مصر فى افريقيا ..الأزهر والكنيسةوالتعليم والتجارة سبتمبر 2003

يوسف الشريف

ثمة عمل فنى قديم بات يمثل الآن إدراكًا معرفيا عالميا متجددًا، يشى بما لمصر من علاقات راسخة فى عمق التاريخ وسجل الحضارات بالشعوب الأفريقية، وأعنى أوبرا

المحـتــوي

ثمة عمل فنى قديم بات يمثل الآن إدراكًا معرفيا عالميا متجددًا، يشى بما لمصر من علاقات راسخة فى عمق التاريخ وسجل الحضارات بالشعوب الأفريقية، وأعنى أوبرا "عايدة" التى وضع ألحانها الموسيقار الإيطالى الشهير "فردي" فى القرن التاسع عشر احتفالاً بافتتاح قناة السويس، واحتفاء من الخديو إسماعيل كذلك بحضور "أوجيني" ملكة فرنسا لهذه المناسبة العظيمة. لم تكن علاقة مصر بأفريقيا فى العصر الفرعونى مقصورة فحسب كما جسدتها أحداث أوبرا "عايدة" على صراع الإرادات عبر تأمين مصالحها فى تخومها الجنوبية فحسب، وإنما كانت التجارة وتبادل المنافع والتلاقح الاجتماعى والاحتكاك الثقافى أهم إفرازاتها وثمارها. وتروى البرديات وكتابات وصور المعابد والمقابر الفرعونية الكثير من الحقائق التاريخية الموثقة حول العلاقات المصرية الأفريقية، ودور النيل كشريان للحياة وهمزة وصل جغرافى وديمجرافى بين مصر والشعوب والممالك والسلطنات التى كانت حاضرة آنذاك على حوض النهر، وكيف كان ملوك مصر الفراعنة يتبادلون الحكم مع أقرانهم السودانيين على ربوع وادى النيل شماله وجنوبه وفقًا لمعايير القوة والمصالح والعلاقات الروحية بالآلهة المعبودة آنذاك وبينهم الملك "باعنخي" السودانى الهوية والجذور وكذلك الملك "طرهاقة" الذى حكم وادى النيل موحدًا من جنوبه إلى شماله وهو أيضًا من أسرة "باعنخي"، لكأن تاريخ شعوب وادى النيل فى تقدير المؤرخين الثقاة منذ الأزل واحدًا متشابكًا وممتدًا لم ينقطع ولم يتجزأ! حضارة كوش ومروى والشاهد أن اللغة المصرية القديمة تميزت بكونها أكثر اللغات الحامية تأثرًا بالسامية أو العربية القديمة، وذلك بحكم موقع مصر الجغرافى، واتصالها بالشعوب العربية القديمة مثل الكنعانيين والسريان، وكانت الشعوب التى يسميها الغربيون بالسامية مرادفًا للشعوب العربية القديمة، وهى التى زحفت إلى مصر فى العصر الفرعونى من الجزيرة العربية إلى سيناء وفرع النيل البيلوزى، ولعل قصة سيدنا يوسف عليه السلام التى رواها القرآن الكريم، وكذا قصة سيدنا موسى عليه السلام شاهد على ذلك. وإذا كانت اللغة المصرية القديمة مزيجًا ونتاجًا للهجرات البشرية القادمة من الجزيرة العربية، فقد كانت أيضًا وسيلة مصر الفرعونية للتخاطب مع الشعوب الأفريقية منذ زحف المصريون على مهل صوب الجنوب عهد الأسرة الأولى 3000 ق.م، حيث مدوا عمرانهم ولغتهم وثقافتهم على جانبى نهر النيل جنوبى الشلال الأول ثم الشلال الثانى وأنشأوا حصونًا وقلاعًا وقرى ومدنًا فيما بين الشلال الثانى والثالث إبان حكم الدولة الوسطى، واتصلوا بالشعوب الأفريقية القديمة فى منطقة دنقلا وتزاوجوا معهم، وبعدها تكونت حضارة مصرية سودانية فى بلاد النوبة تسمى "حضارة كوش" لها نفس السمات المصرية فى بناء المعابد والأهرامات الفرعونية ولكنها سودانية أيضًا، وعندما تعرضت مصر لغزو الآشوريين هبت لنجدتها الجماعات السودانية، وكونوا معًا الأسرة الحاكمة لوادى النيل وهى الأسرة الخامسة والعشرين التى استمرت من (663 إلى 712ق.م)، وكانت كوش ومروى عهدئذ منارتين للحضارة والثقافة التى امتد إشعاعها إلى أوغندا جنوبًا والحبشة شرقًا وحتى عرب أفريقيا غربًا، وهكذا فى كل العصور والعهود كان السودان مرحبًا ومستوعبًا للمؤثرات الحضارية الوافدة من مصر عبر النيل، كما كان مُصدرًا لهذه المؤثرات ـ بعد سودنتها ـ إلى القارة الأفريقية، وهكذا أيضًا دخلت المؤثرات الإغريقية الرومانية إلى أفريقيا عبر البوابة المصرية السودانية، وهو نفس المسار الذى دخلت المسيحية والإسلام عن طريقه إلى أفريقيا. فإذا تجاوزنا العام إلى الخاص والعموميات إلى التفصيل والأقدم فالقديم فالحديث، نجد أن العلاقات الثقافية التى كانت تربط مصر بدول حوض النيل خلال العصر الفرعونى قد تجاوزت حوض النيل إلى ما وراءه من التخوم، وأنها امتدت عبر البحر الأحمر إلى "بلاد بونت" أو ما يعرف الآن ببلاد الصومال والقرن الأفريقى برمته من خلال التبادل التجارى، وأن التوابل والبخور والكولا والزيوت العطرية واللبان الذى كان من العناصر الرئيسية التى تعتمد عليها عملية التحنيط، فى مقدمة أهم واردات مصر من أفريقيا، بينما كان المردود الثقافى لهذه العلاقات موصولاً بوسائل الاتصال ولغة التخاطب بين أرباب التجارة بشكل خاص. ويذكر التاريخ أن الملكة "حتشبسوت" لم تكن أول امرأة تحكم مصر فى العصر الفرعونى، فقد سبقتها الملكة "ميريت تيت" من الأسرة الأولى، والملكة "حتب حيرس" من الأسرة الرابعة قبيل حكم الملك "خوفو"، ثم الملكة "خنت" من الأسرة الرابعة، لكن "حتشبسوت" كانت الملكة الفرعونية التى خرجت من مصر فى رحلة طويلة إلى "بلاد بونت"، ولم يكن ليتأتى لها الغياب شهورًا عن ملكها إلا لأنها محبوبة من شعبها ولأنها قوية كذلك عبر نظام متقدم للحكم ازدهرت فيه الفنون والثقافات والعلوم ووسائل الإنتاج، ومن ثم راق لها أن تلقى نظرة معايشة ومتأنية على واحدة من دول التخوم آنذاك فى إطار رحلات الفراعنة البحرية التى كانت تجوب الآفاق ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً! الكنيسة الأرثوذكسية ومع دخول المسيحية إلى مصر، وبناء الكنائس والأديرة فى الصحراء بعيدًا عن بطش حكام الإمبراطورية الرومانية، ونشأة أول حركة للرهبنة فى التاريخ بوادى النطرون، ثم رحلة السيدة العذراء والعائلة المقدسة إلى مصر منذ ألفى عام تقريبًا، نجد أن تعزيز مكانة مصر القبطية المسيحية قد انعكس بشكل مباشر عبر انخراط بعض الشعوب الأفريقية تباعًا فى هذه الديانة، وفى مقدمتهم النوبيون والأحباش الذين ظلوا حتى وقت قريب تابعين للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، حتى تقرر انفصالهم عنها إبان حكم الإمبراطور "هيلاسلاسي" لأسباب سياسية بحتة، ومن هنا يمكن استقراء مدى التأثير الإيجابى للثقافة المسيحية المصرية على روابط مصر السياسية والاجتماعية والثقافية مع دول حوض النيل، بينما نشطت بعثات التبشير المسيحى الكاثوليكية والإنجيلية والبروتستانتية بعدئذ فى مناطق أفريقية أخرى فى ركاب الاستعمار الأوروبى للقارة السوداء. وهكذا نجد أن المسيحية القبطية قد دخلت إلى شمال السودان

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions