إيـــــــــران وأمريكــــــا:البحــث عن طـريق ثالث!!



يكاد موضوع العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران أن يكون المتصدر بلا منازع لجدول أعمال العلاقات الدولية ولتغطية وسائل الإعلام العالمية منذ فترة طويلة، أي هو بعبارة أخري «موضوع الساعة». تختلف العناوين من وقت إلي آخر، ولكن يبقي الجوهر توتر العلاقة في الإجمالي والتناوب بين بوادر انفراج أحيانا وفترات شد في معظم الأحيان. فهناك حوار حول العراق ثم اتهام امريكي لإيران بتمويل الإرهاب في العراق وإدراك إيراني ودولي - بما في ذلك أمريكياً ضمنياً أحياناً وعلنياً في كثير من الأحيان - بأن الاحتلال الأمريكي للعراق أوجد لإيران تاثيراً غير مسبوق في العراق من الناحية الفعلية. وهناك أيضاً اتهام أمريكي مستمر لإيران منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 بالعمل علي إعاقة «عملية السلام» بين العرب والاسرائيليين عبر توفير الدعم والغطاء للمنظمات الفلسطينية المناهضة لهذه العملية والتلويح بالتهديدات لإسرائيل والمعاداة للسامية، ويقابل ذلك «كروت» إيرانية هامة ومؤثرة علي هذه الجبهة، ما بين تحالف مع سوريا ودعم لحزب الله وآخر لحكومة حماس. ثم هناك اتهام واشنطون المتواصل لنظام الجمهورية الإسلامية في طهران بدعم الإرهاب ممثلاً علي وجه الخصوص من وجهة النظر الأمريكية الرسمية في حزب الله اللبناني، يقابله خلاف إقليمي ودولي متزايد وهوة تزداد اتساعاً حول تعريف الإرهاب أصلاً. وخلال هذا كله يتواصل الجدل الذي لا يلبث أن يهدأ حتي يثور من جديد حول الملف النووي الإيراني ويكتسب اهتماماً إقليمياً ودولياً واسعاً لا يخلو من جهود استقطاب في هذا الاتجاه أو ذاك، وهو ملف شهدت الشهور الأخيرة تصعيداً غير مسبوق فيه في اتجاه ينذر بمواجهة سيدفع الجميع إقليمياً ودولياً ثمناً باهظاً لها إذا حدثت، أو مماطلة قد تؤدي إلي أوضاع اكثر تعقيداً في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج ويراها الكثيرون حينذاك كتهديد للسلم والأمن الدوليين. وكأن كل ما سبق لا يكفي فيأتي اشتعال الجبهة اللبنانية/الإسرائيلية ليدفع بالولايات المتحدة لاتهام محور إيران/ سوريا بالوقوف خلف تصعيد حماس وحزب الله الذي أدي بدوره إلي تسخين الأجواء وقدم المبرر للهجوم الإسرائيلي علي لبنان. ولا يسعنا أن نتجاهل التحرك البندولي للعلاقات الإيرانية الأمريكية فيما يخص أفغانستان، فما بين إشادات أمريكية متحفظة وغامضة عن «تعاون» إيراني في أفغانستان وكذلك في جهود مكافحة المخدرات بها ومنها، ثم اتهامات أمريكية لإيران بإيواء عناصر من تنظيم القاعدة ولعب دور تحريضي في صفوف شيعة أفغانستان بل ومحاولة بناء تحالف مناهض للحكم الموالي لواشنطون في كابول عبر تأليب قادة مجاهدين سابقين، وبين هذا كله يبرز - كما في الحالة العراقية- أن إيران كانت المستفيد الأول من الحرب الأمريكية في أفغانستان. وأخيراً، وليس آخراً، هناك الضجة التي أفرزها داخل الولايات المتحدة منح تأشيرة دخول للرئيس الإيراني السابق خاتمي للولايات المتحدة لإلقاء عدد من المحاضرات بها ما بين مؤيد لها, كلفتة انفتاح نحو أحد أصوات الإصلاح والاعتدال في إيران وبين من يري ما يحدث داخل إيران مجرد توزيع أدوار متفق عليه ويذكر بأن خاتمي لم يحقق ما وعد به من إصلاحات خلال ثماني سنوات في سدة الرئاسة ويشير إلي أن من شأن فتح خط مع خاتمي توفير فرصة للنظام الإيراني للخروج من عزلته، وكأنه يسلم بأن هذا النظام بات معزولاً بالفعل! والواقع أن «حكاية» العلاقات الأمريكية الإيرانية هي من «الحكاوي» القديمة المتجددة باستمرار، بدأت تبرز قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتواصلت فصولها، حتي مع انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ عام 1979. ولهذه العلاقات محاور متعددة ومستويات متباينة ومراحل متفاوتة، تمر عبر النفط والغاز والموقع الجيو- استراتيجي، ولم تقف عند حدود الحرب الباردة كما في حالات العلاقات الأمريكية مع دول أخري بالمنطقة وخارجها. وتداخلت فيها الأيديولوجيا والمصالح والثقافة، ولعبت الدبلوماسية غير الرسمية فيها أدواراً هامة. وتعددت دوائرها بين أفغانستان والعراق والصراع العربي الإسرائيلي وأمن الخليج والتاثير في مناطق التواجد الشيعي والمد الإسلامي في مجمله والأوضاع في آسيا الوسطي. ووصلت أصداء العلاقة/ المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران إلي جنوب أفريقيا جنوباً عبر مشروع تخزين النفط الإيراني في جنوب أفريقيا في النصف الثاني من التسعينيات، وإلي أمريكا اللاتينية غرباً من خلال تعزيز الروابط مع مناهضي واشنطون في فنائها الخلفي ممثلين في كوبا وفنزويلا، وهو ما شكل استمراراً لإرث أحد الزعماء الأوائل للثورة الإيرانية الراحل آية الله سيد محمود طالقاني الذي استقبل عام 1979 وفد جبهة الساندينيستا اليسارية الحاكمة حينذاك في نيكاراجوا والتي كانت تناصب واشنطون العداء وأعلن وقوف «الجمهورية الإسلامية» مع الجبهة في مواجهة «الشيطان الأكبر» (وهو الاسم الذي أطلقه الراحل آية الله الخميني علي الولايات المتحدة) وبرر ذلك بآية في القرآن الكريم تحث المسلمين علي مساندة الذين يجاهدون من أجل «القسط» (العدل) في العالم، واعتبر طالقاني أن ذلك يسري في كل الأحوال حتي ولو كان هؤلاء المجاهدون من الشيوعيين. ونتناول هنا كتاباً هاماً صدر منذ شهور قليلة نشعر بازدياد أهميته بمرور الأيام وتطور الأحداث علي صعيد الأوضاع والمواقف بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. والكتاب بعنوان The Persian Puzzle ، ومن تأليف باحث له اسمه وصيته في الدراسات والبحوث المتصلة بمنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، ومنطقة الخليج والعراق وإيران علي وجه الخصوص، وهو Kenneth Pollack والذي يشغل منصب مدير البحوث بمركز سابان لدراسات الشرق الأوسط التابع لمؤسسة بروكنجز، أحد أهم مراكز الأبحاث بالعاصمة الأمريكية واشنطون، وسبق له العمل في مجلس الأمن القومي الأمريكي خلال إدارة الرئيس السابق «بيل كلينتون» وإدارته الديمقراطية متولياً مسئولية الملفين الإيراني والعراقي، كما سبق له قبل ذلك العمل كمحلل بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وسنتعرض هنا بالعرض والتحليل النقدي لمضمون كتاب «بولاك»، وفي سياق هذا العرض النقدي سنحاول وضع الكتاب في إطاره الطبيعي تاريخياً ومنهجياً وبحثياً كجزء من سياق طويل للعلاقات الأمريكية الإيرانية التي مرت بأطوار مختلفة، خاصة خلال نصف القرن الأخير. ويشكل انقلاب 1953 الذي دبرته المخابرات الأمريكية لإسقاط الزعيم الإيراني الإصلاحي والوطني ذي الشعبية العريضة محمد مصدق وتمكين الشاه الصغير حينذاك محمد رضا بهلوي من السلطة نقطة البداية الحقيقية في تغطية بولاك للعلاقات الأمريكية الإيرانية، نظراً لما أوجده هذا الانقلاب لدي الإيرانيين من اعتقاد بأنه ليس فقط الولايات المتحدة تريد السيطرة علي إيران بل انها تمكنت من ذلك بالفعل. ومن هنا يبرز بولاك في كتابه أهمية تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت عام 2000 بالأسف للتراجع في تطور إيران السياسي في عهد الشاه المخلوع، بما شكل إشارة ضمنية لمسئولية الولايات المتحدة عن هذا التراجع، دون أن يرقي إلي الاعتراف الصحيح أو الاعتذار اللذين كانا يحتاجهما الإيرانيون بل ويشترطونهما لإطلاق حوار مع الولايات المتحدة. ويري بولاك أن الاعتراف بأخطاء السابق وإن لم يكن له نتيجة آنية فإنه هام لتجنب أخطاء المستقبل. فبحسب بولاك، فإن الأمريكيين الذين دبروا انقلاب عام 1953 لم يفهموا لا مصدق ولا الشاه. فمصدق أدرك أن الولايات المتحدة تنظر إلي إيران باعتبارها هامة وحيوية لمصالحها وأمنها القومي علي الصعيد الإقليمي، وبالتالي اعتقد ــ عن صحة أو خطأ- انه يستطيع الحصول علي تنازلات من الولايات المتحدة عندما يظهر وكأنه مستعد لعقد صفقات مع الاتحاد السوفيتي السابق. أما الشاه فقد رأي نفسه معتمداً بالكامل علي الولايات المتحدة ولكنه من منطلق هذه الحماية الأمريكية الكاملة يتدلل علي من يحميه، كما فعل عام 1973 عندما دفع منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) إلي مضاعفة أسعار النفط بشكل غير مسبوق. وقد انكشفت هذه التبعية للشاه السابق علي الولايات المتحدة - بحسب بولاك - في أيامه الأخيرة بشكل كامل عندما بدأ يخطط لحملة قمع دموية للثورة الإيرانية ولكنه ذكر للسفير الأمريكي في طهران أنه لن ينفذ هذه الخطة بدون موافقة واشنطون، وهي موافقة رفض أن يمنحها حينذاك الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر. وبخصوص هذه اللحظة التاريخية، يوجه بولاك اشد الانتقادات لإدارة الرئيس كارتر وعملية صنع السياسات والقرارات بها حيث يصف المعتدلين والمتشددين فيها علي حد سواء بأنهم عملوا في ظل فرضيات لا أساس لها من الصحة علي ارض الواقع ولكنها من بنات أفكارهم. ويعتبر كتاب «بولاك» -وبحــق- أن الأزمة التي عصفت بالعلاقات الأمريكية الإيرانية منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979 ثم أزمة الرهائن بالسفارة الأمريكية في طهران -والتي بدأت في العام نفسه- كانت مصدر إحباط لآخـر خمسة رؤساء للولايات المتحدة، بدءًا بالديمقراطي جيمي كارتر وانتهاء ــ حتي الآن علي الأقل- بالجمهوري جورج بوش الابن، حيث فشلت مختلف الاستراتيجيات والسياسات والمبادرات التي طرحوها للتعاطي مع الشأن الإيراني ومع حالة العلاقات الأمريكية الإيرانية، المجمدة علي افضل تقدير منذ فبراير 1979. ويفسر المؤلف أن إحدي المشكلات المزمنة في الموقف الأمريكي من الجمهورية الإسلامية في إيران والتي سببت هذا الفشل والإحباط هو أن واشنطون كانت تقوم بمبادرات تجاه شخصيات في القيادة الإيرانية تتوسم فيها الاعتدال والبراجماتية ثم يتضح لها متأخراً أن هذه المبادرات أدت إلي عكس ما كان مرجواً منها. ويري «بولاك» أن هذا النمط بدأ عندما التقي مستشار الأمن القومي الأمريكي حينذاك زبيجنيو بريجينسكي مع رئيس الوزراء الإيراني في ذلك الوقت الراحل مهدي بازرجان في نوفمبر 1979. إلا انه بعد هذا اللقاء بأيام قليلة تم الهجوم علي السفارة الأمريكية في طهران بواسطة ما سمي بـ «الطلاب السائرين علي نهج الإمام» واحتجاز العاملين بها في أزمة استمرت لحوالي أربعة عشر شهراً، وسقطت حكومة بازرجان «المعتدلة» وسط اتهامات لها من دوائر المتشددين في طهران بالسعي للتقارب مع واشنطون والتغاضي عن «الجرائم» الأمريكية في حق الشعب الإيراني. وفيما يتعلق بحادث احتجاز الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية بطهران من نوفمبر 1979 إلي يناير 1981، فان بولاك يؤكد من جديد أن موقف الخميني لم يقتصر علي تبني الاستيلاء علي السفارة الأمريكية واحتجاز الرهائن ولكنه تخطي ذلك إلي الدفع لإبقائهم محتجزين أطول فترة ممكنة حتي يتحقق هدف إسقاط الرئيس كارتر، كنوع من الثأر للموقف الأمريكي المدبر لانقلاب 1953 ضد مصدق. ولكن لا تبدو لنا الصلة هنا مؤكدة فالمؤسسة الدينية الشيعية في إيران يقيادة آية الله كاشاني كانت قد اختلفت مع مصدق قبل سقوطه وتصالحت مع الشاه بعد عودته علي أسنة الحراب بتخطيط أمريكي عام 1953 ولم تواجه الشاه من جديد سوي عندما تعارضت مصالح الطرفين حين أطلق الشاه ما أسماه بـ «الثورة البيضاء» في مطلع الستينيات من القرن الماضي وتم المساس بالمصالح الاقتصادية للمؤسسة الدينية الرسمية الشيعية. كما أن آخرين ممن كتبوا عن العلاقات الأمريكية الإيرانية اتفقوا مع بولاك في أن مد الجانب الإيراني لأمد أزمة الرهائن كان بغرض إسقاط الرئيس كارتر ولكنهم خلصوا إلي دوافع مختلفة، أهمها السعي لصفقة مع الإدارة الجمهورية الجديدة للرئيس ريجان كرد لهذا الجميل لإيران، أو تصور البعض داخل القيادة الإيرانية أنه قد يكون الأسهل لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران التعامل مع إدارة جمهورية محافظة عن التعامل مع إدارة ديمقراطية ليبرالية تركز علي قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وربما لم يدر بخلد هؤلاء للحظة أن الإدارة الجمهورية الجديدة ستدشن حقبة من تعاظم تأثير اليمين المسيحي في دوائر الحزب الجمهوري وإداراته المتعاقبة بما يؤدي في نهاية المطاف إلي نمو تراكمي للعداء لإيران في ظل حكم الجمهورية الإسلامية. ويعطي المؤلف مثالاً آخـر بما عرف بفضيحة «إيران-كونترا» خلال حكم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان - وتحديداً عام 1984 - حيث اتبع مجلس الأمن القومي نهج التعامل السري مع قيادات إيرانية مثل «علي أكبر هاشمي رفسنجاني» رئيس مجلس الشوري (البرلمان) الإيراني حينذاك في صفقة لإمداد إيران بالسلاح مقابل إطلاق سراح رهائن أمريكيين محتجزين لدي تنظيمات شيعية مسلحة قريبة من إيران في لبنان، وأيضا مقابل أموال تم تحويلها لتمويل متمردي «الكونترا» الذين كانوا يقودون تمرداً مسلحاً ضد حكومة الساندينيستا في نيكاراجوا بزعامة «دانيال أورتيجا» اليسارية التوجه والمناهضة للولايات المتحدة حينذاك. ولم يتحقق أي عائد للولايات المتحدة من جراء هذه الصفقة، بل عندما انكشف الأمر تحول إلي فضيحة بكل المعايير للإدارة الأمريكية وتم محاكمة بعض المسئولين عنها وأجبر البعض الآخر علي الاستقالة، كما لم تحقق أي مردود إيجابي علي المواقف الإيرانية إزاء الولايات المتحدة. وفيما يتعلق بهذه الفضيحة يفسرها بولاك بأن الكونجرس حين حظر علي الإدارة الأمريكية توفير موارد للمخابرات المركزية لتمويل برنامج لدعم متمردي الكونترا في نيكاراجوا فان مسئولي مجلس الأمن القومي والمخابرات المركزية وجدوا طريقاً غير مباشر لتمويلهم عبر تلك الصفقة. ونزيد هنا بأنه حتي الشخصيات الإيرانية المتورطة في فضيحة «إيران - كونترا» سارعت بالإعلان عن مواقف متشددة إزاء الولايات المتحدة لتبرئة ساحتها من «تهمة» التقارب مع الولايات المتحدة، بل وبررت موافقتها علي الصفقة بأنها كان يمكنها التعامل مع «الشيطان» للحصول علي السلاح الذي كانت إيران تحتاجه حينذاك في حربها مع العراق، وكان هذا «الشيطان» بالطبع من وجهة نظرهم هو الولايات المتحدة، وهو وصف سبق أن ذكرنا أنه أطلق عليها في إيران الثورة منذ أيامها الأولي وكان يقرن بـ «الأكبر» وكان أول من أطلقه هو آية الله الخميني نفسه. وفي الفصل السابع من كتابه، يتناول بولاك ما يسميه «إيران في حالة حرب مع العالم» ويركز علي عقد الثمانينيات من القرن العشرين. فإيران كانت في حالة حرب مع العراق، وفي الوقت نفسه تتبني حزب الله في لبنان وتشرف علي خطط لهجمات مثل الهجوم علي مقر قوات مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) في بيروت عام 1983. ويري بولاك أن الصراعات داخل إدارة الرئيس الراحل ريجان وفضيحة إيران- كونترا كانتا علي قمة سجل الأخطاء الأمريكية في تلك الحقبة, ويري بولاك أن قرار إرسال قوات المارينز إلي لبنان كان كارثة للسياسة الأمريكية في المنطقة، وكان كارثة للسياسة الأمريكية تجاه إيران، بل ويري أن التدخل الأمريكي في لبنان في حد ذاته كان خطأً كبيراً. وتستمر عملية سـوء التقدير وسـوء الحكم علي الأمور المتبادلة بيـن الجانبيـن الأمريكـي والإيراني -من وجهة نظر بولاك- طوال فترة وجود آية الله الخميني كمرشد للثورة (أي حتي عام 1989). ويقر بولاك بوجود صراع مستمر بين من أسماهم بـ «الثيوقراطيين» وبين من يسميهم بـ «العلمانيين المتغربين» وذلك استمر حتي في الفترة التي تلت وفاة آية الله الخميني، وانتهي الأمر بتكرار ما يسميه بولاك بالنموذج الصيني، أي بالثيوقراطيين يخففون بعض القيود في المجال الاجتماعي ويمنحون قدراً من الحريات في هذا المجال مقابل الحصول علي كل السلطة والقوة السياسية بلا قيود. ويدهشنا هنا تصنيفات بولاك الحادة والتي لا يقدم مبرراتها بقوة فلا نعلم من تحديداً المقصود بالثيوقراطيين داخل السلطة الإيرانية التي تقوم أسسها الدستورية وشرعيتها الفقهية بالكامل علي مفهوم «ولاية الفقيه»، ومن هم «العلمانيين المتغربين» داخل هذه السلطة التي لا مجال بداخلها إلي وجود علمانيين ولا متغربين إلا إذا كانت التعريفات عنده نسبية وفضفاضة للغاية داخل إطار الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفي إطار مقارن. إلا أن المقارنة بين الحالة الصينية والحالة الإيرانية تبدو لافتة للنظر وإذا تناولناها بالتحليل لا تخلو من جدة ووجاهة، وأهمية ودلالة، مع الأخذ في الاعتبار اوجه التباين في المشروع الفكري والسياسي للنخبة السياسية والثقافية الحاكمة في الحالتين. ثم يقدم «كينيث بولاك» لنا رؤيته من داخل الإدارة الأمريكية الديمقراطية في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون حيث عمل حينذاك في مجلس الأمن القومي وكان منوطاً به الملف الإيراني، ويسير علي نفس المنهج في العرض، فيعرض لجهود إدارة كلينتون للتقارب مع العناصر المعتدلة في القيادة الإيرانية. ولكن النتيجة النهائية التي يخلص لها من هذه التجربة هي الإقرار بسوء تقدير الإدارة، وسوء تقديره هو شخصياً، حيث أنه تصور في مرحلة ما أن الولايات باتت قريبة جداً من تحقيق «اختراق» من العيار الثقيل في العلاقة مع إيران، إلا انه وعي -علي حــد قوله- أن السلطة الحقيقية لاتخاذ القرار علي الجانب الإيراني كانت في أيدي أشخاص إما كانوا ليسوا مستعدين أو غير مكترثين بتحسين العلاقات الأمريكية الإيرانية. وفي تناوله لفترة الإدارة الجمهورية الراهنة يتناول المؤلف المنهج الأمريكي الخاص بتصنيف إيران ضمن مجموعة دول معادية، سواء كانت التسمية «الدول المارقة» Rogue States أو لاحقاً «محور الشر» Axis of Evil وهي مجموعة بدأت واسعة لتضم العراق وإيران وسوريا وكوريا الديمقراطية الشعبية وكوبا والسودان وأفغانستان والجماهيرية الليبية، ثم تقلصت وخرجت منها أفغانستان والعراق بفعل الحرب، وليبيا عبر تسوية تفاوضية مع بريطانيا والولايات المتحدة، وصارت السودان علي حدودها تدخل احياناً كضغوط سياسية أو عبر قرارات للأمم المتحدة وتخرج أحياناً أخري عبر تسويات دبلوماسية. ولكن الكاتب يتجاهل هنا واقع وجود تقليد سابق هو سعي العديد من الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلي وصم الدول أو التنظيمات السياسية أو العقائد المناهضة لها بأوصاف ونعوت ذات مكون أخلاقي سلبي. ومن منا لا يذكر وصف الرئيس الراحل ريجان للاتحاد السوفيتي السابق بـ «امبراطورية الشر» في الثمانينيات من القرن الماضي. فالإدارة الحالية إذاً لم تبتدع سنة جديدة في هذا المجال. وفي مجال توصياته لمستقبل السياسة الأمريكية إزاء إيران، فان «بولاك» حاول الجمع بين ودروس وخبرة الماضي ومنح الأمل في مستقبل أفضل، فهو من جهة يوصي باستمرار السعي الأمريكي للوصول إلي البراجماتيين في القيادة الإيرانية وفي المجتمع الإيراني ومحاولة التوصل معهم إلي صفقة «مـا»، ولكنه علي الجانب الآخر، وتحديداً فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني يوضح انه إذا أصرت طهران علي الاستمرار في برنامجها النووي، فعلي الإدارة الأمريكية اتخاذ إجراءات والقيام بأفعال أكثر حزماً إزاء إيران، بما في ذلك -وفي الحالة القصوي علي حد تعبيره- النظر بجدية لإمكانية اللجوء للخيار العسكري. وقد سبق لنفس الكاتب إصدار كتاب أثار جدلاً واسعاً عام 2002 بعنوان The Threatening Storm : The Case For Invading Iraq,وهو ما مثل دعما موازياً لموقف من كان يسمي حينذاك بالمتشددين في إدارة الرئيس بوش الأولي الذين كانوا يدعمون خيار الغزو العسكري للعراق. وجاءت توصيات كتاب «بولاك» في نفس الاتجاه لتثير الاستغراب علي نطاق واسع أخذاً في الاعتبار خلفية عمل المؤلف في إدارة كلينتون الديمقراطية التي لم تتبن خيار غزو العراق. ولئن كانت إجابة المؤلف علي حالة العراق هي ضرورة الحرب، ففي حالة كتابه الأخير عن إيران فان إجابته هي رفض مشروط لاعتبار الحرب الوقائية هي الحل لما تصفه الدوائر الأمريكية بالمسألة الإيرانية. فبولاك يقر في كتابه الجديد أولاً أنه أخطأ في كتابه السابق ويبرر ذلك بأنه كان يستند إلي معلومات استخباراتية اتضح فيما بعد أنها كانت مضللة أو علي أفضل تقدير خاطئة. وأسباب رفضه للحرب في حالة إيران متعددة منها الكثافة السكانية للإيرانيين، الطبيعة الوعرة للأرض وكثرة عدد المرتفعات والهضاب، والأعداد الكبيرة المتوقعة لمقاومين إيرانيين لأي غزو أمريكي لبلادهم نتيجة ما يؤمنون به عقائدياً بما يدفعهم للموت دفاعاً عن «الجمهورية الإسلامية» وهي قناعة أيديولوجية لم تكن متوفرة بحسب رأي بولاك في الحالة العراقية لدي المدافعين المفترضين عن حكم الرئيس السابق صدام حسين. كما يشير بولاك إلي مخاطر قد تتعرض لها المصالح الأمريكية والمواطنون الأمريكيون في مناطق أخري عبر العالم في حالة القيام بهجوم عسكري أمريكي ضد إيران. وحتي بالنسبة لتوجيه ضربة وقائية ضد منشآت إيران النووية أسوة بالضربة العسكرية الإسرائيلية لمنشآت العراق النووية في يونيو 1981، فانه يستبعد هذا الخيار لأنه يري فيه عيوبا أكثر من مزاياه. ويوصي بولاك بأن تتعامل الولايات المتحدة مع التحديات التي تشكلها إيران لها بالتعاون والتنسيق المكثف مع مجموعة أخري من الدول ذات الصلة بالحالة الإيرانية، سواء من خارج الإقليم أو من داخله، ومواجهــــة إيــــــران بمــزيج من عصي كبيرة وجزرات كبيرة أيضاًً Big Carrots and Big Sticks. وقد أخذت بعض الدوائر داخل مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأمريكية المؤيدة لدعوات التغيير الديمقراطي في العالم العربي والإسلامي التي أطلقتها الإدارة الأمريكية الحالية، خاصة منذ بداية الولاية الثانية للرئيس بوش الابن، علي «بولاك» في كتابه عدم تعرضه بما يكفي لخيار دعم القوي والاتجاهات الديمقراطية داخل إيران، بالرغم من أن تحول إيران من نظام إسلامي إلي نظام ديمقراطي علي النسق الغربي - حسب رؤية هذه الدوائر- هو السبيل الوحيد لضمان نشأة وتطور علاقات جيدة ومستدامة بين إيران والولايات المتحدة علي المدي المتوسط والطويل. الأمر الآخر الذي أخذه بعض الأكاديميين علي كتاب «بولاك» هو اعتماده شبه التام علي المصادر الأمريكية في مراجعه، فلم يستخدم مراجع أوروبية هامة عن إيران، بالإضافة إلي عدم استخدامه مراجع إيرانية هامة، وبالتالي أخذ هؤلاء علي الكتاب أنه عكس نقاط القوة والضعف للأدبيات السياسية والأكاديمية الأمريكية حول إيران وتاريخها. وإن كان العذر الذي يمكن التماسه لبولاك في هذا السياق أنه يبحث أساساً في إخفاقات السياسة الأمريكية إزاء إيران وليس عن تطورات الحالة الإيرانية في حد ذاتها. وهناك أمر ثالث أخذه بعض الإيرانيين والأمريكيين المؤيدين أو المتعاطفين مع شاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي علي «بولاك» وكتابه، حيث اتهمه هؤلاء بالتحامل علي الشاه السابق، وتضخيم أخطائه وإخفاقاتـه بشكل مبالغ فيه مع تجاهل ما حققه من إنجازات لإيران وللعلاقات الإيرانية الأمريكية، وكذلك اتهموه بالتحدث مطولاً في كتابه عما أسماه بفشل سياسات الشاه الاقتصادية دون أن يذكر أن إيران حققت خلال بعض السنوات ما بين عامي 1953 و 1978 معدلات نمو كانت تعتبر الأعلي بين مختلف دول العالم في تلك الفترة. يوفر الكتاب أرضية هامة ولا مثيل لها كثيراً لخلفية العلاقات الإيرانية الأمريكية وتطورها. ويبدو أقوي في حججه ومنهجه عندما يتحدث عن الماضي وليس المستقبل، وربما هذا ما تتصف به دراسات وبحوث العلوم السياسية والعلاقات الدولية بشكل عام بالرغم مما حدث فيها من تقدم وطفرة في مناهج وأدوات التحليل - بما فيها الكمية - في العقود الماضية. فبولاك يذكر القارئ مثلاً مراراً وتكراراً كم أن الكثير من الفرضيات والمسلمات الأمريكية حول إيران وأولوياتها ومصادر قلقها هي ببساطة خاطئة. ويستدعي هذا إلي الذاكرة ما فعله تشارلز دويلفر كبير خبراء الأسلحة الأمريكيين في العراق عندما كشف للعالم كله، وللأمريكيين علي وجه الخصوص، أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان يدعي أن لديه أسلحة دمار شامل لأنه كان معنياً أساساً بردع إيران، الخصم الإقليمي اللدود، وليس الولايات المتحدة، القوة العظمي الوحيدة في عالم ما بعد الحرب الباردة. ولا شك أن مواقف بولاك تجاه إدارة كلينتون وسياساتها كانت اكثر إيجابية وتعاطفاً، وهو أمر متوقع في ضوء عمله هو شخصياً في هذه الإدارة كمحلل سياسي في المخابرات المركزية ثم كمسئول عن ملف إيران والعراق بمجلس الأمن القومي. فهو يعطي لإدارة كلينتون الفضل فيما يعتبره تراجع إيران عن «الإرهاب» المعادي للولايات المتحدة بعد انفجارات أبراج الخبر في المملكة العربية السعودية عام 1996. ولكنه يقر أن لفتات إدارة كلينتون تجاه إيران لم تؤد إلي نتيجة. وبالرغم من أن البعض يشير إلي ما أوردته لجنة التحقيق في أحداث 11 سبتمبر 2001 من وجود أدلة علي تسهيل إيران سفر السعوديين المتهمين بالاشتراك في هذه الهجمات، فان بولاك يتجاهل هذه النقطة كلية ويشير بالمقابل إلي ما يسميه بتعاون إيران علي المستوي العملي مع الولايات المتحدة عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 مباشرة وخاصة خلال الحرب ضد حركة الطالبان في أفغانستان. إلا أن الكاتب لم يمنح اللفتات والمبادرات المحدودة للانفتاح والمصالحة ولكن الهامة وذات الطابع غير الرسمي خلال العقد الأخير التغطية أو الوزن الذي تستحقه، رغم تنوعها بين الإعلامي والثقافي والفني والرياضي والقادم من المجتمع المدني. ولم يتناول بالإسهاب المطلوب الجدل المستمر داخل الولايات المتحدة بين مؤيدي الانفتاح علي المجتمع الإيراني، ولو بدون سياسة، وبين من يعتقد أن أي انفتاح علي الشعب الإيراني سيصب لصالح النظام الإيراني. وهو في الواقع خلاف أعمق مما يبدو علي السطح، فهو في حقيقته نزاع بين دعاة تغيير النظم المناوئة للولايات المتحدة ولو بالقوة او بالغزو الخارجي أو تقديم الدعم الفعال لمعارضي هذه النظم من خارجها أي اتباع طرح Regime Change وبين من يؤمنون بإمكانية حدوث التغيير بشكل سلمي وتدريجي من داخل هذه المجتمعات في سياق إصلاح النظم من داخلها. كما أنه خلاف بين من يسعي إلي «تسييس» و«أدلجة» كل شيء، وبين من يسعي إلي الاحتفاظ باكبر قدر من الفضاء الإنساني بعيداً عن قيود السياسة وتاثيرها المباشر. وأخيراً، فإن كتاب بولاك لا يمنح الثقل المطلوب لدور العامل المعنوي في العلاقات الأمريكية الإيرانية، خاصة من جانب نقص أو أحياناً غياب لإدراك الجانب الأمريكي لأهمية هذا العامل علي الجانب الإيراني وتأثيره علي الرؤية الإيرانية للولايات المتحدة، وهو أمر يبدو أنه متوارث في تحليل العلاقات الإيرانية الأمريكية من الجانب الأمريكي. فمشاعر المرارة تتواجد لدي الشعب الإيراني تجاه الدور التاريخي للولايات المتحدة في بلادهم وتدخلاتها المتتالية في شئونهم الداخلية في ضوء معرفتنا بأن الشعب الإيراني يمثل حضارة آلاف السنين ويعتز بهويته القومية والدينية وبالتالي باستقلاله الوطني وتميزه الحضاري. ويدل علي هذه المشاعر أنه حتي رموز المجتمع المدني الإيراني في الداخل - مثل المحامية شيرين عبادي الحاصلة علي جائزة نوبل للسلام - حريصون علي حث الولايات المتحدة علي عدم إعلان دعمها لهم لأن من شأن هذا الدعم الإساءة إلي نظرة الشعب الإيراني إليهم، وعلي حثها عدم التدخل في الشئون الإيرانية الداخلية وترك شأن إيران لشعبها. ويستدعي هذا إلي الذاكرة ما ذكره الأستاذ الدكتور حسن حنفي في تقديمه للترجمة العربية لكتاب «الحكومة الإسلامية» لآية الله الخميني عام 1980 من أن حادث احتجاز الرهائن الأمريكيين في طهــــران مثـــــل جزءًا مما أسماه «رد فائض قيمة الإذلال التاريخي» من الشعب الإيراني للولايات المتحدة.

«حكاية» العلاقات الأمريكية الإيرانية هي من «الحكاوي» القديمة المتجددة باستمرار، بدأت تبرز قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتواصلت فصولها، حتي مع انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ عام 1979.

إحدي المشكلات المزمنة في الموقف الأمريكي من الجمهورية الإسلامية في إيران والتي سببت هذا الفشل والإحباط هو أن واشنطون كانت تقوم بمبادرات تجاه شخصيات في القيادة الإيرانية تتوسم فيها الاعتدال والبراجماتية ثم يتضح لها متأخراً أن هذه المبادرات أدت إلي عكس ما كان مرجواً منها.

يوصي بولاك بأن تتعامل الولايات المتحدة مع التحديات التي تشكلها إيران لها بالتعاون والتنسيق المكثف مع مجموعة أخري من الدول ذات الصلة بالحالة الإيرانية، سواء من خارج الإقليم أو من داخله
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة