سـياسي ..لا ثقـافي : مــا بيننــــا وبينهـــــم يوليو 2004

طارق البشرى

[ 1 ] الصراع القائم معنا الآن هو صراع سياسي، ولا يختلف أحد فيما أظن، في أنه صراع متولد عن استعمار استيطاني في فلسطين، وعن سيطرة عسكرية واقتصادية

المحـتــوي

[ 1 ] الصراع القائم معنا الآن هو صراع سياسي، ولا يختلف أحد فيما أظن، في أنه صراع متولد عن استعمار استيطاني في فلسطين، وعن سيطرة عسكرية واقتصادية وسياسية في الخليج العربي، وعن احتلال عسكري لأفغانستان، وعن غزو للعراق الآن احتلال له، وعن سيطرة سياسية علي الكثير من بلادنا العربية وغيرها، يتمثل في استتباع أجهزة الحكم ورجاله لقوي الهيمنة الدولية، وللولايات المتحدة الأمريكية علي وجه التحديد.. وإذا لم يكن كل ذلك «سياسة» فماذا تكون السياسة؟ ولكن أجهزة الفكر والإعلام السياسي الأمريكية ـ علي وجه الخصوص ـ تصوغ الأمر علي أساس أن الصراع الدائر هو في مجال الثقافة، وهو صراع ثقافي، هكذا أعلنها هنتنجتون وغيره، وهكذا يجري وصفه وتصويره الآن. والسبب في ظني يرد من أنه إذا وصفت طبيعة الصراع باعتباره صراعًا سياسيا، فإنه يظهر مباشرة من فيه المعتدي ومن فيه المعتدي عليه. لأن المكافحة بشأنه تدور علي الأرض العربية وأراضي شعوب المسلمين وليس في غيرها، وهي تدور بين العرب والمسلمين في بلادهم وبين الأمريكيين ومن تحالف معهم من دول الغرب. ولأن حجم الضحايا من العرب والمسلمين في بلادهم أضعاف حجم الضحايا من جيوش الغزو والاحتلال، ولأن موطن الثروات الطبيعية المطموع فيها هي أرض العرب والمسلمين، ولأن الحل الوحيد الحاسم لهذا الصراع هو أن يعود الغريب الأجنبي إلي بلده وأن ترتفع الأيدي عن أرض الغير وشعوبها. إنما إذا وصفت المسألة وصفا ثقافيا، ووصف الصراع بأنه صراع فكري أو ثقافي أو حضاري، فإن ذلك معناه أن شعوبًا وأناسًا بسبب ما يدينون به من دين وما يقتنعون به من آراء وأصول فكرية، إنما يمسكون بالسلاح ويقتلون الآخرين، وأن ما يفعله الأمريكيون الآن هو ذاته ما فعله الإنجليز من قرن مضي. والعدوان المادي يحتاج إلي صياغة فكرية مواتية، والحديث عن الصراع الثقافي يخدم هذه الصياغة، يصير العدوان دفاعًا عن النفس. وفي هذا السياق علينا أن نقرأ محاضرة اللورد كيري «المسيحية والإسلام: صدام أم لقاء»، وصحة المسألة هي «الغرب الأمريكي والعرب المسلمون: صدام أم لقاء»، فبداية الحديث من عنوانه يخفي حقيقة الصراع ويزيف طبيعته. إن المحاضرة ليست بذات مستوي ثقافي رصين. وإذا كانت المصادر الإسلامية لمعارفه عن الإسلام هي «الدكتور طنطاوي والملك حسين والأمير الحسن والملك عبد الله...» فهي فيما يبدو لي ليست مصادر يعول عليها في الحكم علي الإسلام. ومحاضرته مليئة بالتعميمات الفجة والأحكام المتحيزة، والعبارات التي ظاهرها الحيدة ومحاولة الإنصاف وباطنها الاتهام والتشنيع. وهو يتكلم عن حادث 11 سبتمبر 2001 وحادث مدريد دون أن يشير إلي أي من وقائع الغرب مع المسلمين علي مدي مائتي سنة الأخيرة، ولا إلي ما حدث لأفغانستان والعراق وما يحدث في فلسطين أخيرًا. ويقول إن الإسلام «يبدو لك» متورطًا في صراع مع الأديان الأخري، ومنها اليهود في الشرق الأوسط، ولا يشير إلي إسرائيل والصهيونية، ويتكلم عن تدمير معبد للبوذيين في أفغانستان ولا يشير إلي هدم الهندوس لمساجد المسلمين في الهند. ثم يتكلم عن الحملات الصليبية الأوروبية لبلاد المسلمين بحسبانها «محاولات لاستعادة الأراضي المسيحية السابقة»، أما الإسلام فهو من حاول غزو المجر وبولندا.. إلخ. ويصف مطلق المسيحيين بأنهما أناس شرفاء وخيرون ويكرهون العنف «أما هذا الوصف فيلحق «غالبية المسيحيين العظمي»، بمعني أن ليس في المسيحيين صنف آخر، أما المسلمون ففيهم صنف آخر، وعندما يتكلم عن فترة الاستعمار الغربي الأوروبي لبلاد المسلمين، لا يتكلم عن استعمار ولا استعباد ولا غزو ولا احتلال، ولكن يصف هذه البلاد بالتدهور« المستمر» بينما البلاد المسيحية «تتمتع بثمرات الثورة الصناعية» رغم أنه كان ضمن عساكر الاحتلال البريطاني في الخمسينيات من القرن العشرين، ولم يدرك من حقائق الأوضاع العراقية وما يفعله جيش الاحتلال البريطاني فيه من قمع، لم يدرك إلا أن زملاءه بنظرتهم السطحية اعتبروا الإسلام دين تخلف في مجتمع متخلف. وهو يدين الأعمال الاستشهادية في فلسطين ويطلب من المعتدلين المسلمين أن يدينوا هذه الأعمال ويعتبر ذلك تحديا «يواجه الإسلام» ولكنه لا يطلب ذات الطلب من معتدلين يهود بالنسبة لقتل الشيخ أحمد ياسين، ولا يعتبر ذلك تحديا يواجه اليهودية. والخلاصة أن المحاضرة ليست محايدة وأحكامها ليست عادلة، ووقائعها فيما ذكرت وفيما لم تذكر ليست أمينة. وهي لا تجاوز في مستواها الثقافي كتابات الدعاية الإعلامية. وما كنت لأناقشها لولا أنني وجدتها مناسبة للحديث عن الشأن الثقافي والشأن السياسي، وعن وجوب التمييز بينهما، وعن أثر الخـــلط بينهمـــا في قلب الحقائق حول من هو المعتدي ومن هو المعتدي عليه. [ 2 ] في الستينيات من القرن العشرين، كان صدر كتاب لمفكر شاب اسمه «فرانز فانون»، وكان الكتاب بعنوان ثورة علي الثورة، صدر في ظروف انتصار الثورات الاجتماعية في أوروبا وآسيا، وفي ظروف انتصار حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وكان الكتاب يتحدث عما اعتري الكثير من هذه الثورات من جمود وترهل وما أنتجت من ظهور طبقات حاكمة جديدة تخلت عن مثالياتها وتوجهاتها الشعبية. وكتب مقدمة الكتاب جان بول سارتر، الفيلسوف الفرنسي المعاصر الذي اشتهر وقتها بمواقفه شديدة التعاطف مع حركات تحرير شعوب العالم الثالث. ومن أهم ما حفظته ذاكرتي من حديث سارتر في هذه المقدمة، ملاحظته أن شعوب آسيا وأفريقيا ومفكريها، كانوا عندما يتكلمون يخاطبون الغرب والغربيين. وكان الغرب هو من يوجه إليهم حديث هؤلاء. وأن ثمة جديدًا ظهر في الستينيات من ذلك القرن، مع حركات التحرر والاستقلال، وهو أن شعوب هذه البلدان ومفكريها صاروا يتخاطبون مع بعضهم البعض، لم يعودوا يخاطبون الغرب ولا الغربيين، وصار الغرب وأهله يتسمعون أحاديث هؤلاء وهم يتحدثون معًا. هذه الملاحظة الذكية التي أبداها سارتر، احتفظت بها في وجداني، لأنها ذات دلالة مهمة علي تحرر «الوعي والإدراك» لدي شعوبنا التي كانت محتلة ومستعمرة، والتي كان الاستعمار تغلغل لدي مثقفين من أهلها حتي ارتبط لديهم

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions