أن تكــــون مســلمــا أوروبـيــا الهــويـة والمـواطنـــة



يشهد المسلمون في عالم اليوم ضغوطًا خارجية هائلة بلغت حد التهديد بالحرب والتدخل بالقوة لتغيير الأنظمة السياسية والثقافية والتعليمية، والحجة في ذلك هي حرب الإرهاب وتجفيف منابعه. في غمار هذه الحملة الشرسة علي الإسلام والمسلمين أصبح المسلمون في الغرب يعانون من تضييق واضطهاد وقيود غير مسبوقة، وقد صدرت في هذا المجال قوانين وإجراءات ضيقت عليهم سبل الحياة والحركة، وأصابت حقوقهم الإنسانية ومؤسساتهم الاجتماعية في مقتل، وما قانون منع الحجاب المزمع إصداره في فرنسا إلا واحد من هذه القيود القهرية المفروضة علي حياة المسلمين في الغرب. وعندما يصل الأمر إلي أن تتدخل الدولة بقوانينها لتفرض علي المرأة المسلمة لباسًا يخالف أحكام الشريعة وتحرّم عليها لباسًا اختارته بمحض إرادتها وحريتها ـ عندما يحدث هذا في أوروبا فلابد أن يكون هناك خلل فادح في الثقافة والأخلاق وأن الإسلاموفوبيا قد أصبحت مرضًا سياسيًا. ولي في هذا ملاحظتان: الأولي: أن هذا القانون المتعارض مع حقوق الإنسان الأساسية لن يكون نهاية لما سيحدث للمسلمين في أوروبا وإنما هو مجرد بداية لمرحلة جديدة من الصراع علي هوية المسلمين وعلي وجودهم نفسه في أوروبا. والثانية: أن أوروبا بدساتيرها وديمقراطياتها وقوانينها التي وضعت للحفاظ علي حقوق الإنسان وضمان حريته الدينية ـ كل ذلك لم يعد ضمانًا تلقائيًا لممارسة المسلمين حياتهم اليومية العادية الآمنة شأنهم في ذلك شأن قرنائهم المواطنين الأوروبيين الآخرين من غير المسلمين. يعزز هذا الرأي عاملان أدركتهما بالملاحظة والمعايشة في بلاد الغرب: الأول يتصل بزيادة إقبال أعداد من المثقفين الأوروبيين علي الإسلام في وقت تشهد الكنائس ذبولاً وتقهقرًا ملحوظًا في عدد المتدينين، وليس للمسلمين ـ في حقيقة الأمر ـ جهد كبير أو تنظيم في هذا المجال، ومع ذلك فقد اعتبر وجود الإسلام في أوروبا خطرًا يجب مواجهته. العامل الثاني يتصل بالنظرة السائدة في الإعلام والثقافة الشعبية إلي المسلمين باعتبارهم أقليات غريبة مختلفة موصومة بالبربرية والتعصب والأصولية وحديثًا بالإرهاب. هذه المشكلة أو بالأحري هذا المأزق الذي يواجهه المسلمون الآن في أوروبا هو الذي دفع بعض المفكرين والأكاديميين المسلمين إلي دراسة أبعاد هذا المأزق والبحث عن مخرج منه، وفي هذا الإطار يأتي كتاب الدكتور طارق رمضان الموسوم بعنوان: (To be a European Muslim) (أن تكون مسلمًا أوروبيًا). لفت نظري بشدة تقديم كتبه بروفيسور «يورجين نيلسون» أود أن أشير إلي بعض نقاط مهمة وردت به، ترجع أهميتها إلي أنها تعبير عن وجهة نظر أوروبي في المشكلة الإسلامية بأوروبا، كما ترجع إلي أهمية صاحبها في المجالين الفكري والأكاديمي، فهو مدير مركز دراسات الإسلام والعلاقات الإسلامية المسيحية بجامعة برمنجهام البريطانية، ولهذا المركز نشاط كبير في مجال الدراسات والنشر وعقد المؤتمرات والندوات حول الشأن الإسلامي في بريطانيا وأوروبا.. يقول الرجل في تقديمه: «بدأ الأوروبيون في العقود الأخيرة يلاحظون وجود مجتمعات مسلمة مستقرة في مدنهم وبدأوا يتنبهون إلي أن عصر العمالة المهاجرة المؤقتة قد مضي وحل مكانها أسر مسلمة مستقرة وأخذت المساجد الإسلامية تظهر في كل مكان.. كانت تقديراتنا المبسطة أنه مع مرور الزمن ـ ربما خلال جيل واحد ـ سوف تذوب هذه المجموعات المهاجرة ويتم تمثيلها في الكيان الكبير، علي الأقل من ناحية موقفهم من الدين وما تطلبه العقيدة الدينية من الإنسان.. وكان المتوقع أن ينظروا إلي دينهم كما ينظر الأوروبيون إلي دينهم.. وقد رأي البعض أن الزواج المختلط سيكون عاملاً حاسمًا في الإسراع بعملية الإذابة والامتصاص، لكن بعد أن مضي جيلان لا جيل واحد فقط اختلفت الصورة اختلافًا «راديكاليًا» عن الصورة أو عن التوقعات المبدئية بحيث نستطيع الآن أن نصفها بأنها كانت توقعات ساذجة». ينتقل بروفيسور نلسون بعد ذلك إلي شرح أسباب هذا الموقف فيقول بصراحة: «الحقيقة أننا نحن الأوروبيين كنا نرفض قبول أُناس مختلفين عنا إلا بشروطنا، وقد أدي هذا إلي إصرار المسلمين علي تميزهم في أوروبا.. وكان التزام المسلمين بتقاليدهم والتصاقهم بدينهم هو الذي دفع المجتمعات الأوروبية والسياسيين والأكاديميين في أوروبا إلي البدء في النظر إلي المسلمين وإلي احتياجاتهم ومطالبهم نظرة جادة، وأن يضعوا جانبًا السيناريوهات الساذجة عن التذويب والامتصاص». لم يقتصر رد الفعل عند المسلمين من الرفض الأوروبي عند حدوده السلبية فقط (أقصد الاحتماء بالدين والتقاليد دفاعًا عن الوجود المهدد) وإنما تجاوزه عند المفكرين المسلمين إلي جانبه الإيجابي، وفي هذا يقول بروفيسور نلسون: إن المسلمين ـ وهم يشعرون بأنهم أقلية مرفوضة في أوروبا ـ وجدوا أنفسهم مضطرين أن يفكروا أكثر عمقًا في وضعهم كأقلية وفي عقيدتهم وممارساتهم الدينية، في محاولة للإجابة عن أسئلة مهمة مثل: كيف يمكن أن نجعل هذه العقيدة أساسًا مناسبًا وفاعلاً في تشكيل حياتهم اليومية في بيئتهم الجديدة.. وخرج علي الساحة قلة من المفكرين المسلمين رأوا أنه إذا كان المسلمون يريدون أن يتفاعلوا مع الحياة الحديثة بنجاح فعليهم أن يعيدوا النظر في طبيعة الوحي وفهم نصوصه في ضوء تأويلات جديدة.. وجاء آخرون من هذه القلة يدعون إلي هجر الفقه كلية كشيء لم يعد صالحًا للعمل به في الحياة المعاصرة، ذلك إذا كان المسلمون يريدون أن يتفاعلوا مع مجتمعات غريبة عليهم من أبرز سماتها التكنولوجيا المتقدمة والعلمانية السائدة والمتطرفة أحيانًا.. أما الذي لم يحدث بطريقة نظامية في الإطار الأوروبي المعاصر فهو محاولة البحث واستلهام المصادر الأساسية في الإسلام لاستثمارها في البيئة الجديدة، ولكنه بدأ بشكل ملحوظ في العالم المسلم خصوصًا بين المسلمين العرب. يقول بروفيسور نلسون: «الآن يأتي الدكتور طارق رمضان إلينا (هنا في أوروبا) بأول محاولة رئيسية لتطبيق هذا الاتجاه الجديد علي أوضاع المسلمين في أوروبا.. وهو بذلك بضع نفسه في إطار تيار عام متميز حديث.. وهو لا ينكر فضل من سبقه في هذا الاتجاه ومن بينهم أبوه نفسه وهو الدكتور سعيد رمضان. وأبرز ما جاء به الدكتور طارق رمضان ـ في نظر نلسون هو منهجه العلمي في البحث وقد جعل مصادره المرجعية القرآن والسنة الصحيحة، ثم ناقش باستفاضة وتحليل مصطلحات أصول الفقه، وهو بسبيل وضع المبادئ الإسلامية الخالدة في إطار متغيرات المكان والزمان. يشتمل كتاب «أن تكون مسلمًا أوروبيًا» علي جزءين أساسيين يتفرع كل جزء منهما إلي فصول: عنوان الجزء الأول هو «في قلب مصادر العقيدة والممارسة الدينية، وعنوان الجزء الثاني هو «أسئلة حساسة: الانتماء والهوية والمواطنة». ولعل الإشارة إلي عناوين الفصول يعطي القارئ لمحة أو مذاقًا لما تعرض له هذه الفصول من أفكار. في الجزء الأول فصلان يتناول أولهما تعاليم الإسلام وعلومه مثل علوم القرآن وعلوم الحديث، ويتناول الفصل الثاني بشيء من التفصيل والتحليل القواعد العامة الأساسية لأصول الفقه الإسلامي باعتباره المنهج الذي تُستنبط به الأحكام الشرعية. أما الجزء الثاني فبه ثلاثة فصول، عنوان الفصل الأول هو: «أين نحن؟» وفيه وصف تحليلي لطبيعة وخصوصية المجتمعات الأوروبية التي تشكل البيئة الجديدة للوجود المسلم. وعنوان الفصل الثاني هو «من نحن؟» وهو يتناول باستفاضة الهوية والانتماء وكيفية الجمع بين الانتماء للأمة الإسلامية وأن تكون مواطنًا أوروبيًا فاعلاً. ويفرق هنا بين الذوبان والاندماج، ويكشف عن معالم وتشكيل ثقافة إسلامية أوروبية، وفي الفصل الثالث يتحدث عن التعايش المحتمل. المسلمون كأقلية بعد خمسين عامًا من نهاية الحرب العالمية الثانية بلغ عدد المسلمين في أوروبا الغربية خمسة عشر مليونًا وهناك الآن تقديرات تصل بتعدادهم إلي العشرين مليونًا، ويعلق الدكتور طارق علي ذلك قائلاً: «إن مجرد ذكر هذا العدد من شأنه أن يشيع الرضا في نفوسنا.. فقد أصبح الوجود المسلم في أوروبا ملحوظًا ومهمًا، وظهرت فيه اتجاهات للتنظيم بشكل أو بآخر وإن ظل الاتجاه العام بين المسلمين موجهًا نحو توفير الاحتياجات الأساسية وتأمين وسائل العيش في الحياة اليومية.. ولكن عندما بدأ المسلمون يمارسون شعائرهم الدينية ويقيمون مساجدهم لأداء شعيرة الصلاة ازداد شعور الأوروبيين بالريبة في هذا الوجود المسلم المتنامي والملتصق بدينه واعتبروه مشكلة بل خطرًا يهدد مجتمعاتهم..». إزاء هذا الموقف الأوروبي المستريب الرافض للوجود المسلم اتخذت ردود الفعل في أوساط المسلمين صورًا مختلفة تراوحت بين الانسحاب والعزلة عن المجتمع العام تأكيدًا للخصوصية الثقافية واحتماءً بالعقيدة الدينية والتـقـاليد الموروثة، وبين الانسحاق التام والتخلي عن كل الخصوصيات الثقافية والدينية التي تشي بأصحابها في مجتمع لم يعد يحتمل أي قيود تمنع حريته الشخصية من الانطلاق إلي أقصي المدي.. وقد حرص أصحاب هذا الاتجاه من المسلمين أن يذوبوا في هذا المجتمع بحيث يصبحون غير مرئيين.. حتي أسماؤهم تخلوا عنها وتبنوا أسماء أخري غربية إمعانًا في التخفي. وتفسير الدكتور طارق لهذه الظاهرة في طرفيها المتطرفين كما نري في تشخيص له يقول فيه: «يبدو أن الشعور بأن تكون أقلية وأن تعيش بهذا الاعتبار يولد نوعًا من العرض المرضي في عقل المسلم الأوروبي يحرمه من القدرة علي رؤية نفسه إلا من خلال مرآة عالم مرفوض..» ثم يستطرد إلي نقطة مهمة فيقول: «لقد جربنا في تاريخنا الطويل أن نكون أقلية في بقاع كثيرة من الأرض.. ولكن وجودنا الأوروبي المعاصر ليس له مثيل في الماضي.. فهو وجود أكثر تعقيدًا وأكثر حساسية.. ذلك لأن الحضارة الغربية الحديثة مسلحة بوسائل بالغة القوة تجعل من الصعب علي أي إنسان أن يحدد لنفسه من هو؟ أو من ليس هو؟.. فالإعلام والثقافة الشعبية والموسيقي والسينما والإعلان ـ كلها أدوات هائلة لتمييع الأفكار عن الحرية والأخلاق والترفيه وأساليب الاستمتاع بالحياة.. ولترسيخها في عقول الناس وقلوبهم إلي حد الاستيلاء بحيث يصبح من الصعب علي الإنسان أن يعرف ما الذي يأتيه بمحض إرادته واختياره وما الذي يرجع إلي التأثيرات الخارجية.. وليس المسلمون ببعيدين عن هذه الحالة العامة ولا عن التوتر الذي يقترن بها.. ولعل أكثر الناس تأثرًا بهذا هم الفتيان والشبان المسلمون من الجيل الثاني والثالث والرابع. كانت مهمة الجيل الأول من المسلمين المهاجرين إلي أوروبا هي إعادة إعمار أوروبا بعد تخريبها في الحرب العالمية الثانية. وبالتحديد توفير (العمالة) غير الماهرة في الزراعة والصناعة والبناء.. كانت غالبيتهم من الأميين البسطاء.. وكان المتوقع أن يعود هؤلاء العمال إلي أوطانهم الأصلية في آسيا وأفريقيا فلما استوطنوا ولم يعودوا كان التوقع الآخر هو أن تذوب هذه الأقليات في المجتمعات الجديدة وتتلاشي في زمن قصير. يتناول الدكتور طارق في كتابه بتحليل مستفيض تركيبة الجيل الأول من المسلمين في أوروبا وما صادفه من مشكلات وردود أفعاله تجاه تحديات البيئة الجديدة التي رأي أنها متساهلة أو بالأحري متسيبة بدرجة مخيفة، بل معادية لدينه وهويته.. ونظرًا لقلة معارفه الدينية عن الإسلام فقهًا وثقافة اعتصم بتقاليده التي حملها معه من وطنه الأصلي متصورًا أنها هي الهوية الإسلامية في حين أنها تقاليد مشوبة بكثير من الخرافات المحلية مقطوعة الصلة بالإسلام بل متناقضة معه في كثير من الأحيان». ويري الدكتور طارق أن هذا النقص المعرفي بالإسلام مقرونًا بظروف البيئة الجديدة وتحدياتها التي تضع المسلم في دائرة الرفض.. مع شعوره بالغربة وبمصاعب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، كل هذا أدي إلي ردود أفعال متشنجة سادت في الجيل الأول من المسلمين. ولكنه يضيف إلي هذه الحقيقة حقيقة أخري حين يستطرد قائلاً: إننا لا نزال نري هذه المواقف المتشنجة في مناسبات كثيرة من أجيال لاحقة، تبدو لنا علي شكل عاهات مزمنة». وهو يري أن هذا الموقف يرجع إلي رغبة بعض المسلمين إلي تأكيد ذواتهم مع اقتران هذه الرغبة بنسيان أصولهم وإن ظـلوا مخلصين لدين لم يعودوا يفهمون حقيقته ومن ثم يأتي فكرهم وسلوكهم علي شكل ردود أفعال رافضة وأحيانًا عدوانية تجاه المجتمع وثقافته. تحرير الهوية: يري الدكتور طارق أن علاج أزمة المسلمين في أوروبا يتطلب جهدًا مشتركًا من جانب المسلمين من ناحية والمفكرين الإصلاحيين في أوروبا من ناحية أخري، وهو يعتقد ـ من واقع خبرته ـ أنه يوجد من هؤلاء الإصلاحيين من هم علي معرفة بالكثير من أبعاد هذه الأزمة وآثارها السلبية علي المسلمين وأوروبا علي السواء، ولديهم الرغبة في العمل والمساهمة في علاجها. ولكن يبقي العبء الأكبر علي عاتق المسلمين لأنهم هم أصحاب الأزمة وضحاياها، وفي هذا الإطار يجد المسلم أنه أمام تحديين عليه مواجهتهما في آن واحد: أن يفهم الإسلام فهمًا صحيحًا يساعده علي تحرير هويته الإسلامية من شوائب التقاليد التي لا علاقة لها بالإسلام، وأن يفهم البيئة الأوروبية بأبعادها الاجتماعية والثقافية والقانونية وأن يتفاعل مع هذه البيئة بطريقة إيجابية من خلال الحوار والمشاركة مع الإصلاحيين الأوروبيين بالفكر والعمل لتغيير المجتمع الأوروبي وتطويره لمصلحة الجميع. فالإسلام قبل أن يكون وسيلة للحماية من الضياع والذوبان هو عقيدة إيمانية تتضمن فهمًا كونيًا للخلق والحياة والموت والإنسانية التي كرّمها الله وأسند إليها خلافته في عمارة الأرض وإدارتها، وينبغي أن يكون فهم هذه الحقيقة هو الأساس لقواعد التفكير والسلوك.. فعلي أساس هذا الفهم أقام الإسلام بالفعل العبادات والمعاملات فيما يعرف في تاريخ الإسلام بأصول الفقه والاجتهاد وحدد المرجعية في هذا كله بالقرآن والسنة الصحيحة. هذا الإطار النظري ـ عند طارق رمضان ـ لا يمكن تجاوزه أو إلغاؤه ومن ثم كانت عنايته به في الجزء الأول من كتابه، وقد خصص الفصل الثاني من هذا الجزء لبسط أهم القواعد في علم أصول الفقه والاجتهاد وأفاض في تحرير فكرة أن الأصل في الأشياء هو التحليل وليس التحريم، ولا يكون التحريم إلا بنص صريح غير قابل للتأويل فإن كان النص يحتمل تأويلاً أو انعدم في مسألة بعينها هنا يأتي دور الاجتهاد والاختلاف المحمود. بين الذوبان والاندماج: وفي تناول الدكتور طارق لمفهوم الهوية الإسلامية يميز بين موقفين: موقف الاستسلام والذوبان في المجتمع وموقف الاندماج الذي يتحقق من خلال التفاعل الإيجابي والعمل المشترك والانخراط مع الآخرين في العمل والإصلاح، دون التخلي عن الهوية الإسلامية والمرجعية الإسلامية، بل إن الدكتور طارق رمضان يري أن الإسلام لا يسمح فقط بل يشجع علي الاندماج والتفاعل وتعريفه للهوية الإسلامية يكشف عن حقيقة أنها ليست هوية مغلقة بل هي مفتوحة علي تطور المجتمعات ودينامياتها. وقد أثبت في تحليلاته وشروحه أن مسائل الهوية والمواطنة والثقافة مسائل أساسية كما أثبت أن التعايش الذي يرفض الانعزال والذوبان ممكن بل ضروري لحياة المسلمين في أوروبا. وهو ينبه المسلمين الأوروبيين ألا يقتصر نضالهم لتحقيق العدالة ورفع الظلم عن أنفسهم فقط، فهناك فئات أخري من الناس تحتاج إلي من يساعدهم في رفع الظلم الواقع بهم، ويتطلع الإصلاحيون الأوروبيون أن يروا من المسلمين إسهامًا فعالاً في هذا المجال، ويؤكد الدكتور طارق أن هذا الإسهام في تحقيق العدالة ورفع الظلم حيثما وجد هو واجب إسلامي. يربط الدكتور طارق في تعريفه للهوية الإسلامية بين عناصر أربعة رئيسية متكاملة في البناء والتفاعل لا يمكن تفكيكها أو تجزئتها إلا لأغراض الدراسة التحليلية: العنصر الأول في هذه التركيبة هو الإيمان بالله وبالوحي، والتوحيد هو المفهوم المركزي في قلب هذا الإيمان، ويبقي الإيمان مجرد عقيدة نظرية حتي يتحقق في الممارسة العملية بالسلوك والعبادات، والعبادة هنا مأخوذة بمعناها الضيق المتمثل في إقامة الواجبات والشعائر الدينية كما تحددها الشريعة، وبمعناها الواسع المتمثل في أي سلوك اجتماعي يتجه به الإنسان إلي رضاء الله ومحبته، والسلوك أو المعاملات لا تتأكد في العقيدة إلا بركنيها الروحي والأخلاقي. ويتمثل العنصر الثاني في الهوية الإسلامية في فهم النص (قرآنا كان أو سنة) وفقًا لقواعد أصولية منهجية مستمدة من علوم القرآن والحديث وأصول الفقه، بمقدار ما يتمثل في فهم الواقع بأبعاده الزمانية والمكانية والحضارية، وهو ما يطلق عليه اصطلاحًا فقه الواقع، فبغير هذا الفقه يستحيل تنزيل أحكام النصوص علي الواقع المتغير وحالاته المختلفة. الأمر إذن ـ فيما يتعلق بالاجتهاد والفتوي لا يقتصر علي اتقان العلوم الشرعية فقط، وإنما يستلزم إلي جانب هذا ثقافة واسعة وإدراكًا عميقًا لأوضاع المجتمعات الإنسانية وإلمامًا بشئونها السياسية والاقتصادية ومشكلاتها الحضارية. وكثيرًا ما تصدر أخطاء فاحشة بل كارثية من أصحاب العلم الشرعي في أعلي درجاتهم بسبب جهلهم وقصورهم في فقه الواقع! أما العنصر الثالث فيتعلق بالتعليم والبث والدعوة والتبليغ أو إن شئت (بلغة العصر) النقاش والحوار والتواصل الفكري مع الآخرين في المجتمع، بالأسلوب المناسب والخطاب المناسب بطبيعة الموقف وللمستوي الحضاري للأفراد والمجتمعات. ويؤكد العنصر الرابع في الهوية الإسلامية علي ضرورة الانخراط في العمل والمشاركة مع المواطنين الآخرين من غير المســـــــلمين في معــــــالجة مشكلات المجتمع وتحسين أوضاعه وإصلاح حاله وتحقيق العدل والمصلحة ودفع الظلم عن الفئات المستضعفة في المجتمع. هذه العناصر الأربعة مجتمعة ومتفاعلة هي التي تشكل جوهر الهوية الإسلامية ولا تتحقق هذه الهوية في الواقع إلا بها. من عجائب الصدف في هذه الحياة أنني سمعت الدكتور سعيد رمضان في الإذاعة المصرية سنة 1952 وكنت آنذاك تلميذًا في المدرسة الثانوية، كان محدثًا لبقًا وداعية إسلاميًا شابًا من طراز فريد فوقع في نفسي من حديثه المشرق الجذاب شيء في الذاكرة حملته معي زمنًا طويلاً، وبعد واحد وخمسين عامًا يشاء القدر أن ألتقي بابنه في مؤتمر بلندن يناقش مشكلات المسلمين في الغرب فألمس فيه روح الداعية الإسلامي مشرق الحديث، مجددًا متمكنًا من فكره الإسلامي ومن فهمه لروح الحضارة الغربية في جوانبها الإيجابية المبدعة وسلبياتها الموجعة، ذلك هو الدكتور سعيد رمضان. إلي جانب هذه الوجوه المشرقة للوجود الإسلامي في أوروبا، صادفت وجوهًا كريهة لأعضاء في جماعات منسوبة إلي الإسلام، جماعات منغلقة علي نفسها تتغذي علي أفكار متخلفة ناشزة عن التيار الإسلامي العام، وهي تحدث اضطرابًا بين المسلمين، وتعوق عملية التواصل والاندماج والتفاعل البناء بين المسلمين وغير المسلمين، وتقدم بفكرها وسلوكها ومظهرها صورة مزرية للإسلام في عيون الأوروبيين، وهي أمور محسوبة شرحها يطول مما لا مجال له في هذه المقالة. وبرغم كل هذا فإن الدكتور طارق يري أن نهاية القرن العشرين قد شهدت علامات تقدم حقيقي في أوروبا علي طريق التفاهم والتواصل، خصوصًا في أوساط الإصلاحيين الأوروبيين، فالوعي بالوجود الإسلامي في أوروبا قد أصبح حقيقة، وهناك تقدمات ملموسة فيما يتعلق باستيعاب حقوق المسلمين ومتطلباتهم من الناحية القانونية، تتفاوت من دولة إلي أخري، يلاحظ الدكتور طارق أن بريطانيا بين أفضل هذه الدول وأن فرنسا تُعد من أسوئها. كما يلاحظ أن عملية المشاركة والإسهام من جانب المسلمين في النشاط الاجتماعي العام قد بدأت وهي ماضية في طريقها، وأن هوية المسلم الأوروبي آخذة في التشكل بصرف النظر عما يعترضها من عوائق وما تُقذف به من عبارات إعلامية مهينة أو مهيجة ضد الإسلام والمسلمين. ويؤكد الدكتور طارق أنه لابد من المزاوجة بين الإطار النظري للتشريع الإسلامي كما طرحه في كتابه وبين تطبيقاته في الواقع الأوروبي، ويري في هذا تحديًا ذا أهمية قصوي وأن المسئولية في هذا تقع علي أصحاب العقيدة والضمير من كلا الجانبين المسلم وغير المسلم، ولابد لإنجاح هذا الجهد المشترك أن يرتفع الجميع إلي مستوي مبادئهم ولو بدا العالم كله ضدهم، ذلك لأنهم يعلمون أن لكل هدف نبيل يرجي تحقيقه ثمنًا يتوازي مع قدرته ونبله وأنه واجب السداد من إخلاصهم لله ولضمائرهم.
إن المسلمين ـ وهم يشعرون بأنهم أقلية مرفوضــــة في أوروبــا ـ اجتهـــدوا للإجــابة عن أســئلة مهمة مثل: كيف يمكن أن نجعل هذه العقيدة أســـاسًا مناســبًا وفاعلاً في تشكيل حيــاتهم اليومية في بيئتهم الجديدة
إن الدكتـــــور طــــارق رمضــــان يـــري أن الإســـــلام لا يســـــمح فقـــــط بل يشـــجع علي الاندمــاج والتفـــاعل وتعريفــه للهـــوية الإســـلامية يكشـــف عن حقيقـــة أنهـــا ليســت هوية مغلقـــة بل هي مفتوحــــة علي تطور المجتمعات ودينامياتها
To Be A European Muslim A Survery Of Islamic Sources In The European Context ( ان تكون مسلماً اوروبياً ) Tariq Ramadan The Islamic Foundation 1998,228pp
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة