مـأزق الخـروج من جحيـم العـراق ديسمبر 2006

سلامة أحمد سلامة

في مثل هـــذه الأيام قبل أربعة أعوام، كان العراق لم يزل دولة موحدة، تخضع لحكم قبضة حديدية واحدة، يتحدث العالم عن قوتها العسكرية وما تمتلكه من أسلحة الدمار

المحـتــوي

في مثل هـــذه الأيام قبل أربعة أعوام، كان العراق لم يزل دولة موحدة، تخضع لحكم قبضة حديدية واحدة، يتحدث العالم عن قوتها العسكرية وما تمتلكه من أسلحة الدمار الشامل التي تهدد الأمن والسلام في الشرق الأوسط.. بنفس الطريقة والإلحاح التي يتحدثون بها عن إيران وقنبلتها النووية الآن. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تحت قيادة الرئيس بوش، مدعومة بتحالف قوي اليمين المحافظ والصهيونية قد عقدت العزم علي أن الوقت قد حان لتوجيه ضربة عسكرية إلي النظام العراقي، بدعوي محاربة الإرهاب، لتجريده من الصواريخ والأسلحة النووية التي يخبئها، والتي فشلت بعثات التفتيش الأمريكية وخبراء وكالة الطاقة الذرية في العثور عليها. وفي مواجهة معارضة دولية قوية، عجزت معها واشنطن عن الحصول علي قرار من مجلس الأمن يسمح لها طبقًا للباب السابع بالتدخل العسكري في العراق، وقف العالم كله تقريبًا ــ باستثناء بريطانيا وإسرائيل وحفنة دول تابعة وضالعة ــ مشلولاً وعاجزًا عن فعل شيء، ينتظر نشوب حرب طاحنة، لن يتورع ديكتاتور العراق ــ في تقديرهم ــ عن استخدام ما لديه من أسلحة في الدفاع عن نفسه وعن عراقه مهما كلفه من ثمن. بعد أربع سنوات إلا قليلاً، ها هو العالم يقف بأجمعه مرة أخري، سواء هؤلاء الذين انضموا إلي «تحالف الراغبين » بزعامة أمريكا وبريطانيا، أو أولئك الذين عارضوا الحرب من بين الدول الأوروبية وروسيا والصين، أو حتي بعض الدول العربية التي أباحت أراضيها كقواعد عسكرية للعمليات والإمدادات الحربية والتسهيلات الجوية، يرقب ويترقب كيف غرقت القوات المتحالفة بقيادة أمريكا في أوحال العراق، تحاول انتزاع أقدامها التي غاصت وتغوص يومًا بعد يوم في بحر من الدماء والدمار، قتل خلالها نحو ثلاثة آلاف جندي أمريكي، وضاعت فيها بلايين الدولارات.. دع عنك ما فقده العراق من أرواح تجاوز عددها طبقًا لمجلة «لانسيت» البريطانية 655 ألف نسمة، وما جري تدميره من منشآت ومبان أعادت البلاد قرونًا إلي الوراء. كما فقدت فيها إدارة الرئيس بوش مصداقيتها لدي الشعب الأمريكي علي نحو أفضي بها إلي هزيمة فادحة في الانتخابات النصفية للكونجرس، فقد فيها الجمهوريون الأغلبية البرلمانية. ودخلت أمريكا مرحلة خسوف سياسي أشبه بالحقبة التي أعقبت حرب فيتنام. لم يكن هذا التحول في مسار الأحداث مفاجأة لأحد، كما أن الإخفاق الذريع لسياسات الرئيس بوش وفريقه، وللخطط العسكرية التي طبقها دونالد رامسفيلد مهندس الحرب العراقية، لم يقع بين يوم وليلة. ولكنه جاء محصلة لأخطاء تكتيكية تراكمت بكثافة خلال عامين من بدء الغزو. انتقدها قادة وخبراء عسكريون من داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية ومن خارجها، ولم يأبه بوش وجماعته لخطورتها، وربما لم يفهمها ويعمل علي تداركها إلا متأخرًا. ولم تقتصر الكارثة علي أخطاء تكتيكية ارتكبها رامسفيلد ورفض بكل عجرفة وعناد الاعتراف بها، ولكنها تركزت بصفة خاصة في عجز أجهزة البنتاجون والمخابرات الأمريكية عن إدراك التداعيات الخطيرة للزلزال الاجتماعي والطائفي الذي أحدثه الغزو، وأدي إلي إزاحة الأقلية السنية القوية التي حكمت العراق تاريخيا، لتحل محلها أغلبية ذات مرجعيات متعددة من الشيعة، تعمقت لديها مشاعر المظلومية والاضطهاد والملاحقة. فجرت منازعات طائفية دامية، ليس بوسع أحد أن يتنبأ بتفاعلاتها، ولا بتأثير ذلك علي بقاء القوات الأمريكية أو خروجها. وتشير كل الدلائل إلي أن احتلال العراق لم يكن غير هدف مرحلي في مخطط أكبر رسمته قوي اليمين المحافظ لمشروع إمبراطوري، يرمي إلي إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط الكبير، يجعل من العراق نموذجًا لنظام ديمقراطي في بناء حديث للدولة، يرسل إشعاعاته إلي جيرانه العرب، ويصبح بما يملكه من ثروات طبيعية وبشرية بؤرة جذب لنظام جديد في المنطقة يضمن الاستقرار والأمن، ويقضي علي الإرهاب وحينئذ يمكن أن يتحقق السلام الدائم في إطار علاقات طبيعية مع إسرائيل. ولقد بدا إيمان بوش وإدارته بهذه العقيدة أمرًا مثيرًا للدهشة لبعض الوقت، ومثيرًا للشك في مدي سذاجته هو وأصحابه معظم الوقت. وقد استغل بوش ومجموعة اليمين المتطرف سلاح الحرب ضد الإرهاب لتخويف الشعب الأمريكي، وإقناعه بأن البلاد تواجه خطر إرهاب إسلامي حقيقي، يهدد أمن أمريكا ورخاءها واستقرارها. ولابد من تعبئة كل القوي، ولو اقتضي الأمر إصدار قوانين استثنائية تحد من الحريات دفاعًا عن الوطن، لمواجهة قوي الظلام الإرهابية الكامنة في الشعوب العربية والإسلامية بضربات استباقية في عقر دارها. وكلما حاول بعض عقلاء الأمريكيين، ومن بينهم رئيسان سابقان: جورج بوش الأب وجيمي كارتر، الحد من موجة هستيريا الحرب التي اجتاحت بوش وإدارته، ضاعف بوش من سرعة اندفاعه لإنجاز المهمة الرسالية التي كلفه بها الرب! ويحكي وودوارد في كتابه «حالة إنكار» لمحات من الأزمة التي نشبت بسبب الحرب علي العراق بين بوش الأب وبوش الابن، عندما انتابت حالة من القلق والديه، إلي درجة أن بربارا بوش الأم، في حفل عشاء رسمي عشية الغزو، انتحت جانبًا بصديق قديم للأسرة هو السناتور الديمقراطي السابق دافيد بورين الذي كان رئيسًا للجنة المخابرات في الكونجرس أثناء فترة جورج بوش الأب، وقالت له: ــ لقد اعتدت دائمًا أن تصارحني بالحقيقة.. فهل تفضي بها إلي الآن؟ ü هل نحن علي حق لو راودنا القلق بسبب مسألة العراق.. هل تعتقد أنه عمل خاطئ؟ ــ رد عليهــــــــــا الســـــــــــناتور: بالتأكيــــــد يا سيدتي.. إنه خطأ فادح لو واصلنا السير في هذا الطريق.. ــ أضافت بربارا بوش: أبوه قلق جدًا ولا ينام الليل.. ــ قال لها السناتور: ولماذا لا يتكلم معه؟ ــ أبوه يظن أنه لا ينبغي أن يتدخل إلا إذا سأله هو النصيحة! ويضيف وودوارد أن أصدقاء بوش الأب عارضوا بشدة هذه الحرب وسياسات المحافظين الجدد. وكتب برنت سكوكرفت مستشار الأمن السابق في عهد الأب مقالاً في «نيويورك تايمز» حذر فيه من غزو العراق. وسكوكرفت يعد من المدرسة القديمة التي لم تقتنع بمشروع نشر الديمقراطية، وتعامل مع صدام ونظامه كحاجز صد ضد إيران، فلم يتدخل عام 1991 عندما قام صدام

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions