ســـاســـة وچنـرالات بين واشــــنطن وبغـــداد!



أولا: نظــــــرية الاستيلاء بـ نصف حرب على العراق! عندما وَصَلْت إلى لندن ــ عائدا من الولايات المتحدة أواخر شهر مايو الماضى ــ كان أول ما سمعته فى العاصمة البريطانية رواية بالتفصيل عن اتصالات جرت ــ وتجرى ــ وقتها بين قصر باكنجهام (مقر الملكة) ــ وبين رقم 10 داوننج ستريت (مقر رئيس الوزراء) ــ وكانت النبرة فى هذه الاتصالات مختلفة عن المعتاد بين المؤســســـــــتين، لأنه كان نقاشـــا بين طــــرفين، كلٌّ منهما له وجهة نظر تعبر عن ضروراته، لكن كلا منهما يعرف لنفسه حدودا لا ينبغى ــ أو لا يصح ــ تجاوزها! كان موضوع الاتصالات أن رئاسة الوزارة ــ احتفالا بنهاية الحرب على العراق ــ تقترح إقامة عرض عسكرى يرمز إلى معنى النصر، وكان رد القصر أن الملكة لا تحبذ إجراء استعراض نصر، وإنما تفضل إقامة صلاة شكر! كانت الملكة ــ فيما يظهر ــ تدرك حساسية الظروف، كما تحفظ عن ظهر قلب حجم السلطة التى تركتها لها تطورات التاريخ الدستورى البريطانى، وما استقر بعدها من أصول وتقاليد تركت للجالس على العرش حقا واحدا لا يملك غيره، وهو «حق النصيحة أو القبول» (Advice and Consent)، وقد مارست الملكة حقها وتركت الباقى للمستشارين فى المؤسستين يتوافقون على قرار يقتنع به رئيس الوزراء وتقبل به الملكة وذلك ما حدث (وزيادة)، لأن رئيس الوزراء رأى فى النهاية أن يؤجل الاحتفالات سواء فى ذلك استعراض النصر ــ أو صلاة الشكر. وكذلك توقفت الاتصالات بين الوزارة والقصر فى هذا الموضوع، وطويت الملفات، لكن الحجج والآراء التى طُرحت خلال تلك المناقشات تساوى أن تُستعاد لأن لها قيمة موضوعية فى حد ذاتها! وفيما سمعت ــ فإن النقاش بين المؤسستين الكبيرتين فى بريطانيا جرى داخل إطار مضبوط ومحكوم. .....................
..................... * عرض مستشارو رئاسة الوزراء فكرة العرض العسكرى احتفالا بالنصر فى العراق. .....................
..................... [ورد مستشارو القصر: ــ إن هذه الحرب على العراق كانت حربا من «طراز معين» لأن «الأمة البريطانية» انقسمت بسببها، ففى حين كان هناك مؤيدون لها بالموافقة (كما تبدى فى حصول الوزارة على تفويض من أغلبية فى مجلس العموم تخولها التصرف كما ترى مناسبا) ــ فإن كتلا ضخمة من الرأى العام البريطانى وقفت ضدها بالمعارضة (كما تبدى من أصوات عالية عبرت عن نفسها فى مجلس العموم وشارك فيها عدد كبير من نواب حزب العمال، إلى جانب خلافات فى مجلس الوزراء ذاته خرجت علنا إلى الناس، وأدت إلى استقالات أو تهديد باستقالات من قيادة الحزب ومن أقطاب الوزارة، ووقع ذلك كله على خلفية مظاهرات كثيفة وحاشدة لم تهدأ حركتها فى لندن وغيرها من المدن البريطانية). .....................
..................... * وعرض مستشارو رئاسة الوزارة بأن هناك الآن فى بعض قطاعات الصحافة وفى الأحزاب البريطانية عملية تشكيك فى الذرائع الأخلاقية والقانونية التى تأسس عليها التدخل العسكرى البريطانى فى العراق، ومن شأن ذلك أن يؤثر على معنويات القوات التى نفذت أوامر صدرت إليها من سلطة شرعية، فإذا عادت القوات البريطانية إلى وطنها فى أجواء صمت (لا يمكن إلا أن يكون ثقيلا!) فإن ذلك قد يعطى إشارة خاطئة إلى أطراف فى الداخل تتوهم أن المملكة المتحدة تستطيع حفظ مصالحها فى العالم بالسلبية أو بالاعتماد والتواكل على الظروف وعلى الآخرين. .....................
..................... ورد مستشارو القصر: ــ إن الوزارة هى التى تملك السلطة اللازمة لكل قرار سياسى، لكن المشكلة أنه حين تتصل القرارات بأمور تخص القوات المسلحة فإن الملكة وهى قائدها الأعلى (ولو بالرمز)، سوف تجد نفسها فى موقف صعب لأنها حينئذ مضطرة للمشاركة، ومعنى ذلك أن الاحتفال سوف يصبح مناسبة وطنية كُبرى، والخشية أن ذلك قد يثير ــ على نحو أشد ــ انقسامات ما قبل الحرب وذلك يضع القوات ــ ويضع الملكة ــ ويضع احتفال النصــر ذاته ــ وســــط جـــدل سياسى لا داعى له. وفكرة صلاة الشكر التى طرحها القصر (بدلا من استعراض النصر) تحتضن القوات العائدة من العراق ــ وتكســـر الصمــــت ــ دون أن تســـتفز الجـــــــدل!. .....................
..................... * وعرض مستشارو رئاسة الوزراء أن المسألة لها بُعْد خارجى يتصل بالرأى العام الدولى، لأن بلدانا كثيرة ــ تهتم بما يجرى وتتابعه ــ سوف تلتفت إلى الطريقة التى تتصرف بها بريطانيا وهل تبدو واثقة من سياساتها؟ ــ أم أن الوساوس تعتريها، ولهذا فإن فكرة العـــرض العســـكرى بالنصـــــر تبين للجميع أن بريطانيا كانت تعرف ما تفعل، وأنها قامت به متحملة لكامل مسئوليته. .....................
..................... ورد مستشارو القصر: ــ إن تجنب الإلحاح على ما كان قبل الحرب مسألة تساوى إطالة التفكير، لأنه من الأفضل ترك ما جرى قبل الحرب لظروفه دون استعادة لأجواء الانقسام فيه والاستقطاب. ومن المناسب النظر فى بعض الاعتبارات: ــ إن الحرب على العراق جاءت وسط أجواء تضاربت فيها المواقف داخل الأمم المتحدة، فقد كانت هناك أغلبية محققة فى مجلس الأمن رأت أن القرار 1441 لا يخول للولايات المتحدة والمملكة المتحدة سلطة شن الحرب على العراق دون قرار جديد من المجلس، ومع أن «الحلفاء» حاولوا الحصول على مثل هذا القرار فإنهم لم يوفقوا، وقرروا شن الحرب على مسئوليتهم، وبعدها حاولوا سد النقص وترميم صورة الشرعية الدولية. ــ إن الانقسام الذى ظهر فى «الأمة البريطانية» وفى «مجلس الأمن» بشأن هذه الحرب ــ رافقه تردد دولى إزاء الحرب على العراق بصرف النظر عن النظام الحاكم فى ذلك البلد، وكان هناك نوع من الإلحاح الواسع على أفضلية عودة المفتشين الدوليين برئاسة «هانز بليكس» إلى العراق، لكن قرار مجلس الأمن تعطل لأسباب مختلفة ــ مع أن قضية الحرب والسلام تحتاج فى نظر الرأى العام العالمى إلى ضمانات وقيود تفرض على السلاح أن يكون منطقيا (حتى ولو لم يكن عادلا!). .....................
..................... * وعرض مستشارو رئاسة الوزارة: ــ أنه بصرف النظر عن الانقسامات التى سبقت، فإن الحرب وقعت بالفعل وسقط فى معاركها جنود بريطانيون تحت العلم البريطانى، ورغم أن عدد الضحايا البريطانيين فى الحرب محدود فإن القوات قبلت مخاطرة الدم دفاعا عن المصالح البريطانية، والاحتفال بإقامة عرض عسكرى للنصر ــ فيما إذا استقر الرأى على ذلك ــ موجه إلى تكريم هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم وليس موجها إلى الملابسات السياسية لقرار الحرب، فالتكريم مطلوب للتضحية حتى وإن احتدم الخلاف على الدواعى. ــ إن العلاقات الخاصة بين بريطانيا وبين الولايات المتحدة الأمريكية ــ وهى حقيقة تاريخية إلى جانب كونها ضرورة وطنية (!) ــ تفرض على حكومة صاحبة الجلالة أن لا تترك الحليف الأمريكى وحده فى مواجهة قوى فى مجلس الأمن تعارضه، بدافع من مصالحها الضيقة، أو من رغبة لديها فى تحجيم نفوذه والتصدى له، وكلا السببين لابد أن يدفع بريطانيا أكثر إلى مساندة الولايات المتحدة الأمريكية. ــ إن الولايات المتحدة ــ منفردة ــ تملك القوة التى تمكنها من التصرف فى الأزمة التى نشبت فى العراق، بصرف النظر عما إذا كانت بريطانيا إلى جانبها أو بعيدة عنها، مع العلم أن التصرف الأمريكى هذه المرة يجيء فى منطقة شديدة الأهمية بالنسبة لبريطانيا سواء من ناحية المصالح الإستراتيچية والاقتصادية أو من ناحية النفوذ السياسى ــ وهى منطقة الخليج. .....................
..................... ورد مستشارو القصر: ــ أن هناك تقديرا كاملا للأسباب التى أوردها مستشارو رئاسة الوزارة، بمعنى أنه كان هناك بالفعل قرار بريطانى بالمشاركة فى الحرب جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكان هناك على الأرض ضحايا بريطانيون أعطوا حياتهم تحت العلم البريطانى، ولذلك فإن الاقتراح الذى قدمه القصر بإقامة صلاة شكر يمكن اعتباره احتفالا لائقا يغطى كافة الاعتبارات، مع أفضلية اقتصار الاستعراضات العسكرية على ما يمكن اعتباره ــ بالإجماع ــ قضايا كبرى وعلامات بارزة فى التاريخ البريطانى!. .....................
..................... [وفيما بعد تفجر هذا النقاش ساخنا وملتهبا فى العاصمة البريطانية ــ وقد وصل الآن إلى حد تهديد مركز «تونى بلير»، بما فى ذلك دوره فى التاريخ (وكان بحسب ما نقل عنه يعلق جزءا كبيرا منه على الحرب ضد العراق)]. .....................
..................... وبصرف النظر عن ذلك النقاش سواء فى مرحلة حصره بين القصر ورئاسة الوزراء ــ أو فى مرحلة انفلاته إلى ساحة الحياة العامة الواسعة فى بريطانيا داخل البرلمان وخارجه، فإن هناك شبه اتفاق على أن ذلك الذى جرى فى العراق كان عملية من «طراز معين» يصعب الاحتفال بعدها بنصر، لأنها عملية يصعب من الأصل وصفها بـ: حرب. وكان ذلك صحيحا إلى أقصى الحدود، وأول الأسباب أن ذلك الذى جرى فى العراق ــ وبرغم حركة الجيوش والأساطيل، وبرغم الرعد والبرق أثناء الضرب والقصف ــ لم يكن «حربا» بالمعنى المعروف والمتفق عليه، بل لعله كان أقرب إلى عملية «إغارة» قامت بها «مجموعة مصالح» سبقت القوة الإمبراطورية للولايات المتحدة وسحبتها وراءها إلى ميادين قتل بدون تهديد مُحْتَمل أو حقيقى لأمن الولايات المتحدة، وبدون ذرائع قانونية وأخلاقية مقبولة ــ بل وفى غيبة الضوابط والموازين المؤسسة للحرية الأمريكية. .....................
..................... [وهذه نقطة مبدئية بصرف النظر عن كل ما يوجه للنظام السابق فى العراق، ويُعاب عليه! ــ لأن حساب ذلك من أوله إلى آخره لم يدخل فى دواعى القوة الإمبراطورية الأمريكية عندما قررت الانقضاض على العراق، ولم يكن فى حساب التقدير الأمريكى ما يساوى المخاطرة من أجله بحياة جندى واحد]. .....................
..................... والحقيقة أن وصف «الإغارة» هو الأقرب إلى الصحة، مع العلم بأن تعبير «الإغارة» كان فى يوم من الأيام فعلا عسكريا، لكنه الآن تعبير تعددت استخداماته خارج القاموس العسكرى، ولعله شاع على نحو ملحوظ فى أسلوب عمل الشركات الدولية الكُبرى العابرة للقارات والمحيطات فى مواجهة عناصر المنافسة أو عناصر المضايقة التى تعترض طريقها فى السوق، ومن ثم يكون عليها «ترتيب الأمور» معها ــ بقدر ما تتمكن. .....................
..................... [وفى تقدير العارفين وخبرتهم أن الشركات الدولية الكبرى تقسم منافسيها إلى ثلاث درجات: ــ منافسين أقوياء: وهؤلاء يستحسن التوصل معهم إلى اتفاق يقسم بينهم احتكار سوق معينة (وذلك ما فعلته شركات البترول الكبرى فى العالم، خصوصا تلك المجموعة التى تسمى «الأخوات السبعة» The Seven Sisters حسب عنوان الكتاب الذى وضعه الصحفى البريطانى الشهير «أنتونى سمبسون». ــ ومنافسين أقل قوة: وهؤلاء يصلح معهم أسلوب «الاستيلاء الودى»، أى إغراءهم بالبيع والاندماج وفق شروط متفق عليها تخفف أعباءهم وتساعد على زيادة أرباحهم (ونموذج ذلك ما نَجَمَ عن دمج شركة «تايم» مع شركة «سى إن إن» مع شركة «وارنر» ــ داخل إطار مجموعة «أمريكا أون لاين»). ــ ومنافسين ضعفاء: يغامرون بمضاربات يأس تؤدى إلى إرباك السوق وإقلاق الوكلاء واعتراض سلاسة إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها، وهؤلاء لابد من إزاحتهم (وذلك ما فعلته مثلا شركة «آى بى إم» للحاسبات الإلكترونية مع منافسين دخلوا السوق بغير موارد تسندهم، معتمدين على منطق المضاربة والمغامرة)، والأسلوب الأمثل لمواجهة هذا النوع من المنافسين هو «الاستيلاء العدوانى» عليهم (وليس «الاستيلاء الودى»)]. .....................
..................... [وفى تقدير العارفين وخبرتهم ــ أيضا ــ أن «الاستيلاء العدائى» هو بذاته أسلوب «الإغارة» وهو فى ميدان المصالح والمنافع ــ إجراءات كيدية، برعت فيها الشركات العملاقة وأتقنت ممارستها. وبصفة عامة فإن «الاستيلاء العدائى» على منافسين صغار أو مزعجين، ميدان مفتوح للرماية الحرة. ــ فهناك مثلا حصار هؤلاء المنافسين فى السوق، وتضييق الخناق على المتعاملين معهم: وكلائهم أو زبائنهم. ــ وهناك مثلا نشر الإساءات إلى مستوى منتجاتهم من سلع أو خدمات، وإظهار قصورها إزاء السعر الذى يُدفع فيها. ــ وهناك مثلا تشويه سمعتهم بنسبة الغش فى المواصفات إلى ما ينتجونه من سلع وخدمات (وقد وصل الأمر أحيانا ببعض شركات المشروبات الكُبرى إلى وضع حشرات فى زجاجات مشروب منافس، ثم ترتيب ضبط زجاجة منها ــ ينكشف أمرها بوسيلة من الوسائل وتكون الفضيحة أمام جمهور المستهلكين). ــ وهناك مثلا الضغط على شركائهم (إن وجدوا) ــ واستمالة محاميهم الموكَلين بالدفاع عنهم ــ وإغراء موظفيهم بإفشاء أسرارهم وكشف أوراقهم. ــ وهناك مثلا الدخول معهم ــ مباشرة أو بالوساطة ــ فى منازعات قضائية أو غير قضائية تشغلهم وتستغرق جهدهم وأعصابهم، وتستنفد صبر المحامين والقضاة ــ والمحلفين أيضا. ــ وهناك مثلا حصارهم فى السوق عن طريق البنوك لتشتد الضائقة وتخنق. ــ وهناك فى النهاية وكحل أخير استخدام أسلحة عمل مباشر فيها تدبير الإضرابات، والتحريض الخفى على تصرفات خشنة يتدخل فيها مثيرو الشغب والبوليس ــ حتى تصبح الحياة الطبيعية من شبه المستحيلات! والمهم فى هذا كله ــ وفى شأن الضعفاء غير المؤهلين للشراكة (أو المتوسطين غير القابلين بفكرة «الاستيلاء الودى») ــ هو «الإغارة» بقصد الإزاحة إلى الحافة: إما الاستسلام ــ أو الإفلاس ــ أو ما هو أسوأ!]. .....................
..................... وفى السياق العام لإزاحة الضعفاء فإن أسلوب «الاستيلاء غير الودى» أو أسلوب «الإغارة» ــ والذى بدأ عسكريا ثم شاع ماليا، ثم مورس بواسطة الشركات العملاقة ــ وصل بعد رحلة من التجارب إلى مؤسسات التفكير السياسى والإستراتيچى التى أصبحت مقرا لصنع القرار الأمريكى، وقامت هذه المؤسسات على فلسفته وتطوير استخداماته لحساب التحالف الثلاثى المنشئ لهذه المؤسسات (المال والفكر والسلاح). وفى هذا الإطار فإن المجموعة الإمبراطورية الجديدة ــ التى قام عليها رجال من أمثال «ريتشارد تشينى» (نائب الرئيس الحالى)، و«دونالد رامسفيلد» (وزير الدفاع)، و«ريتشارد بيرل» (رئيس مجلس سياسات الدفاع)، و«بول وولفويتز» (مساعد وزير الدفاع)، وآخرين غيرهم ــ أخذت هذا الأسلوب وطبقته على أوسع وأكفأ نطاق، ابتداءً من الاستيلاء على نتائج الانتخابات الرئاسية ــ ثم الاستيلاء على الإدارة الجمهورية التى دخلت البيت الأبيض باعتبار هذه النتائج، ثم الاستيلاء على سلطة القرار فى البيت الأبيض ــ ثم محاولة الاستيلاء على القرن الحادى والعشرين كله. ومع بداية هذا القرن الحادى والعشرين بدا ظاهرا أن المجموعة الإمبراطورية التى استولت على الرئاسة ــ والإدارة ــ والبيت الأبيض ــ فى عجلة من أمرها، مقتنعة بأنها إذا لم تستطع الإمساك بالفرصة السانحة بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتى، كى تحول هذه الفرصة إلى حقيقة حياة وبداهة أمر واقع ــ فإن الظروف قد تتغير ويظهر منافسون جُدد للولايات المتحدة (خصوصا فى أوروبا وآسيا). ــ وكان إحساس هذه المجموعة الإمبراطورية الجديدة أن القوة الأمريكية الناعمة (على حد تعبير «چوزيف ناى» أستاذ جامعة هارفارد الشهير، وهو يقصد به تأثير أسلوب الحياة الأمريكية وقيم الحرية الأمريكية) ــ لم تعد قادرة على أداء دورها فى القرن الجديد (كما فعلت فترة ما بين الحربين العالميتين فى النصف الأول من القرن العشرين). ــ وكذلك فإن هذه المجموعة الإمبراطورية أصبحت مقتنعة بأن القوة الخفية للولايات المتحدة ــ متمثلة فى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وأخواتها ــ لم تعد كافية ــ الآن ــ للإمساك بفرصة هذه اللحظة، لأن العمل السرى بطبيعته يحتاج إلى وقت، ويحتاج إلى صبر، وذلك كله ليس متاحا من وجهة نظر المجموعة الإمبراطورية الجديدة. وفى المحصلة فإن هذه المجموعة الإمبراطورية توصلت إلى أن تنفيذ مشروعها للقرن الحادى والعشرين يحتاج ــ حتما ــ إلى القوة الخشنة للولايات المتحدة ــ أى سلاح العنف! وبطبيعة التكوين والثقافة والتجربة فإن هذه المجموعة الإمبراطورية الجديدة كانت تعرف ما فيه الكفاية عن أساليب «الاستيلاء العدائى» (خلافا للاستيلاء الودي) على المنافسين، وبثقافة التجربة والدرس فقد خطر لها أن هذا الأسلوب يمكن نقله من مجال الشركات العملاقة إلى مجال القوى العظمى. وكذلك كان مطلب «الاستيلاء» بأسلوب «الإغارة» حلا طرح نفسه للعمل فى الشرق الأوسط وهو المنطقة التى اعتبرتها المجموعة الإمبراطورية الجديدة (وربما كل مشروع إمبراطوري) سوقا أهم ــ وسلعة أغلى ــ وموقعا فاتحا لكل الطرق، وكان الإغراء الأكبر أن العراق فى وسط تلك المنطقة يلوح هدفا جاهزا مكشوفا وسهلا. .....................
..................... ــ وكذلك تقرر تجربة عملية «الاستيلاء غير الودى» ــ بأسلوب الإغارة ــ على العراق، وكان ذلك ما جرى بالفعل: ــ ولم يكن أسلوب «الإغارة» حربا مسلحة كاملة بتقاليد الحروب المسلحة المعروفة فى التاريخ. ــ ولم يكن مؤامرة بالمعنى التقليدى للمؤامرة (كما فعل أطراف العدوان الثلاثى فى السويس سنة 1956، حين وقعوا اتفاقا مكتوبا على شكل معاهدة تواطئوا فيها سرا على تدبير هجومهم الثلاثى على مصر فى أعقاب تأميم قناة السويس). ــ ولم يكن حملة نفسية وضغطا على الأعصاب تقنع الآخرين بأن يبتعدوا عن الطريق ويقعدوا على أرصفته. وإنما كان ــ حتى باستقراء النقاش الذى دار بين مستشارى قصر باكنجهام وبين مستشارى رئاسة الوزارة فى بريطانياــ عنفا من نوع معين ــ غارة على العراق لا تتصاعد إلى مستوى الحرب الشاملة، ولا تقتصر على محاولة القتل المباشر! كانت الولايات المتحدة الأمريكية طوال حقبة التسعينيات من القرن العشرين تتصور أن النظام فى العراق سوف يقع يقينا نتيجة لذلك الوهن الذى أصابه بعد حرب ثمانى سنوات مع إيران، ومن ذلك الجرح الغائر الذى أصابه من ضربة تحالف دولى واسع نجحت الولايات المتحدة فى حشده سنة 1990، مستغلة خطأ فادحا وقع فيه ذلك النظام حين قرر دخول الكويت، متجاوزا خطوطا دولية حمراء غير قابلة للمساومة. وحين لم يكف الوهن ــ ولم يكف الجرح ــ فى إسقاط النظام، فإن السياسة الأمريكية اعتمدت سياسة الخنق البطيء عن طريق أقسى حصار اقتصادى ونفسى ومعنوى وإنسانى فى التاريخ، وبالتوازى مع الحصار الاقتصادى تم فرض حصار سياسى شديد الصرامة، حتى أصبح العراق فى عُزْلة موحشة عن عالمه. لكن النظام برغم ذلك ظل يقاوم (كما يفعل منافس محلى يائس أمام شركة عملاقة تطلب السيطرة على السوق)، وكان الأخطر من المقاومة السلبية أن النظام فى بغداد راح يحاول التملص من الحصار الشامل، وبالفعل فإنه جازف (فى السوق) بتصرفات، بدت نوعا من التحدى المباشر للشركة الأمريكية العملاقة: 1ــ راح يوظف أسطولا جرارا من الشاحنات والناقلات فى تهريب كميات هائلة من النفط (قاربت 2 مليون برميل يوميا) وجدت طريقها إلى تركيا شمالا، وإلى الأردن وسوريا غربا، وإلى الخليج جنوبا ــ أى أن ثغرة فُتحت فى الحصار. (ومعنى ذلك أن النظام فى العراق يستطيع أن يلتقط أنفاسه). 2ــ ثم راح ذلك النظام يلفت الأنظار ــ بكفاءة ــ إلى المأساة المروعة التى يتعرض لها شعب العراق بسبب قسوة وصرامة الحصار المفروض عليه، واستطاعت قضية معاناة الشعب العراقى ــ وكانت مرئية ظاهرة أمام العرب والعالم ــ أن تخلق طاقة من التعاطف الهائل، وكان هذا التعاطف هو الذى فرض على الأمم المتحدة إيجاد وسيلة للتوفيق بين القسوة الأمريكية على العراق وبين التعاطف الواسع مع شعبه، وكانت النتيجة برنامج النفط من أجل الغذاء، الذى يسمح للنظام فى العراق بتصدير نصيب من نفطه تحت إشراف الأمم المتحدة، واستخدام العائد فى استيراد سلع ضرورية لا يصح أن تخضع لحصار. (ومعنى ذلك أن النظام فى العراق أقدر على الصبر). 3 ــ ثم راح النظام فى العراق يستعمل (وبذكاء) برنامج النفط من أجل الغذاء فى إنشاء شبكة مصالح عربية ودولية، وحدث بالفعل أن دولا غربية وشرقية وعربية كثيرة تسابقت إلى اتفاقيات مع العراق طبقا لبرنامج النفط من أجل الغذاء (كما يحدث الآن من سباق نحو سلطة احتلال العراق فى طلب نصيب من عقود إعادة إعمار العراق!!). ونتيجة لشبكة المصالح الدولية والعربية التى قامت على استغلال برنامج النفط مقابل الغذاء، فإن النظام فى العراق جعل من ذلك البرنامج أداة تأثير سياسى، يساعد التأثير العاطفى، ومن ثم يخلق مناخا عاما مواتيا. (ومعنى ذلك أن النظام فى العراق يكسب أرضا). 4ــ ثم راح النظام يمنح عقودا مستقبلية، يوزع بها اتفاقيات إنتاج ونقل وتكرير ملايين من براميل النفط يوميا ــ على منافسين كبار للولايات المتحدة (روسيا ــ فرنسا ــ ألمانيا وغيرها). (ومعنى ذلك أن النظام فى العراق يهيئ لعلاقات دولية متجددة ومفيدة). 5 ــ ثم راح النظام أخيرا يعلن وينفذ إعلانه ــ بأنه لن يبيع إنتاجه من النفط «بالدولار»، وإنما «باليورو»، وهو وعاء العملة الدولية الوحيدة الذى يقدر يوما (فى المستقبل) على الوقوف أمام «وعاء الدولار»، الذى يجتذب الآن معظم المدخرات ومعظم الاستثمارات الدولية، ويجعلها ــ بمجرد وجودها فى وعاء الدولار ــ بمثابة قروض للاقتصاد الأمريكى دون فوائد! (ومعنى ذلك أن العراق ينتقل من الدفاع إلى درجة من المبادرة). وبدت هذه التصرفات فى مجملها وكأن المنافس (المحلى) وهو المطلوب إزاحته ــ يعلن يوما بعد يوم أنه مازال يملك مجالا للمناورة يضيف إلى قدرته على الشغب السياسى (من وجهة نظر أمريكية). وزادت على ذلك ظاهرتان: ــ أن النبرة الإسلامية للنظام فى العراق ارتفعت وسط عالم عربى نزلت فيه الأعلام القومية وتراجعت الأفكار الوطنية، وبدا أن حصون الدين هى المعقل الأخير للمقاومة. ــ ثم إن النظام فى رغبته لاستثارة المشاعر القومية والوطنية ــ أخذ قضية الأمن العربى وراح يطلق أكثر النداءات تشددا فى العداء ضد إسرائيل فى أجواء تعثرت فيها مسيرة السلام أو ما سُمى كذلك. ومعنى ذلك أن النظام العراقى (منافس محلي) ــ مازال يعاند ويكابر، ومازال يجد الفرص ويفتح الثغرات ويمد الجسور (عاطفية وسياسية واقتصادية)، حتى يزيد من قدرته على البقاء (وقد بقى فعلا حتى شهد انقضاء رئاستين أمريكيتين هما رئاسة «بوش» (الأب) - ثم رئاسة «بيل كلينتون» لمدتين (من 1992 حتى 2000)، مع إحساس يلح على واشنطن بأن النظام العراقى يستطيع أن يبقى حتى يرى نهاية رئاسة «بوش» (الابن). ولم تكن المجموعة الإمبراطورية الجديدة مستعدة للانتظار، وفى تصميمها أن الوقت قد جاء لعملية «الاستيلاء غير الودى» (العدائي) ــ على العراق، والإغارة عليه بالقوة الخشنة ــ وبالعنف ــ وبالنار، حتى وإن جرى ذلك فى منطقة هى بالطبيعة مخزن لهب! .....................
..................... كان ذلك واضحا قبل 11 سبتمبر سنة 2001. وبعد 11 سبتمبر 2001 ــ فإن المجموعة الإمبراطورية الجديدة فقدت شهية مواصلة حرب ضد الإرهاب اندفعت إليها بعد حوادث نيويورك وواشنطن، فقد اكتشفت أن العدو الذى استهدفته على عجل وهو تنظيم القاعدة موجود فى بلد ليست فيه أهداف تستحق الضرب بالصواريخ (أفغانستان)، ولم يعد هناك كذلك ــ أيضا ــ وقت لتحالفات دولية أوسع ضد الإرهاب الدولى حيث كان. وقبل هذا وبعده فإنها لم تعد تملك الأعصاب التى تساعدها على الوقوف ساكتة فى انتظار عمـــل ترتبه أجهزة العمل الخفى للسياسة الأمريكية (مثل وكالة المخابرات المركزية). ومعنى ذلك أن قوة السلاح الأمريكى ــ هنا والآن ــ وبأسلوب «الإغارة» (وربما بزيادة محسوبة فوقه) ــ عليها الدور الآن ــ والمسئولية على عاتقها، خصوصا أن مجمل الظروف الإقليمية والعالمية لا تقتضى حربا كاملة شاملة. وفى هذه اللحظة ــ ومع الحاجة الضرورية إلى «شيء من الحرب» (نصف حرب) ــ ظهر عنصر جديد فى التأثير على القرار فى واشنطن، وهو القوات المسلحة الأمريكية، فهى المطالبة أو المكلفـــة باختصـــاص الســـلاح فى أى مهمة، حتى ولو كانت مجرد إغارة تســـتخدم قوة النيران ــ أى شيء من الحــــرب ــ «نصـــف حـــرب» على الأكثر! ــ وهنا كان دخول القوات المسلحة فى حد ذاته مســـألة معقـــدة لها حســـابات عويصة! ثانيــــــا:المؤسسة العسكرية الأمريكية ومن المُلاحظ أن كثيرين فى العالم وفى الولايات المتحدة ذاتها لا يفكرون بالقدر اللازم فى الدور الذى تقوم به المؤسسة العسكرية الأمريكية، وفى العادة فإن المراقبين فى الداخل والخارج تأخذهم حيوية التفاعلات السياسية ما بين البيت الأبيض والكونجرس، وما بين الإدارة ــ جمهورية أو ديمقراطية ــ وبين الإعلام مكتوبا أو مسموعا أو مرئيا ــ لكن أحدا لا يشغل نفسه كثيرا بدور المؤسسة العسكرية فى عملية صنع وصياغة القرار السياسى الأمريكى، خصوصا عندما يكون فيه للسلاح دور. وعلى وجه اليقين فإن الولايات المتحدة ليست بلدا محكوما بالعسكريين، بل العكس فإنها البلد الأكثر تقدما نحو الحرية والديمقراطية، لكن ذلك لا يمنع ــ بل لعله يدفع ــ إلى دور رئيسى للمؤسسة العسكرية، ففى فلسفة الحرية أن القانون عمادها، وفى فكرة القانون أن احترامه مرهون بسلطة تفرض طاعته، وهنا يجيء دور القوة كملاذ أخير للحرية وللقانون معا (وفى الشأن الداخلى كما فى الشأن الخارجي). * وبدون زيادة فى التفاصيل لا يحتاج إليها الموضوع هذه اللحظة، فإن التجربة التاريخية لنشأة وقيام الدولة الأمريكية اقتضت بناء قوات مسلحة قادرة على ضبط جموح جماعات المهاجرين والمغامرين والباحثين عن الثروة بأى وسيلة، والمدججين بالسلاح فى كل وقت ــ ثم إن هذه القوات المسلحة كان لابد لها من طاقة نيران تتفوق بشدة على كل ما لدى عناصر المجتمع الأمريكى المتسابقة والمتزاحمة والمتصارعة فى ظروف تأسيس الدولة. ومعنى ذلك أن الولايات الناشئة فى القارة الواسعة احتاجت إلى الجيوش منذ لحظة الخلق الأولى (وليس كما حدث فى مجتمعات تقليدية حيث تأخرت نشأة الجيوش النظامية لأن حفظ الأمن وكفالة الحق كان موكولا إلى رؤساء العائلات والقبائل، وإلى أمراء الإقطاع والملوك، حتى نشأت «الدولة» الحديثة وأصبح لها جيش محترف)، أى أن ما استغرق قرونا فى أوروبا ــ تحقق خلال عقود فى أمريكا بحكم الظروف والضرورات. * وحين قامت حركة الاستقلال الأمريكى وتحولت إلى واحدة من أهم ثورات التحرر فى العالم وأوسعها تأثيرا، فإن قيادة هذه الثورة كانت بالضرورة للچنرال «چورچ واشنطن» الذى يعتبر حتى اليوم ــ وإلى الأبد ــ بطل الاستقلال الأمريكى، وأول رئيس للجمهورية فى الولايات المتحدة. وبعد الاستقلال فإن المخاطر على الولايات المتحدة لم تتوقف، لأن القوى الأوروبية الكُبرى كانت لاتزال على أرض القارة الأمريكية تحاول استرداد نفوذها واستعادة غنائمها، وكان ذلك نذيرا يفرض على الدولة الأمريكية المستقلة حديثا أن تأخذ حذرها وراء قوات مسلحة تحمى استقلالها الوليد، (وقد وصلت التهديدات إلى حد أن الجيش البريطانى كر فجأة واحتل واشنطن سنة 1812 ــ أى بعد الاستقلال بقرابة عشرين سنة!). * وحين بدا ــ مع منتصف القرن التاسع عشر ــ أن آمال المستقبل تفرض وِحدة الولايات المتحدة فى أمريكا الشمالية ضمن إطار دولة واحدة قوية تقدر على مواجهة أزمنة وعصور متغيرة، فإن الولايات المتحدة عاشت تجربة الحرب الأهلية بكل آلامها ومراراتها وعذاباتها، وتلك تجربة أشد عمقا وأقسى فى التأثير على غرائز وضمائر البشر! وكانت الحرب الأهلية الأمريكية بين جيشين: شمالى وجنوبى، وأصبح قادتها على الناحيتين أساطير فى التاريخ الأمريكى (الچنرال «لى» والچنرال «جرانت» وغيرهما)، وحتى هذه اللحظة فإن تجربة الحرب الأهلية ومحنة الاقتتال الداخلى لفرض وحدة البلد ــ مازالت ذكرى حية وقصة عظيمة (ألهمت المسرح والسينما بآلاف الأعمال والروائع). * وكان كبار العسكريين الأمريكيين (من البحرية خصوصا) هم الذين حرضوا على إستراتيچية الذهاب إلى خط الماء الآخر، أى أنه إذا كان الآباء المؤسسون للدولة قد اعتبروا أن الأمن الأمريكى هو عرض القارة من خط الماء إلى خط الماء (من شاطئ الأطلنطى إلى شاطئ الباسيفيكي) ــ فإن الضرورات الآن ــ أواخر القرن التاسع عشر ــ تقتضى الخروج عبر المحيط، لأن الدفاع عن البيت عند بابه ــ قِصَر نظر، فالقوى تدافع عن نفسها هناك عند شواطئ الآخرين قبل أن يعبروا البحر وليس عند شواطئها، وهكذا جرى خروج الأسطول الأمريكى (جنود البحرية) إلى جزر «هاواى»، ثم إلى «الفيلبين» (والالتفاف حول اليابان للحصول على مستعمرة تثبت وجودا أمريكيا على شاطئ بحر الصين قرب «شانغهاى» مثلها مثل القوى الأوروبية الكُبرى فى ذلك الوقت) ــ وجرى نفس الشيء فى المحيط الأطلسى فقد وصل الأسطول الأمريكى مبكرا واحتل جزر وسط المحيط ووصل إلى شواطئ المغرب مطلا على البحر الأبيض (حتى مر على شواطئ ليبيا وأطل على شواطئ مصر). * ثم أعقب ذلك أن الجيوش الأمريكية شاركت على نحو كثيف فى حربين عالميتين (وقعتا فى النصف الأول من القرن العشرين)، وكانت تلك صراعات حياة أو موت بين الإمبراطوريات الأوروبية القديمة والمستجدة ــ وكانت الولايات المتحدة الأمريكية فى النهاية وارثا وحيدا لأملاك وأحلام الجميع. ولما كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت بالسلاح النووى الذى سبقت إليه واستعملته الولايات المتحدة ــ فإن هذه القوة الجديدة أخذت أمر العالم ومستقبله فى يدها، وجعلت مصائره مرهونة بسياساتها، ولم يكن باقيا لها فى تلك الظروف غير التخلص من قوتين خرجتا بعد الحرب العالمية الثانية، تحاول ــ كلا منهما ــ أن تعطى نفسها أقصى درجة من استقلالية القرار: ــ الاتحاد السوفيتي: بقوة رادع نووى يملك أن يرد حتى وهو يلتقط نفسه الأخير. ــ ثم حركة التحرر الوطنى فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية: بقوة حلم يطلب الاستقلال والتنمية والتقدم ــ ويستطيع أن يشعل الأرض نارا من «چاكارتا» إلى «كازابلانكا». وكان هؤلاء أطراف ما سُمى بالحرب الباردة، التى أعقبت أكثر الحروب سخونة فى التاريخ (الحرب العالمية الثانية التى انتهت باستعمال السلاح النووي). وطوال تلك المرحلة كان العسكريون الأمريكيون على القمة فى الولايات المتحدة الأمريكية، فهم أولا قواد النصر الكبير ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والألمانية. ثم إنهم ــ ثانيا ــ حُراس القوة النووية التى تم التوصل إليها تحت إشراف الجيش الأمريكى وإدارته. وفضلا عن ذلك ــ ثالثا ــ فإن هؤلاء القادة موجودون فعلا بجيوشهم فى أهم مواقع أوروبا وآسيا والبحر الأبيض شمالا وجنوبا، فهناك على هذه المواقع خاضوا الحرب وصنعوا النصر ولم يتجاسر أحد بعدها أن يطالبهم بانسحاب، بل إن بعض الأقاليم فى أوروبا وآسيا بدت شديدة التمسك ببقاء القوات الأمريكية (إحساسا بالضعف وخشية من الاختراق بجاذبية العقائد أو وهج الأحلام). وفى لحظة من اللحظات كان ثلاثة من كبار قواد الحرب الأمريكية يحكمون العالم تقريبا: ــ فى «واشنطن» كان الچنرال «چورچ مارشال» (وزير دفاع «روزفلت») قد انتقل إلى وزارة الخارجية (فى عهد خلفه «ترومان») طارحا المشروع الذى سُمى باسمه (مشروع مارشال) لإعادة تعمير وبناء أوروبا الغربية. ــ وفى باريس كان الچنرال «دوايت أيزنهـــاور» قائدا عـــاما للجيـــوش المتحــالفة التى واجهت الاتحاد السوفيتى عبر الستار الحديدى (على حد وصف رئيس الوزراء البريطانى «ونستون تشرشل»). ــ وفى طوكيو كان الچنرال «دوجلاس ماك آرثر» وصيا على إعادة تأهيل اليابان، وقيما على ترتيب أوضاع آسيا بما يناسب الولايات المتحدة الأمريكية فى زمن جديد، وكان إمبراطور اليابان يتلقى تعليماته من ذلك العسكرى الأمريكى المستعلى ــ دون اعتراض لأن إشعاعات القنابل النووية التى ألقيت على هيروشيما ونجازاكى كانت لا تزال تقتل الآلاف من رعايا الإمبراطور مع كل طلعة شمس وهبة ريح! .....................
..................... والمعنى أن العسكريين الأمريكيين الكبار كانوا هم الذين أشرفوا على وضع خطوط السيادة الأمريكية الزاحفة: ــ وحين اصطدمت خطط «أيزنهاور» فى أوروبا بالستار الحديدى، فإن الرجل بمرونة شديدة أدرك أن عليه حجز الأحزاب الشيوعية عن الوصول إلى مواقع الحكم فى أوروبا الغربية، وكذلك فإنه منع بالقوة المباشرة أى احتمال لقيام الحزب الشيوعى الإيطالى بالاستيلاء على السلطة فى روما رغم أنه كان أقوى الأحزاب، وكرر نفس الشيء فى فرنسا مستعينا بوكالة المخابرات المركزية الناشئة فى ذلك الوقت، وكان مديرها العام فى ذلك الوقت هو نفسه رئيس أركان حرب «أيزنهاور» السابق ــ الچنرال «بيدل سميث». (ووصل «أيزنهاور» و«بيدل سميث» إلى حد تعريض أوروبا للحرب الأهلية حتى تيأس الأحزاب الشيوعية، وبالفعل وصلت اليونان وبعدها المجر وألمانيا الشرقية وبولندا ــ إلى حافة الحرب الأهلية). ــ وأما «ماك آرثر» فإنه تعثر فى الطريق، ربما لأنه أساء تقدير قوة الصين (ونوعية علاقتها مع الاتحاد السوفيتي)، وتورط فى حرب إقليمية وسط شبه الجزيرة الكورية، ووجد نفسه أسير مأزق مخضب بالدم دعاه إلى التفكير فى استعمال السلاح النووى ضد الصين، لولا أن الرئيس «هارى ترومان» سارع إلى عزله مؤيدا ــ فى قراره ــ برئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة. وعندما أخذ المشروع الإمبراطورى الأمريكى يتحرك بجد إلى مقاصده فى ظروف دولية مناسبة ــ فإن أنصاره ومعظمهم فى الحزب الجمهورى قرروا أن الچنرال «دوايت أيزنهاور» هو رجل الساعة الذى ينبغى أن يرأس الولايات المتحدة فى هذه الفرصة. وفى ظرف سنتين اثنتين كان «أيزنهاور» قد ترك قيادته فى باريس (لنائبه الچنرال «عمر برادلى»)، وأصبح رئيسا لجامعة كولومبيا فى نيويورك كمرحلة انتقالية تؤهله للحياة المدنية، فلا يدخل فجأة إلى المكتب البيضاوى قادما مباشرة من قيادة عسكرية! وفى انتخابات الرئاسة ــ نوفمبر 1952 أى بعد سبع سنوات على نهاية الحرب العالمية، وسنتين على التأهل للحياة المدنية ــ كان الچنرال «دوايت أيزنهاور» يكتسح المرشح الديمقراطى «أدلاى ستيفنسون» (وهو سياسى مثقف من أرقى مستوى فى أمريكا). وكذلك فإنه فى بداية استقلال الدولة الأمريكية ــ كما فى بداية الإمبراطورية الأمريكية ــ كانت الرئاسة فى يد رجل عسكرى، أولهما خاض الحرب فى طلب الاستقلال ــ والثانى خاضها فى طلب الإمبراطورية! (مع ملاحظة أن التاريخ الأمريكى يعرف ــ ما بين الاثنين ــ أربعة من العسكريين تولوا رئاسة الدولة، ومع ملاحظة أنه فى الإحصاء المعتمد لسنة 1959ــ تبين أن هناك مائة وأربعة وسبعين ألف ضابط سابق يشغلون مناصب مدنية فى الإدارة أو فى الشركات الأمريكية الكبرى). وكانت أولى خطوات «أيزنهاور» عندما أصبح رئيسا للولايات المتحدة هى إنهاء الحرب الكورية مهما كان الثمن، وقد قام بنفسه بزيارة إلى عاصمة كوريا الجنوبية (سيول) لترتيب ما يلزم ــ ذلك لأن «أيزنهاور» كانت له نظرية فى تحقيق الأمن الأمريكى عن طريق القوة المسلحة تختلف عن المنطق الذى أدى بالرئيس «هارى ترومان» إلى السقوط فى مستنقعات كوريا والضياع فى وحشة تلالها وجبالها المرصوصة رصا! .....................
..................... [أتاحت لى الظروف أن أغطى بنفسى وقائع زيارة «أيزنهاور» لسيول بقصد إنهاء الحرب الكورية، كما أتاحت لى أن أسمعه وأن أتابعه]. .....................
..................... كانت نظرية «أيزنهاور» فى حفظ الأمن الأمريكى (أو السلام الأمريكي) قائمة على الخطوط التالية: 1ــ أن الولايات المتحدة لابد لها حتى تحقق أمنها ومصالحها العالمية - أن تتفوق على كل القوى الدولية الأخرى مجتمعة، وأن تكون لها غلبة فى تكنولوچيــــــا الســـــــلاح لا يلحـــق بهـــا طــرف، وبما أن السلاح النووى الذى «طلع فجره» على هيروشيما ونجازاكى هو ســـلاح الردع النهائى، فإن الولايات المتحدة يجب أن تحتفظ فى ترسانتها بمخزون منه لا يسبقها فيه أحد (Second to none). 2ــ ومع التسليم بأن السلاح النووى يصعب ــ بل يستحيل استخدامه فى أحوال «دولية رشيدة» ــ فإن الولايات المتحدة لا يصح أن تُفاجأ«بأحوال جنون» يسبقها فيها خصم إلى استعمال السلاح النووى بضربة أولى، ولهذا فإنها مع الاستعداد لضربة أولى استباقية ــ لابد أن تكون جاهزة فى نفس الوقت لضربة ثانية مميتة للخصم الذى تجرأ وبدأ (وكذلك ظهرت الغواصات النووية بصواريخها (طراز بولاريس) تحت سطح البحر وفى أعماق ظلامه، والفكرة أنه إذا كانت القوات الظاهرة على الأرض هى المكلفة بالضربة الأولى (إذا تأكدت ضرورتها)، فإن الغواصات المتحركة خفية تحت الماء هى ضمان الضربة الثانية وشدة تأثيرها). 3ــ ومع القيود المفروضة على استعمال السلاح النووى، فإن الولايات المتحدة تستطيع أن تعطى نفسها مرونة فى الحركة العسكرية ــ بالسلاح التقليدى ــ بالاشتراك مع أصدقاء لها ينخرطون معها فى أحلاف عسكرية تطوق الاتحاد السوفيتى وتطوق الصين الشعبية معه، وكذلك كان تخطيط «أيزنهاور»: ــ قيادة فى أوروبا (حلف الأطلنطي) وهى موجودة عليها بقواتها وأسلحتها ــ شراكة مع حلفاء الغرب (وهم بريطانيا وفرنسا) ــ وقد انضمت إليها أكثر من عشر دول أوروبية غربية شكلت مانعا رادعا أمام الستار الحديدى. ــ وقيادة فى آسيا ــ حلف جنوب شرق آسيا ــ وهى موجودة بقواتها وأسلحتها مرتكزة على اليابان واصلة إلى الملايو ومستعدة للانتشار وراء ذلك فيما كان من أقاليم الإمبراطوريات البريطانية والفرنسية. ــ وقيادة ثالثة راح «أيزنهاور» يرتب لها، بإقامة حلف يقفل الدائرة ويحكم الحصار حول الاتحاد السوفيتى من الجنوب وهو حلف شرق أوسطى ــ وبالفعل فقد جرى تجريب مشروع لهذا الحلف أثناء رئاسة «أيزنهاور» (حلف بغداد)، وكان ذلك سنة 1955 (السنة الثانية من رئاسته). 4ــ ومع تقدير «أيزنهاور» لاستحالة الحرب النووية (إلا فى أحوال جنون) ــ فإن الولايات المتحدة لا يصح لها أن تحارب بجيوشها إلا عندما تقتضى ضرورات ملحة، وفى حسابه أنه مع زيادة القوة العسكرية، فإن ظهور طاقة بطش هذه القوة يُغنى عن استعمالها. كان السلاح ــ بالتفوق وبدون حرب ــ هو أساس نظرية «أيزنهاور»، وكانت المؤسسة العسكرية راضية طول عهده، فقد كانت نظرية الأمن والتطبيق السياسى للنظرية فى نفس المكان، لأن القائد العام للنصر وللسلام الأمريكى (وللإمبراطورية) ــ كان هو نفسه الرئيس الجالس فى المكتب البيضاوى يخطط لمعركة القرن (كما كان «أيزنهاور» يسميها)، أى أنه فى ذلك الوقت لم يكن بين العسكرى والسياسى حاجز أو حجاب. وخرج «أيزنهاور» وجاء بعده رئيس آخر هو «چون كنيدى»، ثم بدأت الخيوط تتشابك، وتحول تشابكها إلى عُقَدْ حين قرر الرئيس «چون كنيدى» أن يتدخل فى فيتنام، ثم استحكمت العقد حين اتسع نطاق الحرب فى عهد خلفه «ليندون چونسون». وهنا راحت الخلافات تظهر: شروخا ثم أخاديد بين السياسيين والعسكريين فى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان أشهر الخلافات هو ما وقع بين الچنرال «ماكسويل تايلور» والرئيس «كنيدى»، ثم بين الچنرال «ويستمورلاند» والرئيس «چونسون». كان الچنرال «تايلور» يعترض على طريقة استعمال قوة السلاح الأمريكى فى فيتنام، وتقديره أن التدخل العسكرى لا يمكن أن يجرى خافتا بدون نداء صريح للحرب تصحبه درجة من التعبئة الوطنية العامة، وترك «تايلور» منصبه ليكتب كتابه الشهير «النفير المتقطع» الذى انتقد فيه سياسة الحرب على استحياء. ثم تلا ذلك خلاف «چونسون» مع الچنرال «ويستمورلاند» وكان على النقيض مما وقع بين «كنيدى» و«تايلور» - لأن «چونســـون» أعطى للقوات فى فيتنام كل ما هو ممكن، لكن الچنرال «ويســــتمورلاند» لم يعــــرف حــــــدا للكفاية رغــــم أن جيشــــه وصـــل فى وقت من الأوقات إلى ما يزيد على نصف مليون جندى. وفى حين أن «تايلور» كان يشكو من حرب «كنيدى» على «استحياء» ــ فإن «چونسون» راح يشكو من حرب «ويستمورلاند» «بلا قاع». وعندما جاء عهد «نيكسون» كانت علاقة العسكريين والسياسيين فى الولايات المتحدة مشكلة حقيقية تصادمت فيها الرؤى والنظريات، كما تصادمت فيها الطبائع والشخصيات، وعنـــدما انتهـــت رئاسة «نيكسون» بفضيحة ووترجيت، كانت المؤسسة العسكرية الأمريكية لا تكاد تخفى اســـــتهانتها بالســـــاسة إلى درجـة الاحتقار! وفى كل الأحوال فإن المؤسسة العسكرية وفى عهود تدنى فيها مستوى الأداء السياسى ــ ظنت نفسها مسئولة عن الأمن الأمريكى المستمر وعن الإمبراطورية الأمريكية البازغة، وكانت وسيلتها المفضلة هى مواصلة تكديس السلاح وتكثيف الجهود وراء تكنولوچيا استخدامه. .....................
..................... [على أن «أيزنهاور» ما لبث فى أواخر رئاسته، وبعد نوبات قلبية أصابته سنة 1956، وسنة 1958 ــ أن ضعف سياسيا، وعندها استبد به الأرق من تداخل المصـــــالح الإمبراطــــورية بين المـــال والسلاح والأفكار، ورأى أن يحذر من العواقب صراحة فى خطاب الوداع الشهير]. .....................
..................... [وفى النهاية فقد كان سباق السلاح هو الذى مكن الولايات المتحدة بمواردها الهائلة من قصم ظهر الاتحاد السوفيتى، ودفعـه إلى عجز اقتصادى وسياسى مهين! وفى الوقت نفسه تقريبا فإن مدد السلاح الأمريكى الذى تدفق على إسرائيل سنة 1973 ــ باعتبارها الوكيل الوحيـــد المعتمـــد للقوة الأمريكية بعد فشل سياسة الأحلاف فى المنطقة ــ كان هو الذى دفع الرئيس «أنور السادات» (بتشجيع من «فيصل بن عبد العزيز» ملك السعودية، و«محمد رضا بهلوى» شاه إيران) إلى ذلك الرهان على لعبة واحدة اعتبر فيها أن 99% من أوراق قضية السلام (والرخاء!) فى الشرق الأوسط فى يد الولايات المتحدة وحدها، وفى العادة فإن الاعتقاد فى شيء نصف التمهيد لوقوعه]. .....................
..................... [وكذلك فإن نهاية الحرب الباردة تأكدت بسقوط الاتحاد السوفيتى من ناحية، وبتراجع شديد فى منطقة القلب على جبهة حركة التحرر الوطنى فى العالم الثالث (العالم العربي) ــ من ناحية أخرى!]. .....................
..................... وكذلك نجح السلاح الأمريكى (والمؤسسة العسكرية الأمريكية) فى الحرب الباردة، كما فى الحرب التى سبقتها (الساخنة). وبدأ عصر دولى جديد ــ سلام إمبراطـــــورى أمــريكى يفرض حقائقه عـــلى الجميـــــع راضــــــين أو مُرغمــــــين! ثالثــا:المؤســســــة العســــكرية والبيـــت الأبيــــض عندما انتهت الحرب الباردة بسقوط حائط برلين (9 نوفمبر 1989)، كان الجيش الســـــوفيتى يتــــــابع المشــــــــهد مدركا من ناحيـة ــ أنه دليل ســــقوط الدولة الســـوفيتية ــ عـــــارفا من ناحيــــة أخرى ــ أن أى محــــاولة للإنقــــاذ تأخــــر وقتها، ولم تعد هنــــاك فائدة من توريط الجيـــش فيهــــــــا، خصوصــــــــا أن جــــــزءا كبيرا من وحــــداته مُعَطَّل فى جبال أفغانستان. وكان الجيش الأمريكى فى موقف يحمل شبها كما يحمل اختلافا مع موقف الجيش السوفيتى، فالجيش الأمريكى ــ تلك اللحظة ــ راح يتابع مشهد سقوط حائط برلين ويدرك دلالته بالنسبة للدولة السوفيتية ــ ومع أنه سعيد بما يرى ــ إلا أن لديه مع ذلك سببا للقلق، داعيه أن هذا الذى يحدث الآن للدولة السوفيتية هو إعلان واضح بأن الولايات المتحدة الأمريكية فقدت عدوها، وأن الجيش الأمريكى فقد منافسه فى سباق السلاح. وكان «چورچ بوش» (الأب) ــ يومها رئيسا للولايات المتحدة ــ وكان «ريتشارد تشــــينى» وزير دفاعه، وكان الچنرال «كولين باول» رئيس هيئة أركان القوات المشـــتركة، وطبقا لكلام «باول»: لقد وجـــــدنا أنفســــنا فى حــــالة انعــــدام وزن لأن التهديد السوفيتى كان «حمولة المسئولية التى تثبت خطانا على أرض الحقيقة»!. ولم تكن الحيرة مقصورة على القيادات الرسمية والعسكرية للدولة الأمريكية، وإنما امتد الأثر إلى دوائر أوسع وأوسع فى محيط صنع القرار الأمريكى، وضمنها مواقع اتصال المال والفكر والسلاح داخل مراكز الدراسات السياسية والإستراتيچية، وفيها الجماعات الداعية للإمبراطورية حقا لأمريكا ليس فيه «حياء» ــ وقدرا أمريكيا لا يليق «التردد» إزاءه! وفى لحظة الحيرة انهمكت رئاسة أركان الحرب المشتركة فى إعادة تنظيم أوضاعها على ساحة العالم، مدركة أن الولايات المتحدة فى طريقها إلى «حالة دولية» مستجدة على التاريخ، فتلك أول مرة منذ زمن الإمبراطورية الرومانية تكتشف فيها دولة من الدول أنها تفردت بالقوة وحدها، مع إدراك بأن التفرد الأمريكى بالقوة الآن أوسع مما خطر على بال أى قيصر أو إمبراطور متوج بالغـــــار فى رومـــــا. فالإمبراطورية الرومانية فى زمانها لم تكن تعرف غير حوض البحر الأبيض المتوسط وما حوله، لكن القيصر أو الإمبراطور الأمريكى مدعو فى أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادى والعشرين إلى حكم الدنيا بقاراتها ومحيطاتها وفضائها الكونى أيضا ــ وذلك وضع غير مسبوق. وهنا فإن رئاسة أركان الحرب مضت ترتب وتحدد على أمل أن تكون مستعدة تنظيميا. وبهذا المنطق جرى تقسيم العالم إلى خمس قيادات عسكرية رئيسية: ــ القيادة الشمالية: ومسئوليتها القارة الأمريكية وفيها الولايات المتحدة نفسها. ــ والقيادة الجنوبية: ومسئوليتها أمريكا اللاتينية. - والقيادة الأوروبية: ومسئوليتها منطقة حلف الأطلنطى، بالتعاون مع القوى الأوروبية فى هذا الحلف. ــ وقيادة الباسيفيك: ومسئوليتها جنوب شرق آسيا ومعها أستراليا. ــ وأخيرا القيادة المركزية: ومسئوليتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أى أن اختصاصها فى التقدير الأمريكى ممتد من باكستان إلى المغرب (أى من المحيط الهندى إلى الشاطئ الأفريقى للأطلنطي). وكان حساب رئاسة أركان الحرب المشتركة أن «القيادة المركزية» هى أهم تلك القيادات الخمسة وأكثرها عُرضة لمهام «التعامل الفعلى مع تهديدات محتملة». والداعى أن هذه المنطقة تشمل «هلال الأزمات» ــ على حد وصف «زبجنيو برچينسكى» ــ على شكل نصف دائرة تحيط بما بين تركيا وباكستان، أى أن هذا الخط يعبر فوق إيران والعراق والخليج والسعودية (أى البترول) ــ كما أن نفس الخــــط يحيط بإســــرائيل وما حـــولها وفيـــه ســــوريا وفلســـــطين والأردن ــ وكذلك فإنه يحتوى مصــــر وجوارها الأفريقى إلى الشرق حتى المحيط الهندى وإلى الغرب حتى شواطئ الأطلنطى يغطى فى طـــريقه شــــمال أفريقيــــا من ليبيــــا إلى المغرب، ومن الخرطــــوم إلى مقديشيو. .....................
..................... [كان ذلك ميدان معركة القرن العشرين، ولا يزال كذلك ــ (وحتى إشعار آخر) ــ ميدان معركة القرن الحادى والعشرين]. .....................
..................... كانت رئاسة هيئة أركان الحرب الأمريكية عند مداخل التسعينيات مطمئنة إلى تنظيماتها على الورق وفوق الخرائط، ولفترة سنوات قليلة (ثلاث سنوات أو أربع) ــ كان القادة العسكريون سواء من هيئة الأركان، أو كبار الضباط المسئولين عن القيادات الخمس يجوبون العالم شرقا وغربا وكأنهم بالفعل قناصل القيصر أو نواب الإمبراطور، ففى كل عاصمة حل فيها أحدهم كان استقباله جديرا بملك، فكل قائد منهم ينزل فى العاصمة التى يزورها بالطائرة الرسمية لقيادته، تنتظره المراسم اللائقة بمهابة وبأس القوة التى يمثلها، وتلفه حفاوة شديدة كأنها نوع من الاسترضاء لآلهة العصر الطالعة. وكان بعض سفراء الولايات المتحدة (التابعين لوزارة الخارجية) يُصابون بالدهشة مرات إزاء المبالغة فى «مظاهر التكريم» التى يُستقبل بها القادة العسكريون، ويرونها أكبر مما يلقاه الوزراء المدنيون الأمريكيون، وهم فى واشنطن أعلى درجة ومقاما، وكان التفسير السهل للظاهرة أن الوزراء الأمريكيين والسفراء هم تعبير عن «الكلمة الأمريكية» (قابلة للأخذ والرد ــ وللجدل وأنصاف الحلول)، وأما القواد العسكريون الأمريكيون فهم تعبير عن «الفعل الأمريكى» (وفيه البطش والدمار). والحقيقة أن تلك الحالة تبدت كثيرا فى تواريخ الدول والإمبراطوريات، فالقادة السياسيون فى العُرف المألوف ريح ــ والقادة العسكريون فى نفس العُرف نار. وفى واقع تفرد الولايات المتحدة بالقوة العسكرية فإن هذه «الحالة» أصابت القادة العسكريين الأمريكيين بدرجة من الدوار، حتى أن الچنرال «نورمان شفارتز كوبف» (قائد القيادة المركزية ابتداءً من سنة 1988 إلى سنة 1994) قام بأول زيارة له إلى منطقة اختصاصه (من كاراتشى إلى كازابلانكا) ــ ثم عاد يقول ــ (كما سجل بصوته فى مشروع التاريخ الشفوي) ــ «إنه احتاج إلى عدة أسابيع كى يطرد من أعصابه مفعول «جنون العظمة» الذى أصابه جراء ما لاقاه أثناء زياراته لعواصم قيادته من «إكبار وتعظيم»، فقد وجد كبار المسئولين ممن قابلهم أثناء زيارته يتعاملون معه وكأنهم ضباط ملازمين جُدد التحقوا حديثا بقيادته، وقد أسعدهم وأثار الرهبة فى قلوبهم أنهم وجدوا أنفسهم فجأة فى حضرة القائد العام للجيوش!». وفى الحقيقة فإن منطقة القيادة المركزية لم تكن الساحة الأهم فى التنظيم العسكرى الأمريكى الجديد فقــط، بل كانت أيضـــا المنطقــــة الأكثـــر أبهة وعزا بالنسبة لكبار الضباط الأمريكيين، فهذه المنطقة وفيها الدول العربيــــة مشـــهورة بشــــدة البذخ والإسراف، خصوصا إزاء القوى الغالبة، وأمام ممثليها بالذات عندما يرتدون الزى العسكرى ويصبحون تجسيدا حيا لقوة الفعل! لكن ذلك كله: تقسيم العالم إلى قيادات على الورق والخرائط، وتخصيص الجيوش والأساطيل لهذه القيادات الخمس المسئولة عن ضبط شئون العالم ــ لم يكن قادرا على ملء فراغ الحيرة الناجمة من السقوط السوفيتى، وتفكك الجيش الأحمر على الناحية الثانية من خط المواجهة فى الحرب الباردة (بعد أن ظل مكانه أربعين سنة!). كان الكل يدرس ويبحث ويفتش عن العدو الجديد، وعن التهديد الذى يساوى أن تواصل أمريكا تعبئة مواردها الشاملة ضده، وكانت القوات المسلحة الأمريكية أول المهتمين، لأنه بدون عدو محدد وبدون تهديد ظاهر فإن «البنتاجون» ليس فى مقدوره أن يذهب إلى البيت الأبيض، أو إلى الكونجرس فى طلب زيادة فى ميزانيات الدفاع وبرامج خاصة بتكنولوچيا السلاح. ولم يكن الچنرال «كولين باول» راضيا عن مصادر تهديد وأعداء محتملين يدور الحديث عنهم فى واشنطن تلك اللحظة، مثل مقاومة الفساد وتهريب المخدرات وغسيل الأموال ــ وظل اعتقاده أن تلك واجبات بوليس وليست واجبات أقوى وأحدث جيش فى التاريخ! كذلك لم يكن الچنرال «كولين باول» مقتنعا بالتعويض عن طريق عمليات عسكرية تليفزيونية كتلك التى وقعت فى غزو «جرانادا» وغزو «هايتى» وغزو «الصومال»، وتقديره أن تلك العمليات «مسرحة» عسكرية، تُذَكِّر بالقوة الأمريكية وقدرتها على التدخل فى أى وقت وأى مكان ــ لكنها جميعا عمليات «دون المستوى»، كما أن تكرارها بعد حد معين يجعلها موضوعا للسخرية يؤثر على هيبة القوة الأمريكية ويقلل احترامها! وفى لحظة خلل فى الحساب ــ أول أغسطس 1990 ــ جاء دخول العراق إلى الكويت هدية من السماء لصناع القرار الأمريكى، مما دعا كثيرين إلى الظن بأنه «تدبير أمريكى» ــ وليس خطأ حسابات عراقى! والحاصل أنه لحظة غزو الكويت تطوع طرف عربى لأداء «دور العدو»، وكان التهديد على المصالح الأمريكية حقيقيا، لأن السكوت على ضم الكويت إلى العراق معناه أن ثلاثين فى المائة من احتياطى البترول المؤكد فى العالم يصبح تحت سيطرة بلد واحد ــ ورجل واحد، ومعناه أن الموازين فى أكثر مناطق العالم حســـاسية (مواقع البترول ودولة إسرائيل) يمكن أن تتغير ــ إذا لم يقع حزم وحسم. وكان مما يساعد على ضرورة وإمكانية الحزم والحسم أن دول الخليج العربى ــ وفيها السعودية ــ إلى جانب دول أخرى فى المنطقة بينها مصر وسوريا ــ وجدت نفسها أمام تغير مفاجئ وانقلاب فى المعادلات الداخلية يهز أوضاعا هشة فى العالم العربى ــ معرضة للانفراط مع أى صدمة. وتحركت الأزمة فى الخليج بسرعة طوال يوم 2 أغسطس 1990. وفى ظرف ساعات بان خطأ الأساس الذى قامت عليه الحسابات العراقية، ولوهلة لاح أن هناك احتمالا لحل عربى يساعد القيادة العراقية على مراجعة حساباتها قبل فوات الأوان، والانسحاب من الكويت مقابل ضمانات بعدم ملاحقة الجيش العراقى فى وطنه بعد خروجه من الكويت (وكان «حسين بن طلال» ملك الأردن قد أخذ على نفسه احتمال هذا الحل العربى، مدفوعا بالظروف الخاصة للأردن ــ وكانت بعض الشواهد تعطيه فرصة نجاح فى مسعاه) ــ إلا أنه لم يكد صباح يوم 3 أغسطس يطلع حتى كانت مراكز صنع القرار الأمريكى مجمعة على أن الهدية التى جاءتها من السماء لا يصح أن تضيع أو تفلت ــ مهما كان أو يكون! وفى ساعات كان «ريتشارد تشينى» (وزير الدفاع الأمريكى وقتها) ومعه «نورمان شوارتسكوف» (قائد المنطقة المركزية) ــ قد وصلا إلى المنطقة، بادئين بزيارة الرياض ثم الإسكندرية، وكان ما كان! وعندما انتهت حرب الخليج الثانية (أواخر فبراير 1991) ــ كان رئيس الأركان الأمريكى الچنرال «كولين باول» ــ واثقا أنه أمام لحظة فارقة ــ قريبة إلى حد ما من تلك اللحظة التى واجهها سلفه الذى أحبه وأُعجب به: الچنرال «دوايت أيزنهاور». وكان «باول» يرى أوجه شبه بين تجربته وتجربة «أيزنهاور»: ــ كلاهما دفعته الظروف إلى منطقة التقاء السياسة والسلاح («أيزنهاور» بالخدمة الطويلة فى منطقة «واشنطن» خلال الثلاثينيات ــ و«باول» لسنوات طويلة فى مجلس الأمن القومى بقرب عدد من الرؤساء ابتداءً من «نيكسون» وحتى «ريجان»). ــ كلاهمــــا مــــارس قيادة تحالف بين دول وجيــــــوش تختلف مدارســها العسكرية وتقاليدها وخلفياتهــــا الثقافية («أيزنهاور» فى الحرب العالمية الثانية ــ و«باول» فى حرب الخليج الثانية). ــ كلاهما حاول أن يبتعد عن الصخب الاجتمـــاعى لواشنطن، وأن يعكس قدر ما يستطيع (ولو على الظاهر) صورة حياة عائلية سعيدة وهانئة - وكلاهما نجح إلى حد بعيد أن يحيط نفسه بحالة من الجد والاستقامة والنزاهة السياسية. .....................
..................... [بل إن أوجه الشبه وصلت فيما بعد إلى حد أن كثيرين وجدوا فى «كولين باول» مُرشحا مؤهلا للرئاسة (عن الحزب الجمهوري) ــ وفى حين أن «أيزنهاور» قبل وتقدم ــ فإن «باول» تردد (ربما بسبب هواجس اللون) ــ ثم تراجع قبل اللحظة الأخيرة]. .....................
..................... وعقب انتهاء حرب الخليج سنة 1991 راح «باول» ــ مثلما فعل «أيزنهاور» قبله ــ يعتقد يوما بعد يوم أنه إذا كان «أيزنهاور» قد نجح فى تحديد إستراتيچية القوة الأمريكية المسلحة زمن الحرب الباردة، فإنه هو ــ «كولين باول» ــ مُطَالَب الآن بأن يحدد إستراتيچية القوة الأمريكية المسلحة فى زمن ما بعد الحرب الباردة، وهو عصر انفراد الولايات المتحدة بالسيطرة والغلبة. وخلال صيف سنة 1991 وبينما حملة انتخابات الرئاسة محتدمة بين «بوش» (الأب) الذى رشح نفسه لمدة ثانية ــ اعتمادا على نصر الخليج ــ أمام مرشح آخر خرج من مجاهل «أركنساس» ينافسه تحت شعارات اقتصادية اجتماعية ــ كان «كولين بــــاول» يضع اللمسات الأخيرة على نظـــــــرية فى استخدام القـــوة العســكرية اشـــــــتهرت باسمــــــه «عقيـــدة بــــاول» (The Powel Doctrine). وكانت الخطوط الرئيسية لهذه «العقيدة» واضحة ــ مترابطة: 1ــ أن كل الأفكار التى طرحت فى مرحلة الحيرة (بعد سقوط الاتحاد السوفيتي) باعتبارها المسئوليات الجديدة للقوة الأمريكية (مكافحة التهريب ــ والمخدرات ــ وغسيل الأموال ــ والهجرة غير المشروعة) ــ ليست من اختصاص القوة العسكرية أصلا، وإنما تلك كلها أعمـــال ســلطات مدنية (محاكم) أو نظامية (بوليس)ــ لا يمكن أن تنخرط فيها أكبر قوة مسلحة فى التاريخ ــ وأول قوة متفردة بالهيمنة على مصائره. (وفى تقدير «كولين باول» أن القوات المسلحة تستطيع فى ظروف كوارث وطنية أو مالية أن تساعد فى مهام إنسانية، لكن مثل ذلك يكون تطوعا واستثناء، وليس تكليفا وليس أمرا، لأن القوة المسلحة تبقى مسئولة ــ بداية ونهــــاية ــ عن الأمـــــن القـــومى وعـــن المطالب الإستراتيچية العُليا للولايات المتحدة). 2ــ أن القوة العسكرية الأمريكية وتفوقها الكاسح وتكنولوچيا سلاحها المتفـــوق ــ لا يصـــح أن يوضع فى اختبار لا يليق بها، وفى ظروف يكون النجاح فيها إما سهلاــ بضعف التحدى وهزاله ــ وإما صعبا بالظروف الجغرافية والإنسانية لمواقع الأزمات على الساحة العالمية. والداعى أن النجاح السهل رخيص، وفى نفس الوقت فإن الصعوبات الناشئة من الظروف الجغرافية والإنسانية تعطيل لقيمة السلاح الأمريكى ومهابته، (يُضاف إلى ذلك أن مثل هذا النوع من المهام يمكن تحقيقه بوسائل أخرى مثل العمل السرى بالمخابرات، أو الضغط النفسى والاقتصادى، وهى فى الغالب كافية دون المجازفة بعظمة القوة الأمريكية وسلاحها المهيب). (وكان «كولين باول» فى هذه النقطة مغرما بحكاية النملة والفيل ــ وفيها أن الحرب لا تعرف قتل نملة بكتلة فيل! ــ وإشارة «باول» هنا واضحة إلى مغامرات عسكرية سبقت مثل «جرانادا» و«تاهيتى» و«الصومال» ــ وغيرها مما تورطت فيه الولايات المتحدة إما مع عدو لا يساوى ــ أو تحت ظروف طبيعية لا تساعد). 3 ــ إذا اقتضت ضرورات الأمن القومى وقرر الرئيس الشرعى للولايات المتحدة أن من اللازم استخدام القوة الأمريكية المسلحة ضد عدو أو تهديد فإنه يتحتم توافر ضمانات لا تخضع لمساومة أو أنصاف حلول: ــ تحديد هدف أى عمل عسكرى بمنتهى الوضوح والدقة. ــ حشد أكبر قوة عسكرية لازمة لضمان تحقيق هذا الهدف بنسبة نجاح لا تقل عن مائة فى المائة، لأن هيبة الجيش الأمريكى سر قوته. ــ تحقيق الهدف بأقصى سرعة ممكنة، وبحيث يكون النصر المطلوب (بنســــــبة مــــائة فى المـــــائة) ــ صــــاعقا حـاملا رسالة إلى المستقبل تؤكد أن تحدى الولايات المتحدة لا يصح أن يطرأ على بال طرف دولى آخر ــ الآن أو فى المستقبل. وكان «باول» قد بدأ التفكير فى «عقيدته» مبكرا ــ وعلى حد ما كتب فإنه اختبر مقولاتها فى الحرب ضد العراق (1991). أى أن عقيدة «باول» هى فى المحصلة النهائية «هدف حقيقى واضح محدد بدقة ــ وحشد كاف لإحراز نصر حاسم ــ وتركيز سريع فى قوة النيران يعرض أكثر الأسلحة تقدما على مرأى ومسمع من العالم، بحيث تبدو الحرب وكأنها عملية جراحية تجرى فى معمل فضائى يتحرك فى مدار بعيد عن الأرض وعن الناس!». وحين كان «كولين باول» يضع اللمسات الأخيرة على عقيدته العسكرية، وقعــــت مفاجـــأة ــ فقـــد ســـقط «چورچ بوش» (الأب) فى انتخابات الرئاسة (سنة 1992) ودخـــل البـــيت الأبيـــض ذلك الــشاب المجهول القادم من عمق ولاية «أركنساس» وأصبح رئيسا للولايات المتحدة وقائدا عاما لقواتها المسلحة، وبدت تلك صدمة للمؤسسة العسكرية الأمريكية، ولهيئة أركان الحرب المشتركة، وكذلك لكولين باول ولعقيدته فى استعمال القوة المسلحة. وكانت للصدمة أسباب متعددة: ــ فالرئيس المنتخب شاب ظهر معظم أيام حملته الانتخابية يرتدى بنطلونا أزرق (چينز) وقميصا شمر أكمامه، وذلك مظهر غير رئاسى، ثم إن رجال الرئيس الجديد الذين خرجوا على الناس خلال الحملة الانتخابية كانوا على شاكلته، وهم فى كل الأحوال نوع من الناس يصعب اعتبارهم ــ رجالا ونساء ــ «مادة رئاسية» صالحة للعمل فى المكتب البيضاوى. إن الرئيس المنتخب له سجل مُعادٍ للحرب، فقد تهرب من الخدمة فى فيتنام، وأسوأ من ذلك فإنه كتب مذكرة فى تبرير أسباب تهربه أسسها على منطق «أن فيتنام لم تكن فى ضميره حربا عادلة»، ولذلك أعلن العصيان ورفض التجنيد، وهرب إلى منحة دراسية فى جامعة أوكسفورد البريطانية، وبدا ذلك إثما لا يُغْتَفَر، خصوصا أن ضباط هيئة أركان الحــــرب ــ عند بــــداية رئاســـــة «كلينتون» ــ كانوا (بحكم جيلهم) من محاربى فيتنام السابقين، ويؤذيهم أن تقع بالرموز إساءة إلى تضحياتهم وتضحيات رفاقهم. ــ إن الرئيس المنتخب يجيء من أول يوم مُحاطا بفضائح أخلاقية (مثل فضيحة «بولا چونز» عاملة الفندق التى دعاها إلى غرفتــــه وأسقط بنطلونه أمامها دون تمهيـــــد ــ ومثل «چنيفر فلاورز» مغنية الكاباريه التى أذاعت على الناس تسجيلات محادثات ساخنة بينها وبين الرئيس الديمقـــراطى المُنتخب)، ولم تقتصـــــر الفضائح على الجنس ــ وإنما ذاعت ونُشرت حكايات عن مضاربات فى أراضى (قضيـــــــة وايت ووتـــر)، وعــــلاقات مع عصابات تهـــــــــــريب مخدرات (حين كان «كلينتون» حاكما لولاية «أركنساس»). ثم وقعت حوادث أكدت المخاوف (طبق رواية الچنرال «أنطونى زينى» قائد القيادة المركزية وقتها) للصحفية البارزة «دانا بريست» وهى مندوبة الواشنطن بوست فى البنتاجون، ومؤلفة كتاب شهير عن العسكرية الأمريكية عنوانه «المهمة» ــ «The Mission» ــ وبين الحوادث أن الچنرال «بارى كافرى» من رئاسة الأركان ذهب إلى البيت الأبيض لمهمة تتصل بأعمال مجلس الأمن القومى، والتقى عند مدخله بشابة من «مجموعة الرئيس الجديد» ومد يده لتحيتها على غير معرفة، وفوجئ بها تمتنع عن مد يدها لملاقاة يده، قائلة له: «إنها من جماعة تعادى الحرب ولا تتصور نفسها «تصافح چنرالا» «مدججا» بالأوسمة تغطى صدره!». ثم زادت نغمة مُعاداة الحرب وكثرت التقارير التى تتحدث عن مخاطر تكديس السلاح، كتبها ونشرها بعض الشبان الذين أحاطوا بالحملة الانتخابية للرئيس الجديد، وتزامن ذلك مع كلام مرســل عن ضرورة نقل «كتل كبيرة من الاعتمـــادات المالية فى ميزانية الإدارة الجـديدة من خانة الدفاع إلى خانة الخدمات الاجتماعية» ــ وكان ذلك مقلقا. ثم وصلت الأمور إلى احتمال مواجهة بين البيت الأبيض وهيئة أركان الحرب المشتركة ــ عندما أعلن الرئيس الجديد عزمه على فتح أبواب الخدمة فى القوات المسلحة أمام «الشواذ جنسيا» دون تمييز بينهم وبين غيرهم، ووجد الچنرال «كولين باول» نفسه مضطرا للرد على الرئيس مباشرة فى مؤتمر صحفى عقده يوم 11 يناير 1993 داخل مبنى الكلية البحرية (قبل دخول «كلينتون» إلى البيت الأبيض بعشرة أيام)، قائلا دون أن ينتقى ألفاظه: «أنه إذا كان هناك من يرون أن منع «الشواذ جنسيا» من دخول القوات المسلحة نوع من التحيز ضدهم، فأنا أقول أن دخــــولهم إهانة لجنود القوات المسلحة». وعندما سُئل «كولين باول» عن تصرفه فى حالة ما إذا قرر الرئيس المُنتخب أن يفرض رأيه ــ رد «باول» على الفور بأن «تلك سلطة الرئيس، ولكنى لن أكون هنا لتنفيذ هذه السياسة، لأنى سوف أقدم له استقالتى من منصبى!». .....................
..................... [وأضاف الچنرال «زينى» إلى ذلك فيما تحدث به إلى «دانا بريست»: «إن «كلينتون» لم يكلف نفسه عناء أن يتعلم كيف يرد التحية للعسكريين الذين يحيونه، فقد كان يرد برفع يده بحركة «تلقائية» مثل ما يفعل الشبان فى النوادى، ومثيلاتها فى المحافل الاجتماعية!»]. .....................
..................... والظاهر أن الرئيس «بيل كلينتون» تنبه فور دخوله المكتب البيضاوى بأن علاقتــــه بالمؤسســــــة العســــــكرية تحـــتاج إلى عملية ترميم وإصلاح، وليلة 25 فبراير 1993 (بعد دخوله البيت الأبيض بأســــبوعين) وَجـــــــَّه «كلينتـــون» دعـــوة عشـــاء إلى كل چنرالات الأربعة نجوم فى الخــــدمة العــــاملة وعــــددهم 16 چنرالا من الجيش والبحــــرية والطيــــران، وحرص «كلينتــــون» على أن لا يشـــــارك فى العشاء أحد من هيئة مكتبه، ولا من نجوم المجتمــــع أو الثقافة، وإنما دعا القـــــــادة العســـــكريين وزوجــاتهم فقط حول مائدة طولهـــــا عشــــــرة أمتـــــــار صممت على شكل هلال لتكون المواقع حــــــــولها موحيـــــة بالمســـــــاواة. وطبقـــــا لرواية الچنرال «زينى» فإن العشاء كان فاخرا على نحو غير معهود (لوبستر عملاق من شواطئ «ماين» ــ و«كافيار بلوجا» من بحر القلزم ــ ودوائر لحم من عجول «أوكلاهوما» ــ وباقات زهر نادر تنتظم وســــــط المائدة، وعلى الشرفة مقابل قاعة العشـــــــاء فرقة موسيقى وترية تشــــــــيع أجـــــــواء هادئة تقوم بتلطيف المشاعر بين الرئيس الجديد وبين قواد الجيوش وأساطيل البحر والجو). وكان «كلينتون» وزوجته «هيلارى» طول العشاء حفاوة فياضة ورقة آسرة، وكلاهما حاول رفع الحواجز مع الضيوف، فإذا «بيل» ينادى الچنرال «ويسلى كلارك» قائد منطقة أوروبا باسمه الأول مختصرا للتدليل: «ويس» ــ كما أن «هيلارى» خاطبت الأميرال «دنيس بلير» قائد منطقة الباسيفيك باعتباره «دنيس» ــ وهكذا. وعندما جاء وقت شرب الأنخاب ــ رفع «كلينتون» كأسه قائلا للقادة: «إننى أريد فقط أن تعرفوا أننى شديد العرفان لكل ما تقومون وما قمتم به، وأتمنى أن تعرفوا أن أمريكا كلها فخورة بكم مثلى، معتــــزة بأنكم معى هذه الليلة». وفى تقدير الچنرال «زينى» (روايته لدانا بريست) ــ أن العلاقات بين الرئيس الجديد وبين القوات المسلحة لم تتحسن كثيرا، ولكنها لم تسؤ أكثر، والحقيقة أن «كلينتون» أراد أن يعتذر للقادة عما بدا لهم غير مقبول فى إدارته الجديدة، ومن جانبهم فإن القادة العسكريين اكتشفوا أنهم أمام رجل لديه الاستعداد لفهم دورهم ورسالتهم، وفيما بعد فإنه عبر عن ذلك فعلا بتنظيم استقبالات حافلة (ومُبالغ فيها) للقوات الأمريكية العائدة من حرب الخليج، وحرص على أن يشارك بنفسه فيها، وأضاف «زينى»: «إن ذلك كان تعويض «كلينتون» عن تهربه من الخدمة فى فيتنام». رابعــــــا:السلاح فى زمن الفضائح! قضى «بيل كلينتون» فى البيت الأبيض ثمانى سنوات ــ على فترتين رئاســـــــيتين (كل منهمــــا أربع ســـــنوات)، وفى فتـــــــــرة الرئاســــــة الأولى كانت العـــــــــــلاقة بين مكتب الرئيس وهيئــــــة أركان الحرب المشــــتركة علاقة مضبوطة على الناحــــــيتين: أدب جـــــــم وتحفـــــــظ حذر! وفى فترة الرئاسة الثانية زحفت على العلاقة بين الناحيتين ــ آثار فضيحة «مونيكا لوينسكى» وتفاصيل التحقيقات التى جرت حــــولها، ثم وقعت إدانة الرئيس أمام الكونجرس (مع عدم عزله)، وأدى ذلك إلى تشويه صورة القائد العام أمام «القوات» التى تنتظر بالدستور أوامره، وفى الحقيقة فإن آثار هذه الفضيحة قلصت «شرعية أى أمر» يصدره «بيل كلينتون»، خصوصا إذا كان القرار أصلا بين حرب وسلم ــ أى بين موت وحياة!. وكان «بيل كلينتون» من بداية رئاسته ــ ذكيا، بحيث إنه اختار للدفاع وزيرا جمهوريا (على صلة بالمجموعة الإمبراطورية دون أن يكون عضوا فيها) ــ وهو «ويليام كوهين». وفى نفس الوقت فإن «كلينتون» حاول اختصار طلباته من القوات المسلحة إلى أبعد حد ممكن، مبديا تفهمه لفلسفة وقواعد التدخل الأمريكى المسلح فى الأزمنة المتغيرة حسب عقيدة «كولين باول» رئيس الأركان الذى كان مازال فى منصبه ــ فقد ورثه عن الإدارة الجمهورية السابقة (بوش الأب)، واستبقاه معه سنة رئاسته الأولى. وطوال فترة هذه الرئاسة الأولى وَجَّه «بيل كلينتون» إلى قيادة الأركان المشتركة طلبا واحدا رَحَّب به «كولين باول» ــ وهو توجيـــــه ضـــــربة بصـــــواريخ كروز ضد العراق (يونية 1993) عقابا على تهمة وُجِّهَت إلى النظام الحـــــــاكم فيه بأنه حاول اغتيال الرئيس السابق «چورچ بوش» (الأب) انتقاما منــه (على حرب سنة 1991). وفى فتــــرة الرئاسة الثانية وفى ظــــروف قدرهــــا جميــــــع الأطـــــراف، وأولهــــم رئيس هيئة أركان الحـــرب المشـــــتركة الچنــــرال «چـــــون شـــــاليكشفيلى» ــ طلب «كلينتون» مـجموعة ضربات صاروخية أكثرها فى العراق، وكان هذا البلد قد تحول لميدان ضرب نار بسبب أو بغير سبب، وكانت الضربة الأكبر هى ما عُرف بعملية «ثعلب الصحراء» (ديسمبر 1998)، وهدفها إرغام العراق على فتح كل الأبواب أمام هيئة مفتشى الأمم المتحدة الباحثين عن أسلحة الدمار الشامل، بما فى ذلك أبواب القصور الرئاسية، وقد دامت عملية «ثعلب الصحراء» أكثر من ثلاثة أسابيع (لكنها جميعا كانت ضربات من الجو أو بالصواريخ بعيدة المدى). وخارج العراق فإن «كلينتون» أمر بضربتين: واحدة ضد ما يظن أنه موقع لقيادة «أسامة بن لادن» فى جبال أفغانستان (أغسطس 1998)، ردا على عملية ضد سفارات الولايات المتحدة فى كينيا وتنزانيا. وثانية فى نفس اللحظة لنفس السبب ضد مصنع للأدوية فى الخرطوم عاصمة السودان بظن أنه مصنع للأسلحة الكيماوية، وأن «أسامة بن لادن» شريك فيه. على أن البيت الأبيض حرص على أن يكون الأمر بهذه العمليات ــ توصية من وزير الدفاع ومن هيئة الأركان ــ أكثر منه أمرا مباشرا من البيت الأبيض، وكان الشعور العام أن «كلينتون» فى تلك اللحظة مثقل بمشاكله الخاصة، ولا يستطيع أن يخرج أمام الناس بسلطة القائد العام للقوات المسلحة. وفى هذا المناخ وفى فترة الرئاسة الثانية فإن الظِلال التى وقعت على البيت الأبيض ــ تركت لوزير الدفاع مساحة كافية لعلاقة «سائلة» مع القوات المسلحة، أدت إلى تعادل فى السلطة (إلى حد ما) بين مكتب الوزير وبين رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة، ومع هذا التعادل بالظروف بين «السياسة» و«السلاح» ــ سادت حالة «سِلم أهلى» فى البنتاجون، وتلك فى العادة وبطبيعة الاحتكاك بين «السياسة» و«السلاح» ــ حالة نادرة لأن البنتاجون مخزن توترات شديدة عانت منها إدارات سابقة ولاحقة. على أنه فى ظروف «السِلم الأهلى» فى البنتاجون ــ فإن أركان الحرب المشتركة تمكنت من توسيع مجالات نفوذها وزيادة حجم إمكانياتها: ــ انهمكت فى تعزيز القوة الأمريكية ببرامج جديدة كثيرة فى تكنولوچيا السلاح، تعزز «منطق القوة» التى لا يقدر الآخرون على تحديها. ــ ونتيجة لهذا التزايد فى القوة فإن النفوذ العسكرى الأمريكى فى الخارج تمدد دون إلحاح، لأن الحقائق الموجودة على الأرض لها قدرة توسيع دائرتها بفعل حركتها الذاتية. ــ وفى ظروف مستجدة لا تريد هيئة أركان الحرب المشتركة أن تقوم فيها بأى مغامرات غير محسوبة أو عمليات لا تليق بهيبتها، فإن العمل العسكرى الأمريكى ركز على ثلاثة بنود: 1ــ تكثيف نشاط المخابرات العسكرية التابعة للبنتاجون، بحيث تقدر قيادة أركان الحرب على نوع من الاستقلالية فى معلوماتها. 2ــ توسيع شبكة القواعد العسكرية الأمريكية فى عمق القارات وعلى شواطئ البحار. 3ــ تنشيط العمل المباشر عن طريق القوات الخاصة فى مهام محددة، (حتى أنه فى رئاسة «كلينتون»ــ وليس بالضرورة بقراره ــ كانت القوات الأمريكية تباشر «مهام» فى مائة وعشــــــرين بلدا فى العالم ــ وفيها بلدان لا ترد على البال بسهولة ــ وضمن العمليات مهـــــام يصعب تصــــور أنها من تنفيذ القوات الأمريكية الخاصة!). .....................
..................... [كان الدور الأمريكى فى «كوسوفو» مسئولية القوات الخاصة معززة بالطيران، كما أن هذا الدور تم فى إطار حلف الأطلنطى لأن البنتاجون ومعه وزير الدفاع كانوا على اقتناع ــ رغم إلحاح «مادلين أولبرايت» وزيرة الخارجية ــ بأن «البلقان» من اختصاص الدول الأوروبية، وأن على تلك الدول تحمل ضرائبه قبل غيرها]. .....................
..................... وفى هذه الأجواء المواتية انطلقت المؤسسة العسكرية الأمريكية إلى نشاط غير عادى فى مجال العلاقات العامة، وكان حسابها أنه مع عدم ظهور دورها ــ مرئيا ــ فى صراعات تجرى على ساحة العالم ــ فإن التساؤلات سوف تثور عن جدوى الاحتفاظ بقوات مسلحة تحصل وحدها على نصف الميزانية الفيدرالية تقريبــــا، أى أربعمـــائة بليون دولار ــ دون أن تكون لها على الأرض أعمال وتضحيــات تؤهلها فى نظر الرأى العام ونظر الكونجرس للحصول على كل هذه الاعتمادات الخُرافية. وهكذا فإن رئاسة أركان الحرب المشتركـة وعليها ــ وقتها ــ الچنرال «هيو شيلتون» ــ عززت أجهزتها الخاصة للعلاقات العامة، واستخدمت عددا من شركات وخبراء هذا الفن من فنون التقديم والتجميل، وزيادة عليه فإنها أعطت نفسها حق التواجد المباشر فى الكونجرس بمكتب دائم يساعد على إجراء الاتصالات وتوثيق الروابط مع أعضاء مجلس الشيوخ والنواب وهيئات مكاتبهم، وتنظيم الرحلات لهؤلاء (وأحيانا عائلاتهم) إلى مناطق القيادات والتواجد العسكرى فى كل القارات، ثم راحت رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة تعتمد أكثر وأكثر على تسريب الأخبار، بما يجعلها مقصودة من وسائل الإعلام، لأن الأسرار معظمها هناك وفيها الكثير مما هو صالح للنشر ومثير. وفى نفس الوقت فإن الأركان المشتركة فتحت القنوات بينها وبين المصانع الجديدة للقرار السياسى الأمريكى ــ أى تلك المؤسسات التى أقامها تحالف «المال والفكر والسلاح» على شكل مراكز للبحث والدرس (وتعبئة السياسات وتغليفها وتقديمها ببرامج جاهزة للراغبين فى الإدارة أو فى الكونجرس أو فى الإعلام أو غيرها من الهيئات المتنفذة). وكانت علاقة البنتاجون بمؤسسات الدراسة والفكر من الأصل وثيقة، لكن هذا النوع من العلاقات بين الفكر المنطلق وبين المسئولية المقيدة - معضلة حقيقية، خصوصا إذا كانت بين سابق (وجد لنفسه موقعا فى مؤسسة) ــ ولاحق (لايزال فى الخدمة العاملة). ودون حاجة إلى معلومات تفصيلية فإن قيادة الجيش الأمريكى تابعت المعركة الانتخابية بين المرشحين: «آل جور» عن الحزب الديمقراطى ــ و«چورچ بوش» عن الحزب الجمهورى بمزيج من القلق الظاهر والراحة الخفية: مبعث القلق أن الارتباك الذى طغى على العملية الانتخابية يمكن أن يؤثر على شرعية قرار الرئيس المقبل، ومن ثم يغرى أطرافا دولية على تحديه. ومبعث الارتياح على الجانب الآخر أن مجيء رئاسة غير واثقة من نفسها ــ بوساوس حول شرعيتها ــ يفسح المجال أوسع لدور رئاسة الأركان فى القرار السياسى، خصوصا فيما يتعلق بالتسليح والانتشار وإدارة الصراعات المحتملة. وكان هناك شبه توافق على أن هناك صراعات موجودة بالفعل على أقاليم محددة: 1ــ الشرق الأوسط أولا، وفيه العراق (الذى وَقَّع الرئيس «كلينتون» فى شأنه وثيقة سُميت بقانون تحرير العراق أصدرها الكونجرس سنة 1998) ــ وكذلك الصراع العربى الإسرائيلى (الذى انهمك فيه الرئيس «كلينتون» فى آخر شهور حكمه واستثمر فيه وقتا طويلا بدون عائد). 2ــ شبه الجزيرة الكورية، حيث تكاثفت الشبهات حول نوايا كوريا الشمالية التى ظهرت على ساحة شرق آسيا كطرف مشاكس جاهز لصنع أسلحة نووية، ولديه من حوافز الابتزاز ما قد يدعوه إلى المغامرة جنوبا ــ وتفجرت قلاقل فى إندونيسيا تهدد هذا البلد المتناثر ثلاثة آلاف جزيرة على مرمى حجر من الصين. 3ــ منطقة البلقان، وبالذات الشظايا الباقية من الاتحاد اليوجوسلافى، وانعكاس تفاعلاتها على تلك المنطقة التى كانت تُسمى فى زمن سابق ببرميل البارود، (حتى استطاع «برميل النفط» العربى أن يثبت أن الحريق له قدرة على الانتشار أوسع من أى انفجار!). ولم تكن رئاسة الأركان قادرة مسبقا على تحديد مواضع اهتمام الإدارة الجديدة ــ ديمقراطية أو جمهورية ــ عندما يتم حسم المعركة الانتخابية، وبصفة عامة فقد كان هناك شعور شبه مستقر على أن فرص «آل جور» ترجح كفته، ومن ثم فإن السياسات والخيارات فى إدارته سوف تكون استمرارا لنفس سياسات «بيل كلينتون»، لكن الحسم الانتخابى ــ بسلطة قضاء جمهورى ــ جاء لصالح «چورچ بوش»، وكذلك عرفت قيادة القوات أن وزير الدفاع القادم إليها هو «دونالد رامسفيلد»، وكان «رامسفيد» يشغل نفس المنصب فى إدارة «رونالد ريجان»، لكنه ــ أيامها ــ كان مشغولا بإدارة المراحل الأخيرة من مواجهة الحرب الباردة، ولم تكن رؤاه واضحة أو محددة للمُحتمل والمُتوقَع بعدها (عندما تسقط الدولة السوفيتية، وعندما تنفرد الولايات المتحدة بالسلطة على قمة العالم!). وفى يناير 2001 عاد «دونالد رامسفيلد» إلى القمة السياسية فى البنتاجون، ووراءه مجموعة مصممة على أن يكون القرن الحادى والعشرون أمريكيا ــ ومعه رؤية إمبراطورية للقوة الأمريكية فى زمن متغير ــ وأكثر من ذلك معه أسلوب مختلف ــ رأى ممارسته فى التعامل مع رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة وقيادات القوات عموما! كان «رامسفيلد» على اعتقاد بأن القوات المسلحة الأمريكية فى حاجة إلى تغييــــرات واســـعة، تؤهلهــا لمهام إمبراطورية ــ لم يعد ممكنا تركها للتطور الطبيــــعى فى ممارســــة القــــوة ــ وكان على نحو أو آخر يشـــــعر بأن القيادات الأمريكية لم تستفد بالقدر الكافى من السقوط السوفيتى، ولم تحسن بالتالى استغلال فرصته، والسبب أنها «تاهت» فى ثمانى سنوات من «المظاهر والشكليات» أيام رئاســــــة «كلينتــــون»، والنتيجــــة فى تقــديره: 1ــ أن الجيش لم يعد كما كان خاضعا للقرار المدنى السياسى، وإنما تخيل بعض الچنرالات (چنرالات «كلينتون» كما راح يسميهم)ــ أن لهم فى القرار النهائى دورا وكلمة! وكان فى تقدير «رامسفيلد» أن القوات المسلحة لابد أن يتأكد خضوعها للقرار السياسى، وأنه لا حق لأحد فيها أن يناقش شرعية الجالس فى البيت الأبيض، وسلطته أن يأمر طالما هو هناك ولو حتى بأغلبية صوت واحد. 2ــ وفى تقديره (رامسفيلد) أيضا أن رئاسة أركان الحرب المشتركة تداخلت أكثر من اللازم فى «مناورات السياسة»، خصوصا فى الكونجرس. وغاصت بالفعل فى علاقات متشعبة بحجة تسهيل حصولها على طلباتها من الاعتمادات والمشروعات، وفى مقابل ذلك جاملت الشيوخ والنواب بالمنشآت التى يمكن أن تُقام فى دوائرهم الانتخابية أو تزول، واكتشف «رامسفيلد» أن هيئة أركان الحرب لها مكتب اتصال دائم فى الكونجرس، فى حين أن وزارات أخرى ــ لا تقل أهمية فى صنع القرار السياسى عن هيئة الأركان ــ ليست لها مثل هذه المكاتب، بما فى ذلك وزارة الخارجية. 3ــ وكان «رامسفيلد» يَلْمَح نفوذا زائدا لرؤساء الأركان وكبار القادة فى مجال الإعلام، وقد لمح أثر هذا النفوذ فيما يُنشر أو يُذاع فى الولايات المتحدة أو فى الإعلام الدولى من أخبار وإيحاءات تتسرب، بل وشاهد فى بعض الأحيان خططا وخرائط منشورة على صفحات الجرائد والمجلات وشاشات التليفزيون، ورأى بنفسه ما فيه الكفاية من ظهور الچنرالات فى استقبالات وحفلات حى «چورچ تاون» الأنيق، وسمع عن نشاط اجتماعى زائد للچنرالات وزوجاتهم وتصرفات صنعت منهم نجوما اجتماعيين وتلفزيونيين. وكان «دونالد رامسفيلد» مصمما على أن يضع حدا لذلك كله، وأن يعيد إلى قيادة القوات المسلحة الأمريكية درجة من الانضباط، بعثرتها (حسب تعبيره) فى الدهاليز والصالونات والأندية، وكذلك فى الزيارات الخارجية التى كان الچنرالات قد وقعوا فى غرامها لأنهم هناك فى تلك الأقطار البعيدة تعلموا «كيف يعيش الملوك»! وليست هناك تفاصيل محددة عن طبيعة المشاعر التى استقبلت بها هيئة أركان الحرب المشتركة والقوات المسلحة الأمريكية ــ تعيين «دونالد رامسفيلد» وزيرا للدفاع فى الإدارة الجديدة، لكن الإشارات تلتقى عند نقطتين: * أن اللقاء الأول بين «دونالد رامسفيلد» وبين الچنرال «هيو شيلتون» رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة ــ لم يكن لقاء سعيدا، فخلاله تحدث «رامسفيلد» باستفاضة حول رؤوس موضوعات كبيرة أراد أن يضعها على المائدة مبكرا: ــ أن إدارة «چورچ بوش» لديها جدول أعمال يقصد إلى ترتيب الأوضاع فى نظام عالمى تقوده الولايات المتحدة وحدها، ومع أنها على استعداد لأن تخصص مساحات فيه لأطراف أخرى، فإن هذه الأطراف ليس لها الحق فى تعديل جدول الأعمال، وإنما لها الحق فقط أن تقرر إذا كانت تريد أن تتواجد فى النظام أو تغيب عنه. ــ ثم إن تنفيذ جدول أعمال الإدارة يلقى بمسئولية كبيرة على القوات المسلحة الأمريكية التى يقدم لها دافع الضرائب الأمريكى كل ما تحتاجه لكى تقوم بما يُطلب منها، وهو (رامسفيلد) مطلع على الإستراتيچية التى سادت طوال إدارة «كلينتون»، لكنه ليس مقتنعا بها، لأن فكرة الاحتفاظ بجيش قوى مع الاعتقاد بأن حجم القوة يغنى عن استعمالها يبدو له غير منطقى، لأن السياسة فى رأيه مزيج من قوة الإقناع مع قوة الإرغام فى نفس اللحظة، والانتظار فى استعمال القوة حتى يجيء التهديد الذى يستحق ــ معناه السماح للتهديد بأن يكبر ويصبح خطرا حقيقيا بدلا من ملاقاته بضربة وقائية قبل أن يتأكد ويصبح تهديدا قائما. ــ إن الرئيس المُنتخب فَوَّض وزير الدفاع (أى هو رامسفيلد) فى كل ما يخص القوات المسلحة، ونظرا لوجود جدول أعمال مُتفق عليه، ولأهمية وضعه للتنفيذ بأسرع ما يمكن ــ فإن وزير الدفاع لديه «سلطة الرئيس» كاملة فى هذا الشأن. وحين سأله الچنرال «شيلتون» عما إذا كان يقصد بقوله أن رئيس هيئة الأركان المشتركة ليس له حق الاتصال مباشرة بالرئيس؟ ــ رد «رامسفيلد» قاطعا: «إن ما فهمه الچنرال «شيلتون» صحيح!». وحين حاول «شيلتون» أن يُذّكِّر وزير الدفاع «بأن رئيس هيئة الأركان المشتركة هو المستشار العسكرى الأول للرئيس» ــ رد «رامسفيلد» بسرعة بما مؤداه: «إن ذلك أيضا صحيح، لكن رئيس الأركان يعطى ما لديه لوزير الدفاع، وذلك قرار الرئيس الجديد، وهو رجل له فى إدارة الدولة منطق يختلف ــ وشخصية تختلف ــ عن غيره، (والإشارة واضحة إلى إدارة «كلينتون»). * أن رئاسة أركان الحرب المشتركة بدأت تشعر بنوع من الدهشة حِيال اختيارات وزير الدفاع الجديد لمعاونيه المدنيين فى البنتاجون، فقد أعلن عن تعيين «بول وولفويتز» نائبا للوزير، و«ريتشارد بيرل» رئيسا لمجلس سياسات الدفاع، و«دوجلاس فيث» وكيلا لوزارة الدفاع (وثلاثتهم يهود!) ــ مقربون من «دونالد رامسفيلد»، كما أن الثلاثة من مهندسى وراسمى ما أطلقوا عليه «مشروع الولايات المتحدة للقرن الأمريكى الجديد». وكانت رئاسة هيئة الأركان المشتركة على عِلْم بهذا المشروع، وحسبته بادئ الأمر تيارا يطرح نفسه إلى جانب تيارات أخرى، لكنها الآن ومع إدارة «بوش» الجديدة ــ تأكدت أن ذلك المشروع أصبح الإستراتيچية المُعْتَمَدَة للولايات المتحدة، خصوصا أن الرجل الذى وُضع المشروع تحت إشرافه وتوجيهه كان «ريتشارد تشينى» نائب الرئيس الجديد، والرجل الأقوى فى الإدارة بحسب ما هو ظاهر ومستقر فى الأذهان! ولم تكن رئاسة هيئة أركان الحرب المشتركة تعارض المشروع الإمبراطورى، فهو على نحو عام متوافق مع توجهات الإستراتيچية الأمريكية من أعقاب الحرب العالمية الثانية وطوال الحرب الباردة وبعدها ــ لكن وجوه الاختلاف متعددة فى ترتيب البنود والأولويات، وكذلك على السرعة التى يتم بها التنفيذ، وأخيرا على توزيع المسئوليات والأدوار! كان مشروع «المجموعة الإمبراطورية» التى أمسكت بمقاليد السلطة فى إدارة «بوش» ــ محددا إلى درجة لا تحتمل اللبس، خصوصا فى صياغة المقدمة التى مهدت له، والتى تبدت فيها ثلاث نقاط قاطعة فى النصوص مثل نصل السيف: ــ «إن الهدف الأمريكى لابد له أن يكون تحقيق واستبقاء سيادة أمريكية عالمية تستبعد ظهور قوى أخرى منافسة فى المستقبل، بحيث تتمكن الولايات المتحدة بفضل هذه السيادة من تشكيل قواعد الأمن العالمى على مثال المبادئ والمصالح الأمريكية». ــ «الإستراتيچية العُليا للولايات المتحدة مسئولة عن هذه السيادة الأمريكية مدها فى المستقبل إلى أبعد مدى ممكن، وفى ضرورات هذه الإستراتيچية أن تكون مستعدة للقتال بحزم، وتحقيق النصر فى مواجهات متزامنة على ميادين متعددة فى نفس الوقت، بحيث تستوفى كل مواجهة على أى ميدان حقها، وكأنها ميدان القتال والنصر الوحيد». ــ «نقطة الارتكاز فى الجهد الأمريكى الجديد هى منطقة الشرق الأوسط والخليج، ومع أن الولايات المتحدة كانت تسعى منذ حقب عديدة للسيطرة العسكرية الكاملة على الخليج ــ فإن ذلك لابد أن يتحقق على الفور سواء كان نظام «صدام حسين» موجودا فى السلطة أو أُزيح منها. إن الأمن الإقليمى لهذه المنطقة يعطى مشروعية لإزاحة النظام الحاكم فى العراق، لكن تحقيق وجود عسكرى كثيف مُسيطر على الخليج أمر يتعدى مسألة نظام «صدام حسين» ». وتجيء فى نهاية «نص المشروع عبارة حماسية تقول: «إن القوات المسلحة للولايات المتحدة عليها أن تتولى القيادة بروح «فرقة الفرسان» فى الحدود الأمريكية الجديدة». وفى الاجتماعات الأولى لمجلس الأمن القومى على عهد إدارة «بوش» طُرح المشروع الجديد بمقدمته وبصُلبه، واستمع ممثلو رئاسة الأركان المشتركة لكل ما قيل، وحين جاء دورهم فى التعليق بدا أن الشكوك تساورهم، وقد لخص رئيس هيئة الأركان المشتركة أسبابه فى نقطة رئيسية مجملها «أنه إذا كان الشرق الأوسط والخليج هما نقطة ارتكاز الإستراتيچية العُليا الأمريكية، فإن هناك تمهيدا لابد منه أولا وهو التوصل إلى حل للصراع العربى الإسرائيلى، لأن هذا الصراع ومضاعفاته ــ ثم زيادة توترات إضافية عليه نتيجة لتواجد أمريكى كثيف فى المنطقة ــ يمكن أن يؤدى إلى عواقب يصعب حسابها». وكان رأى «دونالد رامسفيلد» كما طرحه فى اجتماع حضره رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة ــ بصيغة السؤال: هل تواجدنا العسكرى الكثيف فى الخليج، مع إمكانية تصفية النظام الحاكم فى العراق ــ يساعد أكثر على حل الصراع العربى الإسرائيلى؟ ... أو أن الحل المُسْبَق للصراع العربى الإسرائيلى ــ هو الذى يساعد أكثر على تسهيل تواجد أمريكى كثيف فى الخليج؟ وظهر اتجاه «رامسفيلد» ظاهرا منذ بداية المناقشة، ومؤداه أن «الحسم فى العراق» يساعد على «الحسم فى فلسطين» وليس العكس!! وفى أجواء هذه المناقشات فى واشنطن جاء «كولين باول» بنفسه إلى منطقة الشرق الأوسط (مارس 2001) يقابل حُكامِها برسالة من الإدارة الجديدة مؤداها: «العراق هو الأزمة، وفلسطين هى المشكلة، والأزمة أولى بالعلاج ــ قبل المشكلة». ولم يستطع «باول» إقناع أحد بمنطق رسالته، وفى الحقيقة فإنه هو نفسه لم يكن مقتنعا بها، وكان رأيه ــ ومن تجربته السابقة فى حرب الخليج (الثانية) ــ أن فلسطين هى «أم الأزمات» فى المنطقة. وعندما عاد «كولين باول» إلى واشنطن بدا أنه لم يستطع إقناع غيره، وأولهم وزير الدفاع «رامسفيلد»، ومعه المجموعة الإمبراطورية المحيطة به، ومعنى ذلك ــ ومن باب أولى ــ أنه لم يلق من الرئيس «چورچ بوش» أذنا مصغية. وفى الوقت نفسه فإن هيئة أركان الحرب المشتركة راحت تبدى قلقها من جو مشحون بالتوتر والتربص أشاعه وزير الدفاع «دونالد رامسفيلد» بتصرفاته، وأسوأ من ذلك بخططه التى يريد فرضها دون مناقشة، وكان «بعضهم» فى رئاسة أركان الحرب المشتركة قد رأى أن يتحدث فى «الأوضاع الجديدة» مع «كولين باول» وزير الخارجية، وهو نفسه فى الأصل چنرال رأس إلى عهد قريب هيئة أركان الحرب المشتركة، وصاغ العقيدة الإستراتيچية المعروفة باسمه، والتى سادت بالفعل ثمانى سنوات (طوال رئاسة «كلينتون») حتى هذه اللحظة (من رئاسة «چورچ بوش» الابن). وكذلك سمع «كولين باول» أن وزير الدفاع الجديد يتحدث الآن عن احتمالات تدخل بالسلاح ــ على نحو غير تقليدى، يتضمن درجة ما من استعمال القوة ــ لا تصل إلى درجة الحرب الشاملة ــ لكنها تزيد عن الحروب التليفزيونية التى مورست فى عصر «ريجان» (جرانادا وبنما وهايتي). وكان «رامسفيلد» يطلب من هيئة الأركان أفكارا ويستثير خيالا. وكان أسوأ ما سمعه «كولين باول» من أحاديث رفاقه القدامى ــ أن وزير الدفاع يتحدث عن عمليات فى العراق، وحين وُضِعَت أمامه الخطط الجاهزة أبدى أننا فى الظروف الجديدة نحتاج إلى شيء آخر، وبدا ذلك لسامعيه خطرا. وطبقا لروايات تتردد فى واشنطن فإن «كولين باول» حاول أن يناقش أحوال البنتاجون مع «دونالد رامسفيلد»، لكنه وجد وزير الدفاع يلفت نظره إلى «أنه (أى كولين باول) وزير الخارجية الآن وليس رئيس الأركان» ــ ثم كان أن «رامسفيلد» (كما يتردد فى واشنطن) ذهب إلى نائب الرئيس «ريتشارد تشينى» يقول له: «إنه (كولين باول) يمكن أن يؤثر على الانضباط فى القوات المسلحة إذا راح يسمع من كل «ماچور» وكل «كولونيل» فى القوات المسلحة». وفيما يظهر فإن الرئيس «چورچ بوش» طلب بنفسه من «كونداليزا رايس» (مستشارة الأمن القومي) »أن تلفت نظر «كولين» بحزم إلى أنه لا يستطيع أن يتصل بقادة القوات من وراء ظهر وزير الدفاع». وفى تلك الأوقات (ربيع سنة 2001) ــ كانت واشنطن تعرف أن وزير الخارجية فى أزمة، وأنه شبه معزول عن دائرة القرار الأعلى فى الإدارة الجديدة، وكان «باول» يحاول جاهدا أن يكسر الحصار غير المرئى الذى أحاط به، وفى ذلك الوقت فإنه ــ كما يروى أصدقاؤه ــ انتهز فرصة لقاء مع أحد الرجال المقربين إلى الرئيس (وفيما تقول به الروايات فقد كان ذلك الرجل هو «چورچ بوش» (الأب) ــ الذى عرفه «باول» خلال خدمته أثناء حرب تحرير الكويت وتعاون معه عن قرب)، وكما تقول الروايات فإن «باول» أبدى: ــ إنه يريد للإدارة الجديدة أن تنجح بغير حدود. ــ ولا يريد أن يتسبب فى حساسيات ومشاكل حول الاختصاصات. ــ وليس فى نيته أن يتشاجر أو يفتعل شجارا مع وزير الدفاع. ــ ولكنه مع ذلك يرى أن هناك «مسلمات أولية» يستحسن أن يتفق عليها الجميع: 1ــ ففى كل هذه الخطط المطروحة أمام الإدارة لإقامة نظام عالمى أمريكى (لم يستعمل«باول» وصف الإمبراطورية) ــ فإنه من المفهوم أن هناك مسئولية كبيرة على القوات المسلحة، ولهذا فإن هيئة أركان الحرب المشتركة لابد أن تكون فى الصورة «بالعمق». 2ــ إذا كان الشرق الأوسط هو ميدان «الاندفاعة الرئيسية» (Main Thrust ) ــ وإذا كان العراق هو الهدف المحدد الآن ــ فإن جهدا مكثفا لابد أن يُبذل لحل ــ أو تجميد ــ شحنة الصراع العربى الإسرائيلى. 3ــ وربما أن هذا الجهد السابق الذى بذله «كلينتون» فى أواخر رئاسته ــ يمكن اللحاق به وتنشيطه بحيث يمكن التوصل إلى مبادئ حل يجمد فلسطين، ويفتح الطريق إلى غيرها (العراق). ولم تكد تمض أيام حتى أُعلن فى واشنطن أن الچنرال «أنتونى زينى» قائد القيادة المركزية السابق والذى يعرف المنطقة جيدا ــ قد عُين ممثلا للرئيس فى الشرق الأوسط، مكلفا بالتوصل مع الأطراف إلى حل لأزمة «النزاع الإسرائيلى ــ الفلسطينى». وكان «زينى» اختيارا مقصودا (يجمع ما بين وزارة الدفاع ووزارة الخارجية). فهو چنـــرال من البنتاجون تحــت قيــــــــــــادة «رامســـــــفيلد»، وهـــو صديق قـــديم لـ «كولين باول»، ثم هو على معرفة متصلة بكل ملــــوك ورؤســـــــاء الدول العربية (وكذلك ساسة إسرائيل) فقد كان معهم حـــتى أســـــابيع قليـــلة قائدا للقيــــادة المركــزية المسئولة عن الشرق الأوسط وما حوله. وجاء الچنرال «زينى» إلى المنطقة وانتقل من هنا إلى هناك، ومن هناك إلى هنا، وراح يجمع ويحاول الإمساك بأطراف الخيوط ويجرب أن يشبك بينها. .....................
..................... وفجأة وقعت حوادث 11 سبتمبر 2001. وبدت الولايات المتحدة كلها فى حالة انكشاف خطر أمام العالم كله ــ وبدا مطلوبا من القوات المسلحة الأمريكية أن تتحرك بسرعة لأداء دور فى تغطية هذا الانكشاف!
هذا المحتوى مطبوع من موقع وجهات نظر
وجهات نظر © 2009 - جميع الحقوق محفوظة