المشــهـد الأمريكي فـى أســتراليا أبريل 2002

محمد يوسف عدس

العـلاقــات الوثيقـة.. وهـواجــس الهـجــرة فى يوم الثلاثاء الحادى عشر من سبتمبر سنة 2001م، نقلت شاشات التليفزيون إلى الناس فى كل ركن من أركان

المحـتــوي

العـلاقــات الوثيقـة.. وهـواجــس الهـجــرة فى يوم الثلاثاء الحادى عشر من سبتمبر سنة 2001م، نقلت شاشات التليفزيون إلى الناس فى كل ركن من أركان الأرض اثنتى عشرة ساعة من دراما مذهلة مروِّعة، وصفها أحد الكُتَّاب الأستراليين بأنها أقرب إلى سيناريو يوم القيامة، وقال آخر: "كأن قوة عظمى شنت هجوماً نووياً مفاجئاً على الولايات المتحدة". فجّرت الواقعة زلزالاً من الهلع والاضطراب انداح من مركزه فى نيويورك إلى كل شبر فى الولايات المتحدة، ومن ثم إلى العالم كله.. حتى "أستراليا" تلك الجزيرة /القارة. وتمثلت ذروة هذا السيناريو بصورة نشرتها صحيفة "كانبرا تايمز" الأسترالية على صدر الصفحة الأولى تحت عنوان كبير: "صناعة رئيس"، أما الصورة فكانت لجورج دبليو بوش يعتلى كومة من أنقاض مركز التجارة العالمى رافعًا بيده العلم الأمريكى وحوله عمال الإنقاذ، وكانت خلاصة الكلام المنشور والتحليلات المصاحبة له أن جورج دبليو بوش ارتفع بين عشية وضحاها من رئيس عادى فاز فى انتخابات الرئاسة بحفنة من الأصوات ثار حولها جدل كبير، إلى رئيس حقيقى وزعيم لشعبه وقائد فذ يوشك أن يقود الأمة فى معركة ضد أعدائها، وهو أمر لم يكن بوش نفسه يتوقعه أو يحلم به.. تقول الصحيفة إن هذا الانطلاق الصاروخى للرئيس بوش صنعته ـ فى حقيقة الأمر ـ هذه الأنقاض التى كان يعتليها. ونشير هنا إلى عوامل بعينها جعلت تأثير الفجيعة الأمريكية على الشعب الأسترالى ربما أقوى منه فى أى مكان آخر.. من أهم هذه العوامل أربعة: الأول: الكتلة السكانية الأساسية للشعب الأسترالى تتألف من العنصر الأنجلوساكسوني، ويتوزع الانتماء الدينى فى أستراليا بين الكنيستين الرئيسيتين الأنجليكانية والكاثوليكية، ومن ثم يشترك الأستراليون والأمريكيون فى أصول عرقية ودينية وثقافية واحدة. الثاني: صحيح أن أستراليا لاتزال تتبع من الناحية السياسية للتاج البريطاني، فالملكة إليزابيث هى ملكة أستراليا ويمثلها الحاكم العام فى كانبرا، إلا أن الشعب الاسترالى يرى أن نموذج الحياة الأمريكية مثله الأعلى الذى يحاول أن يحتذيه. الثالث: تعرضت أستراليا فى الحرب العالمية الثانية لخطر الهجوم اليابانى الذى اكتسح فى زحفه على جنوب شرق آسيا جيوش الإمبراطورية البريطانية، والقوات المسلحة الأمريكية التى كانت تحتل جزر الفلبين المستعمرة الأمريكية الوحيدة فى هذه المنطقة. وعندما لاذت بريطانيا بالفرار شعرت أستراليا بأنها فى مهب الريح أمام عدو كاسح لا قبل لها به، ولكن سرعان ما عاد الجنرال الأمريكى مكارثر ليضع قدمه فى أستراليا كخطوة أولى فى طريق زحفه إلى الفلبين ومنها إلى اليابان نفسها، وبذلك تحررت أستراليا من الخطر الياباني. ومن ثم لا ينسى الأستراليون هذا التاريخ ولا هذا الفضل للقوات الأمريكية المنقذة. الرابع: تُعانى أستراليا من عقدة كامنة، فالشعب الأسترالى يشعر بانتمائه العرقى والثقافى للغرب ولكن يجد نفسه ـ جغرافياً ـ فى قلب شعوب آسيوية ملونة، وهذا مصدر خوف دفين يتغلغل إلى الأعماق، خصوصاً أن أستراليا تشعر أنها محط أطماع إقليمية من جانب جيرانها الأقربين مثل إندونيسيا وجيرانها الأبعدين مثل الصين واليابان. وكذلك كانت أستراليا ـ ولاتزال ـ عبر تاريخ سياستها الخارجية تتأرجح بين قطبين: الانتماء الغربى والانتماء الآسيوى الجغرافي. كان الانتماء الجغرافى يتغلب أحيانًا فى السياسة الخارجية خصوصًا تحت الحكومات العمالية وكان يتزعم هذا الاتجاه "جوف ويتلام" رئيس الوزراء الأسبق الذى كانت له مشروعات تعاون مشهورة فى المنطقة، وكانت له صداقات قوية مع رؤساء دول جنوب شرق آسيا، وعلى النقيض منه تماماً "جون هوارد" رئيس الحكومة الحالية المحافظة، الذى أحدث بسياسته وتدخله العسكرى فى جزيرة تيمور شرخًا داميا بين أستراليا وإندونيسيا، حيث رفضت ميجاواتى سوكارنو استضافته فى بلادها، بل أهملت الرد على رسائله إليها بشأن المهاجرين من طالبى اللجوء السياسي، وكان يأمل فى مساعدتها لوقف تدفق اللاجئين. وبشيء من التحليل سنرى أن الوجود الأسترالى فى تيمور الشرقية لا يعبر عن طموحات أسترالية إقليمية بقدر ما يعبر عن دعم الولايات المتحدة ورغبتها فى انفصال تيمور الشرقية وإيجاد موضع قدم لها هناك من خلال حليفتها الأسترالية، أما لماذا تريد الولايات المتحدة موضع قدم لها فى هذه المنطقة بالذات وهو وضع يؤدى إلى إضعاف أى حكومة فى جاكرتا، وهى تواجه مشكلات اقتصادية وسياسية وأمنية متفاقمة قد تنتهى بتفكيك هذه الدولة؟ فذلك أمر يحتاج إلى دراسة مستقلة. المهم هنا هو أن أستراليا لم تكن لتشعر بالأمن فى هذا الموقع الجغرافى الصعب بسواحلها المفتوحة على البحار ممتدة لآلاف الأميال، وبكتلتها السكانية الصغيرة التى لم تبلغ بعد العشرين مليونًا، لم تكن لتشعر بالأمن إلا فى ظل القوة الأعظم على هذا الكوكب وهى الولايات المتحدة الأمريكية، لا تنس أننا عندما نتحدث عن أستراليا فإننا نتحدث عن قارة واسعة الأرجاء تبلغ مساحتها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع أى أقل بقليل من مساحة القارة الأوروبية. ربما يفسر لنا هذا الوضع: لماذا أسرع جون هوارد بإعلان التزامه بمساندة الولايات المتحدة فى حربها ضد الإرهاب، قبل أن تطلب منه شيئاً بل قبل أن يعلن حلف الأطلنطى نفسه موقفه من الهجوم على نيويورك وواشنطن. تصادف أن كان جون هوارد فى زيارة رسمية لواشنطن وشاهد بنفسه الانفجار الذى أصاب البنتاجون، وكان على موعد فى يوم 12 سبتمبر للقاء الرئيس بوش فى مهمة محددة تتعلق برغبة حكومته أن تخفّض الولايات المتحدة دعمها السخى لزرَّاع القمح الأمريكيين، لأن هذا الدعم يضعف قدرة الزرَّاع الأستراليين فى المنافسة بالأسواق العالمية. لم يتمكن جون هوارد من لقاء بوش ولم يستطع العودة إلى بلاده، فاضطر للبقاء فى واشنطن حتى وفرت الحكومة الأمريكية طائرة عسكرية لتقله إلى بلاده حيث كان الطيران فى ذلك الوقت محظوراً فى الأجواء الأمريكية. وحتى عندما عاد مرة أخرى إلى واشنطن لم يتمكن من عرض قضية القمح على الرئيس بوش، وإنما اكتفى بتقديم العزاء وأكد وعده بالتزام بلاده بالدعم العسكرى لواشنطن

© وجهات نظر . All rights reserved. Site developed by CLIP Solutions