ثمانون عاما بعد لينين



لم يكن من المستغرب أن تصدر عشرات الكتب في ذكري مرور ثمانين عاماً علي وفاة الزعيم والفيلسوف السوفيتي الراحل فلاديمير إليتش أوليانوف الشهير باسم لينين. فلم يكن لينين مجرد رئيس دولة من الطراز العادي بل كان قائد ثورة ومؤسس دولة زالت من الوجود عقب وفاته بحوالي سبعة عقود، ولكن بعد أن تركت بصماتها علي التاريخ الإنساني وبعد أن أثرت في مسار العالم بأسره وقدمت طرحاً أيديولوجياً مغايراً لما كان سائداً من قبله، قد نختلف معه أو نتفق، ولكنه بالتأكيد أضاف أبعاداً فكرية وتجارب عملية أثرت في نهاية الأمر مسيرة البشرية في القرن العشرين وما بعده. إلا أنه مما لفت نظري في العديد من هذه الكتب أنها سعت للنظر بقدر لا بأس به من الموضوعية والتنزه عن التحيز والتجرد العلمي والحياد التاريخي لأحداث جرت في الاتحاد السوفيتي السابق، خاصة في مراحله التأسيسية الأولي. وفي هذا السياق، ظهرت العديد من التقييمات المنصفة في بعض هذه الكتب عن هذه الأحداث مما ساعد كتابها علي البعد عن المنهج الانتقائي والاستفادة من مصادر كانت تعتبر إلي عهد قريب في الغرب من المحظورات وتتعرض للاتهام بالانحياز للماركسية أو الترويج للشيوعية. ومن هذه المصادر التي اعتمدت عليها هذه الكتب ذات الطابع الموضوعي كان كتاب ROBERT VINCENT DANIELS المعنـون «ضميـر الثـورة» THE CONSCIENCE OF THE REVOLUTION الصادر أصلاً في طبعته الأولي عام 1960، وذلك في أعقاب انتهاء حكم ستالين بسنوات قليلة ومستفيداً من معلومات وردت في شهادات خرجت من الاتحاد السوفيتي السابق عن فترتي حكم لينين وستالين بعد وفاة الأخير عام 1953، واتصف الكتاب بالتالي بنقل هذه الشهادات كمصادر أولية، وساعد علي التزامه الموضوعية كانت الأجواء العامة في الغرب في ذلك الوقت أكثر انفتاحاً علي الاتحاد السوفيتي عما قبل وأكثر تفاؤلاً بقدوم خروتشيف والأمل في الغرب بقيامه بإحداث انفتاح سياسي واقتصادي وثقافي في الاتحاد السوفيتي السابق. وقد صدرت طبعات لاحقة من هذا الكتاب. إلا أن ما يعنينا هنا هو تناول الكتاب لحالة التعددية الفكرية والسياسية - داخل الإطار الماركسي - التي سادت روسيا في ذلك الوقت المبكر للثورة، وتحديداً منذ انتصار الثورة البلشفية عام 1917 وحتي وفاة لينين عقب ذلك بسبع سنوات. ولئن كانت الضربات التي لحقت بهذه الحالة التعددية قد بدأت في حياة لينين، فإن الضربة القاضية لها جاءت بلا شك علي يد ستالين وخلال فترة حكمه. فالكتاب يُعد بحق أحد أهم الكتب التي تحدثت منذ تاريخ مبكر عن التعددية التي كانت موجودة خلال الفترة الأولي من تنظيم وانطلاق ثم حكم ثورة اكتوبر 1917 البلشفية في روسيا، خاصة تلك القوي والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي كانت لها رؤي تقف داخل مربع الثورة. وقد أكد أهمية هذا الكتاب، بالإضافة إلي الدراسات والكتب التي صدرت مؤخراً في الغرب أساساً، القليل من الكتب التي صدرت في عالمنا العربي ومنها كتاب الأستاذ جمال البنا «المعارضة العمالية». وقد تناول المؤلف أولاً مسألة مركزية، ألا وهي الديمقراطية. ففي عام 1910، أي بعد أربع سنوات من تبلور البلشفيك كفصيل منفصل في حزب العمال الديمقراطي الاجتماعي الروسـي، فإن أحـد فصائـل البلشفيـك، وهم الفبيريوديست (الطليعيون)، طالب بالتعبير الديمقراطي عن آراء القـواعد الشعبية والسماح لكـل الفصائـل بالتعبير عن مواقفها داخل حدود الموقف البلشفيكـي العـام. كذلك، فإن فصيـلاً بلشفياً آخـر هـو الأتزوفيست (الدعاة) تشكل إطاره التنظيمي بشكل عفوي في صفوف الطبقة العاملة وقام بعملية تثقيف سياسي للعمال. وقد هاجمت تلك الفصائل في عامي 1909 و1910، ما أسمته بجهود لينين لتقوية هيمنته الفردية علي الحركة الثورية، كما انتقدت أوجه القصور في أسلوب قيادته للحركة البلشفية مما أدي -حسب وجهة نظر هذه الفصائل- إلي إيجاد فجوة بين القيادة والجماهير. إلا أن تلك الفصائل التي راهنت علي «ثورية» الجماهير، آمنت بضرورة إقامة حزب طليعي من المثقفين والمحترفين الثوريين ليوجه ضربة للنظام القائم بما يشجع الجماهير علي بدء انتفاضتها التي ستأتي بديمقراطية الشعب الديكتاتورية. وعقب نجاح الثورة البلشفية، أي في مطلع عام 1918، فإن «المعارضة العمالية» «الديمقراطيين المركزيين» انتقدوا تزايد النزعات السلطوية والبيروقراطية في الحزب الشيوعي، وهو ما تم تبريره حينذاك بظروف الحرب العالمية الأولي. وخلال المؤتمر الثامن للحزب في مارس 1919، تم تأسيس المكتب السياسي للحزب، وهو ما شكل علامة علي النزعة اللينينية لمزيد من المركزية، وقد ردت المعارضة علي ذلك باقتراح زيادة التمثيل العمالي في اللجنة المركزية للحزب وتوسيع عضوية تلك اللجنة لضمان الديمقراطية ومجابهة النزعات البيروقراطية في المستويات العليا للحزب. وكان يتم حينذاك تبرير المركزية المتزايدة وقمع الممارسات الديمقراطية داخل صفوف الحزب بحجة وجود حالة الحرب الأهلية. وفي نفس المؤتمر الثامن للحزب عام 1919، عبر ممثلو المعارضة عن رفض استبدال إدارات سياسية ذات طابع بيروقراطي باللجان المحلية للحزب، باعتبار ذلك يستهدف السيطرة علي الطبقة العاملة بدلاً من توفير قنوات المشاركة السياسية وتصعيد آراء القواعد والرأي العام علي مستويات المصنع والمزرعة والحي إلي القيادة. ورأي ممثلو المعارضة في هذه الإدارات السياسية وسيلة للدعاية السياسية من أعلي إلي أسفل دون ضمان ردود فعل من أسفل إلي أعلي. وفي المؤتمر التاسع للحزب عام 1920، واصل «الديمقراطيون المركزيون» و«المعارضة العمالية» انتقاداتهما ضد النظام، حيث هاجم الفصيلان البيروقراطية المركزية وسلطـة الفرد سواء علي مستوي التنظيم السياسي أو إدارة المشروعات الصناعية، وبدلاً من ذلك دعتا إلي سلطة جماعية في الحزب وفي المؤسسات الصناعية. وفي ضوء التمثيل القوي للمعارضة فـي مؤتمـر الحـزب، قرر المؤتمر تشكيل «لجان سيطرة» للدفاع عن المصالح الأيديولوجيـة والطبقية للقواعد في مواجهة هذه المؤسسات. إلا أنه بحلول مطلع عام 1921، قدرت المعارضة أن النزعة البيروقراطية تتصاعد داخل الحزب، وحملت بيروقراطية الحزب مسئولية اندلاع تمرد «كرونشتاد» في مارس 1921، وهو أول تمرد بلشفيكي ضد السلطة يأتي من خارج الحزب. وجاء المؤتمر العاشر للحزب في مارس 1921، حيث عكست مناقشاته وقراراته التناقض غير المحسوم والتوازن النسبي بين المعارضة واللينينيين. ففي ذلك المؤتمر، تم تبني قرارين متناقضين: الأول خول الحزب سلطة معاقبة أو طرد أي فصيل أو فرد من أعضائه من الحزب، وذلك في ضربة موجهة لفصائل المعارضة ومطالبتها بالديمقراطية، أما القـرار الثانـي فحض علي الديمقراطية العمالية وحث علي ضمان مشاركة العمال الفعالة في أنشطة الحزب وعملية صنع القرار به، وطالـب أيضـاً بانتخـاب المسئولين الحزبيين وبحرية النقد داخل الحزب في حدود الديمقراطية المركزية. وفي نوفمبر من العام نفسه، وفي إطار التحضير لمؤتمر الحزب في موسكو دعت فصائل «المعارضة العمالية» و«الديمقراطيين المركزيين» ومجموعة «إيجناتوف» اليسارية في موسكو إلي حرية التعبير في الصحف، وفي مؤتمرات الحزب وهيئاته وداخل السوفيتات. كما طالبوا بتواصل السوفيتات مع الطبقة العاملة، وحثوا قواعد الحزب علي ممارسة الضغوط لإجبار بيروقراطية الحزب علي احترام الديمقراطية العمالية واستقلالية المنتديات العمالية. ومما زاد موقف الجناح اللينيني في الحـركة البلشفيـة سـوءاً أن عامـي 1921 و1922 جاءا إلي الساحة السياسية بفصيلين جديدين ينتميان إلي المعارضة. كان الفصيل الأول هو «مجموعة العمال» والذي دعا إلي حرية الصحافة والإدارة الديمقراطية للصناعة عبر نقابات العمال وطالب بإقرار حق الإضراب للعمال. وبالرغم من أن هذه المجموعـة بدأت داخـل صفـوف الحزب، فإن زعيمها «مياسينكوف» طرد من الحزب عام 1922 حيث اتهـم بالترويج لأفكار تخدم البرجوازية، وانتقلت مجموعته للعمل السري. أما الفصيل الثاني فكان «الحقيقة العمالية» (رابوشايا برافدا) الذي عارض الطبيعة البيروقراطية للنظام ودعا إلي تأسيس حزب عمالي جديد يكون قادراً علي توفير ظروف ديمقراطية تمكن العمـال مـن الدفـاع عن مصالحهم. ونري في المواقف المتطرفة نسبياً لهذين الفصيلين ما يوضح الانعكاسات السلبية لعدم تسامح اللنينيين تجاه «الآخر» ورأيه، مما دفع المعارضين تنظيمياً للعمل من خارج الحزب، أو حتي الاتجاه للعمل السري، وأيديولوجياً إلي التشكيك في جدوي الحزب الشيوعي كحزب يعبر بصدق عن مصالح وطموحات الطبقة العاملة.
وفي ختام هذا الجزء عن موقف المعارضة الثورية في روسيا السوفيتية تجاه المسألة الديمقراطية، يستطيع المرء أن يري بسهولة أن الأطراف المكونة لهذه المعارضة كررت باستمرار نفس مطالبهـا منذ 1918 وحتي 1923، وهو ما يدل علي أن «الإصلاحات الديمقراطية» التي أقرتها مؤتمرات الحزب المتتالية لم تر طريقها إلي النور بسبب تجاهل سكرتارية الحزب ذات التوجه اللينيني. المسألة الأخري التي لا ينبغي تجاهلها هي رؤية المعارضة لمفهوم «الطليعة» بوصفه ضروريا ولا يتناقض مع «ديمقراطية الطبقة العاملة». وربما احتلت مناقشة المسألة الديمقراطية جزءاً كبيراً من هذا البحث، إلا أنني أزعم أنها كانت مسألة مركزية للمعارضة التي آمنت بالحاجة إلي توزيع واسع للسلطة السياسية للقوي الثورية وللجماهير الشعبية، وحاربت من أجل مجتمع لا طبقي تختفي فيه سيطرة طبقة، أو قهر طبقة لأخري، أو هيمنة مصالح طبقية بعينها. وكان الهدف هو تحقيق السيادة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للطبقة العاملة تنفيذاً لنصوصية شيوعية كارل ماركس. أما المسألة الثانية التي تعرض لها المؤلف فهي مسألة اللجان الشعبية والجيش الشعبي. فنجد أن أول مؤتمر للسوفيتات في كل روسيا والذي عُقد في مارس 1917 قد دعا إلي منح الشعب الفرصة لممارسة الحريات الديمقراطية من خلال السوفيتات المحلية والمجالس المنتخبة شعبياً في مواقع العمل، باعتبار هذه المجالس واللجان هي عصب السلطة الثورية، أو هكذا يجب أن تكون. كما طالب المؤتمر بإنشاء «حرس أحمر عمالي» لقيادة النضال ضد الحكومة المؤقتة التي جاءت إلي الحكم بعد ثورة فبراير 1917. وإذا كانت هذه المطالب تمثل بالأساس مطالب المعارضة اليسارية، فإنه بحلول مارس 1918، دعا «الديمقراطيون المركزيون» إلي أن يكون ثلثا أعضاء مجالس إدارة المشروعات الصناعية من العمال المنتجين، إلا أن مؤتمر الحزب قبل فقط أن يكون ثلث الأعضاء من العمال. وفي العام نفسه - أي 1918- تم تأكيد السيطرة العمالية من خلال لجان بأماكن العمل الصناعية تم إنشاؤها في عدد كبير من المصانع، وفي صيف نفس العام بدأ اليسار البلشفيكي في إنشاء ما سُمي بـ «لجان فقراء الريف» حتي تستولي علي الأراضي الإضافية التي كان يملكها الإقطاعيون (الكولاك) أو حتي مُلاك الأراضي الريفيين من المنتمين للطبقة الوسطي. وبالرغم من حل هذه اللجان في روسيا بواسطة اللجنة المركزية للحزب بحلول نهاية 1918، فإن عدداً منها بقي حتي عام 1920 في أوكرانيا حيث احتفظ اليسار البلشفيكي بالأغلبية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وبحلول نهاية عام 1919، تم إنشاء لجان عليا لمركزة اللجان العمالية وجمعها مع الإدارة الاقتصادية للمصانع. إلا أنه تجدر الإشارة إلي أن مجالس الإدارة -وليس المديرون من الأفراد- هي التي أدارت المصانع في ذلك الوقت، كما أن ممثلي الحركة النقابية العمالية شاركوا في عضوية هذه المجالس. إلا أنه بمجئ مطلع عام 1920 قبل مؤتمر الحزب مبدأ التسلسل الهرمي في الإدارة، وهو ما تزامن مع التوجه نحو مزيد من المركزية. ويُعد هذا القرار تراجعاً واضحاً عن مبدأ مشاركة العمال في إدارة وسائل الإنتاج. وفي ذلك الوقت، بدا أن «الديمقراطيين المركزيين» لم يحسموا أمرهم، فقد أعلنوا تفضيلهم العام لإدارة جماعية للتخلص ممن أسموهم بـ «المتخصصين البرجوازيين»، إلا أنهم دعوا في نفس الوقت إلي معالجة كل حالة علي حدة من حيث المفاضلة بين الإدارة الجماعية أو الفردية. وبشأن نفس المسألة، وقفت النقابات العمالية وبعض تنظيمات الحزب المحلية التي كانت واقعة تحت سيطرة المعارضة بقوة تدعم جماعية الإدارة عبر مجالس الإدارة. وفيما يتعلق بمسألة «الجيش الشعبي»، فمن المفارقات أن ليون تروتسكي -الذي صار لاحقاً معارضاً يسارياً- هو الذي فرض سيطرة القيادة العسكرية المركزية علي حرب العصابات وجماعات القتال الشعبية التي كانت تقاوم كلا من الألمان من جهة ومُلاك الأراضي والبرجوازيين الروس من جهة أخري، وهي حرب كان يقودها اليسار البلشفيكي حتي عام 1918. كما أن تروتسكي أيضاً هو الذي أنهي الممارسات الديمقراطية داخل الجيش والتي كانت تتمثل في انتخاب الضباط وغير ذلك، وأعاد التسلسل الهرمي للجيش. وفي ختام هذا الجزء، نقول أن المعارضة الثورية في روسيا اللينينية في الفترة محل الدراسة في كتاب «ضمير الثورة» ناضلت من أجل إدارة جماعية للأحياء وأماكن العمل والإنتاج، وبهدف إيجاد روح جماعية لدي الجماهير وهي روح ذكرت تلك المعارضة أن الماركسية تدعو إليها وتستوجبها. كما أن المعارضة دعت إلي إنشاء جيش شعبي، ولكنها رأت أن يكون هذا الجيش من العمال فقط. المسألة الثالثة التي يتناولها «روبرت دانيالز» فهي كون القيادة الثورية واقعة في أيدي خارج نطاق معسكر المعارضة. ففي الحالة الروسية، يعتبر المؤلف أن لينين كان معادياً للنزعات اليسارية واليمينية في صفوف البلشفيك حتي قبل ثورة 1917. وفي 1918 هاجم يسارية «بوخارين» التي أشرنا إليها آنفاً باعتبارها انحرافاً، وكتب: «اليسار الشيوعي: فوضي صبيانية»، وقارن فيه بين ما أسماه جمود خصومه اليساريين -وإن أقر بمبدأيتهم- مع موقفه التكتيكي صاحب النظرة بعيدة المدي، خاصة فيما يتعلق بالأحداث والعلاقات خارج روسيا السوفيتية في ذلك الوقت. وانتقل لينين من تأييده السابق لعالمية الثورة البلشفية إلي تفضيل حق تقرير المصير للأمم والقوميات ودعا إلي ممارسة الصبر تجاه التطلعات الوطنية للقوميات المختلفة في ضوء ما أسماه بمشكلات روسيا ذات الطبيعة الخاصة والحاجة لتأمين سلامة الدولة الاشتراكية الوليدة. وعلي صعيد آخر، عارض لينين إدخال الإصلاحات الديمقراطية علي الحزب التي طرحتها المعارضة وأصر علي أن يكون الحزب هو الجهاز المركزي الذي يسيطر علي كافة مناحي الحياة. كما تراجع عن شعار «كل السلطة للسوفيتات» في عام 1917 إلي تفضيل بناء هرمي للموظفين المعينين بحلول عام 1920. وفي نفس العام، أعلن ضرورة الالتزام بالطاعة المطلقة والنظام من جانب قواعد الحزب وشرائحه الدنيا تجاه القرارات التي تتخذها الشرائح العليا، وهو ما جاء مناقضاً لدعوات توسيع المشاركة السياسية من جانب المعارضة. وتحت ضغط من لينين، استخدم المؤتمـر العـام العاشـر للحزب عام 1921 تعبير «الانحراف» لوصف التوجه نحو مخالفة الأفكار والسياسات الرسمية للحزب سواء في اتجاه اليسار أو اليمين. وأطلق المؤتمر علي «الانحراف لليسار» تعبير «المغامرة» متهماً إياه بالالتزام الأعمي بالماركسية بغض النظر عن الوقائع، وهو ما عده مناقضاً للديمقراطية المركزية كما بلورها لينين، وتهديداً لقوة الحزب ووحدته. وفيما يتعلق بالشخصية الثانية في القيادة في السنوات محل البحث في الكتاب، وقبل استبعاده لاحقاً، وهي ليون تروتسكي والذي أصبح بوضوح بحلول مايو 1922 الرجل الثاني بعد لينين من جهة الثِقل الشخصي باعتباره قائد انتفاضة أكتوبر 1917 ثم مهندس النصر في الحرب الأهلية، فإنه بالرغم من شعبيته في صفوف قواعد الحزب والمثقفين، فإنه لم يكن كذلك بين قياديي الحزب وسكرتاريته من غير المثقفين. وبالإضافة إلي ذلك، فإن تروتسكي لم يتحرك عندما كانت قوي المعارضة تحتاج فقط إلي قيادة تلتف حولها، حيث أن تروتسكي لم يكن يجيد مناورات السياسة الفردية وكان يكره أن يُنظر إليه باعتباره منافساً علي السلطة. وفي ختام هذا الجزء، يمكن القول بأنه في الحالة الروسية، فإن القيادة الثورية استخدمت الشعارات ذات الطابع المثالي -وربما الرومانسي- وذات الجاذبية الشعبية للمعارضة قبل وخلال العملية الثورية، ولكن بمجرد تحقق النصر للثورة، كانت القيادة في حاجة إلي دعم ثابت وصارم وقبول دون منازعة لتلك القيادة. كما أن القيادة كانت في حاجة إلي تنظيم سياسي مركزي يرتكز علي نزعة مركزية وبيروقراطية صارمة تضمن الطاعة للقيادة من جهة وسيطرة القيادة علي الوضع السياسي/الاجتماعي من جهة أخري. أما المسألة الرابعة التي تناولها الكتاب فهي تأميم القيادة الثورية لأهداف وشعارات المعارضة حتي يتسني لها سحب البساط من تحت أقدامها وكسب شعبية في صفوف أنصارها. ففي أبريل 1917، وعندما بدت الظروف مهيأة لحدوث انتفاضة ثورية، تخلي لينين عن تحفظه السابق ودعا إلي ما كانت المعارضة تدعو إليه من قبل وهو: معارضة ما أسموه بـ «الحرب الإمبريالية» (في إشارة إلي الحرب العالمية الأولي)، معارضة الحكومة المؤقتة التي جاءت إلي الحكم عقب ثورة فبراير 1917، والدعوة إلي إقامة نظام ثوري يرتكز علي السوفيتات. ودفع هذا الموقف الجديد للينين المعارضة داخل صفوف الشيوعيين إلي دعمه. وبحلـول أكتوبـر 1917، تبني لينين ما كان يدعو إليه تروتسكي منذ عام 1905، أي أنه رأي أيضاً أنه نظراً لكون البرجوازية الروسية معنية فقط بحماية وتعظيم ثرواتها الخاصة، فإن علي البروليتاريا القيام بأعباء الثورة الوطنية البرجوازية، علي أن تقوم البروليتاريا عقب ذلك بأداء مهام الثورة الاجتماعية. أما المسألة الخامسة التي تعرض لها المؤلف وسأتناولها هنا في عُجالة نظراً لأنني أوضحتها في مقدمة هذا المقال فهي ما أسميه بالعلاقة التنظيمية بين المعارضة وبين التيار المؤيـد لقيادة الثورة. فقد شكّلت المعارضة أحياناً فصائل واضحة المعالم والحدود داخل الحزب -مثل الديمقراطيين المركزيين مثلاً- ولكنهم غالباً دعوا إلي وحدة الحركة الشيوعية وعملوا داخل صفوف الحزب، إلا في حالات قليلة مثل تلك التي تم طردهم فيها من الحزب، كما حدث مع «الحقيقة العمالية» وقائدها «مياسنيكوف»، وكذلك باستثناء حالة تعاون بعض تلك الجماعات المطرودة من الحزب لإنشاء حزب شبه سري عام 1923 باسم «المجموعة العمالية للحزب الشيوعي الروسي»، وهو ما أشرت إليه عندما تناولت المسألة الديمقراطية في هذه الدراسة. وفي واقع الأمر، وبخلاف هذه الحالات القليلة، كانت المعارضة هي التي دعمت مركزية أجهزة الحزب وعملية صنع القرار به خلال المؤتمر العام الثامن للحزب الذي عُقد عام 1919، وخلال نفس المؤتمر أكد «الديمقراطيون المركزيون» علي أولوية وحدة الحزب حتي علي المطالب التي كان سبق لهم طرحها. ولا يجب أن ننسي أيضاً أن فصيلي «الأتسوفيتس» و»الفبيريوديست» من المعارضة هما اللذان توحدا مع جماعة لينين عام 1917 حتي ينجح الاستيلاء البلشفيكي علي السلطة. أما المسألة السادسة فهي درجة اتساق وتجانس وتكامل مواقف الأطراف المكونة المعارضة. فقد انتقل الأفراد والجماعات المنتمية المعارضة من موقف إلي آخر عبر فترات قصيرة نسبياً، بل إن الأفراد أنفسهم تحركوا من فصيل إلي آخر في أوقات قياسية. ولا شك أن هذه الظاهرة ساهمت في عدم الاتساق الموضوعي والأيديولوجي الواضح في مواقف المعارضة وكذلك في غياب التجانس التنظيمي في صفوفه. وقد كان تروتسكي اليساري هو الذي دعم لينين عقب ثورة أكتوبر 1917 بشأن رفض حكومة ائتلافية مع اليسار المنشفيكي والثوريين الاجتماعيين في وقت تبنت فيه فصائـل اليسـار البلشفيكـي هذه الدعوة. كذلك كان اليسار البلشفيكي هو الذي أعلن تأييد الرقابة علي الصحافة في نوفمبر 1917 ثم عاد لاحقاً للمطالبة بحرية الصحافة. وكما ذكرنا آنفاً، كان تروتسكي هو الذي أزال الطابع الديمقراطي عن الجيش وفرض سيطرة قيادة عسكرية مركزية علي جماعات القتال الشعبية، وهو موقف عارضه «الديمقراطيون المركزيون». كذلك كان تروتسكي هو الذي أيد معارضة لينين في يناير 1920 للإدارة الجماعية للمشروعات الصناعية وأعرب عن تفضيله لسلطة فردية للإدارة، وذلك بالرغم من موقف المعارضة المفضل للإدارة الجماعية. أما المسألة السابعة التي تناولها روبرت دانيالز في كتابه «ضمير الثورة» فهي الطبيعة الوطنية أو الأممية للثورة من وجهة نظر المعارضة، خاصة اليسار البلشفيكي. فقد عكست هذه القضية غياب الوحدة الفكرية عن اليسار البلشفيكي. ففي عام 1917 تحدث تروتسكي عما أسماه «بالولايات المتحدة الأوروبية» كمثل أعلي للاشتراكية وكحل للحرب مع ألمانيا في نفس الوقت، بينما كان بوخارين ينظر لثورة اشتراكية عالمية تبدأ من أوروبا. وعلي الجانب الآخر، فقد تحدث «الفبيريوديست» عن سلام ديموقراطي مع الحفاظ علي السلامة الإقليمية لروسيا. وقد عارض اليسار بشكل عام برنامج لينين لممارسة القوميات لحقها في تقرير المصير باعتباره عائقا أمام الثورة الاشتراكية العالمية. وخلال المؤتمر الثامن للحزب، أعرب بوخارين عن تفضيله دفع الثورة العالمية إلي الأمام علي الحفاظ علي الدولة الاشتراكية الواحدة في روسيا. ومن جانبهم دعا ممثلو المعارضة خلال نفس المؤتمر إلي ممارسة حق تقرير المصير للطبقات الكادحة داخل كل أمة، وذلك كحل وسط مع اقتراح لينين. إلا أن العناصر القومية المتطرفة رفضت هذا الحل التوفيقي. ودعا «بياتاكوف» إلي سيطرة مركزية من جانب الحركة الشيوعية العالمية علي كافة التنظيمات البروليتارية في العالم باعتبار أن مصالح الثورة الاشتراكية العالمية يجب أن تعلو علي مصالح الطبقة العاملة في دول بعينها. وكان اليساريون البلشفيك هم الذين عارضوا اقتراح لينين بمركزية الحزب الشيوعي، وكان سببهم في ذلك هو أن من شأن هذا أن يؤدي إلي تقييد حرية الحركة لمنظمة الحزب الشيوعي في اوكرانيا التي كانوا يسيطرون عليها وكانوا يأملون في أن تشكل قاعدة مستقلة يبدأون منها حرباً ثورية عالمية تبدأ من المانيا وتبتعد عن سياسات لينين الحذرة والحريصة. وقد أوضح تروتسكي أن الثورة الشعبية المعادية للرأسمالية وللإمبريالية في أوروبا هي شرط لبقاء الثورة الروسية والحفاظ عليها. إلا أنه بحلول منتصف عام 1918 بدا لينين ميالا إلي التوصل إلي تسوية سلمية مع المانيا ومعارضة فكرة الحرب الثورية حيث أنه أدرك أن روسيا لم تتلق أي دعم ثوري من البروليتاريا الأوروبية، وبرر وجهة نظره هذه بأن واجب روسيا هو الاعداد للثورة في أوروبا وليس القيام بهذه الثورة نيابة عن بقية الأوروبيين. وقد عارض اليسار البلشفيكي هذا السلام المنفرد بين روسيا وألمانيا باعتباره إجراء انتهازياً، وأيضاً نظر إليه كهزيمة للسوفيتات وللبروليتاريا، وكانتصار للرأسماليين والاقطاعيين والبرجوازيين. وتنبأ اليسار البلشفيكي بأن الثورة الروسية ستموت إذا لم تقم الحرب الثورية في أوروبا، وهي نبوءة لم تتحقق في حينها. وكانت المعارضة داخل الحزب الشيوعي، مدعومة من قبل بوخارين، هي التي دعمت عام 1922 مطالبة القوميات بحقوق وبدرجة متقدمة من الحكم الذاتي، وذلك في مواجهة من دعوا إلي روسيا الكبري بنكهة شوفينية. عقب هذا العرض والتحليل لما ورد في كتاب روبرت دانيالز الهام «ضمير الثورة» فيما يتعلق بالتعددية الفكرية والسياسية في روسيا السوفيتية، فإنه يمكن للمرء أن يلحظ نمطاً من الأسباب التي دفعت إلي فشل هذه التجربة التعددية قصيرة العمر، مع التحفظ أصلاً علي القيود التي كانت مفروضة علي حدودها العقائدية ومع الإشادة بالطابع الموضوعي إلي حد كبير في العرض والتحليل الواردين بالكتاب، وهذه الأسباب نوجزها فيما يلي: فأولاً، كان هناك غياب قيادة لها شعبية جارفة في صفوف المعارضة وتتصف بالفاعلية والالتزام والاصرار عند مواقف معينة، وعدم رغبة عناصر المعارضة التي تحمل هذه الصفات في العمل بحسم في اللحظة المناسبة في مواقف أخري، والاقتناع الساذج أو البريء من جانب قوي المعارضة بأن السلطة قد تبنت عن صدق أهداف المعارضة، وبالتالي تدعيم قيادة السلطة ومساندتها مما أدي إلي التخلي عن إمكانية تطوير قاعدة سياسية واجتماعية مستقلة لقوي المعارضة. ويتصل بهذه النقطة نجاح قيادات السلطة في مصادرة وتأميم شعارات المعارضة في لحظات حرجة وحساسة مما أدي بها إلي كسب القاعدة الشعبية لفصائل المعارضة. وثانياً، فإن العامل الحاسم الذي ساهم في تخلي قيادات الثورة عن تحالفها مع واعتمادها علي قوي المعارضة الثورية الأخري تمثل في أن أيديولوجيات المعارضة ربما كانت معنية أكثر مما ينبغي بالممارسات الديمقراطية الشعبية والاجراءات التي تضمن المشاركة السياسية، وهي أمور ربما كانت تبدو جذابة في نظر القيادة الثورية قبل أو بعد الحدث الثوري ذاته، ولكنها لم تكن مفيدة لتلك القيادة في الوقت الذي كانت تسعي فيه القيادة إلي تعميق وتقوية جذور سلطتها الجديدة عقب انتصار الثورة، فما كانت تحتاجه القيادات في تلك المراحل كان تنظيماً هرمياً ومركزياً قوياً تسوده العقلية التي تعلي من شأن الطاعة والولاء من جانب الاتباع بما يعزز سلطة تلك القيادات بأي وسيلة، وعلي حساب الحقوق الديمقراطية التي وعدت تلك القيادات بها شعوبها في مراحل سابقة. فكانت إذن هذه الشخصيات والمؤسسات مفضلة لديها عن المجالس الشعبيـة أو حرية الحوارات الفكريـة والثقافيـة فيما بيـن الفصائل الاجتماعية والسياسية والفكرية المختلفة التي كان من شأنها بالضرورة عدم مركزية وربما زعزعة استقرار تلك النظم الثورية المشكلة حديثا في ذلك الوقت. وثالثاً، فإن غياب المرونة من جانب قوي المعارضة في تطوير وتكييف برامجها بما يتفق مع التطورات السياسية والاجتماعية المتسارعة خلال وعقب مراحل النضال الثوري شكل عائقاً أمام تأثير قوي المعارضة في الحكم أو حتي مجرد استمرارها. وفي هذا المجال فإن التوجهات المغالية في السجالات الثقافيـة والأيديولوجية والتوجهات الدوجماطيقية والنزعات الفردية لدي فصائل المعارضة داخل مربع اليسار، بما في ذلك التركيز كثيراً علي البعد الاممي، كل ذلك ساهم بوضوح من وجهة نظري وكما ظهر من خلال التحليل الوارد في هذه الدراسة في تدني الدعم لقوي المعارضة أو حتي مجرد التعاطف مع وجودها أو السعي للتحاور معها في صفوف قواعد الحزب وكوادره وتحول المعارضة داخل خندق القوي الثورية إلي مجرد أفكار وآراء يعبر عنها في بعض الأحيان بعض القادة الحزبيين أو الشخصيات النقابية والعامة مع الافتقاد لأي قاعدة اجتماعية. ورابعاً، نجد عوامـل ضعف في المعارضة من داخل صفوف الثورة في روسيا من واقع قراءة كتاب «ضمير الثورة» وغيره من الكتب التي تناولت نفس الموضوع، ومن ذلك الصراعات ذات الطابع الشخصي أو الفصيلي التي دارت، والتي خدمت فقط مصالح السلطة. كذلك فإن تحول مواقف المعارضة بشأن بعض القضايا عبر فترات قصيرة نسبياً من الزمن عني احياناً تحول في مواقف شخصيات وفصائل المعارضة في اتجاه التحالف مع مواقف القيادة في مواجهة فصائل معارضة أخري. كما أن التزام المعارضة في أغلب الحيان واصرارها علي الاستمرار داخل صفوف الحزب اللينيني ساهم بشكل سلبي علي تأثيرها وعلي هامش حرية الحركة المتاح لها كما أثبت في نهاية المطاف أنه يصب لصالح لينين الذي كان في الأساس مناضلا من اجل سيطرة الحزب، كما أثبت هذا الموقف أنه شكل ضربة قاضية للمعارضة علي المدي الطويل. إلا أن فشل المعارضة في الوصول إلي السلطة أو الاحتفاظ بها أو تنفيذ برامجها، أو علي الأقل إقناع القيادة بالقبول بمبادئ تداول السلطة فيما بين القوي الثورية أو التحاور الديمقراطي البناء فيما بينها، لا يجب أن يجعلنا نتجاهل التأثير الفكري والثقافي بعيد المدي لفكر هذه المعارضة، سواء كمثال أو كمصدر للدروس التي يتعلمها أصحاب أيديولوجيات أخري وأتباع حركات سياسية واجتماعية أخري، أو التقليل من دلالاتها العملية علي حدوث هذه التجربة في التعددية الفكرية والسياسية علي أرض الواقع لسنوات في سياق ثورة وتجربة كان الكثيرون عبر العالم يصمونها لعقود بشكل مطلق بالاستبداد والشمولية دون التفرقة بين مراحل تطورها المختلفة ودون الانتباه لتلك المرحلة التي تعرضنا لها هنا والتي يمكن وصفها بربيع الديمقراطية في روسيا السوفيتية، وهو ربيع لم يكتمل.
عقب نجاح الثــورة البلشفية، أي في مطـلع عام 1918، فإن «المعارضــة العمالية» و«الديمقراطيين المركزيين» انتقـدوا تزايد النزعات السلطوية والبيروقراطية في الحزب الشـيوعي، وهو ما تــم تبريره حينـذاك بظروف الحرب العالمية الأولي
بمجيء مطلع عام 1920 قبل مؤتمــر الحــزب مبــدأ التسلسل الهـرمي في الإدارة، وهو ما تزامن مع التوجه نحو مزيد من المركزية. ويُعد هذا القرار تراجعاً واضحاً عن مبــدأ مشــاركة العمــال في إدارة وسـائل الإنتاج
عارض لينين إدخال الإصلاحات الديمقــراطيــة علي الحزب التي طرحتها المعارضــة وأصـر عـلي أن يكـون الحــزب هـو الجهــاز المركـزي الذي يسيطر علي كافة مناحــي الحيــاة
أوضح تروتسكي أن الثـورة الشـعبية المعــادية للرأسـمالية وللإمبريالية في أوروبا هي شرط لبقاء الثورة الروسية والحفاظ عليها. إلا أنه بحلول منتصف عام 1918 بدا لينين ميالا إلي التوصل إلي تسوية سلمية مع المانيــا ومعارضة فكرة الحرب الثورية
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة