النيل.. معــارك المياه مقبــلة



إن الأمن القومى الحقيقى للشعب المصرى يكمن فى ضمان استمرار سريان مياه النيل وفى حسن استخدام ما يصلنا منها. كان النيل - وإلى عهدٍ قريب- شأناً مصرياً لا يهم الآخرين. وكان الخطر الوحيد يأتى من التذبذب البسيط فى إيرادات النهر تبعاً لمعدل الأمطار فى دول المنبع وخصوصاً إثيوبيا والتى تمدنا بحوالى 85 % من مياه النيل. أما الآن فالوضع مختلف، فدول المنبع لها متطلبات وتعداد سكانها يزداد بينما معدل الأمطار يقل ، وقد بدأ الجفاف ينتاب بعض مصادر المياه فى إفريقيا. 
يؤكد الكثير من العلماء إن الاحتباس الحرارى سيقع خطره الأكبر على دول العالم الجنوبية ومن المتوقع أن تعانى إفريقيا من جراء ذلك. إننا نرى بوادر ذلك بجفاف بعض المناطق مثل دارفور وجفاف بحيرة تشاد بعد أن كانت مليئة بالمياه سنة 1963 وكذلك ذوبان الثلوج على جبال كالمانجارى فى تنزانيا. إن إثيوبيا من المتوقع أن تعانى من الجفاف، وسينعكس ذلك على مصر والسودان.
إن نصيب الإنسان المصرى من المياه 790 متراً مكعباً (م م) فى العام ، ويمثل هذا 47% مما كان عليه سنة 1969.  إن المستوى الحالى لما يخص الفرد المصرى يعتبر تحت مستوى خط الفقر العالمى المحدد للمياه والذى يُقدَّر بحوالى 1000 م م. إن الغد آتٍ لا محالة ويجب علينا جميعا أن نقلق ونفكر فى مستقبل الأجيال القادمة. ما تأثير هذه التغيرات على مصر؟ هل هناك خيارات مصرية ؟ هل نحسن استغلال ما يصلنا من مياه النهر (وهى قليلة رغم ما يعتقده الكثيرون) ؟ ما هى سياسة مصر تجاه دول المصدر؟ وما الوضع القانونى لمياه النهر والذى تشترك فية عشر دول؟
هذا المقال يتعرض لبعض هذه التساؤلات مع مقدمة مختصرة عن تاريخ السياسة والنهر. سأهتم أساساً بمصر والسودان وإثيوبيا وهى دول حوض النيل الشرقي. إن مصر تكاد تكون الدولة الوحيدة فى العالم التى تأتى كل مياهها تقريباً من خارج حدودها ؛ الأمر الذى يضعها فى موقف حرج للغاية. إثيوبيا وحتى الآن تمول مصر بحوالى 85% من مياه النيل وإن كان ذلك سيقل مستقبلاً . السودان هى ثانى دولة تنتفع ببعض مياه النيل وإن كان لها مصادر أخرى للمياه إلا أن كل المياه التى تصل مصر تأتيها عن طريق السودان.  بالرغم من وجود نقص وتنافس على المياه إلا أنه من الممكن إيجاد تعاون بل تكامل اقتصادى مفيد للجميع .


[ 1 ]

لقد وهبت الطبيعة مصر وشعبها هذا النهر الذى لولاه لما كانت مصر، لقد عبد القدماء نهر النيل وتغزل فيه الشعراء. لم يكن النهر مهماً للزراعة فقط بل كان أيضاً المصدر الرئيسى للمواصلات. أنشأ القدماء مقاييس دقيقة على طول النهر ليقيسوا مدى ارتفاع المياه وليحددوا موعد كسر الجسور ليغطى الفيضان الأرض لمدة قرابة الشهرين ابتداءً من النصف الثانى من أغسطس وكان ذلك مصحوباً باحتفالات عديدة .
لم يتغير حال النيل كثيراً منذ القدم إلى أن جاء محمد على ثم الخديو إسماعيل بمشروعهم الكبير للتقدم بمصر. اهتموا بالنيل داخل مصر وخارجها. وُسَّعَت الترع القديمة على طول مصر وعرضها، شُقَّت الكثير من الترع والتى كان أهمها ترعتى الابراهيمية والاسماعيلية، قوُّيت الجسور وأُنشِئت قناطر على عديد من الترع لضبط مياهها للانتفاع بالرى من خلالها وكان أهمها القناطر الخيرية وقناطر التقسيم بديروط. أما خارج مصر فكان الاهتمام بالسودان لتأمين منابع النيل والبحث عن الذهب. ويقول «عبد الرحمن الرافعي» فى كتابه عن تاريخ محمد على إن الانجليز بعد فشل حملة فريزر لاحتلال مصر سنة 1807 فكروا فى احتلال منابع النيل، وكان رأيهم ورأى الأوروبيين أن من يسيطر على منابع النيل يسيطر على مصر. كان ذلك أحد أسباب اهتمام محمد على بالسودان. سنة 1820 بدأ محمد على حملاته لاحتلال السودان وكانت أهم أهداف تلك الحملات اكتشاف منابع النيل والاطمئنان عليها. عهِدَ محمد على إلى البكباشى سليم بك قبطان وهو أحد ضباط البحرية المصرية باكتشاف منابع النيل، فقامت ثلاث حملات اكتشفت بعض روافد النيل الأبيض فى جنوب السودان وبلغت جزيرة جونكر -1700 كيلومتر جنوب الخرطوم. ونشرت اكتشافات تلك الحملات فى مجلة الجمعية الجغرافية المصرية سنة 1842.
 امتد نفوذ مصر إلى «سواكن» على البحر الأحمر و«مصوع» بالقرب من حدود الحبشة. فى عهد إسماعيل احتلت مصر مديرية فاشودة والتى تعد مفتاح النيل بالقرب من ملتقى روافد النيل التى تصب فى النيل الأبيض ومنها نهر سوباط وبحر الغزال بالإضافة الى خمسة فروع أخري.
بدأ الأوروبيون يكتشفون منابع النيل؛ فاكتشـــف الإنجليزيان سبيك «J.H. Speke » وجرانت «J.A Grant» بحيرة أكروى والتى سموها بحيرة فكتوريا سنة 1860 وموَّلت الجمعية الجغرافية الإنجليزية ذلك الاكتشاف. عام 1864 اكتشف صمويل بيكر الانجليزى ومن تلقاء نفسه بحيرة ألبرت. موَّلت حكومة إسماعيل سنة 1874 الكولونيل الأمريكى شالى لونج «Chaille Long» الذى اكتشف بحيرة كيوجا غرب بحيرة فكتوريا وسماها بحيرة إبراهيم، إلا أن من كتبوا الأطالس بعد ذلك عادوا إلى الاسم الأصلى كيوجا.
امتد نفوذ مصر ليشمل إقليم خط الاستواء، وبسطت مصر نفوذها على أوغندا. أما الحبشة فقد فشلت حملات مصر لاحتلالها سنة 1875- 1876 لصعوبة طُبُغرافيتها ، فقد حصَّنَتها الطبيعة ضد الغرباء والمستعمرين وقد خسرت مصر الكثير من المال والرجال فى تلك المغامرة ، إلا أن مصر تمكنت من ضم سواكن ومصوع والمناطق بين الحبشة والبحر الأحمر.
هكذا كان اهتمام محمد على وإسماعيل باكتشاف منابع النيل ووضعها تحت الحماية المصرية وقد أرسل شريف باشا وزير الخارجية المصرية مذكرة بمضمون ما تسيطر عليه مصر فى إفريقيا إلى سفراء الدول بالقاهرة. ولكن كانت هناك قوى أخرى لديها مطامع كبيرة. سنة 1882 دخل الانجليز مصر بحجج استعمارية وهدفهم تأمين الطريق إلى الهند. أدى ذلك إلى تقلص نفوذ مصر فى إفريقيا عملياً وأصبح يخدم الانجليز. ماذا حدث لمصر بعد هذا التوسع الهائل؟ كانت أحلام مصر فى تلك الحقبة أكبر من قدراتها وحين توجد الفجوة بين الحلم والحقيقة ويعشق الحاكم السلطة وامتلاك الحضارة بأكثر مما تسمح به ظروف الدولة تتحطم الأحلام وتنهار مظاهر العظمة.
كانت المنافسة بين إنجلترا وفرنسا لاتزال قوية، اعتقد الأوروبيون أن من يسيطر على منابع النيل يسيطر على مصر. سنة 1898 دخلت فرقة فرنسية منطفة فاشودة -وهى مفتاح النيل- لتهدد نفوذ إنجلترا فى مصر. ولكن القوات المصرية والانجليزية تمكنت من طردهم، ثم حدث الوفاق بين إنجلترا وفرنسا لتوزيع الغنائم فقد كانت كثيرة ولم يكن هناك داعٍ للخلاف .. أُطلِقَت يد إنجلترا فى مصر وحوض النيل ويد فرنسا فى المغرب العربي. 
بعد احتلال مصر اهتم الانجليز بمياه النيل لتأمين مصالحهم فى مصر. رغم أن واجهة الاحتلال الانجليزى للسودان كانت الثورة المهدية ، إلا أن السبب الذى قد يكون رئيسياً هو تأمين مياه النيل.
فى إفريقيا الاستوائية كانت هناك الكونجو (الفرنسي)، وحامية فرنسية فى جابوتي، إضافة إلى المحاولة الفرنسية للسيطرة على مفتاح النيل فى فاشودة والتى سبق الإشارة إليها، وكان هناك وجود أو نفوذ إيطالى فى إثيوبيا والصومال، وآخر بلجيكى فى الكونجو (البلجيكي) وفى رواندا وبوروندي، ولم تكن ألمانيا بعيدة عن كل ذلك بل كانت تراقب ما يحدث وأصبح لها وجود فى تنزانيا. فى ظل كل ذلك الوجود الأوروبى احتلت انجلترا بعض منابع النيل وعقدت المعاهدات لضمان عدم تدخل أى من الدول الأوروبية فى مياه النيل التى تصل لمصر. أهم المعاهدات التى عقدتها انجلترا كانت مع الحبشة فى عام 1902 حيث تعهدت إثيوبيا ألاّ تسمح بأى عمل على النيل الأزرق، نهر السوباط أو بحيرة تانا إلا بعد موافقة انجلترا والسودان (والمقصود حقيقةً هو مصالح مصر فى مياه النيل).


بعد أن استقرت انجلترا فى السودان حاولت تطوير الزراعة فيه فاقترحت مشروع الجزيرة والذى يقع جنوب الخرطوم بين النيل الأزرق والنيل الابيض. وكانت المساحة المقترحة 300 ألف فدان لزراعة القطن طويل التيلة لتلبية احتياجات مانشستر المتزايدة. عارضت مصر ذلك المشروع بشدة لعدة سنوات، إلا أن مصر تداركت أنها والسودان بلدٌ واحد. اقترحت انجلترا لترضية مصر أن ينشأ سد فى سنار لصالح مشروع الجزيرة وسد آخر فى جبل الأولياء لتوفير مياه إضافية لمصر ، مقابل ذلك يحق لمصر استخدام الفيتو ضد أى مشروع يقام على النيل؛ ولكن على مصر فى مقابل ذلك أن تساهم فى تنفيذ مشروع الجزيرة. دُوِّنَ كل ذلك فى معاهدة سنة 1929 والتى خصصت للسودان 5،4 مليار متـــــر مكعـــــــــب (م م م) ولمصــــــــــــر 5،84 م م م تبعاَ للاحتياجات الفعلية. تسببت تلك المعاهدة فى غضب واستياء بعض السودانيين وقد رفضتها أوغندا، وكينيا، وتنجانيقا بعد حصولهم على الاستقلال فى أوائل الستينيات.
كان مشروع الجزيرة أول مشروع كبير للرى فى حوض النيل خارج الأراضى المصرية. لم يكن اهتمام انجلترا بتأمين مياه النيل فقط بل اهتمت بوزارة الاشغال ونشر بعض العاملين بها بعض الكتب المهمة، منها كتاب «الدليل فى موارد أعالى النيل» الذى كتبه سير وليم جارستن سنة 1903 ويقع فى 636 صفحة، وقد أعادت مكتبة مدبولى نشر الكتاب سنة 2000. ولعل الموسوعة التى كتبها هرست وبلاك ويوسف سميكة ونقله للعربية حسن أحمد الشربينى سنة 1946 من أهم ما كتب حتى ذلك التاريخ وهى موسوعة علمية عظيمة عن «النيل وخطط المستقبل» وقد صدرت بهذا الاسم . أما فى العصر الحديث فإن كتاب رشدى سعيد «نهر النيل. نشأته واستخدام مياهه فى الماضى والمستقبل» يعد مرجعاً مهماً لكل مهتم بشئون النيل.
كان هدف مصر وحتى منتصف القرن الماضى هو التخزين الموسمى للاستفادة من جزء من مياه الفيضان والتى يذهب حوالى 60% منها للبحر الأبيض المتوسط. من هنا تم إنشاء خزان أسوان سنة 1902 ثم تبعه خزان نجع حمادي،  فخزان أسيوط ثم خزان زفتي. كانت تعلية خزان أسوان الأولى فى عام 1922 والثانية فى عام 1933. مع الاحتياجات المتزايدة للمياه فكرت مصر فى إنشاء خزانات فى دول المنبع للتخزين المستمر وأيضاً لتجنب الفيضانات المنخفضة. فكرت مصر فى إنشاء خزانات على بحيرة فكتوريا، بحيرة ألبرت، وبحيرة تانا. لم يكن هناك فى ذلك الوقت أى اهتمام بمياه النيل خارج الاهتمامات المصرية وبعض الاهتمامات السودانية، حيث إن الأمطار فى تلك المناطق كانت كافية لاحتياجات تلك الدول. الخزان الوحيد الذى بُنيَ على البحيرات كان خزان أوين على بحيرة فكتوريا والذى بُنيَ سنة 1948 بناءً على طلب أوغندا لتوليد الكهرباء وقد ساهمت مصر فى ذلك المشروع. رغم أن التخزين المستمر فى دول المنبع هو أفضل الحلول حيث إن المياه المخزنة هناك تفقد بالبخر حوالى ثلث ما تفقده سدود الشمال حيث درجة الحرارة العالية. لم يكن المناخ السياسى ملائماً فى ذلك الوقت، ففكرت مصر فى إنشاء السد العالى داخل أراضيها رغم ما لهذا المشروع من بعض الآثار السلبية التى ذكرها رشدى سعيد فى كتابه بموضوعية العالِم.
أصبح مشروع السد العالى مشروعاً قومياً أثار خيال البعض داخل مصر وغضب البعض خارج مصر خصوصاً عندما تعرقل التمويل من الغرب ولجأت مصر للاتحاد السوفيتي.
كانت إحدى مشاكل مشروع السد هى موافقة السودان والذى ستتعرض بعض أراضيه فى النوبة السودانية للغرق.  حصلت السودان على استقلالها سنة 1956، عارضت الحكومة المنتخبة مشروع السد العالى وأيضاً معاهدة سنة 1929 وطالبت بتعديلها، وكانت هناك مشاحنات أخرى بين مصر والسودان. استولى الجيش السودانى سنه 1958 على الحكم ووافقت حكومة السودان العسكرية على مشروع السد ووقعت المعاهدة بين مصر والسودان بشأن السد سنة 1959، قبل توقيع المعاهدة مع روسيا بثلاثة أسابيع .  كان نصيب السودان من المياه المخزنة 5،41 مليار متر مكعب (م م م) بعد أن كان نصيبها 4 م م م فقط، وأصبح نصيب مصر 5،7 م م م، بذلك يصبح نصيب مصر من حقوقها التاريخية بالإضافة إلى ما يخزنه السد حوالى 55 م م م ونصيب السودان 5،81م م م .
كانت معاهدة السد هى أول معاهدة تعقد بين دولتين على حوض النيل بعد استقلال دول النهر. لم تشمل المعاهدة أياً من دول أعالى النيل وخصوصاً الحبشة والتى تمول مصر بحوالى 85% من مياه النهر. كانت مصر والسودان على دراية بذلك، ولذلك أضيف بند فى الاتفاقية (بند رقم 2 فى الأحكام العامة للمعاهدة) يذكر أن البلاد الأخرى لها مطالب فى مياه النيل وعلى مصر والسودان أن يتفقا على رأى موحد تجاهها، وفى حالة حدوث تغيير، تقسَّم الكِمية المخصصة للدول الأخرى مناصفة بين مصر والسودان محسوبة عند أسوان . ولم تحدث أية معاهدة بهذا الخصوص حتى الآن رغم مطالبة الدول الأخرى بحصة من مياه النهر. كانت مصر وحتى عهد قريب تقف بالمرصاد لأى مشروع على النهر من الممكن أن يؤثر فى نصيبها من المياه أو حتى مجرد فتح باب المشاركة فى مياه النهر. كانت وجهة النظر المصرية أن أى استهلاك من دول المنبع سيقابله نقص فيما يصل لمصر وهو ما يسمى
«بالمعادلة الصفرية» .


[ 2 ]

إن مستقبل حوض النيل يعتمد على إبرام اتفاق شامل بين كافة دول النهر  ــ وعددها عشر دول قابلة للزيادة بفعل التقسيم.
إن أغلب مياه النهر تأتى لمصر من الحبشة عن طريق السودان وهناك بعض الخلافات بين مصر والسودان ومصاعب بين مصر والحبشة. ورغماً عن ذلك فهناك احتمالات كبيرة للتعاون المثمر بين هذه الدول الثلاث. سأحاول هنا أن أتناول بعض العلاقات المصرية - السودانية -الإثيوبية باختصار.
إن السودان هى أقرب دولة عربية لمصر من حيث العلاقات والمصالح وتعد عمق مصر الجنوبي،  كما أن مصر هى عمق السودان الشمالي.
إذا نظرنا إلى العلاقات المصرية السودانية فى القرنين الماضيين سنجد أن مغامرة محمد على وإسماعيل لم تترك أثراً طيباً لدى الكثير من السودانيين رغم أن المصريين كانوا أيضاً مغلوبين على أمرهم، واستمر نفس الشيء خلال الحكم الثنائى للسودان.
بعد استقلال السودان سنة 1956 كان هناك قلق مصرى على السودان. عارضت حكومة السودان الجديدة مشروع السد العالى وكذلك معاهدة 1929 وطالبت بتعديلها. استولى الجيش السودانى على السلطة وأصبحت العلاقات مع مصر أفضل بكثير حيث أن الحكومة المصرية فضلت التعامل مع النظم العسكرية الصديقة عن النظم الديمقراطية فلم يكن لها صبر على ذلك. نظرت مصر للسودان ولباقى الدول العربية باعتبار أن هناك أصدقاء وأعداء وحاولت إضعاف من اعتبرتهم أعداءً بدلاً من التفاهم معهم. بيت الشعر الذى ورد فى أول هذا المقال قاله الصادق المهدى فى وصف علاقة مصر بالسودان. أما بخصوص مياه النيل فهناك تفاهم لا بأس به وإن كانت مشاكل الجنوب وكردفان تشل حكومة السودان الحالية. السودان به 235 مليون فدان تصلح للزراعة المطرية والرعى المتنقل، أما المساحة المروية فحوالى 7،3. مليون فدان. وإن كانت أغلب الأراضى الصالحة للزراعة تعتمد على معدل الأمطار. بعض هذه الأراضى بها مياه جوفية متجددة من الممكن استخدامها فى الزراعة فى حالة قلة الأمطار. والحقيقة أن مشكلة دارفور فى أساسها مشكلة قلة الأمطار.
السودان تستخدم 5،41 م م م من حصتها فى مياه السد رغم أن حصتها 5،81 م م م ، وتستخدم مصر الفائض من احتياجات السودان وقدره 4 م م م وهذا طبعاً لن يدوم. السودان لديها مشاريع لرى 6 ملايين فدان إضافية تحتاج إلى 15 م م م وإن كان ذلك مرهوناً بزيادة تخزين 8 م م م عن طريق تعلية بعض الخزانات وإقامة خزانات أخري. إن العديد من تلك المشروعات توجد فى جنوب السودان المليء بالقلاقل.
اشتملت المعاهدة المصرية السودانية سنة 1959 على أن تتولى الدولتان إنشاء مشروعات زيادة إيرادات النهر لمنع الضائع منها. مشرع جونجلى مثلاً لشق قناة لتفادى ضياع المياه خلال منطقة السدود وهى منطقة مليئة بالأحراش، من الممكن أن يوفر ذلك المشروع لكل من مصر والسودان 9،1 م م م. اقترح ذلك المشروع أولاً عندما كان الانجليز بالسودان ولكنهم لم يوافقوا عليه لإضراره بقبائل الدنكا من ضمن إضراره بالبيئة.
وُقِّعَت معاهدة مشروع جونجلى وبدأ العمل فيه سنة 1978 إلا أنه توقف بعد الاضطرابات الجنوبية وحتى الآن.
 فى إمكان السودان لو استقرت به الأمور أن يموِّل مصر وبعض الدول الإفريقية والعربية بوفرة من المحاصيل الزراعية وخصوصاً الغلال. وهذا ما دعا الصادق المهدى رئيس وزراء السودان السابق أن يقول فى كتاب (مياه النيل) : «الخريطة السكانية الجديدة للسودان سوف تظهر الحاجة لحقن سكانية لمناطق مختلفة فى السودان. إن التفكير فى هجرة مصرية للسودان أكثر جدوى فى محاولة تعمير أراضٍ شبه صحراوية (أو حقيقةً صحراوية) تكلف الكثير من الماء والمال ». (ص 126)
بل اقترح أن تركز مصر على الصناعة وأن تركز السودان على الزراعة.
إن السودان لديها طاقة كبيرة فى إنتاج اللحوم والحبوب. هذا ما قاله رئيس وزراء السودان السابق ، وإن كان رجال السياسة يقولون وهم خارج الحكم ما لا يفعلون عندما تؤول إليهم السلطة . مشاريع من هذا القبيل قد تكون صعبة التنفيذ إلا أنها غير مستحيلة ، خصوصاً إذا ما رُفقت بالتمويل الاقتصادى والفنى وعلى الأقل هناك جزء من هذا متاح لمصر بدلاً من المصاريف الهائلة التى ننفقها على مشاريع صعبة النجاح وليس لها مستقبل كبير مثل مشاريع زراعة الصحراء. يقول الصادق المهدى أيضاً وهو على حق : إن السودان يعلم كثيراً عن مصر ولكن معلومات المصرى عن السودان ناقصة. إن التكامل الاقتصادى مع السودان هو أمل المستقبل لكلا البلدين ولكن يجب على المشتركين فى هذا التكامل أن يكونوا على عِلم بالتاريخ وبالحساسية الموجودة بين الطرفين ولن يتحقق ذلك إلا بالتعليم المستنير.                           


[ 3 ]

علاقة مصر بإثيوبيا علاقة قديمة فكلتاهما من أقدم الدول الإفريقية وكلتاهما لها تاريخ قديم. كانت تلك العلاقات تتأرجح بين الود والمهادنة إلى عدم الثقة والعداء. كانت الكنيسة الإثيوبية تتبع الكنيسة المصرية وكان رئيس الكنيسة الإثيوبية مطراناً مصرياً يُرسِّمُهُ بطريرك الاسكندرية. وكان ذلك المطران يقال له فى الحبشة «أبونا» ، وكان يتوِّج مِلك أو إمبراطور أثيوبيا !
 مع حركة الاستقلال التى اجتاحت إفريقيا، استقلت الكنيسة الإثيوبية عام 1959. كانت إثيوبيا أحياناً تستخدم خبراء وموظفين مصريين وكانت مصر أحياناً تتدخل فى شئون الحبشة عن طريق الكنيسة.
كانت مصر وإثيوبيا ومنذ القدم على دراية تامة بأهمية مياه النيل الأزرق لمصر وكانت إثيوبيا أحياناً تهدد بقطع المياه عن مصر ولم يكن ذلك ممكناً فى الماضى إلا أنه كان مصدراً للقلق وعدم الثقة.
يقول Kinfe Abraham وهو أستاذ جامعى إثيوبى «إن امبراطور إثيوبيا لاليبيلا Lalibela  (3311 ــ 3611) وكان من أقوى حكام الحبشة، اقترح تحويل مجرى النيل الأزرق.. ولكنه امتنع عن ذلك بعد أن قررت الحكومة المصرية أن تدفع (إتاوة) سنوية للحبشة».
مساحة إثيوبيا أكبر من ضعف مساحة مصر الكلية وتعدادها يقارب التعداد المصري. ويشق أراضى إثيوبيا 12 نهراً لذلك سميت نافورة إفريقيا، ولكنها لا تستغل هذه الأنهار فى الزراعة. أغلب أراضيها ذات طبوغرافية جبلية إلا أنها خضراء بفعل الأمطار والكثير منها يستخدم فى المراعى والزراعة المطرية بكفاءة متواضعة. بعض هذه الأراضى به مياه جوفية متجددة قدرت بحوالى 20 م م م ، من الممكن استخدام بعضها فى الزراعة خصوصاً لو أتيحت مصادر الطاقة الكهربائية من مساقط المياه.
استعانت إثيوبيا ببيوت الخبرة الأمريكية لتطوير سياسات ونظم المياه بها مرتين ، كانت الأولى سنة 1927 لإقامة سد على بحيرة تانا بتكلفة قدرها 20 مليون دولار إلا أن انجلترا أوقفت المشروع.
أما المرة الثانية فكانت خلال أزمة قناة السويس وبناء السد العالي، وكان لذلك مغزى سياسى واضح. استغرقت هذه الدراسة خمس سنوات ونشرت نتائجها فى 17 مجلداً سنة 1963 . واقترحت إقامة أربعة سدود على النيل الأزرق لتخزين 51 م م م لتزيد مساحة إثيوبيا المزروعة حوالى 5،3 مليون هكتار فى منطقة النيل الأزرق ونهر سوباط . ستنتج هذه السدود 30 مليار كيلوواط بالساعة وهو ثلاثة أضعاف ما ينتجه السد العالي. وكان هذا أكثر بكثير من طاقة إثيوبيا الاستهلاكية واحتياجاتها الفعلية ولو تم ذلك لأمكن لإثيوبيا أن تصدِّر الكهرباء لمصر والسودان ودول أخري. لم ينفذ هذا المشروع لأسباب عديدة قد يكون منها أن إقامة السدود الكبيرة قد تؤدى إلى (الإطماء) السريع «ترسيب الطمي» ولا يبدو أن هناك حلاً لهذه المشكلة إلى الآن. ولهذا يبدو أن اثيوبيا اتجه تفكيرها الى إنشاء العديد من الخزانات الصغيرة فى مشاريعها المستقبلية.  فى مؤتمر الأمم المتحدة لبحث قضايا التنمية عام 1983 قدمت إثيوبيا خطةً لإنشاء 40 مشروعاً للزراعة المروية. مشاريع إثيوبيا المستقبلية تحتاج حوالى 75 مليار دولار خلال الخمسين عاماً القادمة وهناك مجالٌ كبير لتقديم المعونات ومجال للاستثمار الدولى والعربى والمصري. إن استثماراتنا فى الصحراء المصرية يجب إعادة النظر إليها خصوصاً على ضوء ما سوف يحدث من تغيير فى المناخ والذى سيكون مصحوباً بالجفاف.
إن الاستثمارات المصرية (رغم قلتها) والاستثمارات العربية تعد استثمارات طويلة المدى وتؤدى لبعض التكامل الاستراتيجى العربى والإفريقي.
  هناك احتمالات عديدة للتطور فى إثيوبيا، وما يقف فى طريقها هو الفقر، والحروب ، وانعدام التمويل ، ومصر. إن الصراع بين إثيوبيا ومصر هو صراع بين الحق التاريخى لمصر فى مياه النيل وبين احتياجات الحبشة للمياه لأغراض التنمية. سياسة مصر كانت استغلال حروب الحبشة ضد كل من اريتريا والصومال بمساندة الاخيرين لإنهاك الحبشة. وفى نفس الوقت ترفض مصر مشروعات التنمية الإثيوبية. إن سياسة مساندة إريتريا والصومال أدت إلى طلب مساندة أمريكية إبان أزمة السويس. أصبحت أيضاً لإسرائيل علاقة قوية بإثيوبيا ولا يخفى على أحد مضمون ذلك. ومن ناحية أخرى قال وزير خارجية إثيوبيا فى عهد منقستو عام 1986» إن لم يكن قرنق (زعيم المعارضة فى جنوب السودان) موجوداً لكان علينا أن نخترعه!! عن طريق دعمنا لقرنق نفرض عليكم أن تعاونونا فى مشكلتنا مع إريتريا ». لقد أوقفت حروب الجنوب السودانى مشروع جونجلى وإلى الآن (الصادق المهدى . مياه النيل ص 147).
أعتقد أن سياسة مصر كانت قصيرة المدى ولا أعتقد أنها كانت لصالح مصر. من الممكن لمصر الموافقة على بعض مشاريع إثيوبيا حتى لو استهلكت جزءاً من مياه النيل الأزرق (المطلوب 6 م م م تقسم مناصفة بين مصر والسودان). من الممكن أن نساهم فى بعض مشاريع إثيوبية منها مثلاً مشاريع للثروة الحيوانية من الممكن أن توفَّر مياها لمصر بالإقلال من زراعة أو استيراد مواد العلف. تعد إثيوبيا الدولة الرائدة إفريقياً فى الإنتاج الحيواني، لديها 16 مليون رأس ماشية و23 مليون رأس غنم خلاف الماعز ، بينما مصر فقيرة فى الإنتاج الحيوانى الرخيص والمعتمد على المراعى ، ومن الممكن أن يكون هناك تعاون اقتصادى فى هذا المجال. بالإضافة إلى إمكان استيراد كهرباء لتصنيع جنوب مصر. هذا ما اقترحه Kinfe Abraham وهو يمثل وجهة نظر إثيوبية. إن إنتاج رطل واحد من اللحم يستلزم حوالى 12000 جالون ماء لتغذية وشرب الحيوان المنتج. من الممكن أن ننظر إلى استيراد اللحــــوم والحبــوب من إثيوبيا أو الســـودان كطريقة لتوفير المياه على أن نركز على مشروعات أخرى وسأعود إلى ذلك.
إن إبرام معاهدة طويلة المدى مع إثيوبيا الآن أفضل من إبرامها فى المستقبل.  يعتقد البعض أن حالة إثيوبيا من الضعف بحيث يمكننا ردع اثيوبيا عسكريا كما هدد الرئيس السادات فى الماضى وأكد ذلك بعض الدبلوماسيين وكبار ضباطنا. فى نفس الوقت فكر الرئيس السادات أن يوصل جزءاً من مياه النيل لإسرائيل فهى مياه تأتى من الحبشة ونريد أن نحرمها منها (لاحظ أن قطاع غزة أفقر مكان فى العالم فى معدل المياه المتاحة ولم نفكر فى توصيل مياه إليه).  من حسن الحظ أنه كان هناك من العقلاء من أوقف ذلك حيث أن توصيل مياه النهر لدولة أخرى يشترط موافقة دول النهرالأخري. مثل هذه السياسة سيكون له ضرر بالغ فى المستقبل ولن تتقبله الدول الإفريقية أو العالم. والحقيقة أن الإثيوبيين يشعرون بالمرارة نتيجة تجاهلهم أو تهديدهم أو مساندة أعدائهم. 
إن هناك تغيراً فى السياسة المصرية تجاه إثيوبيا ؛ فهى الآن سياسة تعتمد على الحفاظ على الكيان الإثيوبي، بل وتسعى مصر إلى صياغة عربية إيجابية تجاه إثيوبيا. ولا بد لنا من لم شمل السودان وإثيوبيا كبداية لسياسة موحدة لكل دول النهر وهذا ما تسعى إليه مصر فى مؤتمرات دول حوض النيل الشرقي.  لعل هذه السياسة تستمر وتؤدى إلى اتفاقيات مُرْضية.                                                   
كان ولايزال هناك شبه عداوة بين مصر ودول المصدر الأخرى لانفراد مصر باستخدام مياه النيل رغم مشاركة تسع دول اخري، هذا من ناحية  ومن ناحية ولأنها دولة كبرى وغنية بالنسبة للدول الإفريقية ، ولأنها أيضاً خبيرة بشئون النهر أكثر بكثير من أغلب دول النهر ما عدا إثيوبيا والسودان. وللأسف فإن الدين أيضاً يدخل فى الصراع الموجود الآن، ويقول السفير محمد سمير أحمد «إنه لا يمكن إغفال أهمية العنصر الدينى وراء بعض الصراعات ، إن أثيوبيا وأوغندا وتنزانيا يغلب فيها تواجد الحكام المسيحيين وبالتالى تمثل جبهة لا شعورية فى مقابل جبهة العروبة والإسلام فى شمال السودان ومصر والصومال». وقد يكون بعض العداء لمصر والسودان راجعا إلى الشعور بأنهما - وخاصة مصر- فى إمكانها مساعدة الدول الإفريقية الفقيرة ولكنها لا تفعل إلا أقل القليل. لقد قال ممثل أوغندا فى أحد اجتماعات تكنونيل «يجب علينا أن نطالب مصر والسودان بتعويضات مالية مقابل قيامنا بوظيفة المخزن الطبيعى لمياه النيل». وفى هذا المجال قال رئيس وزراء تركيا عند افتتاح مشروع جنوب شرق الأناضول: «لا تستطيع سوريا والعراق أن تطالبا بنصيب فى أنهار تركيا تماماً كما لا تستطيع تركيا أن تطالب بنصيب فى نفط العراق». هذا وقد باعت تركيا مياها لإسرائيل خلال أنابيب وإن كانت كميات غير كافية إلا أنها سابقة لا يســــتهان بها ونـــحن على أبواب صراعات على المياه. وإن كانت تركيا غير دول إفريقـــــيا الاســــــتوائية إلا أننا نعيش فى زمن يتغـــير بســـــرعة والمياه أصبح يُنظر لها كسلعةٍ تباع وتشترى .


[ 4 ]

تقدر الاحتياجات المستقبلية من المياه لدول حوض النهر وهى (كينيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندي، وزائير)  بحوالى 9 مليارات مترٍ مُكعَب وإن كانت احتياجاتها الحالية أقل من المليار. وكل هذه الدول لا تعترف بمعاهدة 1929 والتى تعطى لمصر حق «الفيتو» لأى من مشاريعها. لقد قال أوديدى أوكيدى عميد معهد دراسات البيئة فى جامعة موى فى كينيا سنة 1990 «إن ثلثى أراضى كينيا قاحلة بينما لديها بعض الأنهار التى تصب فى بحيرة فكتوريا. إن كينيا ستحاول أن تنقل بعض هذه المياه لتستغلها فى الزراعة. لابد من إعادة النظر فى توزيع مياه النيل وروافده . وهناك مشاريع قديمة للزراعة فى تنزانيا وإن كان ما نُفِّذَ منها أقل القليل. كل دول الحوض تتطلع لزيادة استهلاك المياه فى مشروعات التنمية الزراعية وإن كانت وحتى الآن موبوءة بالصراعات والأمراض.
إن التغيرات المناخية فى إفريقيا ستكون قاسية، فارتفاع حرارة القارة سيكون ضعف المتوسط العالمى ،   فمناطق زراعة الشاى فى كينيا مثلا ازدادت درجة حرارتها ثلاث درجات ونصف درجة مئوية فى العشرين عاماً الماضية. وتشير أحدث أبحاث سخونة الأرض إلى أن بعض مناطق إفريقيا بدأ يصيبها الجفاف كما هو واضح فى بعض المناطق مثل النيجر ودارفور.  إن التغير المناخى فى إفريقيا الاستوائية وشبه الاستوائية سيكون شديد التقلب، إثيوبيا من المتوقع أن تقل أمطارها بينما قد تزداد أمطار منطقة خط الاستواء فى دول البحيرات. فى كلتا الحالتين سيكون ذلك مصحوباً بتذبذب شديد بين الزيادة والنقصان. كل هذه التغيرات ستفرض على الجميع أن يغيروا من سياستهم فيما يتعلق بالمياه وكيفية استخدامها. إن ما يصل إلى السودان ومصر من مياه النيل سيقل بدون شك ،وغالباً سيقع التأثير الأكبر على مصر.
لقد ساندت مصر وشجعت تجمعاً أخوياً إفريقياً لدول حوض النيل سُمِّيَ «الأوندوجو» والتى تعنى «الأُخُوَّة» باللغة السواحلية. وتعقد هذه الاجتماعات سنوياً على مستوى وزراء الخارجية وأحياناً وزراء الرى والكهرباء. وقد ساهمت الأمم المتحدة فى نشاطات الأوندوجو واقترحت: خفض عدد السكان (والحقيقة ان اخطر مشكلة تواجهنا هى الانفجار السكاني، إن تعداد مصر يجب ان يقل)، استغلال إمكانيات الطاقة الكهربائية وتوصيل جميع دول النيل بشبكة واحدة، التغلب على تصحر بعض الأراضي، وتحسين مصايد الأسماك. وقدَّرَت بعثة الأمم المتحدة نفقات تلك المشاريع بحوالى 50 مليون دولار ثلثاها سيكونان عن طريق مساعدات أجنبية. وهناك مشاريع أخرى كثيرة من الممكن إنجاز بعضها لمنفعة الجميع .  
لقد أصبح من الضرورى تنظيم مياه الأنهار وحسن استغلالها لصالح كل دول النهر. إنشاء السدود والقنوات أصبح ضرورياً لزيادة إيرادات المياه وللإقلال من الفاقد. ولكن مشكلة إطماء الخزانات مشكلة مهمة إن لم تكن خطيرة.  فمثلاً يفقد خزان «خشم القربة» فى السودان 40 مليون متر مكعب من سعته التخزينية كل عام نتيجة ترسيب الطمى وكذلك خزان الرصيرص فى السودان أصبح عديم الفائدة الآن نتيجة ترسيب الطمي. أما فى السد العالى فهناك مشكلة قد تكون أخطر. لقد حذر حمدى الطاهر رئيس الهيئة العامة للسد العالى  سنة 1992 من أن الطمى الوارد من الحبشة من الممكن ان يكوِّن دلتا فى جنوب بحيرة ناصر قد تغيِّر مجرى النيل ليتجه غرباً. إن حدث ذلك ستكون كارثة لمصر. إقامة خزانات فى إثيوبيا قد تقلل من الطمى الوارد للبحيرة ، ولكن الطمى سيسبب نفس المشاكل  لتلك الخزانات فى إثيوبيا. وقد تكون مشكلة الإطماء سبباً رئيسياً فى إبطاء مشاريع أثيوبيا لبناء السدود. هذه المشاكل يجب التفكير فى حلها فى إطار دول النهر والأمم المتحدة وبعض الدول المموِّلَة وبعيداً عن السياسات المتضاربة والتى تضر بالجميع، وأعتقد أنه ليس أمامنا متسع من الوقت لذلك.


[ 5 ]

«هناك حوالى 270 نهراً تشترك فيها أكثر من دولة»  الأمر الذى أدى إلى عقد مؤتمرات عديدة حاولت تقنين الاستخدام التشاركى بين الدول وشروط وقواعد الاستخدام. رابطة القانون الدولي، معهد القانون الدولي، مؤتمر هلسنكى لرابطة القانون الدولى سنة 1966، مؤتمر فيينا عام 1978، مؤتمرات النيل -التى عقدت فى جامعة لندن وجامعة القاهرة، ومؤتمرات كثيرة أخرى بعضها علمى وبعضها سياسى واقتصادي. وأخيراً كانت هناك اتفاقية دولية بشأن قانون استخدامات المجارى المائية فى الأغراض غير الملاحية سنة 1997، فى كل تلك المؤتمرات والاجتماعات، هناك شبه إجماع على بعض النقاط العامة والتى منها :عدالة التوزيع، سوابق استغلال وتوزيع حصص المياه منذ الماضى البعيد وإلى الآن، مدى احتياج كل دولة، تفادى الإسراف والاضرار بالدول الأخري، أن تمتنع الدول المستفيدة عن تغيير مجرى النهر أو إقامة السدود التى من شأنها المساس بحصص الدول إلا بالاتفاق بين الدول المختصة ، الالتزام بسياسة زراعية مسئولة تأخذ فى اعتبارها قلة المياه مع الترشيد فى كافة الاستهلاكات الأخري، الالتزام بعدم التسبب فى ضرر للآخرين، تعاون دول المجرى المائى على أساس المساواة فى السيادة والفائدة المتبادلة، وجوب التشاور بشأن إنشاء آلية مشتركة لإدارة المجرى المائي، تسوية المنازعات بين دول المجرى المائى تتم عن طريق التحكيم فإن استحال ذلك تكون تسوية المنازعات بواسطة محكمة العدل الدولية، وأخيراً وجوب سداد التعويضات المناسبة فى حالة الإضرار بحقوق دول أخري. 
أيدت الاتفاقية الدولية لسنة 1997، 120 دولة. السودان وكينيا أيدتاها، أما مصر، وإثيوبيا، ورواندا، وتنزانيا فامتنعوا عن التصويت، وبوروندى عارضت الاتفاقية. أما أوغندا وإريتريا والكونجو فقد غابوا عن الجلسة. هذا التصويت أو الغياب عنه يدل على اختلافات شاسعة بين دول حوض النيل.
إذا تفاقمت بعض المشاكل فقد يؤدى ذلك إلى حروب ستكون ضارة للجميع ، كما أن اللجوء للمحاكم الدولية ليس له قوة الإلزام.     


[ 6 ]
                               
السؤال الذى يجب على كل مصرى أن يسأله هو: هل نحسن استخدام مياه النيل ونحافظ على نقائها ؟
لعلى أبدأ بنقاء مياه النهر.
إن مصر وهى أكثر دول الحوض تقدماً هى أيضاً أكبر مُلَوِّث لمياه النهر. وإن كان ضمان استمرار سريان مياه النيل يثير القلق فإن مدى تلوث النيل يجب أن يثير الذعر فى النفوس. إننا نلقى فى النيل من أسوان وحتى المصب 500 مليون متر مكعب (يعتقد رشدى سعيد أنها 2 مليار متر مكعب) سنوياً من المخلفات الصناعية ، حصيلة حوالى 5000 منشأة صناعية منها 2700 منشأة فى شبرا الخيمة تلقى مخلفاتها بجوار مآخذ مياه القاهرة الكبرى بالإضافة إلى الصرف الصحى فى أغلب قرى مصر الذى يذهب للنيل (نادر نور الدين محمد الأهرام 25-2-2000). إذا كان هذا حال مصر فكيف سيكون حال الدول الإفريقية حين تبدأ الصناعة؟ وهل يحق لنا أن نسألها المحافظة على سلامة مياه النيل من التلوث وهذا هو حالنا؟ . وان كانت مياه الاستهلاك المنزلى خالية من الجراثيم نتيجة المعاملات الكيميائية، إلا أنها تحتوى على بعض المبيدات الحشرية والمعادن الثقيلة من نفايات المصانع والتى تسبب العديد من الأمراض المستعصية التى استفحل أمرها. إن نفايات المصانع التى تجد طريقها للنهر ستجد طريقها للمزارع والأسماك ومن الطبيعى أن تصل للإنسان.  
هل نحسن استخدام مياه النيل؟
 كانت مصر طوال تاريخها دولة زراعية ولا يزال أغلب المصريين يتصورون إمكان تطوير مصر بمشروع زراعى لغزو الصحراء. هناك أمثلة كثيرة على ذلك قد يكون أهمها مديرية التحرير، مشاريع شرق وغرب الدلتا، مشاريع الوادى الجديد، الواحات و ترعة السلام وغيرها. كان السد العالى أكبر مشروع فى تاريخ مصر لتمويل الزراعة. وأخيراً جاء مشروع توشكى بطموحات هائلة تصل فى بعض التقارير لزراعة مليون أو حتى مليونيْ فدان ، وإن كان ما سيحدث فى الواقع أقل من ذلك بكثير.
بعض هذه المشاريع كان ضرورياً ونجح وله ظروفه. البعض الآخر يستحق إعادة التقييم ، وخصوصاً فى ضوء نقصان المياه المحتمل كما سبق الإشارة له. وإن كنا نجد أن بعض هذه المشاريع لم يكن موفقاً فهذا لا يعنى أنه لا يوجد بديل لاستمرار التنمية الزراعية.
إن زراعة الصحراء عموماً أصبحت فى نظر كثيرين فى مصر وفى دول أخرى مشاريع لها سلبيات كثيرة منها احتياجاتها لمياه كثيرة غالباً ما تكون غير متوفرة. فى الوادى الجديد مثلاً هناك مشكلة فى صرف الأراضى المنخفضة ، الأمر الذى أدى إلى تمليح بعض الأراضى ، وهى واضحة للعين المجردة لمن يزور هذه المناطق. بعض هذه الأراضى فى طريقه للتصحر.
مشروع توشكى يثير الكثير من التساؤلات أهمها الاحتياجات المائية والتى تقدر بحولى 5-6 م م م ويمثل هذا حوالى 10% من إيرادات النيل ، ولا أعتقد أن المستقبل سيسمح بذلك.
«تكلفة استصلاح الفدان فى توشكى 20-25 ألف جنيه (استصلاح الفدان فى غرب الدلتا يكلف 3-4 آلاف جنيه) هذا خلاف تكلفة رفع المياه والتى تُقدَّر بحوالى 2500 جنيه للفدان» . (توشكى ص 119). 
أعتقد أن الدولة لديها التزام بتوصيل المياه لمستثمرى توشكى ، ولكن ماذا سيحدث لو قلت إيراداتنا من المياه؟ هناك مشاكل فنية أخرى لهذا المشروع لن أتوقف عندها فقد تعرض لها كثيرون. ويبدو أن هذا المشروع بُدئ فيه على عجلٍ لإرضاء خيالات وأهواء سياسية. 
إن ما نفكر فيه غالباً هو الزراعة التقليدية لسد الاحتياجات المحلية، هناك كثير من الدول لا تنتج احتياجاتها الغذائية بل تستورد أغلبها.  إن أرض مصر وظروفها أثمن من أن تستخدم فى الزراعة التقليدية. مناخ مصر وتربتها وعمالتها الزائدة تؤهلها لأن تكون مركزاً للزراعة غير التقليدية للتصدير المرتبط ببعض الصناعات الخفيفة، مثل زهور الزينة، الخضروات، الفواكه، والنباتات العطرية والطبية. نحن نزرع بعضاً من ذلك ولكن أغلبه للاستهلاك المحلي.
إن بعض المستثمرين يقومون بمثل هذه المشروعات للتصدير وإن كانت على نطاق ضيق ويجب أن نتوسع فى ذلك المجال ليشمل الشريحة العليا من الملاك الصغار. إن الالتزام بمواصفات التصدير بجدية وخصوصاً للدول المتقدمة أمرٌ يحدد مدى نجاح التصدير من عدمه وكل دولة لها مواصفاتها فى الاستيراد. يؤسفنى أن أذكِّر المهتمين بشئون التنمية الزراعية أن إسرائيل - والتى ابتدأت الزراعة أول أمس فى نظر التاريخ - أمكنها أن تضاعف دخلها الزراعى بزراعة المحاصيل التى سبق الإشارة إليها للتصدير. مثل هذه المشاريع تحتاج للتمويل المادى والفنى وأعتقد أن الأخير يجب أن تساهم فيه بعض مؤسسات الدولة .
وأخيراً هناك مجالات لتوفير المياه منها مثلاً الرى بالرش أو التنقيط وهناك قلة تستخدم ذلك، أما الفلاح الصغير فليس ذلك فى إمكانياته بدون تمويل خارجي، تغيير التركيب المحصولى للزراعة بالإقلال من زراعة الأرز والقصب ذى الاستهلاك العالى للمياه واستبدال بعض من ذلك بمحاصيل احتياجاتها المائية أقل. والدولة تجاهد فى حدود إمكانياتها للإقلال من هدر المياه وإن كنا نحتاج لتوعية جدية للإقلال من هدر المياه فى جميع الاستعمالات ، ولنبدأ بالمدارس. 


المراجع

Water a Shared Responsibility، UN، World Water Development Report 2، 2006
When The Rivers Run Dry، Fred Pearce، Beacon Press، 2006
Nile Opportunities، Prof. Kinfe Abraham، EIIPD، 2004
Nile Dilemmas، Prof. Kinef Abraham، EIIPD، 2004
Nilopolitics، A Hydrological Regime، 1870-1900-، Mohamed -Hatem El-Atawy، AUC Press، 1996
مياه النيل، الصادق المهدي، مركز الاهرام للترجمة والنشر، 2000
توشكي، عمرو على الخربوطلى وأشرف صبحى عبد العاطي، دار مكتبة الإسراء، 1998
نهر النيل، د. رشدى سعيد، دار الهلال، 1993
معارك المياه المقبلة، د. محمود سمير أحمد، المستقبل العربي، 1991

 


خوفى عليكَ وخوفيَ منكَ يملؤني
رُعبًا من اليومِ مصحوبًا برُعبِ غَدِ
«الصادق المهدي، رئيس وزراء السودان السابق»


يؤكد الكثير من العلمـاء
أن الاحتبـــــــــاس الحـــــــــــــراري
سيقع خطره الأكبر على دول العالم الجنوبية
ومـــــن المتــوقـــــــع أن تعــــــــانـي
إفريقيـا من جـراء ذلك

أغلب ميـاه النهـر تأتي
 لمصــــر من الحبشـــــة عن طـــريق
السـودان وهنـاك بعــض الخـــلافات بين مصــر
والســـــــــــــودان ومصـــــــــــاعــب
بـين مصـــر والحبشـــة


إن الســودان هـى أقـرب
دولة عربيـــة لمصــر مـن حــــيث
العلاقات والمصالح وتعد عمق مصر الجنوبي،
كمـــــا أن مصــــــر هــــى عمـــــــق
الســـــودان الشــــــمالي

قبل أن تستقل بكنيستها
عن المصرية، كانت إثيوبيا أحيانا
تستخدم خبراء وموظفين مصريين وكانت مصر
أحياناً تتدخل فى شئون الحبشة
عــن طـــريق الكنيســة

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة