كتبهــا .. وانتحـر!



«ممتازة..»
«بيرة فى نادى البلياردو» واحدة من أحسن الروايات المكتوبة عن مصر. وقد أبدع وجيه غالى فى رسم رام، شخصيته الرئيسية، وطنياً ولكنه محب لإنجلترا رغم ذلك، بطلاً مأساوياً، فكهاً، وجذاباً. ومن خلاله يقدم لنا المؤلف وصفاً صادقاً دقيق الملاحظة للمجتمع المصرى فى فترة جيشان عظيم..
هذا الكتاب مدهش، هادئ، خفيض النبرة، يبدو فى الظاهر دون أى ادعاءات فنية أو شكلية، ولكنه على ذلك، مدمر تماماً باستبصاراته الإنسانية والسياسية. وإذا ما أردت أن تنقل لأى امرئ ما كانت مصر عليه فى أربعينيات وخمسينيات (القرن الماضي)، ولماذا كان محالاً على الأوروبيين أو الأمريكيين أن يفهموها، فأعطه هذا الكتاب. إنه يجعل رباعية الإسكندرية لـ (لورنس دريل) تلوح أشبه بكتيب سياحي، وهى كذلك فى الحقيقة..
هذه نماذج مما قاله النقاد والأدباء عن رواية «بيرة فى نادى البلياردو» للكاتب المصرى الذى كان يكتب بالإنجليزية وجيه غالي. المقتطف الأول مأخوذ من «لندن ريفيو أوف بوكس»، والثانى من قلم الدكتورة أهداف سويف الأستاذة الجامعية والروائية المصرية التى تعيش فى بريطانيا وتكتب ــ هى الأخرى باللغة الإنجليزية. أما المقتطف الثالث فهو من مقالة للناقد جابريل جوسيبوفتشي.
ويمكن أن نضيف إلى هذه المقتطفات الثلاثة أقوالاً أخرى كقول أنتونى ساتين، محرر «رسائل فلورنس نايتنجيل من مصر» (1987) فى مقالته المسماة «بيرة بعد الجنازة»: «إنها فى تصويرها نضال فرد من أجل التكيف مع أحداث عصره السياسية حادة ذات صلة اليوم كما كانت لدى نشرها لأول مرة» (مجلة «لترارى رفيو، أغسطس 1987).
و«بيرة فى نادى البلياردو» ــ الرواية الوحيدة لمؤلفها إذ لم يتم غيرها ــ من كلاسيكيات أدب الهجرة، تدور أحداثها فى مصر عبدالناصر وتسجل أحداثاً من قبيل العدوان الثلاثى على مصر. نشرت فى إنجلترا لأول مرة عام 1964 عن دار أندرو دويتش للنشر، ثم صدرت منها طبعة ورقية الغلاف عن دار «ذيل الثعبان للنشر» فى لندن فى 1987 .
وقد ولد المؤلف ونشأ فى القاهرة ولكنه قضى قسماً كبيراً من حياته الراشدة فى أوروبا. وانتحر فى سن الأربعين فى لندن فى 1969، و هو حادث سجلته ديانا أنتهيل فى كتابها المسمى «بعد جنازة»، حيث تسجل تدهور أحوال غالى ونهايته.

 تراود بطل الرواية (أم هل نقول البطل الضد؟) أحلام عريضة، ويتأرجح بين الواقع والخيال، معانقاً النقائض: «أردت أن أحيا. قرأت وقرأت، وتحدثت إدنا وأردت أن أحيا. أردت أن أقيم علاقات غرامية مع كونتيسات، وأن أقع فى غرام عاملة بار، وأن أبيع الهوي، وأن أصبح زعيماً سياسياً، وأن أربح فى مونت كارلو، وأن أكون متشرداً فى لندن، وأن أصبح فناناً، وأن أكون أنيقاً، وأن أرتدى رث الثياب».
والمكان المركزى فى الرواية، كما يومئ عنوانها، هو النادى الذى يختلف إليه رام وأصدقاؤه: «النادى عبارة عن مكان فسيح يحتوي، بالإضافة إلى طاولات البلياردو التى يتوسطها سجاد سميك، على بار أنيق وعدد من المقاعد الجلدية الوثيرة. والمكان أنيق بغير تكلف، وله هيبة تجعلك تأبى الإتيان بتصرف غير لائق أثناء تواجدك به».
فى هذا الإطار المكانى وما يحيط به تدور درامات الشخوص: رام وفونت ومنير وديدى وإدنا والخالات وغيرهن. كما تتخايل فى المؤخرة أشباح الصحراء والنيل والأهرامات وأبى الهول. ويلقى الموقف السياسي، فى فترة مفصلية من تاريخ مصر الحديث، بظلاله على حركة الشخوص وأفكارها ومشاعرها. وتتردد أسماء ساسة وزعماء وخطباء وملوك ورؤساء: كتشنر قنصل بريطانيا العظمى العام فى مصر (1911)، كير هاردى مؤسس حزب العمال المستقل البريطانى فى 1893 ورئيس الحزب 1906 ــ 1908، هيو جتسكيل زعيم المعارضة فى البرلمان الإنجليزى وقد عارض قرار حكومة إيدن غزو مصر فى 1956، أنيورين بيفن السياسى العمالى البريطانى اشتراكى النزعة. ومن خارج بريطانيا: لنين، وسالازار دكتاتور البرتغال، وروزا لكسمبرج الثورية بولندية المولد، وساكو زفانزتى أصحاب القضية الشهيرة فى أمريكا فى عشرينيات القرن الماضي، وفيلافورد من جنوب أفريقيا العنصرية. ومن مصر نلتقى بأسماء عبدالناصر، والنقراشى باشا، وحسن البنا مرشد جماعة الإخوان المسلمين، والملك فاروق. ومن إسرائيل: بن جوريون.
والرواية على درجة عالية من الإلماعية إذ تكثر فيها الإشارات إلى أدباء من قبيل: فيرجينيا ولف وجوركى وآرثر كستلر وآلن باتون ودوريس لسنج وأورويل وويلز شو وإشروود وو. جاكوبس وساسون (من شعراء الحرب العالمية الأولي) وهمنجواى فى إسبانيا. وعلى نحو أكثر تخصيصاً يذكر وجيه غالى رواية الكاتب الفنلندى ميكا فالتارى «سنوحى المصري» وسيرة روبرت جريفز الذاتية «وداعاً لذلك كله»، وجيمى بورتر بطل مسرحية أوزبورن «انظر وراءك فى غضب» (1956)، وسير روجر دى كوفرلى الشخصية التى أبدعها قلم كاتب المقالات الإنجليزى جوزيف أديسون فى أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الذى تلاه، ووصف سمرست موم (على نحو لا يخلو من سخرية) الحب بأنه مقدرة شخصين على استخدام فرشاة أسنان واحدة. ومن الفلاسفة يذكر المؤلف: رسل. ومن علماء النفس: فرويد. من أهل الفن والغناء والموسيقى والرقص: بول روبسون، جوزفين بيكر، وموريس شيفالييه.
بدأت هذا التصدير بإبراز ثلاثة مقتطفات، وأود أن أختمه بما قالته باحثة رابعة هى الدكتورة نادية جندي، أستاذ الأدب الإنجليزى بكلية الآداب، جامعة القاهرة، فى بحث لها بالإنجليزية عنوانه: «هبة مولدنا: صورة مصر فى عمل وجيه غالي» تقول الباحثة إن رواية «بيرة فى نادى البلياردو» تستكشف عدداً من القضايا وتطرح بعض أسئلة أساسية. إنها معنية بالتغير والثورة ولكنها توحى فيما يبدو ــ بأنه لا شيء يتغير حقيقة. وهى تنتقد اتجاه عديمى الحساسية الذين يتجاهلون كلية كيف وأين يعيش الفقراء. وهى تعالج مقدرة المصرى على أن يتقبل ــ بروح فكهة رضية ــ أى موقف مهما يكن حظه من المشقة أو الصعوبة. وهى تمس القرابة بين المصرى وسواه من المصريين، قرابة ــ من خلال الفكاهة ــ تتجاوز الطبقة. وأهم من ذلك كله أنها تكشف عن الحيرة والصراع فى داخل المصريين الذين تلقوا تعليماً وثقافة أجنبيين غرست فيهم. ومن المهم أن نلاحظ أن رواية غالى قد ظهرت قبل رواية «زمردة أيوب» لبدر الديب.
يحاول وجيه غالى ببساطة وحذق ــ أن يواجه القضايا من خلال مجموعة متنوعة من الشخصيات والمواقف. وتاريخياً كان لمصر علاقة حب ــ كراهية طويلة الأمد مع الثقافات الأوروبية. وقد انعكس هذا ــ عبر العصور ــ فى كتابات المصريين والأجانب عن مصر (نجيب محفوظ، دريل، ايزايت، نيوبي..ف إلخ).
ومن الأوجه الشائعة ــ لأنها غير مألوفة ــ للرواية الجو الأمومى الحاضر فيها. فأغلب الكتاب عن مصر يجنحون إلى أن يصوروا المرأة المصرية إما على أنها رمز لمصر أو بوصفها أماً أو زوجة أو موضوعاً جنسياً مسحوقاً. أما هذه الرواية فتهيمن عليها نساء قويات الشكيمة، هن فى أغلب الأحيان من الأرامل، كلهن خالات أو صديقات لخالات رام، كلهن، باستثناء أمه، غنيات ــ وبالتالى قويات. أما رجال الأسرة فضعفاء ويعتمدون ــ على أكثر من نحو ــ على نسائهم. وإنه لمن خلال تفاعل رام وعلاقاته المتشابكة مع الشخصيات النسائية الرئيسية فى الرواية يتم استبصاره معنى أن تكون مصرياً ويرد ــ مصدوماً تقريباً ــ أنها هبة لدى الميلاد، وأنها ــ ككل الهبات ــ تُخلع ولا تكتسب.
احتساء البيرة فى نادى البلياردو، والويسكى فى جروبي، ولعبة البريدج، والكروكيت، والسباحة فى نادى الجزيرة الرياضي، وتناول العشاء على سطح فندق سميراميس المطل على النيل: هذه هى الأجواء الكوزموبوليتانية التى تتحرك فيها شخصيات الرواية، شخصيات غنية مصقولة تضرب بسهم فى مصر وأوروبا على السواء.
صدر وجيه غالى روايته بقول دوستوفسكي: «نحن، بالأحري، نرمى إلى أن نكون شخصيات من نمط قصصى خيالى عام». وأحسب أن القارئ الكريم سيوافقنى فور انتهائه من قراءة الرواية ــ على أن المؤلف قد حقق هدفه هذا، وتمكن من تحويل هؤلاء الأفراد (دون أن يفقدوا طابعهم المميز) إلى رموز عامة تمثل لحظة تاريخية بعينها، فى إطار مكانى بعينه. ولا شك فى أن القارئ سيجد من المتعة ما وجدته فى قراءة هذه الترجمة العربية الدقيقة الجميلة من قلم هناء نصير، مراوحة ــ فى لفتة موفقة ــ بين استخدام الفصحى والعامية فى بعض مواضع الحوار.

 


بيرة فى نادى البلياردو
وجيه غالي
مراجعة وتقديم: د. ماهر شفيق فريد
ترجمة: هناء نصير
القاهرة: دار العالم الثالث، 2006، 244 صفحة

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة