم الوحدة الوطنية، نوع من الإشارة إلي الضغوط الأجنبية. وإن المواقف الوطنية التي تتخذها الكنيسة بالنسبة للخارج مثل عدم الذهاب إلي القدس، هذا أمر لا تمنحه الكنيسة لمصر لأنها المفروض أنها جزء من مصر وأن الصالح المصري والوطني هو ما يتعين أن يكون غالبًا لصالح الجميع وانصياعًا للمشترك العام لكل مكونات الجماعة الوطنية. ونحن ملتزمون إزاء وطننا أن نكون وطنيين، ولا يجوز أن يمن أحد علي نفسه ولا علي جماعته. وليست مصر كالسودان من حيث تميز جماعاتها الدينية والقبلية والإقليمية، مصر ممتزجة ومتداخلة في جماعاتها بحيث أن أحدًا منها أو جماعة إذا رمي أصابه سهمه، ودولة مصر ليست كدولة السودان، دولة السودان أصغر من السودان نفسه فهي غير قادرة عليه بسبب الانتشار وقلة الكثافة والتنوع الهائل. أما دولة مصر فأكاد أقول أنها أكبر من جماعتها السياسية رغم أن جماعتها سبعون مليونًا من البشر. وذلك بسبب تمركز السكان وكثافتهم وانتشار الدولة في ربوع مصر كلها وتكونها العضوي من كل فصائل المجتمع المصري وجماعاته الفرعية، وهي إن كان أصابها الوهن والهزال، فالوهن والهزال طارئان سيزولان إن شاء الله، فالحجم والقدم والخبرة والإحاطة فهي باقية إن شاء الله. وإن مؤسسة الكنيسة عندما تستغل فرصة الوهن، فإنها تكون تستبدل الذي هو أدني بالذي هو خير، وخيرها في النهاية هو خير المسيحيين في انضوائهم في الجماعة الوطنية، وهو في خير هذه الجماعة الوطنية. هكذا فهم الأمر الوطنيون الأقباط من بدء القرن العشرين، حتي عندما كانت مصر محتلة من الإنجليز عسكرًا وسياسة. ولذلك فإن هتافات الشباب في مقر البطريركية مما يتجاوز النداءات الوطنية بطلب التدخل الأمريكي وغير ذلك، هذا أمر يتعين أن تقلق منه البطريركية ورجالها، وألا تتسامح فيه وأن تعمل علي معرفة مصادره وتقطع عليها السبل، وليس أن تضغط به علي الجماعة الوطنية وعلي أجهزة الدولة المصرية، إن مما يجمعنا هو الصالح الوطني وباعتبار ارتباط المصير، فإن انفك هذا الجامع فلا جامع وليس هذا في صالح أحد. [ 6 ] بقي الحديث عن السيدة الفاضلة الجليلة وفاء قسطنطين، وهي فاضلة وجليلة بشهادة رجال الدين المسيحي في البحيرة وبشهادة من زاملوها في عملها كما سبقت الإشارة، وحسب أقوال زوجها عنها وولديها رعاهما الله وآنس وحشتهما. السيدة وفاء أسلمت والشواهد توقن بأنها صحيحة الإسلام، ولا يشك في ذلك من يكون تابع أحداث هذا الأمر فيما نقلته الصحافة علي اختلاف الصحف والتصريحات والأقوال وتوجهات الصحفيين وتنوع المصادر. هي صارت مسلمة صحيحة الإسلام. والقدر المتيقن إن كان ذلك من سنتين وأنها كانت تكتم إيمانها بالإسلام حينًا، ثم بدأ الأمر يظهر وأن مرض زوجها أجل اتخاذها خطوة البوح الرسمي، وقيل أنها أعلمت ابنتها بذلك، وماذا نقول عن سيدة عرفنا عنها أنها أسلمت وأنها تقرأ سورًا طويلة من القرآن وأنها تحفظ قصار السور، وأنها تصوم رمضان، وأنها كانت تصلي بعينيها ثم صارت تصلي جهرة، وإنها بعد إعلانها عن ذلك ارتدت الحجاب. هل كل ذلك يشكل فيما يقول رجال الإكليروس رغبة لم تكتمل. وإذا لم يكن هذا اكتمالاً فما هو الاكتمال؟ ونحن نعرف أن رسول الله صلي الله عليه وسلم، عندما ذكر له أحد الصحابة في الحرب أن مقتولاً كان نطق بالشهادتين، فلم يحمل الصحابي ذلك علي الجدية وقتله، وغضب الرسول الكريم وقال له «هلا شققت عن قلبه». نعرف من ذلك أنه يكفي للدخول في الإسلام أن ينطق الإنسان بالشهادتين، ولنا الظاهر والله سبحانه أعلم بالقلوب. ومع ذلك فنحن هنا نعرف القلوب أيضًا، ومن يفعل فعل ما فعلت »وفاء« فلا تقوم شبهة عن صدق ما في القلب مما أظهرته الجوارح ونطق به اللسان. إن وفاء مسلمة تجاوزت مرحلة التفكر والتردد والتدبر، تجاوزت ذلك يقينًا بينها وبين نفسها وبينها وبين الناس وجهرت بالأمر وأفصحت عنه جهارًا وعيانًا. وتركت بيتها وذهبت إلي بيت صديقة قديمة مسلمة استضافتها. فلما أبلغت أجهزة الأمن لتتعامل مع الدولة علي هذا الوضع المعلن، كفلت لها أجهزة الأمن ما تستطيع من حماية حتي تستقر بها الأوضاع. ومطلوب من الأجهزة أن تكفل حماية المواطن حتي يستقر إن كان ذلك في المكنة وجهد الطاقة. وقد لا يرضي ذوو النشاط السياسي عن النشاط السياسي لأجهزة الأمن. لأسباب مقدرة طبعًا، ولكن يبقي أن الوظيفة الأساسية لها هي كفالة أمن المواطن، وأن تقوم بهذا الواجب مهما تباينت أديان المواطنين. ولا يمكن أن تلام أجهزة الأمن لأنها وفرت الأمن لمواطنة تركت بيتها لأسباب جدية وتبحث عن مستقر لها في وضعها الجديد. والحاصل أن قرارًا سياسيا صدر، ولم أتيقن من أصدره، بتسليم السيدة وفاء إلي الإدارة الكنسية، أدعو الله أن يغفر لمن أصدره بأن يرجع عنه، هذا الأمر تحول به جهاز الأمن الملزم بالتنفيذ، تحول من حامٍ للمواطنة إلي قابض عليها ومسلم لها لهيئة كنسية، كانت هذه المواطنة تركتها وقصدت الابتعاد عنها كما نشدت المواطنة الأمن لها في هذا البعد عن الكنيسة، أيا كان صواب نظر هذه المواطنة للأمر: بمعني أنها لابد أن تكون سُلمت رغمًا عنها، وسُلمت إلي من كانت تريد الابتعاد عنهم. وهذه الدولة التي كانت المواطنة لجأت إليها لمساعدتها علي إنفاذ ما كان صح عزمها عليه بموجب ما يتعين أن يكفل لها من حرية في الاعتقاد والرأي. فيما تجيزه القوانين المعمول بها، هذه الدولة تحولت بالقرار السياسي من واجب حماية المواطنة إلي موقع القبض عليها وتسليمها رغمًا عنها. وكان الأصح أن يتركوها وشأنها تذهب حيث تذهب. والنقطة الثانية الأكثر خطورة، إننا لا نعرف بموجب أي قانون من قوانين الدولة المصرية يساق إنسان في هذا المساق، في أسيوط تحايل أمين الحزب الوطني بأن اصطنع سِنّاً غير حقيقية للمواطنة «كريمة» وجعل سنها 14 سنة وسلمت لأبيها بوصفه وليا طبيعيا عليها، فهو ولي النفس وولي المال عليها، أما السيدة وفاء فإن ابنها يتجاوز سن الرشد، ولا يمكن الاصطناع، فبأي شريعة وبأي قانون وضعي تسلم وفاء قسطنطين إلي الكنيسة. إنها حتي لم تسلم إلي أسرتها، بل سلمت إلي الكنيسة، مطارنة وبيت تكريس ثم دير. ونحن فعلاً نريد أن نعرف بأي قانون يجري هذا الأمر. إن القانون الوضعي الذي نطبقه يعرف الحبس ويعرف الحبس الاحتياطي ويعرف الاعتقال في ظروف حالة الطوارئ القائمة، ولكنه لم يعرف أبدًا أن يمسك بإنسان ويسلم لآخر ليس وليا عليه ولا قيمًا. وهو إنسان لم يرتكب إثمًا ولا خطأ. والنقطة الثالثة الأكثر خطورة، من هي الكنيسة التي يسلَّم إليها إنسان. الإدارة الكنسية طالبت بتسليمها السيدة وفاء لها، ولم يجل بذهن أحد من رجالها سؤال عما هي الشرعية القانونية التي يستندون إليها في المطالبة بتسليم هذه السيدة المصونة إليهم. وصدر القرار السياسي بتسليمها إليهم، ولم يجل بالخاطر فيما أظن، السؤال عما هو القانون الذي يمكن من تسليم شخص ليس متهمًا ولا عليه أدني شبهة في أي شيء، تسليمًا إلي جهة ليس لها عليه أية ولاية قانونية نظامية. هنا نتذكر المأثورة السياسية القديمة «إن من لا يملك أعطي من لا يستحق» قيلت من قديم عن إعطاء الإنجليز وعدًا لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين سنة 1917. وحتي بالنسبة للمسيحي الباقي علي مسيحيته الذي لم يشتبه في تركه دينه فلا يوجد أي قانون من قوانين الدولة يجيز تسليم مسيحي إلي كنيسته. والنقطة الرابعة الأكثر خطورة، أنه لأول مرة فيما أظن أن الدولة تسلم شخصًا من المواطنين المصريين لجهة مصرية« وليس علي الدولة ولا علي أجهزة الأمن فيها ولاية علي هذه الجهة وليس للدولة ولا لأجهزتها سيطرة عليها، إلا بوسائل التنصت الخفي غير المرئي، وهي الوسائل التي تتبع وحدها في أراضي الدول الأخري. والسيدة وفاء «رد الله غربتها وآنس وحشتها» لا نعلم عنها شيئًا منذ سلمت، ولم تخرج من هذا المكان الذي أودعت فيه إلا إلي النيابة العامة لتعلن مسيحيتها، ولم تترك وحدها مع النيابة العامة ولا أذن لأي من سلطات الدولة المصرية أن تلتقي بها إلا في لقاء النيابة وكانت مصحوبة برجال الكنيسة طول الوقت. فقد زايلها سلطان الدولة المصرية رغم أنها مصرية ولا تزال علي أرض مصر. وبذلك صيَّرت الإدارة الكنسية نفسها واسطة بين الدولة وبين مواطنيها، فلا تصل الدولة لبعض مواطنيها تعاملا ومخاطبة إلا عن طريق الإدارة الكنسية، التي تستطيع أن تحجب «رعاياها» عن الدولة. وهذا وضع لا أقول أنه غير قانوني فقط، ولكني أقول أنه غير دستوري أيضا، لما به من تمييز بين المواطنين علي أساس طائفي، أي أن الدولة لا تملك أن تتنازل عن سيادتها وتقبله. والنقطة الخامسة الأكثر خطورة، إن الإدارة الكنسية هي من طلب، أي هي من أصدرت القرار الأصلي، وأن أجهزة الدولة قامت بالتنفيذ، وأن غبطة البطريرك حسبما سبقت الإشارة، وبعد تمام حصول ما يريد، أعلن طلبه أن يكون ذلك أمرًا مستمرًا، فأي قبطي يريد أن يغير دينه يكون علي الدولة أن تقبض عليه وتسلمه للكنيسة، ثم لا نعلم من بعد عنه شيئًا، إلا حسبما يقول رجال الكنيسة. ومن هنا نفهم لماذا هذا الهجوم الكثيف الذي يشنه رجال من رجالات الكنيسة علي أجهزة الأمن وأجهزة الإدارة المحلية وأجهزة أخري في الدولة، قد يكون في ممارسات هذه الأجهزة سلبيات نعلمها، ولكن سياق الأحداث يظهر أن ثمة في هذا الهجوم المتتابع المستمر سنين طويلة، فيه نوع من صراعات الإرادات لتلين أجهزة الدولة وغيرها من أجهزة التنفيذ. فنحن أمام إرادة سياسية داخل الكنيسة تجهد من أن تجد لنفسها مجال إعمال وأن توسع أمامها هذه المجالات، إزاء الدولة وسلطاتها. والحال إن لم تلن إرادة الدولة لأحد من مصر الآن إلا للكنيسة. هذه النقاط الخمس السابقة تتعلق بعلاقة الإدارة الكنسية بالدولة وبالنظام القانوني القائم. [ 7 ] بقيت مسائل تتعلق بعودتها إلي المسيحية وبالعلاقة بين الكنيسة والجماعة الوطنية في مصر مما ينتج عن مسلك الإدارة الكنسية وأذكرها تباعًا، فإن القدر المتيقن مما عرفناه بما يشبه التواتر فيما نشر، أن السيدة وفاء كانت صارت مسلمة، وأنها سلمت للكنيسة وهي علي إسلامها. والقدر المتيقن أيضًا أنها لم تكن في إسلامها مكرهة ولا مغواة ولا ثبت ولا ظهر شيء من ذلك، رغم شنيع الاتهامات والشائعات التي أثيرت أخيرًا حولها. ولا يصح في الأذهان القول بأنها أكرهت علي الإسلام وهي تحيا في بيئتها المسيحية الكاملة زوجًا وأولادًا وأسرة وأهل دين، ثم يقال إن إرادتها تحررت ولم تجبر علي العودة إلي المسيحية، بعد أن سلمت إلي الكنيسة مقبوضًا عليها واعتقلت داخل الكنيسة في بيت التكريس ثم في الدير، ولم يؤذن لها قط بأن تتصل بأحد من خارج إطار القرار البابوي. وهل مطلوب منا أن نقتنع بأنها أسلمت مكرهة، وأنها عادت للمسيحية بمحض إرادتها، ثم هي الآن في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، ومدي علمنا أنه دير للرهبان وليس للراهبات. وإن غبطة البطريرك عينها مشرفة زراعية علي مزرعة الدير، حتي يوجد لها «مركزًا قانونيا» أو وظيفة وصفة تبقي بها في الدير تحت سيطرة «رب العمل». وإن الشائعات في البداية ذكرت أنها مخطوفة رغم أنها كانت ذهبت إلي صديقتها تقيم عندها بإرادتها الحرة. ويقال الآن أنها تحررت رغم أنها في الواقع خطفت يوم سلمت إلي الكنيسة رغمًا عنها، ولا تزال علي وضعها هذا، فهل مطلوب منا أن نقتنع أنها عندما كانت حرة كانت مخطوفة، وعندما خطفت فعلاً ورسميا وأمامنا جميعًا صارت حرة. ومسألة ثانية تتعلق بشهر الإسلام أو شهر تغيير الدين، إن الإنسان يعتنق الإسلام بنطق الشهادتين والتصديق بما يقتضيه ذلك من إيمان بالغيب وما عرف من الدين بالضرورة، أقصد القول بأن لا يوجد في هذا الأمر شروط شكلية، ولا يوجد قانون ينظم أمرًا كهذا ولا يمكن فيما أظن أن يصدر قانون يبطل ويصحح ما هو معلق ومرتبط بالضمائر والقلوب مما تنبئ عنه الجوارح وينطق به اللسان وتعرفه العامة من أهل الجماعة ويتعاملون به. والمسلم يكون مسلمًا حتي لو لم يذهب إلي الإدارة المختصة بالأزهر وحتي لو لم يذهب إلي أقسام الشرطة وجهات الحكومة. والأزهر والحكومة بوزاراتها ومصالحها وأقسامها ليست واسطة بين المرء وربه، وليست أي منها بابًا للدخول أو الخروج من دين إلي دين. وأن كل ما يتصل بالإجراءات الخاصة بإبلاغ قسم الشرطة والإدارة الخاصة بالأزهر، هو مسألة خاصة بالتعديل في السجلات حتي يعامل الإنسان بوضعه الجديد من حيث العلاقات والمراكز القانونية التي تتصل بهذا الوضع، مثل البطاقة الشخصية وما يكتب بها عن الديانة والحقوق المرتبة الخاصة بحالة الزواج والميراث وغير ذلك. وكل هذه الأمور يمكن أن تثبت بطريقة أخري غير الذهاب لإدارة الأزهر وأقسام الشرطة، لأن الأمر هنا أمر إثبات واقعة تثبت بكل طرق الإثبات. ولذلك فإن القول بأن السيدة وفاء قسطنطين في بيانها أمام النيابة العامة بحضرة محامي الإدارة الكنسية، القول بأنها لم تكن أسلمت بعد لأنها لم تشهر إسلامها، هذا القول غير صحيح، لأن إسلام المسيحية يتم حسبما سبق ذكره وإثبات الأمر جري بما أثبتته المحاضر وشاع بين الناس، ولا نعرف حالة شاع فيها التحول إلي الإسلام بمثل ما شاع في هذه الحالة، وكان سبب الشيوع هو مسلك الكنيسة تجاه الأمر الذي جعلت منه مسألة سياسية، ولم ينطرح علي الرأي العام أمر كهذا بمثل هذا الوضوح. ومن ثم فلا يقال إن إسلامها لم يتم. إن كل ما يمكن أن يقال أنها عادت إلي المسيحية مضطرة ومكرهة، وثمة شواهد وقرائن تنبئ بذلك «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان» صدق الله العظيم. ومسألة ثالثة، وهي إن الإدارة الكنسية في إثارتها هذا الموضوع، وفي إدارتها الصراع السياسي بشأنه، كسبت وخسرت، كسبت اعتقالها السيدة وفاء قسطنطين وسيطرتها المادية عليها، وكسبت ما تشيعه من ذلك لدي أي من أتباعها من أنه لن يكون أبدًا بعيدًا عن سيطرة الإدارة الكنسية، وأن يدها ستطوله أينما كان، وكسبت تأكيد هيمنتها علي جماهير الأقباط، ولكنها خسرت قدرًا لا أقول كبيرًا ولكن أقول قدرًا معتبرًا، من مشاعر المودة والتراحم وحسن الظن في إطار الجماعة الوطنية، وبدت لدي الجميع متحيزة تبغي الانفراد والعزلة والسيطرة، وتبغي التميز وأن تكون ذات حقوق متميزة عن حقوق الآخرين، وهي لم تستدع المشترك الوطني العام في شأن ما تواجهه، مما تبدو به هذه الإدارة مستغنية عن هذا الاستدعاء، وهذا نظر قصير المدي فيما أظن، لم نلقه أبدًا في عهود الإدارات الكنسية السابقة في العصر الحديث، ولا كان هو مسلكها في سنين ماضية، كما أنها مست مشاعر إيمانية لدي المسلمين بالإصرار علي أن تسلم مواطنة أسلمت إلي الكنيسة وعلي الانفراد بها من بعد دون إتاحة أية فرصة للاتصال بها من خارج رجال الإدارة الكنسية، ثم الاكتفاء بإعلان السيدة وفاء عودتها إلي دينها السابق إعلانًا مظنونًا بصدوره عنوة وكرهًا. ثم هي أيضًا تورطت في تأكيد الخصومة مع عدد من أجهزة الدولة، تحت مظنة الاطمئنان إلي استجابة القرار السياسي لها. ومسألة رابعة، خسرتها الإدارة الكنسية، وهي أنها أفسدت علي نفسها وعلي ذويها حجة كانت دائمًا تستحسن استخدامها متعلقة بحرية الأديان وحرية الاعتناق سواء دخولاً في الإسلام أو خروجًا منه. وذلك بما أصرت عليه من تسليم سيدة أسلمت إليها وبما أصرت عليه من عودتها إلي سابق دينها وعزلها عن الناس، فجاء مسلك الإدارة الكنسية هنا يناقض دعواها السابقة ويناقض مطلبها السابق. ومن هنا نتكشف أن الإدارة الكنسية التي تعمل في مثل هذه المسائل يعوزها حسن التقدير وحسن الفهم للأوضاع والظروف، وهذا في ظني يحدث لأن الإدارة الكنسية عزلت نفسها فيما عزلت عن المدنيين من الأقباط الذين يندمجون في مجتمعهم ويحيون الحياة المشتركة مع مشاركيهم في الوطنية، حياة يومية مستمرة ومنتظمة في الأعمال الفنية والثقافية وغيرها ويكتسبون من ذلك حسًا مشتركًا ووعيا مشتركًا وثقافة مشتركة، ونحن اليوم لا نجد أمثال مرقص حنا ولا ويصا واصف ولا مكرم عبيد ولا إبراهيم فرج. إن انفراد الإدارة الكنسية بالأمور عزلها عن رجالها أنفسهم وعن خبراتهم وتوازناتهم. ومسألة خامسة، إننا في ذات الوقت الذي عرفنا فيه موضوع السيدة وفاء قسطنطين، مر علينا موضوع «الزاوية الحمراء» واختفي في طيات ما لا نعرف من خفايا. إن السيدة ماري عبد الله زكي زوج القس لويس نصر عزيز بكنيسة الزاوية الحمراء، قالت المصادر الكنسية أنها غابت عن منزلها اختلافًا مع زوجها ثم عادت إليه، ولكن ثمة مصادر أخري تقول أنها كانت أسلمت وأعلنت إسلامها، وقال البعض أنها أشهرت إسلامها أمام شيخ الأزهر. وهذا أمر يتعين أن تنكشف تفاصيل وقائعه لنعرف الحقائق ويمكن التصدي لها بالمناقشة والعلاج بما يؤمن أفراد الناس ويرفع عنهم الإصر والأغلال وبما يحفظ علي الجماعة الوطنية تماسـكها بغير إفراط ولا تفريط وبالتقــدير الصحيح للأوضاع والتوازنات.
هـذا أمــر يتعين أن تنكشف تفاصيــل وقائعـه لنعرف الحقائـق ويمكن التصـدي لهــا بالمناقشة والعلاج
«الإدارة الكنسيـة» أفسـدت علي نفسها وعلي ذويها حجة كانت دائمًا تستحسن استخدامها متعلقــة بحـريــة الأديان وحــرية الاعتنــاق
إن الكنيسة حملت الدولة وحملت الجمـاعة الوطنية تبعــة حــادث ليست الــدولة مسئــولة عنه، وليســت الجمــاعة الوطنيـة تنجــرح به ولا تنخدش
طريقـة تناول الإدارة الكنسية لمفهــوم «الوحدة الوطنيـة» يفيد مصادرة هذا المفهوم للصالح الكنسي وحده وهو في الحقيقـة أوسع مـن ذلك وأشــمل
صيَّــرت الإدارة الكنسـية نفســها واسـطة بين الدولة وبين بعض مواطنيها، وهذا وضع غير قانوني وغير دستوري لما به من تمييــز بـين المواطنين علي أساس طائفي
هتافات الشــباب فــي مقـر البطــريركيـة بطـلب التدخل الأمـريكي أمر يتعــين أن تقلـق منه البطـريركية ورجـالهــا
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة