حرب تغيير الشرق الأوسط بالقوة



كثيرون تخيلوا، حتي خيل لهم، أن مآسي الصيف تأتي وتذهب مثل سحابة عابرة، تتبدد تحت وطأة القيظ اللاهب الذي تشعه حرارة الكون. ولكنهم لم يتخيلوا ــ مهما اشتط بهم الخيال ــ أن النكبة القاسية التي حلت بلبنان والمنطقة العربية لن تدع أحدًا يهنأ ــ علي المدي الطويل أو القصير ــ بما تحمله أيام الصيف عادة من متع الإجازة والاسترخاء والعبث علي شواطئ البحر.. فقد أمطرت سحب الصيف التي غطت البحر والبر بآلاف القاذفات والقنابل والصواريخ الإسرائيلية أرجاء لبنان.. لم تدع مدنيا ولا جهاديا، ولا طفلاً ولا شيخًا، ولا شيعيا ولا سنيا ولا مارونيا إلا سعت لسحقه وتدميره. وفرضت السفن الحربية وقاذفات القنابل الإسرائيلية والأساطيل الأمريكية حصارًا عسكريا وسياسيا ونفسيا علي المنطقة العربية لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث، حتي عندما احتلت القوات الإسرائيلية لبنان عام 1982 ونزلت قوات المارينز علي شواطئ بيروت عام 1983 . ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي تسقط أقنعة الزيف والخديعة والادعاء فيها عن النظم العربية التي لم تجد وسيلة لإخفاء ضعفها إلا بالالتزام بالصمت المطبق، وحتي حين تحركت بعد أكثر من أسبوعين من بدء الهجوم الإسرائيلي علي لبنان، لم تكن علي وعي بأبعاد المؤامرة والأطراف المشاركة فيها والأهداف التي تعمل علي تحقيقها. ففي اللحظة التي تخلي فيها العرب عن تقرير مصائرهم بأنفسهم، أعطوا للآخرين صكًا علي بياض يحددون فيه مستقبل المنطقة طبقًا لمنطق الأقوي، والأكثر قدرة علي تحقيق أهدافه.. وليس طبقًا لادعاءات تاريخية حول حقوق واستحقاقات عربية يمكن الجدل حولها، بل ويمكن تأويلها واختزالها، ثم إسقاطها كلية في بحر النسيان بما يشبه الإجماع الدولي.. وهو ما حدث في الكارثة الأخيرة. ولهذا السبب لم يكن غريبًا أن تتكشف أحداث لبنان عن اتفاق أمريكي إسرائيلي علي إعادة طرح «مشروع الشرق الأوسط الجديد»، الذي أشارت إليه كوندوليزا رايس عندما وصلت بعد بدء الهجوم الإسرائيلي إلي المنطقة لتتفقد النتائج العسكرية المنتظرة والمدة اللازمة لإكمال المرحلة الأولي منه في حرث الأرض وتجهيز المنطقة وإزالة العقبات التي ظهرت في المقاومة العنيفة الباسلة غير المتوقعة من جانب قوات حزب الله.. وذلك علي الرغم من استخدام الجيش الإسرائيلي ــ المزود بقدرات استخباراتية أمريكية وغربية ــ لأقصي ما لديه من قوة قصف نيرانية وتدميرية، عجزت عن إنزال هزيمة سريعة ساحقة بحزب الله، كما كان متوقعًا لدي بداية الهجوم، كما عجزت عن إشعال حرب أهلية لضرب نفوذ الشيعة في لبنان. يبدو واضحًا أن كوندوليزا رايس كانت تتحدث عن استكمال الخطة التي بدأت بغزو العراق، والتي ما فتئت إدارة الرئيس بوش تري فيها مفتاحًا لإحداث التحول المأمول في الشرق الأوسط وفي العالم العربي والإسلامي. ومازالت الفكرة الرئيسية المسيطرة علي رأس بوش وبلير هي أن الغرب يواجه بصفة أساسية الإسلام الراديكالي أو الراديكالية الإسلامية التي تدور رحي المعارك ضدها في العراق. وهو ما أكده بلير في مؤتمر صحفي علق فيه علي تصريحات السفير البريطاني وليام باتي في بغداد، وقال فيها إن العراق أقرب إلي الحرب الأهلية والتقسيم منه إلي الديمقراطية. ثم أكده الرئيس بوش في تصريحاته عن «الفاشية الإسلامية» التي تعادي أمريكا. ولا يمكن في هذا السياق فصل الحرب الأمريكية في العراق عن الحرب الإسرائيلية في لبنان. فلقد تغير الموقف الأوروبي تغيرًا جوهريا عما كان عليه إبان حرب العراق. ونجحت إدارة الرئيس بوش في ولايته الثانية في تضييق هوة الخلاف بين أمريكا وحلفائها الأوروبيين، فلم يعد الخلاف يدور حول الحاجة الملحة إلي إحداث تغيير جذري في المنطقة العربية والشرق الأوسط، بل في الوسائل والأساليب التي يمكن استخدامها للوصول إلي أهداف متفق عليها، تسمح بإحداث تحولات تدريجية، دون أن تؤدي إلي هدم النظام الدولي أو هدم النظم العربية نفسها وخلق حالة من الفوضي كما حدث في العراق. ويكاد يكون ثمة إجماع أمريكي أوروبي الآن علي انتهاج سياسات متناسقة لعزل قوي التطرف الراديكالي الإسلامي، من أمثال حزب الله وحماس والفصائل الفلسطينية الرافضة، وإقصائها عن مجالات التأثير السياسي والإقليمي وعدم الاعتراف بها مهما كانت قوتها، بل ومحاربتها باعتبارها منظمة إرهابية. وبالتالي عزل نظم الحكم التي تؤيدها مثل سوريا وإيران. وحتي أحداث سبتمبر 2001 لم يكن التعامل مع حزب الله وحماس وغيرهما من المنظمات والفصائل الفلسطينية جزءًا من الحملة علي الإرهاب وبالأخص في أوروبا، بل اعتبر «حزب الله» جزءًا من التشكيلة السياسية اللبنانية التي تميز التعددية الديمقراطية في لبنان. وسمحت فرنسا ودول أوروبية عديدة لقناة «المنار» بالبث فيها، واكتسب حزب الله وضعًا سياسيا مهمًا حين نجحت قواته في طرد الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، وأعقب ذلك خوضه للانتخابات البرلمانية في مرحلة اعتبرت مقدمة لتحوله إلي حزب سياسي. وكذلك كان الحال مع حماس إلي حد كبير. ولكن هذا التطور لم يستمر طويلاً، بعد أن أجهضته الإدارة الأمريكية الخاضعة لنفوذ اليمين الصهيوني. فشددت حملتها ضد الإرهاب كوسيلة لإحداث الإصلاح الجذري المطلوب في الشرق الأوسط. واستجابت للمطالب الإسرائيلية بعزل الفصائل التي تتخذ من المقاومة شعارًا لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وضرب ما تعتبره إسرائيل مصدرًا لتهديد أمنها وسلامتها، خصوصًا أن السياسة الإسرائيلية منذ ولاية شارون انتهجت أسلوبًا للردع والقمع المنظم الذي يقوم علي تصفية واختطاف وتدمير المواقع والأشخاص والكوادر التي تنشط أو تجاهر بالعداء لمخططات الفصل العنصري من جانب واحد. ولم تغير تل أبيب سياستها العدوانية حتي بعد موت عرفات وصعود أبو مازن الذي انتهج سياسة المهادنة والمواربة دون جدوي. غير أن عاملين مهمين أسهما في تحول الموقف الأوروبي إلي احتضان السياسة الأمريكية القائمة علي توظيف الإرهاب بدعوي محاربة الإرهاب: * العامل الأول: هو وقوع تفجيرات مدريد ولندن التي شاركت فيها عناصر إسلامية متهمة بالانتماء إلي تنظيم القاعدة.. وهي عمليات لم يستفد منها غير واشنطن، مثلها مثل المؤامرة الأخيرة التي قالت لندن إنها اكتشفتها حين ألقت القبض علي عدد من المسلمين الإنجليز من أصول آسيوية بتهمة الإعداد لتفجير عدد من طائرات الركاب المتجهة إلي أمريكا. وجاء توقيت الكشف مريبًا للتغطية علي الأزمة اللبنانية. * العامل الثاني: هو بروز الملف النووي الإيراني، في توقيت واحد مع تعقد الأزمة السورية اللبنانية واغتيال الحريري، واتهام واشنطن لسوريا بالتدخل في العراق ومساعدة العناصر التي تدبر الاغتيالات والتفجيرات في بغداد والمدن العراقية ضد الجنود الأمريكيين. ويلفت النظر أن في أي من حوادث التفجيرات التي وقعت في مدريد ولندن لم تتضح الملابسات والبواعث والأطراف المشاركة فيها وضوحًا قاطعًا ولم تسفر التحقيقات البوليسية والقضائية عن المدبرين الحقيقيين لها ولا عن أهدافهم. وهو نفس الغموض الذي اتسم به حادث اغتيال الحريري وتتسم به أعمال العنف في العراق والتي تختلط فيها البواعث والأهداف إلي حد كبير. غير أن النتيجة الحتمية والخطيرة التي أدي إليها الانحياز الأوروبي للموقف الأمريكي مما يسمي بالحرب علي الإرهاب، أن زالت الخطوط الفاصلة بين المقاومة الوطنية وبين أعمال الإرهاب في تقييم أعمال العنف وردود الفعل الناجمة عنها. وغلبت علي الرأي العام الدولي نظرة واحدة شاملة تعتبر كل أشكال المقاومة نوعًا من الإرهاب، وتصم مرتكبيه ومؤيديه والمدافعين عنه بوصمة الإرهاب. واشترك الإعلام العالمي الموجه في تعميق هذا الفهم المغلوط، الذي لم تستطع فصائل المقاومة التي تدافع عن حقوق وطنية أو أهداف سياسية مشروعة أن تواجهه أو تصححه. وقد انعكس هذا الموقف بوضوح علي وسائل الإعلام والرأي العام في أوروبا حين وقعت حادثة أسر الجنديين الإسرائيليين بواسطة قوات حزب الله في الجنوب اللبناني، ولذلك عندما أسرت فصائل فلسطينية جنديا من جنود الاحتلال الإسرائيلي. فقد تجاهل الأوروبيون أن ثمة مواجهة إسرائيلية فلسطينية لم تتوقف منذ عقود وأن إسرائيل رفضت الاعتراف بأي اتفاق للهدنة أو التهدئة أو وقف العنف بينها وبين السلطة الفلسطينية. وأن القوات الإسرائيلية بعد انسحابها الأحادي من غزة لم تتوقف عن القيام بعمليات عسكرية داخل الأراضي الفلسطينية بما في ذلك أسر واغتيال وتدمير قوي ومنشآت فلسطينية. ولم يختلف الأمر علي الحدود اللبنانية الإسرائيلية كثيرًا.. ففي السجون الإسرائيلية أعداد من الأسري اللبنانيين ترفض الإفراج عنهم، ومازالت القوات الإسرائيلية تحتل شريطًا حدوديا في منطقة شبعا.. ومن هنا فإن الأرض كانت ممهدة دوليا وإعلاميا لاعتبار أي رد من جانب حزب الله أو حماس ضد إسرائيل عملاً إرهابيا يهدد وجودها ويعرض أمنها وسلامتها للخطر.. وساعد علي ذلك الموقف الذي اتخذته دول عربية ــ مصر والسعودية والأردن ــ نتيجة إحساس عميق بالخوف من العملية التي قام بها حزب الله، فاعتبرته عملاً غير مسئول، وغسلت هذه الدول يدها من عواقبه وتداعياته في بداية الأمر، ظنًا منها أن موقف الرفض العربي سوف يردع إسرائيل عن مجاوزة الحدود المعقولة في الرد علي حزب الله. ولكنها تبينت متأخرة ــ وهي دائمًا ما تتأخر عن إدراك الحقائق ــ أن النوايا الإسرائيلية ــ الأمريكية كانت مبيتة لتحين الفرصة الملائمة لتوجيه ضربة قاضية لكل القوي المناهضة لإسرائيل، حتي ولو كان الثمن تدمير بلد عربي مثل لبنان، وتقطيع أوصاله، وتشريد أهله.. أملاً في أن تكون هذه الضربة مفتاحًا للتغيير المرتقب لخريطة الشرق الأوسط، واقتلاع النفوذ السوري من لبنان نهائيا، وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة. وقد كان يمكن أن يحدث كل ذلك، لولا سوء تقدير قوة حزب الله سواء من جانب العسكرية الإسرائيلية أو من جانب المخابرات الأمريكية.. فقد واجهت القوات الإسرائيلية مقاومة ضارية لم تكن تتوقعها. وأنزلت خسائر فادحة في الأرواح والمعدات والمنشآت الإسرائيلية في عدد من المدن، وحملت الشعب اللبناني بكافة طوائفه علي الالتحام والصمود في وجه عدو إسرائيلي أمريكي كشف عن وجهه القبيح، ولولا هذه المقاومة لكانت أمريكا قد نجحت في إقرار مشروعها الأول في مجلس الأمن الذي يعطي إسرائيل الحق في عدوانها بكل نتائجه علي لبنان وحزب الله. لا يوجد شك في أن المسلمين الإنجليز كانوا أكثر فطنة وذكاء في الرد علي المؤامرة التي وضعتهم جميعًا في قفص الاتهام، عندما طالبوا بلير والغرب بانتهاج سياسة منصفة تحمي المدنيين في كل مكان في العالم: في لبنان وفلسطين والعراق وليس في إسرائيل فحسب.. علي اعتبار أن ذلك الانحياز الغربي هو الذي يغذي قوي الإرهاب. وهذا ما لم تفعله الدول العربية لتصحيح المفاهيم المغلوطة التي وضعت حق المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي والعدوان الأمريكي في كفة واحدة مع الإرهاب. ولم تفعل شيئًا حين وضعت أمريكا وأوروبا حماس وحزب الله علي القوائم السوداء كمنظمات إرهابية. وجاءت أزمة الملف النووي الإيراني لتضيف وقودًا إلي النار التي أضرمتها واشنطن بحرب العراق، بحيث بات من السهل أن تنزلق كل المشاكل والأزمات علي بعضها ويسهل ربطها بخيط واحد.. فإيران وسوريا تدعمان حزب الله وحماس «الإرهابيتين»، وليس دفاعًا عن حقوق سياسية مشروعة، ولكن بحجة أن إيران تريد أن تفرض وجودها كقوة إقليمية وتحرض حزب الله وحماس ضد إسرائيل والمصالح الأمريكية!! وللأسف فقد وجد هذا المنطق من يسانده عربيا، حيث أصبحت إيران، وليس أمريكا أو إسرائيل، هي المتهمة بقلقلة الأوضاع وإثارة الفتن الطائفية في العراق، وهي التي تحرض حزب الله وحماس، وتساند سوريا، وتحثها علي التمرد ضد قرارات مجلس الأمن في لبنان. وغابت عن الرأي العام في الغرب كل الأسباب الموضوعية والمظالم الإنسانية والاعتداءات الإسرائيلية. واستراحت نظم الحكم العربية التي ضاقت بشعبية حزب الله، وبروز إيران كقوة إقليمية قادرة علي الدفاع عن مصالحها ومصالح منطقة الخليج ضد الاستغلال الإمبريالي الأمريكي، إلي هذه التطورات التي كان يراد بها الإطاحة بحزب الله وضرب النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا والعالم العربي، وإيجاد الظروف الدولية الملائمة لإرغام إيران علي وأد طموحها النووي. وطوال أكثر من شهر من القتال الدموي بين آلة الحرب الإسرائيلية ومجاهدي حزب الله، سعت معظم القوي الدولية إلي تحقيق هذه الأهداف عن طريق إيجاد واقع جديد في لبنان لا أثر فيه لحزب الله ولا للدولة داخل الدولة، كما يصفه بوش.. حتي ولو أدي الأمر إلي تدمير لبنان بأسره وإنزال أكبر الخسائر البشرية والمدنية به. وكذلك عن طريق التوصل إلي إجماع دولي ــ عن طريق مجلس الأمن ــ يطلق يد أمريكا وإسرائيل في ترتيب الأوضاع الناجمة عن هزيمة حزب الله وسحقه تحت دبابات إسرائيل. ولكن ذلك ــ لحسن الحظ ــ ما لم يحدث بكل تفاصيله.. وأثبتت المقاومة البطولية والخسائر الجسيمة التي أنزلها بالقوات الإسرائيلية والمدن التي طالتها صواريخه، أن حزب الله ــ علي الأقل في نظر الشعوب العربية وليس الحكومات ــ كان القلعة العربية الأخيرة التي لم تستسلم في وجه الصهيونية العالمية. لقد جاء القرار الأخير لمجلس الأمن (1701) بوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، وإرسال قوات دولية تنضم إلي الجيش اللبناني علي الحدود مع إسرائيل لمنع حدوث اشتباكات بين الطرفين.. محملاً بكثير من أسباب الغموض المتعمد الذي حاول معالجة أعراض المرض دون أسبابه، تاركًا لإسرائيل الباب مفتوحًا للقيام بأي عملية عسكرية داخل لبنان بحجة حماية نفسها من «إرهاب حزب الله»، تحت مظلة دولية تعفيها من الخسائر البشرية والإذلال السياسي الذي تعرضت له حكومة أولمرت. وربما ينجح مجلس الأمن في تشكيل القوة الدولية المنوط بها إقامة منطقة عازلة في الجنوب اللبناني يحول دون الصدامات العارضة أو المتعمدة بين حزب الله والقوات الإسرائيلية، ولكن يبقي الموقف معرضًا للاشتعال في أي لحظة في ضوء اعتبارين مهمين: الأول: أن إسرائيل لن تتوقف عن اللجوء إلي عمليات محدودة داخل لبنان تستهدف بها تصفية أو اختطاف كوادر حزب الله القيادية والعسكرية ومنع دخول السلاح إلي المقاومة. وهو نفس الأسلوب الذي استخدمته قبل وبعد انسحابها من غزة، حيث احتفظت لنفسها بحق القيام بعمليات مدبرة لاغتيال أو تدمير ما تسميه الخلايا الإرهابية في الأراضي الفلسطينية. الثاني: أن حزب الله لن يلقي سلاحه في المستقبل المنظور بأي ثمن. وما لم تنجح الحكومة اللبنانية رغم الضغوط الأمريكية والفرنسية في تحقيقه، لن تنجح القوات الدولية فيه. وإلا بدا وكأن القوات الدولية مكلفة بإكمال ما عجزت آلة الحرب الإسرائيلية عن إنجازه. وسوف تكون مقدمة لحرب أهلية لبنانية جديدة.. أو حرب شيعية سنية يمتد أوارها لأجزاء أخري في العالم العربي. وأكبر الظن أن الحرب الإسرائيلية علي لبنان سوف يكون لها تداعيات أبعد كثيرًا مما ظن مخططوها في إسرائيل والموحون بها في واشنطن.. وفي كل الأحوال فلن يعود الوضع إلي ما كان عليه قبل الحادي عشر من أغسطس، لا بالنسبة للبنان والعالم العربي ولا بالنسبة لواشنطن والغرب بصفة عامة. وهناك واقع جديد يتشكل في المنطقة لعل من أبرز ملامحه: * بروز حزب الله كفصيل لبناني والشيعة كمذهب سياسي يتجاوز تأثيرهما حدود لبنان وسوريا والعراق، وتتجه إليهما أنظار العرب بما في ذلك الشيعة في دول الخليج، كنموذج لإرادة التحدي والطموح لقيادة العالم العربي والإسلامي.. بديلاً عن قرون طويلة من السيطرة السنية علي مقاليد السياسة والفقه والفكر في الأمة العربية.. أفلست خلالها من القدرة علي الإبداع والتجديد والدفاع عن حقوقها وثرواتها وسيادتها أمام الهيمنة الاستعمارية والفكرية القادمة من الغرب. ويتضاعف هذا الاتجاه كلما تأكد فشل السياسة الأمريكية في العراق، وخروج إيران من أزمة الملف النووي وقد حققت أهدافها بدرجة أو بأخري. * سقوط القناع عن المحور الأمريكي الإسرائيلي بطريقة سافرة بعد التأييد الصريح الذي أبداه بوش لتدمير لبنان وقصف المدنيين، بحجة ضرب قواعد حزب الله. ولوقت طويل سوف تظل واشنطن عاجزة عن القيام بدور إيجابي في صراع الشرق الأوسط، وبالأخص في قضية السلام. وهو ما سوف يفضي إلي إضعاف النفوذ الأمريكي وزيادة الكراهية علي المستويين الرسمي والشعبي بدرجة غير مسبوقة؛ قد تعرض المصالح الأمريكية للخطر وتضاعف حمي الإرهاب وقدرته علي تجنيد عناصر جديدة وأساليب مبتكرة.. فإذا تأخر حل الأزمة اللبنانية بجلاء سريع للقوات الإسرائيلية، وهو ما لن يتحقق بالسهولة التي يعتقدها البعض، فلن يشهد العالم العربي أدني قدر من الاستقرار لسنوات طويلة. وستكون النظم الحاكمة أول من يدفع الثمن. * اتساع الهوة بين العالم العربي وأوروبا، وإعادة النظر في صيغة برشلونة وازدياد الشكوك العربية إزاء الطموحات الأطلنطية والنوايا الأوروبية بعد أن تأكد ــ خلال الأزمة اللبنانية ــ تطابق المواقف والاتجاهات الأوروبية الأمريكية، حيث لعبت فرنسا دورًا سلبيا في وقف العدوان الإسرائيلي علي لبنان أقرب دولة عربية لها، وتلاعبت بريطانيا وألمانيا بما يخدم الموقف الإسرائيلي ويساند السياسة الأمريكية، وأحجمت جميعها عن التدخل في الوقت المناسب للحيلولة دون تدمير لبنان لحساب تقديرات أمريكية إسرائيلية خاطئة. وهو ما قد يعرض العلاقات العربية مع الاتحاد الأوروبي لنكسة خطيرة. * لن تمر المغامرة العسكرية الغبية التي قامر بها أولمرت علي مستقبله دون عواقب وخيمة، بعد أن برهنت المقاومة الشجاعة لحزب الله أن الآلة الحربية الإسرائيلية بكل جبروتها وتقنياتها المتقدمة وما حصلت عليه من مساعدات أمريكية ودعم سياسي أوروبي، كان عليها أن تدفع ثمنًا باهظًا دون أن تنجح في إكمال مهمتها. وبغض النظر عما أثبتته القدرات القتالية لقوات حزب الله من كفاءة عالية فاقت قدرة الجيوش العربية في مواجهة إسرائيل، إلا أنها برهنت للنخبة الصهيونية الحاكمة في تل أبيب عدم جدوي اســــتخدام القــــــوة: لا في الدفــــاع عن أمنها ولا في مواصلة توسعاتها العدوانية والاحتفاظ بها. لقد اعتاد الغرب ألا يدفع ثمن حروبه في الشرق الأوسط، بل تدفعها دول البترول الغنية عاجلاً أو آجلاً. وبالتالي فلن تعاقب إسرائيل ولن تدفع شيئًا تعويضًا عن عدوانها وما دمرته في لبنان وألحقته بأهلها من آلام ودموع وتشريد وحرمان، بل ستدفع الثمن دول عربية، هي التي دفعت من قبل ثمن معظم الحروب التي نشبت في المنطقة. ولكن الأخطر من ذلك أنها ستدفع ثمن سياسات غافلة وخاطئة قامت علي أساس أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب مع إسرائيل، وأن أمريكا هي الضامنة للسلام والأمن والاستقرار في المنطقة، وأن المواثيق والقرارات الدولية كفيلة بالحفاظ علي الحقوق العربية إلي الأبد.. والذي لا شك فيه أن كل هذه الثوابت قد تبددت مثل حلم ليلة صيف، أو الأحري أن يقال مثل كابوس مخيف استغرق صيفًا بأكمله.. لا يدري أحد هل يستيقظ منه العرب، ولا متي يستيقظون!!

من نتائج هذه الحرب بروز حزب الله والشيعة كمذهب سياسي يتجاوز حدود لبنان وتتطلع اليه الأنظار لقيادة العالم العربي والإسلامي .. بديلاً عن قرون طويلة من السيطرة السنية علي السياسة والفقه والفكر في الأمة العربية.. أفلست خلالها من القدرة علي الإبداع والتجديد والدفاع عن حقوقها أمام الهيمنة الاستعمارية والفكرية القادمة من الغرب.

غسلت الدول العربية يدها من الأزمة في البداية، ظنًا منها أن ذلك قد يردع إسرائيل عن مجاوزة الحدود المعقولة في الرد علي حزب الله. ولكنها تبينت متأخرة ، أن النوايا الإسرائيلية ــ الأمريكية كانت أكبر من مجرد توجيه ضربة قاصمة لحزب الله ولكل القوي المناهضة لإسرائيل، حتي ولو كان الثمن تدمير بلد عربي بأكمله مثل لبنان، وتقطيع أوصاله
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة