محمد حسنين هيكل .... لمــــــــاذا؟



[ 1 ] يمثل الأستاذ محمد حسنين هيكل قدرًا من الثبات في الموقف الفكري والرؤية السياسية. لا أظن أحدًا يفوقه فيه في حياتنا السياسية الثقافية المعيشة، وهو ثبات لم يضعفه ما يلحظ من تنوع في كتاباته ومن تعدد لزوايا المعالجة ومن مرونة أملتها تغيرات الأحداث. ولعل هذا القدر من الثبات هو ما جعل أعماله علي هذا القدر من القابلية للتراكم، تراكم الخبرات في مجال التكوين الذاتي للكاتب، وتراكم التأثير والفاعلية في مجال الحياة السياسية الثقافية. لذلك صارت كتاباته أو محاضراته عندما تظهر للرأي العام المتابع تمثل حدثًا من أحداث السياسة الجارية، بما لا نجد له مثيلاً بهذا القدر، في زماننا ومكاننا هذين. وهيكل يعتبر كاتبًا يعبر للمستويات الثقافية المختلفة، أقصد أنه ليس محصورًا في مستوي ثقافي محدد من القراء، لأنه تمرس علي أن يجمع قراءه من بين قارئي الصحيفة السيارة وقارئي الكتاب. لذلك نجد كتبه وكل منها ضخم يدور حول الأربعمائة صفحة، نجدها في واجهات المكتبات المتخصصة التي يقصدها طلاب المعارف العميقة، كما نجدها في أكشاك المطارات ومحطات السكك الحديدية والمصايف. فهو من القليلين الذين جمعوا بين القارئ العام والقارئ الخاص. وأنا أقصد بالقارئ الخاص هنا القارئ الذي تخصص في متابعة الجهود الفكرية والحركية المتعلقة بالشئون السياسية والاجتماعية وتتشكل منه نخبة المثقفين في هذا المجال. أما القارئ العام، فلا أقصد طبعًا كل من يعرف القراءة والكتابة، ولا أقصد كل من حصل علي شهادة عالية، إنما أقصد نخب المهنيين والمشتغلين بالأعمال الذهنية في مجالات المعارف المختلفة بعلومها وفنونها التطبيقية، سواء من رجال المهن ورجال الأعمال، وهم أولئك الذين تستغرقهم تخصصاتهم المهنية وأعمالهم التي يمارسونها في تخصصات معينة أو في مجالات عمل محددة، تستغرقهم عن المتابعة الدءوب لقضايا السياسة والشئون العامة في المجتمع. ومن هؤلاء في المدي الطويل أو المتوسط تتشكل توجهات الرأي العام وتتحدد مسيرة المجتمـــع. ومن يصــل إلي هــؤلاء ويتكون جمهـــور قرائــــه منهـــم أو جمهـــور المتلقين عنـــه، إنمــــــا تكـــون إسهاماتـــه ذات أثــــر كبـــــير في تشكل فكر النخب الاجتماعية كلها. هذا النوع من القارئ العام، هم أذكياء ومتعلمون تعلمًا رفيعًا وهم متمرسون في أعمال عقلية وعلمية ويتعاملون مع الواقع الحي، والغالب فيهم أنهم طُلَّعة يتطلعون للمعارف الخاصة ببلدهم وجماعاتهم، ولكن تشغلهم تخصصاتهم عن المتابعة اليومية الدقيقة والنشيطة لما تستوجبه الشئون العامة من متابعات فنية وعلمية ترضي مستوياتهم العقلية وعادات نظرهم في شئون الواقع والحياة. و"هيكل" يصل إلي هؤلاء دائمًا بإشباع ثقافي يبقيهم دائمًا مشكلين القاعدة الأساسية لجمهوره. وقد يسَّر "لهيكل" هذا الوصول أنه اشتغل بالصحافة السياسية من بداياته العملية، والصحافة من فنون الإخبار، ولكن ثمة درجات من "الإخبار" تتراوح لدي الصحفيين، من حيث اختيار الحدث المُخْبَر عنه ومن حيث ربطه بأحداث أخري، تتراوح في مدي الدلالة ونوعها التي ينقلها الخبر للقارئ. وكما أن الأديب أو الفنان يعبر بالحركة الواحدة أو بالعبارة الواحدة أو بالخط واللمحة الواحدة، يعبر بأي من ذلك عن معني عام وعن وضع يكون متكاملاً أحيانًا، كذلك فإن المفكر أو الكاتب المتمرس يمكنه أن يعبر "بالخبر" المختار في السياق المختار عن معان كثيرة يشرح بها الواقع الحاصل أو يحدد بها الموقف المطلوب. وإن أنسي لا أنسي محاضرة ألقاها هيكل في معرض الكتاب بالقاهرة في 1995 وطبعت في كتيب من أربعين صفحة عن "باب مصر إلي القرن الواحد والعشرين" تضمنت عددًا قليلاً من المواد كان أحدها أن نسبة النمو الاقتصادي في مصر تدنت في 1990 إلي 54.2%، ثم في 1991 إلي 27.2%، ثم في 1992 إلي 8.1%، ثم في 1993 إلي الناقص بنسبة 1 ـ%. أما الخبر الثاني فهو يتعلق بتركز الثروات في مصر إذ يملك 50 فردًا كل منهم ما بين 100 ـ 200 مليون دولار، و100 فرد كل منهم من 80 إلي 100 مليون دولار، و150 فردًا كل منهم ما بين 50 إلي 80 مليون دولار.. إلخ، وذلك مقارنًا بما ذكره من أن نسبة النمو كانت في المتوسط بين عامي 1956 ـ 1966 هي 6.7%، ومقارنًا بأن متوسط دخل الفرد في مصر في بداية الثمانينيات كان 670 دولارًا في السنة. وصار في بداية التسعينيات 610 دولارات في السنة. ثم تكلم عن العنف في إدارة الشئون السياسية الداخلية، تكلم عنه بلغة الأرقام أيضًا باعتبار أن مصر في 1994 كان لديها خمسون معتقلاً بين الناس كل يوم، وخمسة قتلي كل أسبوع بسلاح الإرهاب أو سلاح الدولة، وثلاثة يعلقون علي حبل المشنقة كل شهر "ممن حكمنا بتطرفهم". ثم تكلم عن "الباب" وهو رئاسة الجمهورية كمنصب وموقع تزيد خطورته في مصـــر عن مثيـــله في أمريكـــــا أو في فرنسا، وأشار أن في البيت الأبيض الأمريكي 240 مستشارًا للرئيـــس كل منهم معروف بإسهامه العام ومسئوليته رغم أن الرئاسة في أمريكا يساندها ويقف بجوارها برلمان من مجلسين فيه حزبان متوازيان، ثم أشار إلي نظام الخلافة في الرئاسة وضرورة أن توضع له قواعد فلا يجري بالوصاية إلي الأبد. وهكذا في هذا العدد المحدود من البيانات أوضح ملامح وضع كامل ومشاكله السياسية والاجتماعية. إن التقاط الملامح العامة للوضع الاجتماعي السياسي كله في ترابط أوضاعه الاجتماعية والسياسية والأمنية والمؤسسية التنظيمية هو عملية ليست مجرد عمل صحفي إخباري وليست مجرد تقديم خدمة جارية للقراء، وليست عملاً تاريخيا رغم غزارة ما يمكن أن يعتبر مادة تاريخية في كتبه ومؤلفاته، ولكنها كل ذلك بوصفها وسائل لتحديد موقف ولبيان توجه وللإشارة إلي وجوه أزمات المجتمع وطرائق حلها، وهذا موقف سياسي وممارسة سياسية أصيلة، وهذا أهم ما يميز كتابات محمد حسنين هيكل. [ 2 ] وهيكل بهذا ظاهرة سياسية في حياتنا الثقافية والسياسية، وهو شديد الشعور بواقع الأمة الحاضر، وهو يوظف كل ملكاته الفكرية والفنية والمهنية في تتبع مجريات الأحداث، وفي بيان حال الأمة، ويشرح بيان الحال هذا بما يكاد يصل بالقارئ وبالمتلقي إلي حكم صريح علي سياسات تتبع ومواقف تتخذ وأوضاع تطرأ. ومع هذا الحضور الشديد، الذي أرجو من الله سبحانه أن يبقيه. لم أكد أتبين دلالة واضحة عن خبر اعتزاله. وآثرت أن أتعامــــل مــع هــذا الخبــر وفقًا لما أتمناه مــن أن يكـــون "سحابــة صيــف عن قليل تقشَّع" كما يقول الشاعر الأندلسي. ولا يملك أحد أن يثنيه عن قرار يتخذه فيما أظن، ولا أظن أحدًا من قبل ملك عليه أمرًا من هذا النوع، سيما قراراته المهمة، وأولها ما نعرف من اعتزاله العمل الرسمي في إدارة الصحف القومية وذلك في 1974، ثم قراره ذو الطبيعة المستمرة وهو ألا يترك مصر رغم موقفه المعارض للحكومة في السبعينيات، الذي بلغ قدرًا من الحدة شديدًا، وهو قرار كان يستوعب الخصائص العميقة المندسة في لفائف الحالة المصرية من تاريخ قديم، فمنذ قامت الدولة المصرية الحديثة، لم ينجح معارض سياسي في استبقاء أثره السياسي والمعنوي علي جمهور الرأي العام المصري، إذا كان ترك مصر وأعمل نشاطه السياسي من خارج حدودها. ومن جهة أخري، فإن شدة الحضور من حيث الاهتمام بقضايا الأمة ومتابعة وقائعها، ومن حيث اتخاذ المواقف الفكرية والسياسية، أو الإرشاد إليها، هذا الحضور الفعال لا يفضي إلي الاعتزال ولا يتناسب معه، إلا أن يكون الاعتزال موقفًا يتخذ، أو علامة علي رفض واقع أليم، إن بلوغ سن معينة لا يعني شيئًا في ذاته، قد يكون له أثر في نظم لوائح الحكومة والعاملين، ونظم القوانين التي يستبدل بها موضوع الحالة ببلوغ عدد سنين محدد لسهولة التعامل بين الناس، بمثل ما تقول أن بلوغ الرشد يكون بتمام بلوغ الشاب اليوم رقم 365 من السنة الشمسية رقم 21 من مولده، وهو في اليوم السابق مباشرة لم يكن رشيدًا، وكما صرنا نحترم جدًا وصول أي عدد إلي رقم عشري يرد به أحد الأصفار علي يمين رقم صحيح، ونرتب علي ذلك آثارًا كما لو كان الرقم حدثًا في ذاته. ولكن كل ذلك إن جاز في تحرير القوانين فهو لا أثر له في قياس الفاعلية وأحجام التأثير. والحاصل أننا مادمنا نتكلم عن "هيكل" بوصفه ظاهرة سياسية، فقد وجب علينا أن نتحدث عن الظاهرة لا عن الشخص، أو علي الأقل لا يصرفنا الاحتفاء به شخصًا عن أن نهتم بدراسته "كظاهرة"، ولا شك أن من حقه علينا أن نحتفي به، وقد صرنا به أوسع معارف وأدق تبينًا، ولكن الأهم في ظني أن ندرسه. وكنت تساءلت في مقال لي "بالهلال" في مارس 1999 عما إذا كان قد آن الأوان لكي ننظم دورة علمية يعد لها بما يناسب من موضوعات وباحثين ومن فترة إعداد تمكِّن من الإعداد الجاد للموضوعات العلمية، ندوة من هذا النوع الثقيل والعميق الذي اعتاد مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت علي الحشد العلمي المنظم له، وذلك لدراسة أعمال هيكل عبر العقود الخمسة الماضية، وقلت أنه في ظني لقد آن أوان ذلك، لأن ذلك واجب علينا لأنفسنا ولفكرنا السياسي العربي. ثم أثرت الدعوة لذلك مرة أخري في سبتمبر سنة 2000 بذات المجلة. ولعل صوتي الخفيض لم يصل إلي الأسماع، لأني لم أعتد علي الحديث في مكبرات الأصوات. إن وجه اللزوم هنا يرد أيضًا من أننا نريد أن نستجمع لبلادنا العربية عناصر الموقف الوطني الذي يمكِّن من الذود عن حياض شعب صارت نهبًا للمعتدين، وصار بعضها كما يقول عمرو بن العاص "كبيت الزانية يؤتي من كل مكان". نحن نريد أن نستجمع لا عناصر المقاومة فقط، ولكن أن نستعيد لأنفسنا ولبلادنا ولشعوبنا أركان العصمة والمنعة. وعندما نزمع علي ذلك يكون مستحيلاً ألا نستفيد مما أفصح عنه "هيكل"، وبوجه خاص ما كتبه في السنوات الخمس الأخيرة، وبوجه أخص ما كتبه في الأشهر الستة الأخيرة، وما يستجد إن شاء الله تعالي. [ 3 ] اختص هيكل مجلة "الكتب وجهات نظر" بكتاباته منذ صدورها وعلي مدي ستة وخمسين عددًا شهريا حتي الآن. وما اكتمل منها في إطار معين جمع في كتاب، فصارت أربعة كتب حتي الآن، والخامس تحت الإكمال فيما يبدو. ومن يتابع هذه الكتابات يعرف إلي أي مدي كانت صفحة الحاضر مبسوطة، حتي بالنسبة لما يتعلق بأحداث تاريخ قريب مضي وشخصيات طواها الموت. فعندما كتب عن الحسين ملك الأردن بعد وفاته، ذكر أدوارًا له قام بها في إطار الصراع العربي الإسرائيلي، وكان لها أثر في الإضرار بالجانب العربي، ثم ذكر أن الملك كان يتقاضي مليون دولار سنويا من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وفي حديثه عن الملك الحسن الثاني ملك المغرب ذكر مدي حرص الملك علي أن تنعقد مؤتمرات القمة العربية والإسلامية علي أرضه، وأن هذه المؤتمرات كانت تسجل مداولاتها بواسطة جهاز الموساد الإسرائيلي، وإن انعقدت لديه مؤتمرات القمة العربية في 1965، 1969، 1974، 1981، 1982، 1985، 1989، كما انعقدت لديه مؤتمرات القمة الإسلامية في 1969، 1982، 1994. ونحن هنا لسنا أمام تاريخ مضي، إنما نحن أمام حاضر معيش وأمام احتمال أن يكون من رؤساء الدول من يتقاضي راتبًا شهريا من وكالة مخابرات ومن يكون أداة تجسس من الأعداء، ولا أتصور إن كان الظن قديمًا يتجاوز حدود الارتباط بالمصالح السياسية والاقتصادية بين رؤساء ما ومصالح دول استعمارية طامعة. وكانت المرة الوحيدة فيما أعرف، التي رأينا فيها هيكل يعرض رواية قصصية، هي رواية "العملية هبرون"، وقد عرضها لأنها قصة أغرب من الخيال ومن ثم وجدها "أقرب إلي الحقيقة". وقد كتبها أحد رجال المخابرات الأمريكية بحسبانها "رواية" وهي تحكي كيفية تجنيد الموساد الإسرائيلية لأحد الرؤساء الأمريكيين، لأنهم لا يكتفون أن يكون مؤيدًا، إنما من الضروري أن يكون عميلاً تحت الأمر، وبهذا تجري صناعة رئيس والسيطرة عليه. وهي قصة ينقل بها الخيال السياسي في الشئون الدولية إلي رؤي وتصورات لم يكن يبلغها من قبل. ونحن بهذا التاريخ الحقيقي لقادة ورؤساء حكموا شعوبهم عشرات السنين وبهذه الإضافة الخيالية التي هي أقرب إلي الحقيقة نكون أدق إدراكًا لواقع أحوالنا، فيكون ثمة احتمال واقعي أن تكون دول وشعوب في العالم تحكمها أجهزة مخابرات أجنبية حكمًا مباشرًا، وأن من بلادنا العربية من تحقق فيه هذا الاحتمال، وعلينا أن نعد أفكارنا في ضوء احتمالات تتضمن هذا الأمر، فتتعدد أمامنا مجالات الرؤية وإمكانات التفكير في الحلول. فمثلاً، عندما يكون النفوذ الأجنبي معتمدًا علي هذه العلاقات الشخصية من السيطرة المنفردة، فهو في الغالب يعتمد علي الإفساد وتسلسل حلقاته، ولهذا الأمر نوع مواجهة. أما عندما يكون مستندًا إلي علاقات موضوعية بعيدة المدي لفئة طبقية أو لتكوين مؤسسي. فإن معالجة هذا الأمر تحتاج من المعنيين به إلي أساليب أخري وأدوات عمل مختلفة. ويكون هذا ما يتعين أن ينشغل به المعنيون من ذوي الفكر وأصحاب الحركات السياسية والاجتماعية. ومن هنا ترد وجوه النفع وأعمال الفكر. ومن جهة أخري، فنحن مثلاً نعرف من عناصر قيام المشروع الصهيوني في أرض فلسطين ما نعرف، وهيكل علي مدي تاريخه الفكري والسياسي قدم أغزر ما قدم من المواد التاريخية والسياسية في هذا المجال، ويمكن القول إنه ينتمي إلي هذه المرحلة التاريخية التي صار فيها الصراع العربي الإسرائيلي هو الصراع الحاكم لتاريخ المنطقة العربية كلها ومصر منها علي مدي النصف الثاني من القرن العشرين، وإلي مدي لم نستطع بعد أن نتبين نهاياته. وهو في هذا المجال أدي دور جماعة بأسرها، وأدي ويؤدي من فروض الكفاية فيه ما تنوء به العصبة أولي القوة من الرجال. ونحن نجد مثلاً في "الكتب.. وجهات نظر" قراءته للوثائق الإسرائيلية التي أفرج عنها وعرضت للباحثين، ويفرد لها مائتين وخمسين من صفحات الكتب، للعرض والتحليل لهذه الوثائق، وبخاصة محاضر مجلس وزراء إسرائيل من 1951 إلي 1966، وبهذا يذكِّر من نسي من ساستنا وأولي الأمر فينا، "أن مصر كانت ولاتزال هي طُلبة إسرائيل، وهي الطرف المركزي في الصراع العربي الإسرائيلي من بدايته وحتي الآن". "وذلك بصرف النظر عن تباين التوجهات والسياسات والخيارات التي اعتمدتها مصر علي امتداد أربعة عهود: مرحلة النظام الملكي، ثم المراحـــل الثلاث لثورة 23 يوليـــة وبعدهـا، من جمال عبد الناصر إلي أنــور الســـادات، وأخـيرًا حسني مبارك". وإن مصر حتي أيام فاروق كان الإسرائيليون يتحسبون لها، لأنها إن لم تكن تهديدًا متحققًا فهي تهديد كامن، ويذكر أن بن جوريون وضع استراتيجية إسرائيل إزاء مصر في أربع نقاط، أولها أن تلزم مصر حدودها وتظل وراءها، ثانيا أن تمنع مصر عن عقد تحالفات مع بقية العالم العربي وخصوصًا سوريا ثم السعودية والعراق، ثالثًا ضرورة توسيع العازل الصحراوي بين مصر وإسرائيل ليشمل سيناء المصرية، رابعًا "عندما تقبع مصر وراء حدودها وتترك إسرائيل وشأنها فإن إسرائيل يتحتم عليها أن تعطي نفسها كل المزايا المتوفرة استراتيجيا لمصر"، وهي الموقع بين القارات الثلاث والبرزخ بين البحرين. ونحن عندما نقرأ ذلك ونشاهد أحداث الحاضر، نعرف أين نحن الآن وأين نقف منذ وقع رؤساؤنا معاهدة كامب ديفيد في 1979 وحرصوا علي الإطاعة الكاملة لكل ما وضعت من خطوط حمراء، ونعرف لماذا خفض الليث المصري رأسه ووضع ذيله بين رجليه. ولماذا لم نعد نستعمل لفظ "الأمة العربية" في أي من تعبيراتنا الرسمية رغم النص عليها في الدستور، ولماذا استعملنا بدلاً منها لفظ "الشرق الأوسط". والحديث يوضح إلي أي حد يعتبر السلام مستحيلاً، وبوجه الخصوص بين مصر وإسرائيل، والحديث يوضح إلي أي حد وقعت مصر في إطار المخطط الاستراتيجي الإسرائيلي، ونحن عندما نقرأ ما كتبه هيكل في موضوع آخر يتعلق "بالعربي التائه" الذي حل في 2001 محل اليهودي التائه، نجده يشير إلي درس الحرب العالمية الثانية الشهير، إذ كانت سياسة التهدئة التي اتبعها شمبرلن رئيس وزراء بريطانيا مع أطماع هتلر التوسعية في ميونخ هي السبب الرئيسي لقيام الحرب العالمية الثانية التي دامت ست سنوات وراح ضحيتها 62 مليون قتيل (كنت أظن قبل ذلك أنهم 32 مليونًا فقط)، وأن الدرس السياسي المتخذ هنا هو أن سياسة التخاذل تطمع المعتدين للمزيد من العدوان فيقوي احتمال الحرب الأشد. المثل معروف مشتهر ولكن إثارته بالنسبة لسياسة التخاذل العربية تجاه إسرائيل هي المهم الجديد، وهو الذي يثير أوجاع الجسم العربي في حالته الراهنة، وشرح كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية رأت ألا ينعقد مؤتمر قمة عربي بعد مؤتمر 1990 الذي أعقبه تحول معركة إخراج العراق من الكويت إلي عملية مقصودة ومنظمة لتدميره. وأن الولايات المتحدة لم تأذن بقمة عربية أخري إلا في سنة 1996 لامتصاص مفاجأة العرب باعتلاء المتشددين الصهاينة حكم إسرائيل ثم "لتمرير" قرار عربي باعتبار السلام خيارًا استراتيجيا لكل شعوب المنطقة، ثم لم ينعقد إلا مؤتمر سنة 2000، انعقد ليوم واحد ليقرر الانعقاد الدوري السنوي للمؤتمر. ويذكر أن القصد المطلوب من الشعب الفلسطيني هو الكف عن المقاومة والقبول بأي سلام. بما يعني ــ إن حدث ــ عزلَ الشام تمامًا عن وادي النيل وبه يتحقق الهدف الاستراتيجي الأعلي لإسرائيل. [ 4 ] الموضوع الثاني في اهتمامات هيكل الحاضرة ـ أي خلال السنوات الخمس الأخيرة ـ هو موضوع الولايات المتحدة الأمريكية. ويمكن لنا أن نقول إنه الموضوع "الأول مكرر". ونحن ننتقل من خصوص الصراع العربي الإسرائيلي إلي عموم الصراع العربي الأمريكي، بحسبان ذلك تتحدد به ملامح التاريخ العربي المعاصر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية النصف الثاني من القرن العشرين. وأقصد بالصراع العربي الأمريكي، حركة العدوان الأمريكي المباشر علي بلادنا العربية وحركته الداعمة للعدوان الإسرائيلي وما يواجه ذلك من تحركات المقاومة العربية. وإن السنوات الخمس الماضية شاهدت اشتدادًا في هذا الصراع واحتدامًا له علي نحو يتميز بزيادة معدلات التصاعد، وبوجه خاص منذ قامت انتفاضة الأقصي في سبتمبر سنة 2000، وعلي وجه أخص منذ الأحداث الأمريكية في 11 سبتمبر 2001 التي اتخذت ذريعة إلي غزو أفغانستان وتأسيس الوجود العسكري الأمريكي في وسط آسيا، ثم غزو العراق الذي بدأت مقدماته من سنة 2002 وتم في 9 أبريل سنة 2003. أذكِّر القارئ بهذه "الخريطة الزمنية" لأنها تشرح لنا المناخ السياسي الذي كان هيكل يكتب فيه دراساته، مختارًا لموضوعاتها من هذا السياق ومستجيبًا لوقائع الحاضر المعيش، ومقدمًا خبراته لجمهور رأي عام يعيش بالمعاناة هذه الأحداث وتلتوي به السبل والطرق ودروب الحركة، وتتقاذفه أدوات الإعلام الحكومية الرسمية في غالب نشاطها المخطط لتصرفه عن موجبات المواجهة والتصدي، ويبلغ بعضها إلي محاولة القول بأن المخاطر ليست من الأخطار، وأن التبعية هي صميم التحقيق للمصالح الوطنية، وأن الاستسلام هو ما به ندافع عن الأمن القومي. هكذا يكتب في صحف قومية واسعة الانتشار ومن مؤسسات المفروض أنها علمية ومن أقلام لديها الكثير من المعارف والقليل من الشعور بالحرج. ولهيكل بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية موقف يجاوز الإدانة لسياستها "الإمبراطورية"، ويصل إلي نقد أسلوب التفكير الأمريكي ذاته وطرائق التعامل، ويصل حتي إلي بيان "الجلافة الأمريكية" في التصرفات والتصورات. (وتعبير الجلافة من عندي)، ويحكي عن كيسنجر أنه عندما أراد أن يسمع منه عن أزمة الشرق الأوسط طلب إلي هيكل ألا يحدثه عن التاريخ ولا عن الأمة العربية. أي أنه يريد أن يسمع عن مصر بغير تاريخ لها وبغير عروبة هي منها. ثم هو يضع الولايات المتحدة في إطار خصائص حضارية هي أنها ليس لها تاريخ، وهي موطن وليست وطنًا، ونشأت كملجأ وفضاء مفتوح وليس كدولة، ولم يشعر المهاجرون إليها أن السكان الأصليين يشكلون عقبة أمامهم فقاموا بإخلاء الأرض منهم، وظنوا أن الله خلق هذه الأرض لينتفعوا هم بها، فهي حق لمن ينتفع بها، وحازت العلم والمعارف شراءً بالمال، وحققت وحدة أراضيها ودولتها شراء بالمال أيضًا. إننا عندما نستعيد كتابات هيكل من خريف سنة 2001 حتي الآن، نلحظ أن "الإمبراطورية الأمريكية" حصلت علي أكبر الحصص من جهوده في الشرح والإبانة، وباستثناء ما كتبه عن ثورة 23 يوليو 1952 بمناسبة مرور خمسين سنة علي قيامها، وهي كتابات استغرق نشرها عددًا من الشهور، باستثناء ذلك لا يكاد اهتمامه مع قرائه أن يكون انشغل بأمر آخر غير هذه "الإمبراطورية الأمريكية" من بدء تكوينها إلي أساليب سياساتها إلي أطماعها الحاضرة. وطور في ذلك الكثير من أطروحاته السابقة تعميقًا وإيضاحًا. وأنا هنا لست في مجال عرض أفكاره، فهو باليقين أقدر مني ومن غيري علي عرضها، ولكنني أحاول أن أوضح أن هذه الكتابات علي مدي السنين الخمس الماضية التي اخترت أن أركز عليها في هذا الحديث، كانت من أهم ما يمكن للعقل السياسي الوطني العربي أن ينتفع به في موقفه المقاوم للعدوان الحاصل عليه من الولايات المتحدة الأمريكية ومن دولة إسرائيل الصهيونية. وهو في كتاباته هذه يلقي أضواءً عديدة علي ما أسماه "مهمة التفتيش في الضمير الأمريكي". ورغم أنه في بداية حديثه هذا يرسم أضلاع المأزق الذي نحن فيه، فنحن بحق لا نستطيع أن نقيم صداقة مع الإمبراطورية الأمريكية، ومن الخطر أن ندخل في "عداء مطلق" معها لأن الاصطدام بها لا تستطيع الأمة احتماله في لحظتها الحاضرة وبطاقتها ومواردها اللحظية، وأن الاندفاع في العداء يصل إلي كراهية عاجزة كما أن تجاهل الإمبراطورية يستحيل الصبر عليه. رغم وجوه هذا المأزق الذي يترسمه الكاتب فإن عرضه لخصائص "الضمير الأمريكي" يكشف عن أنه لا أمل لنا في إدراك أي من وجوه التفاهم مع السياسات التوسعية للولايات المتحدة، لأنها لا تدرك معاني المفاهيم بمثل ما تعارفنا عليها. فلا الشرعية لها ذات المعني، ولا الدين له ذات الأثر في تكوين الإنسان، ولا النصر والهزيمة لهما ذات الدلالة بل هما عندهم بمعني الربح والخسارة. ومفهوم السيادة الوطنية ليس له لديهم ماله لدينا من معان. وعندما نقرأ هذا الكلام وندرك مغزاه يميل بنا الظن فيما يبدو لي، إلي إدراك أن لا طريق للحوار يمكن أن يقوم بين طرفي الصراع العربي التحرري والأمريكي العدواني، بمعني أنه لا يقوم حوار أساسه إثارة وجوه الحق، وإنما "الحوار المادي" إن صح هذا التعبير هو الأسلوب الوحيد للأخذ والرد، فالعدوان يواجه بالسعي للإضرار أو السعي لإفشال النفع المادي الذي ينتظره المعتدي من عدوانه. ومراعاة موازين القوي تجري في إطار الاستخدام الأمثل لأساليب الحوار المادي وليس المعنوي. أو بعبارة أخري فإن هذا الحديث يثير وجه جدل بين فصائل الحركة الوطنية يتعلق بأساليب العمل وممكناته، وأنا أقصد بهذا المثل أن أحرك الحديث إلي ما يمكن لنا به أن نستفيد من هذه الرؤية لواقع الخصم السياسي الأمريكي في تبين وجوه المواجهة والتعامل معه. [ 5 ] لست أريد أن أستطرد في عرض كتابات يتابعها القراء بمثل ما أتابعها، وقراؤها أكثر كثيرًا من قرائي، وصاحبها أقدر علي عرضها مني. إنما أنا أكتب عن هيكل الظاهرة وليس عن هيكل الكاتب. وكما سبق أن أشرت أن الظاهرة يتعين أن تدرس، فهو وطني المشرع، وموازينه وتقويماته تصدر عن الصالح العام بعيد المدي للجماعة الوطنية. وقد يرد الاختلاف لدي بعض التيارات الوطنية أو أجنحتها العديدة حول تفاصيل وجوانب مما يقول به أو يدعو إليه أو يتوقعه. وقد يختلف البعض في تقدير الجوانب النسبية لموازين القوي في الصراعات الدائرة، وقد تكون الإمكانات المتوقعة للحركات الشعبية مما يعدل في هذه الموازين، مما تزيد به احتمالات الرجاء لدي الطرف العربي في الصراع. ولكن يظل لتقويمات ما يذكره "هيكل" قدر معلي في التقدير، ويظل الاحتياج العام لكتاباته في تبين أوضاع الصراع وحركاته احتياجًا ملحًا، وتظل موازينه ذات ضبط، ويظل مشرعه الوطني ذا جاذبية وذا سعة فسيحة في تجميع ذوي النظر الوطني مع اختلاف تياراتهم وتعدد رؤاهم. أنا لا أقول إنه حركي يعمل بالسياسة الجارية أو يضع برنامجًا سياسيا لأحد، ولكنني أقول إن كتاباته هي مما يؤسس البنية التحتية للنظر الحركي بالنسبة لحقائق الصراع الدائر وأوضاع أطرافه. وهو يتميز بأمرين أساسيين في تقديري، أولهما أنه يركز بصره علي خصائص الطرف الآخر في الصراع، وثانيهما أنه يركز بصره أيضًا علي امتدادات ذلك الطرف الآخر في أجهزة التقدير والتنفيذ التي تلتبس بمؤسسات العمل الوطني العربي. ونحن معه ولا ننسي طبعًا توصيفه الحاضر للوضع الذاتي الراهن، إذ صار ضياع الفرصة أكثر أمانًا من عمل المخاطرة وصار الانتظار طبيعة سياسية والتبست الهوية، فلم تعد وطنية تلزم حدودها ولا قومية تحمل مسئوليتها، وبقيت 99% من أوراق حل أزمة الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة مع الشعور بالحرج من تزايد انحياز الولايات المتحدة لإسرائيل، والتبست الثوابت بالمتغيرات وتبادلا موقعها، مع المخاطر الآتية لمصر من حوض وادي النيل، والمخاطر الآتية إليها من حدودها الشمالية الشرقية ومع تحقق أحلام بن جوريون وشحوب الدور الثقافي المصري فضلاً عن مسألة الخلافة الدستورية، وهو توصيف يظهر إلي أي مدي هو حاضر في الساحة العربية الحالية. إننا عندما نريد أن نحتفي بشخص فليس أكثر احتفاءً به من التذكير بأعماله. وعندما نريد أن نقدر شخصًا فلننتفع بأعماله، وعندما نريد لشخص أن يفرح، وهو من حقه أن يفرح، فلنذكره بأعماله. وبهذه الروح كتبت هذا المقال. عندما نريد أن نحتفي بشخص فليس أكثر احتفاءً به من التذكير بأعماله. وعندما نريد أن نقدر شخصًا فلننتفع بأعماله، وعندما نريد لشخص أن يفرح، وهو من حقه أن يفرح، فلنذكره بأعماله.
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة